فقال: «ليس في بلدنا دودة؛ لأني أذنت الأذان الشرعي في الجهات الأربع للقرية، فامتنعت الدودة بإذن الله تعالى.»
قال هذا وكنا نشم رائحة الدودة حولنا في المزارع! (3) بيع الرتب والنياشين
قلت: إن الحكومة الشخصية - أو حكومة الفرد - تستمد وجودها من عبادة البسالة والغلبة والاستبداد، وأزيد هنا أن الفرد من أبناء الأمة في ظل هذه الحكومة، ليست له حياة ظاهرة ولا شرف معترف به إلا بالإضافة لشخص الحاكم، ما دام الأفندي لا ينقلب زيه يوم العيد إلى زي بطل من أبطال القرون الوسطى، كل صدره قصب يبرق ، وتعلق عليه نياشين تلمع، ويحمل بعد ذلك سيفا لا يستطيع أن يجرده، ولا السيف صالح أن يجرد، فمهما يكن له من شرف المولد، ورفعة الأخلاق، وسعة العيش فإنه لا يكون شريفا إلا إذا حصل على رتبة أو نيشان.
من أجل هذا الشرف الوهمي تهافت الناس على الرتب والنياشين، وصارت تباع في ذلك العهد، وتحدثت بها الصحف سنة 1908، وقد كان لها سماسرة يسعون في الحصول عليها لمن يدفع الثمن، وأصبحت تعطى لا مكافأة على عمل من أعمال البسالة كما يكون من رجال الجيش، ولا على خدمة كبرى من الخدمات العامة، بل لعملاء السماسرة الذين يشترون ألقاب التشريف، وكان السمسار يأخذ المقدم من المشتري، فإذا تم التشريف يأخذ المؤخر، وكانت الحكومة في ذلك الوقت تسكت عن هذه الحال؛ لتجعل الناس دائما يهتمون برضاها عنهم، فهي تلعب بأهوائهم وشهواتهم وتأسرهم بها، وتلك عادة الحكومة الاستبدادية القديمة قد تسربت إلى الحكومات الحديثة، فكانت أثرا من الآثار الاستبدادية الأولى، وقد عرفت الحكومات الديمقراطية الراقية أن تتخلص منها، ولكنها ما تزال في بعض الشعوب من أهم المؤثرات في الأخلاق خصوصا في الشعب المصري. (4) سياسة الوفاق وسياسة الخلاف
في سنة 1908 أيضا كان قد مضى عام على تعيين سير الدون غورست معتمدا بريطانيا في مصر خلفا للورد كرومر الذي اعتزل منصبه في أبريل سنة 1907، وقد عرف بعهد سياسة الوفاق، وهي السياسة التي عادت للمرة الثانية بعد أن حلت محلها سياسة الخلاف بين الخديو عباس واللورد كرومر.
وتبدأ سياسة الوفاق من عهد الخديو محمد توفيق؛ فقد دخل الإنجليز مصر على وفاق بينه وبينهم، فألغوا الجيش المصري، واستبدلوا به جيشا صغيرا ضباطه من الإنجليز، ثم محوا العلوم الحربية الواسعة في المدرسة الحربية، فبدلا من أن يرقوها حتى تخرج ضباطا كما تخرج مدارس إنجلترا وفرنسا قصروها على تخريج ضباط بدرجة، هم أنفسهم يريدونها، درجة تجعل الضابط المصري مرءوسا دائما، ثم أخذوا يخرجون من الجيش العامل كل ضباط الإنجليز، وقد دل هذا التصرف في الجيش على أن الغرض منه إضعاف مصر لا تقويتها، وتلك كانت إحدى نتائج الوفاق والتسليم للإنجليز بعمل ما يريدون.
لقد جاء الإنجليز مصر فوجدوا فيها جيشا ثائرا ومجلس نواب، فألغوا الجيش الثائر واستعاضوا به غيره، وألغوا كذلك مجلس النواب، وكان حقهم أن يبقوه فلم يفعلوا، بل لم يستعيضوا به غيره، نقول على وجه التسامح: إنهم ألفوا مجلس شورى ضئيلا؛ ليكبر بالزمان فمضى كل عهد سياسة الوفاق، ولم يفكر الإنجليز في تعديل مادة من مواده حتى يسيروا به إلى الأمام، وذلك يدل على أنهم كرهوا لمصر أن تتدرج في الحكم الدستوري.
وإذا كان الإنجليز لم يعملوا وقتئذ للإنسانية وعملوا لتقوية الحكومة بأي شكل، فكان من مقتضى ذلك أنهم حين أضعفوا حكومة الدستور أن يقووا الحكومة الشخصية أي الحكومة الخديوية ولكنهم لم يفعلوا بل أضعفوها هي أيضا.
ومن الشواهد على ذلك أن ناظر الحقانية وقتذاك، سعادة حسين فخري باشا، رفع تقريرا إلى مجلس النظار باستغناء النظارة عن المستشار القضائي مستر سكوت، وكان الخديو توفيق في سياحته بالوجه القبلي، فانعقد مجلس النظار وقرر عدم استمرار المستر سكوت مستشارا في الحقانية، وأرسل بذلك للخديو الذي أرسل لمجلس النظار تلغرافا بالموافقة والارتياح، فلم يكن إلا قليل حتى أكرهه اللورد كرومر على إلغاء ذلك القرار، ونتج عن ذلك تمكن الضعف من قلوب النظار المصريين وزيادة الاستسلام من جانب الخديو، ووقعت الحكومة كلها في يد المعتمد البريطاني يفعل بها ما يشاء، وكان الغرض من ذلك إضعاف السلطة الأهلية سواء في ذلك سلطة الحكومة وسلطة الأمة.
كان يجري كل هذا التصرف الذي من شأنه إعدام كل سلطة أهلية من الأمة والحكومة معا والسياسة العالية تجري في مجراها على هذا النحو أيضا، وأكبر الأمثلة على ذلك التخلي عن السودان وتركه، وكان ما كان من معارضة الرجل الكبير محمد شريف باشا الذي كان أحق وزراء مصر على الإطلاق بالتمجيد، ولكنه لما لم ينجح استقال، وجاءت وزارة نوبار باشا فأخلت السودان، ثم فتح على أنه شركة في الإدارة بين مصر وإنجلترا كما تعرفون .
Page inconnue