Histoire de vie
قصة حياة
Genres
لا أعرف ما سر حبي للحى فى وجوه الناس، غيرى، ولكنى أعرف أنى مارأيت قط لحية طويلة تتدلى كالمخلاة إلا نازعتنى نفسى أن أجعل لها من أصابعى مشطا. وقلما أرى الآن لحية تستحق أن أعبث بها، فإن الناس فى زماننا يحلقونها أو يقصونها، ولا يرسلونها، اكتفاء بالمظهر واستفتاء به عن الحقيقة الخشنة أو الشائكة ولن تجد أحدا فى هذا الزمن يغضب إذا أحفى الحلاق له لحيته كما غضب شيخ من أصدقائنا كانت له لحية كثة منفوشة ذهب بها إلى برلين ليشترك فى تشيع جنازة زعيم من زعماء الترك قتل هناك. وقد احتفظ بجبته وقفطانه وعمامته فكان كل من يراه يتوهمه من أفتك البلاشفة وأخطر الفوضويين. قالوا. فذهب به صديق له إلى دكان حلاق، وذهب صاحبه يتمشى على الرصيف حتى يفرغ من هذا الأمر، فما راعه إلا صياح وزعيق لا يكونان فى برلين إلا من مثل الشيخ، فارتد إلى الدكان فألفى الشيخ واقفا وسط الدكان والفوطة على صدره وهو يرسل الصوت مجلجلا بالعربية الفصحى، والحلاق مبهوت فسأله صاحبه عن الخبر فقال: «خير، انظر..» وأشار إلى خده الأيمن فنظر صاحبه فإذا الغابة الكثيفة اللقاء قد ذهبت بقدرة قادر، ولم يبق إلا وسم، على حين بقيت الغابة على خده الأيسر هائجة كما كانت، فلم يسعه إلا أن نضحك، ثم عالجه حتى رده إلى الهدوء والسكينة وسأله (ماذا قلت للحلاق..).
قال الشيخ. (إنه رطن لى ولكنى فهمت أنه يسألنى ماذا أبغى، ولم أدر كيف أجيبه فأومأت إلى لحيتى وأشرت بيدى أن سوها - هه - أى بعض الشىء قليلا جدا، ولكنه لم يفهم فأجرى فيها الماكينة فذهبت بمعظمها).
وسأل الحلاق كيف حدث هذا الغلط فقال إنه سأله عما يريد أن يصنع بلحيته ويقصه منها فأشار الشيخ إليها وقال (هاف) أي النصف فهو لم يجر عليها ولم يجاوزها ما طلب.
كلا: لا يغضب أحد فى هذه الأيام كما غضب صديقنا الشيخ، إذا ما جار المقص على لحيته، فيندر أن أنعم بمنظر لحية حقيقية، أو تتاح لى فرصة للعبث بها وتمشيطها، على أنه لا أسف، فقد فزت من ذلك فى حداثتى بأكثر من نصيبى العادل، وكان حسبى لحية جدى. أفتل شعراتها أو أثنيها وأدسها فى أذنه فينتفض ويصيح بى ويطردنى فأذهب أعدو وأنا أكاد أموت من الضحك فلما مات جدى شعرت بأن خسارتى جسيمة، وأنى فقدت ما لا أرى عنه عوضا، ولكن الله كان أرحم وأكرم من أن يطيل عذاب الحرمان، فقد جاء أخو جدتى ليعزينا، فأمسكناه وكنت أنا أشدهم إلحاحا عليه وتعلقا به، وكان قصيرا فلحيته تبدو أطول مما هى فى الحقيقة فتسليت بها أسابيع حتى كان يوم وكنا جلوسا على وسائد وحشايا مبعثرة على البساط وكان هو مطرقا والسبحة فى يديه! وإذا به ينتفض قائما ويعلن إلينا عزمه على السفر. فاستغربنا وسألته جدتى: «ما هذه المفاجأة»؟
فقال «الحقيقة يا حاجة أنى سمعت صوتا كصوت أبى يدعونى ».
فزاد تعجبنا وقال إنى «أبوك يا خال.. أبوك يدعوك.. كيف تقول.. أين أنت من أبيك وبينكما ركوب خمس ساعات فى القطار»؟
فقال «نعم يدعونى: لقد سمعت صوته واضحا جليا ينادى: يا عمر ولا بد لى من السفر فما أشك فى أن به حاجة إلى..».
وأصر على السفر، وأبى أن يبقى، فاستودعناه الله وأرسلنا معه «عم محمد» بالحقيبة إلى المحطة وفى مساء اليوم التالي جاءتنا منه برقية ينعى إلينا فيها أباه أى جد أبى.
ومن تمام القصة أقول إنهم تحدثوا فيما بعد بأن هذا الجد كان راقدا ثم اعتدل فجأة وأطلقها صيحة قوية «يا عمر» ولم يزد.
وكان هذا الجد معدودا من القوم الصالحين، وكان يلبس عمامة - كما لا أحتاج أن أقول، فإن الصالحين لا يكونون على ما يظهر، إلا من أصحاب العمائم ولكن لفتها كانت خضراء، لأنه شريف من نسل الرسول - عليه الصلاة والسلام.
Page inconnue