Histoire de la philosophie moderne
قصة الفلسفة الحديثة
Genres
أوهام السوق
Idols of the market-place . (4)
أوهام المسرح
Idols of the Theatre . (1) ويريد بأوهام الجنس تلك الأخطاء التي غرست في طبائع البشر بصفة عامة، فقد يزعم الإنسان باطلا أنه مقياس الحقائق بما يملك من إدراك حسي وإدراك عقلي، والواقع أن ما يدركه الإنسان بعقله وحواسه ليس إلا صورة لنفسه أكثر منها تصويرا للكون الخارجي «فليس العقل كالمرآة الصافية التي تعكس صور الأشياء كما هي تماما، ولكنه كالمرآة الملتوية التي تمزج صورة نفسها بصورة الأشياء التي تصدرها فتصيبها بالفساد والتشويه.» ومن أخطاء العقل البشري التي جبل عليها ميله أن يفرض في الأشياء درجة من النظام والاطراد أعظم مما هي في الواقع، مثال ذلك أن الإنسان لا يكاد يرى الكواكب تعود فتبدأ سيرها من حيث انتهت، حتى يفرض أن أفلاكها دوائر كاملة، وأنها تسير فيها سيرا منتظما، كذلك من أخطاء العقل المطبوعة فيه أنه إذا سلم بصحة قضية ما - سواء كان تسليمه تقليدا لعقيدة شائعة أم من أجل فائدة ينالها من صحة هذه القضية المعينة - فإنه يحاول أن يرغم كل شيء آخر أن ينهض دليلا على صحة قضيته تلك، فإن صادفه من الأمثلة الكثيرة ما يدل على خطئها دلالة واضحة قاطعة، فإنه إما أن يهملها أو يصغر من شأنها أو يرفضها في تعصب ذميم، فأهون على نفسه رفض الحق من نبذ قضية ركن إلى صحتها واعتقد بسلامتها زمنا. وهكذا يسارع الناس إلى ملاحظة الأمثلة والحوادث التي تؤيد آراءهم وعقائدهم ويهملون أو يتجاهلون كل دليل ينهض على بطلان تلك الآراء والمعتقدات. فخليق بالإنسان أن يفكر فيما يؤيد رأيه، وفيما يعارضه على السواء، حتى يخلص إلى الحق. ويسوق بيكون مثلا على ذلك قصة رجل أنكر تأثير النذور فسيق إلى معبد، وعرضت عليه عشرات من اللوحات التي علقها من أنجاهم الله من الغرق استجابة لدعائهم ونذورهم، ثم سئل: ألا يعترف بعد هذه الأمثلة كلها بنفع النذور وفائدة الدعاء؟ فأجاب: «ولكن أين صور أولئك الذين أغرقوا في اليم رغم ما نذروا وما دعوا؟» فلا يكفي عند بيكون أن تعتمد على الأمثلة المؤيدة، بل لا بد أن تفكر في كل موضوع من الجانب الآخر لترى هل هناك ما يقوضه ويهدمه. وهنا يتقدم بيكون إلى الناس عامة وطلاب العلم خاصة بهذا النصح «ليأخذ كل طالب لعلم الطبيعة بهذه القاعدة ... وهي: إن كل شيء يتعلق به العقل ويصر عليه ويطمئن إليه ينبغي أن يوضع موضع الشك»، «ولا يجوز أن نسمح للعقل بأن يثب أو يطير من الحقائق الجزئية إلى القضايا العامة الشاملة ... لا ينبغي أن نمد العقل بالأجنحة، بل الأولى أن نثقله بالأغلال حتى نحول بينه وبين القفز والطيران.» (2) وأما الطائفة الثانية من أوهام العقل وأخطائه، التي يسميها بيكون أوهام الكهف، فهي تلك الخطة التي يختص بها الفرد. «إن لكل إنسان ... مغارة أو كهفا خاصا به يعمل على كسر أضواء الطبيعة والتغيير من لونها.» وليس هذا الكهف إلا شخصية الفرد التي تكونها الطبيعة والبيئة والتغذية والتربية وسائر العوامل التي تكون الشخصية. ولما كانت تلك العوامل مختلفة باختلاف الأفراد، كان لكل إنسان نزعته الخاصة وأخطاؤه الخاصة، فبعض العقول ينزع بطبيعة تكوينه إلى التحليل وملاحظة أوجه التباين والخلاف بين الأشياء - كالعلماء والمصورين - وطائفة أخرى تميل إلى البناء والتركيب - كالفلاسفة والشعراء - فتلاحظ أوجه الشبه بين الأشياء. كذلك نرى فريقا من الناس يتصفون بالجمود، ويعجبون بالقديم إعجابا شديدا لا يرضون عنه من الجديد بديلا، وآخرين يتقبلون كل جديد، ويتحمسون له تحمسا قويا، وقليل من الناس هم الذين يستطيعون أن يقفوا موقف التوسط والاعتدال، فيبقوا على القديم الصالح، ولا يرفضوا الجديد النافع؛ إذ الحقيقة لا تعرف تحزبا ولا تعصبا. ومن أمثلة أوهام الكهف أيضا ما تخلفه مهنة الشخص في نفسه من الميول والنزعات التي تحصر تفكيره في حدود مهنته الضيقة. (3) وأما أوهام السوق فهي تلك التي تنشأ «من التجارة واجتماع الناس بعضهم مع بعض؛ ذلك لأن الناس يتبادلون الحديث باللغة التي صيغت كلماتها وفقا لعقلية السوقة، فنشأ من سوء تكوينها ومن عجزها تعطيل شديد للعقل.» (4) وفي العقل فوق ذلك كله أوهام قد انحدرت إليه من مذاهب الأقدمين وعقائدهم، وقد أطلق بيكون على هذا الضرب من الأخطاء اسم أوهام المسرح، مشيرا بذلك إلى أن الأنظمة الفلسفية التي يتلقاها كل جيل عن أسلافه ليست إلا روايات مسرحية تمثل أكوانا خلقها الفلاسفة بفكرهم خلقا كما يخلق الروائي أشخاص روايته وحوادثها، فليس العالم الذي يصوره أفلاطون مثلا إلا عالما بناه هو وصوره كما شاء له عقله وخياله، وقد لا يتفق مع الحقيقة الواقعة في شيء.
وبديهي أن هذه الأوهام الأربعة قد تجتمع كلها في شخص واحد، وقد تنفرد فيؤثر في الشخص عامل واحد منها أو أكثر. فإذا قلت مثلا «إن الشمس تدور حول الأرض.» وبنيت قولي على ما تدلني عليه عيناي، كان ذلك وهما جنسيا؛ لأني اعتمدت على الحواس الخادعة، وخداع الحواس عام في البشر، فإن عللت دورانها حول الأرض بما هو ذائع بين الناس بوساطة اللغة (كطلعت الشمس وغربت الشمس) كان ذلك وهما سوقيا؛ لأنه نشأ عن اجتماعي بالأشخاص الآخرين، وإن دللت على صحة قولي بما قاله بطليموس في هذا الموضوع، كان ذلك وهما مسرحيا؛ لأن الخطأ هنا قد جاءني من آراء السالفين، أما إن كنت أرى هذا الرأي لأنه يتفق مع ما وصلت إليه أنا نفسي بعد البحث والتأمل، كان ذلك مني وهما كهفيا؛ لأني أنا مصدره.
تلك هي أوهامنا التي تقيدنا بأغلالها فتقعد بنا عن أن ننطلق خفافا أحرارا في بحثنا وراء الحقيقة، فلا بد إذن من دكها وهدمها، ولا بد لنا من تطهير عقولنا وتنقيتها من هذه الشوائب، ثم لا بد من أسلوب جديد للتفكير، وأداة جديدة للفهم والبحث «فإن كانت القارة الأمريكية الفسيحة لم تكن لتستكشف قط إلا بعد أن عرفت البوصلة، فلا عجب ألا يتقدم استكشاف الفنون ورقيها تقدما عظيما ما دام فن اختراع العلوم أو كشفها مجهولا»، «ومن العار أن نرى أصقاع الأرض المادية ... قد انفسحت أرجاؤها، ونرى العالم العقلي لا يزال مغلقا محصورا في دائرة الكشف الضيق العتيق.» (4) طريقة «بيكون»
بعد أن فرغ بيكون من شرح هذه الأوهام التي تعرقل العقل وتعطله، انتهى به هذا الشرح إلى نتيجة آمن بها أشد الإيمان، وهي أن الداء كل الداء إنما هو طريقة الاستنتاج التي كان يستخدمها رجال العصور الوسطى في تفكيرهم؛ إذ كانوا يسلمون من أول الأمر بطائفة من القضايا تسليما أعمى، ثم يتخذون من هذه القضايا نقطة ابتداء، ويعمدون إلى توليد النتائج منها، فكان مستحيلا أن تنكشف لهم بذلك حقيقة جديدة؛ لأنهم محصورون مقيدون بما سلموا به، مع أنها قد تكون هي نفسها موضعا للشك والنقض. وإذن فلا بد لنا ألا نبدأ بالتسليم، ويجب أن نخضع كل قول مهما كان مبعثه للملاحظة والتجربة، فإنك لو بدأت بالإيمان ببعض الحقائق، فسينتهي بك الأمر أخيرا إلى الشك، ولكنك إذا بدأت السير بالشك والارتياب فلا بد أن تنتهي إلى الحق واليقين. هكذا ينقد «بيكون» طريقة الاستنتاج من مقدمات مفروضة ولا يرضى أن يتخذها الناس أسلوبا لتفكيرهم، وهو لا يقف عند الهدم والنقض، ولكنه يقدم لنا طريقة علمية جديدة؛ طريقة الاستقراء
Induction
تؤدي إلى الغاية التي يرضاها من كشف واختراع ينتهيان بخير الإنسان وسعادته، ويهيئان له حياة فاضلة كاملة، وهو يشرحها في «المدينة الفاضلة» التي صورها كما شاء له خياله، والتي سنأتي على ذكرها بعد حين، وها نحن أولاء نعمد إلى تحليل طريقته وبسطها خطوة خطوة: (1)
جمع الحقائق:
Page inconnue