Histoire de la philosophie moderne
قصة الفلسفة الحديثة
Genres
وتقع هذه المقالة التي نحن بصدد عرضها في أربعة أبواب، أما أولها فبحث تمهيدي ينكر به أن يكون شيء من معلوماتنا مفطورا فينا بالوراثة، ولقد تقدم بهذا الإنكار تمهيدا لغرضه الأساسي الذي قصد إليه من الرسالة كلها (والذي شرحه في الباب الثاني)، ألا وهو أن كل معرفة الإنسان مهما كان نوعها، بل كل ما يستطيع الإنسان أن يدركه بعقله، هو في حقيقة الأمر مستمد من التجارب، فكل أفكارنا - بسيطة كانت أو مركبة - إنما استقيناها من أمثلة جزئية جاءتنا من طريق الحواس الخمس منفردة أو مجتمعة، أو هي ترجع إلى عملية عقلية. وبعبارة أخرى فإن كل تجاربنا راجعة إما إلى الإحساس أو التفكير، وكل لفظة لا يكون لها مدلول حسي أو عقلي فهي لفظة فارغة جوفاء.
وأما البابان الثالث والرابع من هذه الرسالة فقد أقام فيهما «لوك» ما استطاع من الأدلة على صحة ما زعمه في البابين الأولين، ولقد شغل «لوك» جزءا كبيرا من هذين البابين الثالث والرابع بتحليل فكرة المكان والزمان واللانهاية والجوهر والسببية والقوة؛ لكي يبرهن على أنه حتى هذه الأفكار التي قد تبدو مجردة، والتي قد يظن أنها لم تأت عن طريق الحواس، إنما تعتمد هي أيضا على التجارب، وأنا إذا محونا منها العناصر التي كسبناها بما مر علينا من تجارب جزئية لزالت، ولم يبق لها من أثر.
وخلاصة القول أن المبدأين اللذين أراد «لوك» أن يقررهما في كتابه عن العقل البشري هما: (1) أنه ليس بين أفكارنا ما هو فطري موروث، (2) وأن المعرفة مستمدة من التجارب وحدها.
ولنتناول الآن أجزاء هذا الكتاب بشيء من التفصيل:
الباب الأول:
كانت العقيدة السائدة قبل «لوك» هي أن العقل البشري يشتمل على بعض الأفكار الفطرية الموهوبة منذ ولادته دون أن يكسبها من التجارب التي تمر عليه أثناء الحياة، ولقد بلغ من رسوخ هذا المذهب في النفوس أنه لم يكن يستهدف حتى لمجرد البحث والجدل. وكان ديكارت من أشد المدافعين عن صحته وثبوته، أما «لوك» فيقابل هذا التسليم الأعمى بوجود الآراء الفطرية بأشد الإنكار، ويقول: «لما رأى الناس أن هنالك بعض القضايا العامة التي لا يكاد العقل يدركها حتى يوقن بها يقينا يستحيل أن يتطرق إليه الشك، حكموا عليها بأنها فطرية فيهم، لا لشيء إلا لأن هذا التعليل أيسر أو أقصر.» ولكنهم في الواقع لا يعللون الرأي بقولهم إنه فطري، بل إن هذا القول لاعتراف صريح بأنه لغز أشكل عليهم حله، ولم يجدوا لتعليله الصحيح سبيلا. ثم يمضي «لوك» في معارضة «ديكارت» في مذهب الآراء الفطرية، فيقول: يتخذ دعاة فطرية الآراء دليلين لتأييد النظرية التي يذهبون إليها؛ الأول: أنها آراء مسلم بها من الناس جميعا بغير استثناء، والثاني: أن العقل البشري يدركها بمجرد وعيه ويقظته، فيرد «لوك» الدليل الأول بأن هذه الآراء ليست كما يزعمون مسلما بها من الناس كلهم بدليل أن القبائل المتوحشة لا تعلمها، ويرد الدليل الثاني بأن العقل لا يستطيع إدراك تلك الآراء بمجرد يقظته في السنين الأولى من العمر بدليل أن الأطفال تجهلها جهلا تاما. خذ مثلا بعض البديهيات كاستحالة أن يكون الشيء، وألا يكون في وقت واحد، فهذه القضية التي يذهب دعاة الآراء الفطرية إلى أنها موروثة فينا، وليست مكسوبة أثناء الحياة، لا شك يجهلها الأطفال والمتوحشون والبلهاء على الرغم من بداهتها. وإذن فهذه القضايا المجردة كلها ليست مفطورة موهوبة، ولكنها على نقيض ذلك مكسوبة بالتجربة، بل وبالتجربة الطويلة.
ولا يستثني «لوك» من نظريته حتى فكرة الله نفسها، فهنالك من الناس من يجهلها جهلا تاما، أضف إلى ذلك أن الشعوب التي تعترف بوجود الله لا تتفق كلها على إله واحد، بل إنهم يختلفون في تصويره أشد اختلاف.
وقد تصدى «كوزان
Cousin » لمعارضة «لوك» بقوله: إن الطريقة التي اتبعها في الاستشهاد ليست طريقة علمية قويمة، ولا تبعث الثقة واليقين؛ لأنه من المتعذر أن نحصل على معلومات دقيقة عن المتوحشين والأطفال تتيح لنا أن نبني أحكامنا عليها. هذا فضلا عن أن هؤلاء المتوحشين والأطفال الذين يحتج بهم «لوك» في مقدورهم أن يعرفوا القضايا التي ضربها مثلا على شرط أن نسوقها لهم في شكل محسوس يلائم عقليتهم.
الباب الثاني:
Page inconnue