مع الشيخ عبده بجنيف
مكثت في جنيف سنة 1897 أقضي الأشهر الأولى في الدراسة وحضور بعض المحاضرات بالجامعة، وأتعلم «الشيش» في أوقات الفراغ حتى أقبل الصيف، فجاءني فيها الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين، فلم أخبرهم بمهمتي السياسية، وكان قاسم وقتئذ يؤلف كتابه «تحرير المرأة»، فقرأ علينا فصولا منه مدة إقامته بيننا، ثم سافر مع سعد زغلول من سويسرا، وبقي معي الشيخ عبده، وكانت جامعة جنيف قد أعدت فصلا صيفيا لدراسة الآداب والفلسفة للحائزين على درجة الليسانس فدخلت فيه، ولما ذكرت ذلك للشيخ محمد عبده أحب أن يحضر دروسه ، فقدمته إلى مدير الجامعة باعتباره قاضيا في الاستئناف وأحد مديري الأزهر، فقبله بهذا الوصف فمكثنا نتردد على هذه الدراسة.
والد محمد فريد يبكي
وأذكر أنني والشيخ محمد عبده في جنيف ذهبنا لزيارة محمد ثابت باشا الذي كان مهردارا للخديو إسماعيل - أي حامل أختام الخديو - وهو يساوي رئيس الديوان، وكان معه أثناء الزيارة أحمد فريد باشا والد محمد فريد، وكان ناظرا للدائرة السنية، ومن كبراء مصر المعدودين، فلما استقر بنا المقام أخذ فريد باشا يشكو ابنه إلى الشيخ محمد عبده، ويبكي، وكان وقتئذ مريضا، ويقول للشيخ: هل يصح يا سيدي الأستاذ أن يهزئني محمد فريد في آخر الزمن، ويفتح دكان أفوكاتو (مكتب محام)؟!
وكان محمد فريد قبل ذلك وكيلا للنيابة، وحدثت واقعة شركة التلغرافات التي اتهم فيها الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد، وقدم إلى المحاكمة من أجل نشر هذه التلغرافات في جريدته، وحضر محمد فريد الجلسة، فبدرت منه ألفاظ ضد الحكومة عدتها جارحة لها، فأمرت بنقله إلى الصعيد، فاستقال من وظيفته بعد استشارة رياض باشا، وفتح مكتبا للمحاماة بالاشتراك مع محمود أبو النصر، وأنشأ مجلة «الموسوعات» وكنت أنا أحرر فيها من وقت لآخر، وأذكر أنني كتبت بها عدة مقالات تحت عنوان «مشخصات الأمة» ناديت فيها بإصلاح الحروف العربية؛ كي يقرأ القارئون اللغة قراءة صحيحة من غير أن يتعلموا النحو والصرف ...
فلما سمع الشيخ محمد عبده شكوى أحمد فريد باشا لاشتغال ابنه بالمحاماة أخذ يهدئ من نفسه، ويعرب له أنه يخالفه في رأيه، ويرى أن الاشتغال بالمحاماة ليس فيه ما يجرح الكرامة وما يخل بالشرف على نحو ما يظن الناس، وما كان مألوفا في فهمهم لهذه المهنة في ذلك الزمان! (5) الخديو يغضب مني
كان الخديو عباس لا يميل إلى الشيخ محمد عبده، ويظهر أن بعض الناس أبلغ الخديو أنه كان يعايشني في جنيف، فلما عاد إلى مصر جاءني مصطفى كامل، وأفضى إلي بأن الخديو مغضب مني لأسباب؛ منها: اتصالي بالشيخ عبده، ثم قال مصطفى: «... ومع ذلك لم ننجح في الحصول على موافقة الباب العالي على تجنسك بالجنسية السويسرية!»
رجعت من سويسرا، ولما وصلت إلى الإسكندرية أرسلت تقريرا ضافيا إلى الخديو عباس دونت فيه أبحاثي السياسية بجنيف، وقلت: «إن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود أبنائها، وإن المصلحة الوطنية تقضي أن يرأس سمو الخديو حركة شاملة للتعليم العام.» ثم سافرت من الإسكندرية إلى الفيوم عائدا لوظيفتي بالفيوم، ولم أتصل بالخديو، وكان صديقي عبد العزيز فهمي قد انتقل منها لوزارة الأوقاف وأنا بأوربا، فبقيت في الفيوم مدة انتقلت بعدها وكيلا للنيابة بميت غمر سنة 1900 ثم نقلت منها إلى الفيوم ثانيا، ثم إلى المنيا.
وكانت سنة 1905، فاستقلت من النيابة؛ لخلاف في الرأي القانوني بيني وبين النائب العمومي كوربت بك، ولم تكن الاستقالة الأولى من النيابة، بل استقلت قبل ذلك مرة أخرى؛ لخلاف قانوني أيضا، ولكني لم أنجح في الإصرار عليها.
فلما وقع هذا الخلاف بيني وبين النائب العمومي، أصررت على الاستقالة على الرغم من أنه نزل عن رأيه الذي كونه من خطأ وقع فيه وكلاؤه في تكييف الوقائع؛ لأني ضقت باحتمال جو خانق بالنيابة؛ إذ كنا مكلفين بألا نتصرف في الجنايات الكبرى إلا بعد أخذ رأي النائب العمومي، وقد عزمت على أن أعيش في بلدي، وكنت متأثرا وقتئذ بما كنت قرأته من مؤلفات تولستوي، ولكن صديقي عبد العزيز فهمي - وكان قد استقال من الأوقاف واشتغل بالمحاماة - ألح علي في الاشتغال معه، فأجبت رغبته واشتغلت بها فترة قصيرة ثم اعتزلتها؛ لأنصرف إلى العمل بالسياسة والتحرير في صحيفة «الجريدة».
Page inconnue