Histoire de la philosophie moderne
قصة الفلسفة الحديثة
Genres
إنما يريد «سبينوزا» أن قوانين الطبيعة وأوامر الله الخالدة شيء واحد بعينه، وأن كل الأشياء تنشأ من طبيعة الله اللانهائية، كما ينشأ من طبيعة المثلث أن زواياه الثلاثة تساوي قائمتين. أي أن الله بالنسبة إلى العالم كقوانين الدوائر بالنسبة إلى الدوائر كلها. الله هو القانون الذي تسير وفقه ظواهر الوجود جميعا بغير استثناء أو شذوذ، فهذا الكون المجسد من الله بمنزلة الجسر (الكوبري) من قوانينه الرياضية والميكانيكية التي بني على أساسها؛ إذ القوانين هي جوهر الجسر وقوامه إن زالت اندك الجسر على الأثر.
كثيرا ما يخطئ الناس فهم فلسفة «سبينوزا» التي توحد بين الله والطبيعة، فيذهب بهم الظن أن «سبينوزا» يريد بذلك أن يصغر من شأن الله، فينزله إلى مرتبة الطبيعة، والواقع كما يقول هو: «إنني في حقيقة الأمر لم أهبط بمنزلة الإله إلى مستوى الطبيعة، بل رفعت الطبيعة إلى مستوى الله.»
ويقول الدكتور ولف
Dr. Wolf
في مقاله الذي كتبه عن «سبينوزا» في دائرة المعارف البريطانية: «بدل أن تكون الطبيعة من ناحية، وأن يكون إله فوق الطبيعة في ناحية أخرى، فقد ذهب «سبينوزا» إلى أن للحقيقة عالما واحدا، هو الطبيعة والله في آن واحد، وليس في هذا العالم مكان لما فوق الطبيعة، وهذه النزعة الطبيعية من «سبينوزا» يفسد معناها لو بدأ القارئ بفكرة مادية سخيفة عن الطبيعة، وبذلك يتوهم أن «سبينوزا» قد حقر من شأن الله، والحقيقة أنه ارتفع بالطبيعة إلى مرتبة الإله بأن تصور أن الطبيعة هي الحقيقة كاملة، هو «الواحد» وهي «الكل» ... والواقع أن الله والطبيعة ينطبق أحدهما على الآخر إذا تصورنا أن كلا منهما هو الكائن الكامل الذي أوجد نفسه بنفسه.»
إن إرادة الله وقوانين الطبيعة اسمان يطلقان على مسمى واحد، وإذن فكل ما يقع للعالم من أحداث إن هو إلا نتيجة آلية لقوانين الطبيعة الثابتة، أي إنها نتيجة لإرادة الله التي لا يطرأ عليها تغير ولا تبدل، وليست هذه الآلية تقتصر على المادة والجسم فقط كما ذهب «ديكارت»، إنما هي في زعم «سبينوزا» تمتد فتشمل الله والعقل على السواء. إن العالم مجبر مسير في طريق معلومة مرسومة ليس عن السير فيها من محيص؛ ذلك لأن قوانين الطبيعة - أي إرادة الله - لا تتبدل ولا تتغير، وهي لا بد أن تنتج نتائجها من غير نظر إلى الإنسان ورغبته، فمن أفدح الخطأ أن نظن أن حوادث العالم تدور حول محور الإنسان، وأنها دبرت تدبيرا لكي تنتهي إلى غاية يريدها، إذ من الوهم أن نضع البشر في مركز العالم، ولعل أساس الأخطاء التي زل فيها كثير من الفلاسفة هو إدخال المقاييس البشرية في سير العالم، ومن هنا نشأت مسألة الشر، ناسين أن الله فوق خيرنا وشرنا، وأن الخير والشر نسبيان يتبعان أذواق البشر وأغراضهم. يقول «سبينوزا»: إن الإنسان يحكم أحيانا على حوادث العالم بأنها عبث أو شر؛ لأنه لا يرى الكون إلا من جانب واحد، فهو جاهل بنظام الطبيعة وقانونها الشامل وتماسكها وتكوينها كلا واحدا، وهو يريد أن تجيء الأشياء وفق ما يبغي، مع أن ما يحكم عليه الإنسان بالشر ليس شرا بالنسبة إلى قانون الطبيعة ونظامها، فالخير والشر كلمتان لا تدلان على شيء إيجابي، بل هما آراء شخصية تتغير بتغير ظروف الإنسان، ولا تعترف بهما الحقيقة الخالدة، وقل هذا في القبيح والجميل، إذ هما كذلك أمران اعتباريان لا يدلان على حقيقة واقعة «إنني لا أعزو للطبيعة جمالا ولا قبحا، ولا أنسب إليها نظاما أو تهويشا، فإن الأشياء لا يمكن أن تسمى جميلة أو قبيحة، أو أنها حسنة الترتيب أو سيئته إلا بالنسبة إلى مداركنا نحن»، «فإن كانت الحركة التي تستقبلها الأعصاب من الأشياء التي أمامنا بواسطة الأعين تؤدي إلى الأريحية، فإنها عندئذ تسمى جميلة، وإن لم تكن كذلك سميت قبيحة.»
وكما أدخل الإنسان شخصيته في النظر إلى الحقيقة الخالدة من حيث الخير والشر والجمال والقبح، فقد نظر إلى الله أيضا من وجهة نظر بشرية محضة، أما «سبينوزا» فيرفض هذه النظرة رفضا قاطعا، وينكر أن يكون الله شخصا بأي معنى من معاني هذه الكلمة، ويلاحظ أن قد تواضع الناس على تصوير الله في صورة المذكر لا المؤنث، فمثلا يقال عنه هو ولا يقال هي، ويعلل «سبينوزا» هذا التذكير لله بخضوع المرأة للرجل. فمن هذه السيطرة التي يتمتع بها الرجل توهم الإنسان أن الله لا بد أن يكون مذكرا في نوعه، وبديهي أنه لا يتصف بصفة بشرية. وقد كتب «سبينوزا» إلى رجل اعترض عليه في تصويره لله بصورة غير مشخصة، قال: «إنك حين تنقدني لأنني أنكر أن يكون لله بصر وسمع وعلم وإرادة وما إليها ... لا تدري أي نوع من الله إلهي، وإني لأحسبك معتقدا بأنه ليس أكمل ممن يتصف بالصفات السابقة، وكم يدهشني ذلك، وإني أعتقد أن المثلث إذا استطاع أن يتكلم لزعم على هذا النحو بأن الله مثلثي في صفاته. كذلك تقول الدائرة إن طبيعة الله دائرية في أساسها، وهكذا يخلع كل شيء صفاته الخاصة على الله.»
وإذن لا العقل ولا الإرادة جزء من طبيعة الله بمعناهما المعروف، ولكن إرادة الله هي مجموع الأسباب كلها والقوانين كلها التي تسير في الطبيعة على أساسها، وعقل الله هو مجموع العقول كلها المنبثة في الكون. يقول «سبينوزا»: «إن عقل الله هو كل القوة العقلية المنبثة في أرجاء المكان والزمان، هو الإدراك المنتشر في العالم وهو الذي ينفخ فيه الحياة.» «فكل الأشياء حية بدرجات.» «والحياة أو العقل جانب واحد لكل ما نعهد من أشياء كما أن الامتداد المادي - أي الجسم - جانب آخر. وهذان العقل والجسم هما الوجهان أو الصفتان اللتان بهما ندرك عمل الله، وبهذا المعنى يمكن أن يقال عن الله إن له عقلا وجسما، فلا المادة وحدها ولا العقل وحده هو الله، ولكنه العملية العقلية والعملية الذرية اللتان منهما يتألف الكون وتاريخه. نعم إن الله هو هذان الجانبان معا وما يسيرهما من أسباب وقوانين.» (ب)
المادة والعقل:
وما دمنا بصدد المادة والعقل، فلنا أن نتساءل: ما هما؟ أيمكن أن يكون العقل ماديا، كما يظن فريق كبير من ذوي الخيال الضيق المحدود، أم الجسم المادي مجرد فكرة عقلية، كما يزعم ذوو الخيال الشارد؟ وكيف يؤثر العقل في الجسم أو الجسم في العقل؟ وهل صحيح ما ذهب إليه «مالبرانش» أنهما مستقلان لا يتصل أحدهما بالآخر، وكل الأمر أنهما يسيران في خطين متوازيين؟
Page inconnue