Histoire de la philosophie grecque
قصة الفلسفة اليونانية
Genres
وأيا ما كان فقد خطت الفلسفة الإيلية بالفكر الإنساني خطوة فسيحة نحو توحيد الحقيقة، والتوحيد - كما تعلم - هو الهدف الذي يسير العقل نحو الوصول إليه في كل ناحية من نواحيه: يقصد إليه في الدين فنراه يسير من تعدد الآلهة إلى توحيدها، ويقصد إليه في العلوم فنراه يجمع أشتات الحقائق تحت طائفة محصورة من القوانين، ويقصد إليه في الفلسفة فينشد جوهرا واحدا يطوي تحت لوائه كل ظواهر الكون، مهما اشتدت تباينا وتنافرا.
إلا أن توحيد الحقيقة عند الإيليين، لم يكن تاما كاملا، فلو أنعمنا النظر في فلسفتهم ألفينا فيها غموضا، فقد زعموا أن جوهر الكون وحقيقته هو الوجود نفسه، ثم جمدوا عند هذا الحد، ولم يبينوا كيف صدرت الأشياء من تلك الحقيقة الأولى ، بل عمدوا إلى إقامة الدليل على بطلانها، فهل يريد «زينو» أن ينكر العالم الحسي بتاتا؟ هل ينكر أنه كان يمشي في شوارع «إيليا »؟ وإذا مد يده فهل ينكر أنه مدها؟ وهل إذا خرج من بيته إلى مكان آخر ينكر أنه تحرك؟ الظاهر أنه لا يريد ذلك، وإلا كانت فلسفته مهزلة، وهب أنه يريد أن يقول إن هذا العالم الحسي وهم؛ فذلك لا يمنع من المطالبة بتعليل هذا الوهم نفسه: كيف نشأ، وما علاقته بالحقيقة الخالدة؟ ثم أليس الوهم في ذاته حقيقة كالحقيقي سواء بسواء، كلاهما موجود وكلاهما ينشد علته؟ سم هذا الكتاب الذي بيدك وهما، أو سمه حقيقة، فلا نحسب أن اختلاف الأسماء يزحزح الموقف قيد أنملة؛ وبناء على هذا تكون الفلسفة الإيلية قد خلفت وراءها عالمين يقفان جنبا إلى جنب، دون أن تؤلف بينهما في وحدة متناسقة: عالم الحقيقة أي الوجود، وعالم الوهم أي الأشياء.
ولعل الإيليين قد اضطروا إلى هذه التثنية اضطرارا، حين أعجزهم تعليل نشأة العالم الحسي من الحقيقة الخالدة، وقد كان ذلك العجز محتما لا مفر منه ما داموا قد فرضوا الحقيقة مجردة من الصفات والحركة، وإذن فيستحيل أن يخرج عالم مليء بالصفات والخصائص من أصل غير ذي صفة أو خاصة.
ألق بنظرك إلى الوراء، لترى معالم الطريق التي سلكتها الفلسفة من أول عهدها حتى تركها الإيليون، فقد استهلت المدرسة اليونية تفكيرها بإثارة هذا السؤال: ما هو الأصل الأول الذي تفرعت عنه الأشياء؟ وأجابت هي نفسها بأنه الهواء أو الماء أو ما إليهما، ثم أعقبتها المدرسة الثانية - أعني الفيثاغوريين - فانتهى بها التفكير إلى أنه الأعداد الرياضية، ثم تلتها المدرسة الثالثة - وهم الإيليون - فقررت أنه الوجود المطلق المجرد.
أمعن النظر إلى آراء هذه المدارس الثلاث، تجد أن الأولى قد أضافت إلى أصل الأشياء كما وكيفا؛ لأنها فرضت أنه مادة ذات حجم وصفات، أن الثانية قد أنكرت أحدهما وأبقت الآخر، أنكرت الكيف وأثبتت الكم، فأصل الكون أعداد رياضية لها كمية وليس لها صفات، وأن الثالثة قد جردته من الكم والكيف جميعا، فلا هو كمية مادية تقبل التجزئة، ولا هو تميزه صفات وخصائص وأشكال، بل هو فكرة مجردة من كل شيء، هو فكرة الوجود أي الكينونة لا أكثر ولا أقل.
وأنت ترى من ذلك أن انتقال الفلسفة من المدرسة اليونية الأولى إلى المدرسة الإيلية الثالثة، هو انتقال من المرحلة الحسية الساذجة إلى مرتبة الفكر المجرد، والفيثاغوريون هم حلقة الاتصال.
الفصل الرابع
هرقليطس
Heracleitus
ولد في أفسوس من أعمال آسيا الصغرى حوالي سنة 535ق.م، ومات سنة 475ق.م، بعد أن عمر نحو ستين عاما، كان معاصرا في بعضها لبارمنيدس، أي إنه ساير المدرسة الإيلية وهي في أعلى ذراها.
Page inconnue