Histoire de la philosophie grecque
قصة الفلسفة اليونانية
Genres
Zeller » و«أردمان
Erdmann »، إلا أن فريقا آخر من مؤرخي الفلسفة، أشهرهم الأستاذ «بيرنت
Burnet »، يعتقد أن أناكسجوراس كان كسابقيه عاجزا عن التفكير المجرد الصحيح، فألبس العقل الذي ذهب إلى وجوده صورة مادية، وحجتهم في ذلك أنه أضاف إليه صفات توصف بها المادة وحدها، فقال عنه: «إنه أكثر الأشياء دقة ونقاء»، وإنه «صاف لا تشوبه شائبة من العناصر الأخرى.» والدقة والنقاء والصفاء وما إليها هي صور للأجسام المادية، والفكرة المجردة المطلقة لا تعرف شيئا منها، كذلك يحتج هذا الفريق من الكتاب بأن أناكسجوراس كثيرا ما تحدث عن العقل بالكبر، وهذا كم لا ينصب إلا على المادة المحسة وحدها، وخلاصة القول أن هذه الطائفة من المؤرخين لا تميل إلى الأخذ بالرأي القائل بأن أناكسجوراس استطاع أن يدرك عقلا مجردا عن الجسم، والأرجح أن أناكسجوراس أدرك القوة العاقلة المجردة، وأن رأي أرسطو فيه أقرب إلى الصحة، وأن الأدلة التي احتج بها بيرنت وأمثاله مردودة، فالصفات المادية ليست قاصرة على المادة وحدها، وكثيرا ما نطلقها على القوى المجردة، فإذا قلنا إن أرسطو رجل ذو فكر ثاقب وإن أفلاطون ذو بصيرة نافذة، أيكون معنى ذلك أننا نريد حقا أن فكر أرسطو يثقب الأجسام كما تثقبها الإبرة؟ وأن بصيرة أفلاطون تنفذ كما ينفذ المسمار؟ لا، بل هي مجازات لغوية كثرت في اللغات كثرة عظيمة بسبب أن اللغة تنشأ في أول عهدها وتدرج بين المحسات، فتكون ألفاظها متعلقة بالأشياء المادية التي تقع تحت الحس، فلما تطور الفكر البشري ووصل إلى مرتبة التجريد، أي التفكير فيما ليس له صور مادية، اضطر اضطرارا أن يستعير هذه اللغة التي خلقت في أولها لما يقع تحت الحواس، ليعبر بها عن معقولاته المجردة، وإذن فمن الغبن أن نستند على الصفات المادية التي أطلقها أناكسجوراس على العقل ونحكم بأنه تصور العقل في صورة مادية.
وأما وصفه العقل بالكبر، وأن يظن لذلك أنه قد تصور العقل مادة تشغل حيزا، فذلك اعتساف في الحكم؛ لأننا إذا قلنا إن عقل أفلاطون أكبر من عقل فلان، فلا يكون معنى ذلك أن تفكير أفلاطون يشغل حيزا من المكان أكبر مما يشغله تفكير فلان، إنما هي مقارنة نسبية أجريناها لندرك قوة هذا منسوبة إلى ذاك، ولسنا نشك في أن ذلك ما قصد إليه أناكسجوراس حين قال: إن العقل الذي يحكم الكون متجانس في جوهره، ولكنه يختلف صغرا وكبرا باختلاف الأجسام التي يحل فيها، فالعقل الأكبر يدبر العالم بأسره، وهو لا يختلف في طبيعته عن العقل الأصغر الذي يسير الإنسان فالحيوان فالنبات.
والخلاصة أن أناكسجوراس لم يصور لنفسه العقل الذي فرض وجوده في صورة مادية، بل كان أول من ميز تمييزا واضحا بين عنصري العقل والمادة، بعد أن كانت الفلسفة لا تعترف إلا بالمادة وحدها، وقد بعثه على الاعتقاد بوجود العقل عاملان؛ الأول: ما قدمنا من أنه رأى ما في الكون من نظام وتناسق وجمال مما يستلزم قوة مدبرة عاقلة، والثاني: هذه الحركة التي تدب في الأشياء، والتي تسلك في سيرها سبيلا مستقيمة مؤدية إلى غرض مقصود، فذلك العقل هو الذي دفع المادة الأولى التي كانت مزيجا من أخلاط العناصر المختلفة إلى انحلال التدريجي، وإلى التئام العناصر المتشابهة منها، ولما كان العقل سببا للحركة، فبدهي أن يكون هو نفسه لا حركة فيه؛ لأنه لو لم يكن كذلك لاستلزم بدوره محركا وهلم جرا.
تناسق المادة من ناحية وحركتها من ناحية أخرى كانا إذن مقدمتين خلص منهما أناكسجوراس إلى نتيجة منطقية، هي وجود العقل المدبر الرشيد الذي يعمل على التناسق والجمال بين أجزاء المادة، والذي يبعث المادة على الحركة الدائبة، ومعنى ذلك بعبارة واضحة أن أناكسجوراس لم يستنتج من دقة النظام في الكون وجود القوة الخالقة، بل القوة المنظمة، والفرق واضح بين القولين، فأنت إذا صادفت آثارا لمدينة قديمة في عرض الصحراء، شيدت دورها ونسقت طرقاتها، سار بك المنطق إلى نتيجة محتومة هي أن عقلا مدبرا أشرف على إقامة تلك الدور وتنظيمها، ولكنك تخطئ خطأ واضحا لو زعمت أن نظام التشييد وجمال تنسيقه دليلان على أن عقلا خلق المادة التي أقيمت بها الدور.
إذن فالعقل عند أناكسجوراس لم يخلق المادة من عدم، بل العنصران قديمان أزليان نشأ كل منهما بذاته، ثم طرأ العقل على المادة فبعث فيها الحركة والنظام بأن اندس في مركز تلك الكتلة المادية الأولى، التي تمتد إلى اللانهاية، والتي امتزجت فيها ألوان المادة امتزاجا بلغ حد الاندماج، ولما استقر العقل في قلب المادة اضطرب بالحركة، فاهتزت النواة المركزية من المادة، ثم أخذ نطاق الحركة يتسع من تلقاء نفسه، كما تلقي بالحجر في الماء فتحدث موجة دائرية تأخذ في الاتساع تدريجا حتى تشمل المحيط بأسره، وكانت الحركة كلما انبسط نطاقها تناولت مادة جديدة فدفعت بها إلى الحركة وهلم جرا، وسيظل تيار الحركة إلى الأبد يوسع من نطاقه ويتناول جديدا من المادة، يسعى بدوره إلى التماس أشباهه من المادة ليندمج فيها، فالذهب يعتصم بالذهب، والخشب يلتئم بالخشب، والماء يلتقي بالماء ... وأول ما انفصل من الذرات ما توافر فيها الحرارة والجفاف والخفة، فاجتمعت وكونت الأثير أو الهواء العالي، ثم جاء بعد الأجزاء الباردة الرطبة المظلمة فكونت الهواء السافل، ثم دار الهواء السافل حول المركز فنشأت الأرض وانداحت قرصا مسطوحا يسبح فوق الهواء، وكل أجرام السماء قطع صخرية انتثرت من الأرض نتيجة لدورانها، فالقمر جزء من الأرض يعكس أشعة الشمس فيبدو لسكان الأرض مضيئا، وقد كان أناكسجوراس بهذا الرأي أول من علل ضوء القمر على الوجه الصحيح، كما أنه أول من فسر الكسوف والخسوف تفسيرا يتفق مع الرأي الحديث، ولقد كان يعتقد أن هناك كثيرا من العوالم الأخرى غير عالمنا هذا بشموسها وأقمارها، وأنها جميعا مأهولة بالسكان، ويذهب إلى أن أصل الحياة جراثيم كانت تسبح في الجو، فساقتها مياه الأمطار إلى الأرض حيث تكاثرت وتنوعت على الوجه الذي نرى.
وصفوة القول: أن لفلسفة أناكسجوراس طابعين مميزين: فهو أول من فصل العقل عن المادة، فاتجهت أنظار الفلاسفة من بعده إلى هذه الناحية الجديدة - العقل - يتخذونها دون ظواهر الطبيعة موضوعا لدرسهم، وثانيا: قد حطم النزعة الآلية التي سارت قبل عهده؛ إذ كانت تفسر الأحداث بعللها، أما هو فقد اتجه بتفسير الظواهر إلى أغراضها وغاياتها.
غير أنه بالغ في هذين الاتجاهين حتى كانا موضع خطئه كما أنهما موضوع شهرته، فقد أسرف في فصل المادة عن العقل وجعلهما أزليين أبديين، فكان اثنينيا بالغا، فلا هو فرض المادة أصلا للكون وفرع عنها العقل فيكون واحديا في ماديته ، ولا هو اكتفى بأن يكون العقل جوهرا للكون، وأن تكون المادة من خلقه وإنشائه فيكون واحديا في عقليته، ولكنه أثبت كلا العنصري وسلم بهما معا، هذا وقد أراد أن يجعل العقل أساسا للحركة حتى تكون الحركة مبصرة في سيرها، ولكن لم يسعفه التطبيق الصحيح، فزعم أن العقل حرك النواة المركزية في المادة، ثم ترك الحركة توسع من دائرتها بطريقة آلية شيئا فشيئا، فكأنما انقلب العقل قوة آلية، وكأنه انكفأ بذلك راجعا إلى حيث كان أسلافه من قبل.
الفصل الثامن
Page inconnue