Histoire de la philosophie moderne
قصة الفلسفة الحديثة
Genres
مضى إسكس فيما هو ماض فيه، ساخطا على بيكون أشد السخط لهذا الجحود المنكر، ولكن مؤامرته فشلت وقبض عليه، ثم أطلق سراحه، فحشد جيوشا مسلحة، وسار بها إلى لندن، وحاول أن يشب الثورة بين أهلها، وهنا خاصمه بيكون خصومة عنيفة، وأخذ يقاومه ويعارضه ويؤلب عليه القوم، فاندحر إسكس وقبض عليه للمرة الثانية، وكان بيكون قد تربع في منصب كبير في القضاء، فلم يتردد في اتهام الرجل الذي أكرمه وأحسن إليه حتى حكم عليه بالموت.
وإنما نسوق هذه القصة بين بيكون وإسكس؛ لأنها تشغل من كتب التاريخ والأدب فراغا كبيرا، وقد اختلف الأدباء والمؤرخون في موقف بيكون من صديقه. فهذا يهجوه أقذع الهجاء، وذاك يؤيده ويدافع عنه. ولعل أبلغ ما قيل في هذا ما كتبه الشاعر الإنجليزي بوب
في وصف بيكون حيث قال: «إنه أعظم وأحكم وأخس إنسان بين البشر.»
وكان موقف بيكون هذا قد أثار في نفوس قومه نقمة عليه وكراهية له، وكانوا جميعا يتربصون به الدوائر، ويصبون عليه السخط والغضب، ولكنه ازدرى بالناس، ومضى غير عابئ بما تكنه له صدورهم من غل، وأخذ يروح ويغدو بين مظاهر العظمة التي أغرم بها، فأسرف فيها إسرافا أدى به إلى الاستدانة، حتى سيق آخر الأمر إلى السجن وفاء لدين عجز عن وفائه، ولكن نجمه رغم ذلك كله أخذ في الصعود حتى ظفر بأعلى مناصب الدولة وأرفعها مقاما.
وقد شاء القدر لهذا الرجل الذي وضع أساس المذهب التجريبي أن تكون التجربة آخر مشهد له في حياته الزاخرة، فقد حدث في شهر مارس من سنة 1626م، أن كان مسافرا من لندن إلى إحدى المدن القريبة، فأخذ يفكر تفكيرا عميقا في إمكان حفظ اللحم من التعفن بتغطيته بالثلج، وأراد رجل التجربة أن يجرب ذلك بنفسه، فنزل من عربته عند كوخ صادفه في بعض الطريق، وابتاع منه دجاجة ذبحها وملأها بقطع الثلج ليرى كم تعيش الدجاجة دون أن يصيبها الفساد، وبينا هو مشتغل بذلك إذ داهمه مرض مفاجئ أعجزه عن أن يعود إلى لندن، فنقل إلى منزل مجاور لأحد الأثرياء، حيث رقد رقدة الموت، وقد كتب على سرير الموت هذه العبارة: «لقد نجحت التجربة نجاحا عظيما.» وكان ذلك آخر ما خطه قلمه، ثم أسلم الروح في التاسع من أبريل سنة 1626م وهو في الخامسة والستين، وقد كتب هذه الجملة قبل موته: «إنني أضع روحي بين يدي الله وليدفن جسدي في طي الخفاء، وأما اسمي فإني باعث به إلى العصور المقبلة وإلى سائر الأمم.»
وها هي العصور والأمم قد تقبلت اسمه بالتمجيد والتخليد. (1) مقالات بيكون
صعد بيكون في مناصب الدولة منصبا بعد منصب حتى بلغ أوجها، فكاد يحقق بهذا حلم أفلاطون عن الملك الفيلسوف الذي يجمع في شخصه الفكر والسلطان جميعا؛ ذلك لأنه بينما كان يرقى في المناصب السياسية كان كذلك يرقى في فلسفته حتى بلغ منها أرفع الذرى، فالتقى فيه الطرفان اللذان تمنى أفلاطون أن يلتقيا يوما في إنسان، وهما المعرفة والنفوذ. وإنه لعجيب حقا أن تتسع حياة هذا الرجل الزاخرة الصاخبة لما أنتجه من علم وافر وأدب غزير. فليس هينا ولا يسيرا أن توفق بين حياة الفكر والتأمل التي لا بد لها من الفراغ والهدوء، وبين الحياة السياسية التي تقتضي صاحبها أن يخوض غمار الحياة العملية بكل ما فيها من صخب وضجيج، ولكن بيكون قصد منذ أول الأمر إلى الحياتين معا، فأراد أن يكون كما كان «سنكا» فيلسوفا ورجلا من رجال السياسة أيضا، على الرغم من خوفه أن يحد هذا من ذاك فيقصر في كليهما على السواء. ولبث يتردد حينا أيهما يؤثر: أيؤثر حياة العزلة والتأمل، أم يؤثر الضرب في معمعان الحياة العملية؟ وتساءل: ألا يستطيع أن يمزج بين الحياتين؟ ولكن موقف التردد لم يطل، فقد أيقن يقينا ثابتا لا يتزعزع أن من السخف أن تكون الدراسة النظرية غاية في نفسها، وأن تكون حكمتها محصورة فيها؛ لأن العلم الذي لا يجد طريقه إلى التطبيق العملي ليس إلا عبثا وغرورا. وفي ذلك يقول بيكون في مقاله «في الدراسة» ما يأتي: «... أما أن تنفق في الدراسة (النظرية) وقتا طويلا فضرب من الخمول، وأما أن تزدان بها فحب للظهور، وأما أن تصدر في رأيك عن قواعدها وحدها دون غيرها، فذلك جانب الطرافة من العالم ... إن الدراسة (النظرية) لا تعلم كيفية استخدامها؛ إذ استخدامها حكمة خارجة عنها، وهي خير منها، وتكتسب بالملاحظة.» ولعمري إن هذه الأسطر القليلة التي جرى بها يراع بيكون لصيحة داوية تضع حدا للفلسفة المدرسية؛ لأنها تنادي بالتفرقة بين العلم واستخدامه، وهي ترفع من شأن الملاحظة والنتائج العملية للدراسة العلمية، وتلك سمة تميز الفلسفة الإنجليزية تمييزا واضحا. وضع أساسها بيكون، وما انفكت تتسع وتزداد حتى بلغت نهايتها في فلسفة البراجماتزم في العصر الحديث. ولكن هذه الدعوة إلى التجربة العملية التي صاح بها بيكون ليست تعني أنه رغب عن الكتب، وانصرف عن حياة التأمل ، بل بقيت الدراسة والتفكير موئله الذي يلجا إليه الحين بعد الحين، فاسمع إليه كيف يقول في مقدمة كتاب «حكمة القدماء»: «إنني لا أطيق الحياة بغير فلسفة.» ثم اقرأ هذه العبارة التي يصف بها نفسه: «إنني رجل خلقت أقرب إلى الأدب مني إلى أي شيء آخر.»
نعم كان «بيكون» إلى جانب الحياة العملية مفكرا عميق الفكر كاتبا رائع البيان، وأجمل إنتاجه الأدبي طائفة من «المقالات» دبجها بأسلوب بارع أخاذ، حتى جاءت في جمال لفظها وجمال معناها مجموعة نفيسة نادرة من أروع ما أنتجه الفكر الإنساني منذ نشأته إلى اليوم. فقد بلغ فيها من جودة النثر ما بلغه شكسبير من روعة الشعر. وإن كانت الكتب تنقسم إلى مراتب ثلاث كما قال بيكون: «بعض الكتب ينبغي أن يذاق، وبعضها يجب أن يزدرد، وبعضها القليل خليق أن يمضغ ويهضم.» لقد كانت «مقالاته» بغير شك من هذا القليل النادر الذي يستحق المضغ والهضم. وهي في مجموعها صورة صادقة دقيقة لكاتبها، تمثل جوانبه كلها ففيها تصوير لفلسفته الأخلاقية التي تنزع إلى القسوة المكيافيلية أكثر منها إلى الحب المسيحي، وتصوير لنزعته الدينية التي يذهب فيها إلى العقيدة بأن العقل يكفي وحده دون الوحي والإلهام لتنظيم الكون. وقد اتهمه معاصروه بالإلحاد، ولكنه ينكر ذلك في مقال كتبه في الإلحاد يقول فيه: «... إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها ينتهي بالعقول إلى الإيمان؛ ذلك لأن عقل الإنسان قد يقف عند ما يصادفه من أسباب ثانوية مبعثرة، فلا يتابع السير إلى ما وراءها، ولكنه إذا أمعن النظر فشهد سلسلة الأسباب كيف تتصل حلقاتها لا يجد بدا من التسليم بالله.» وأما رأيه السياسي كما يظهر في «المقالات» فهو محافظ جامد، وليس ذلك بعجيب من رجل يطمح إلى مناصب الحكم، فهو لهذا ينشد قوة مركزية متينة، ويرى أن الملكية خير أنواع الحكومة، وهو يحب الحرب، ولا يميل إلى السلم، ولذا تراه يسب تقدم الصناعة التي أخذت في عهده تنتشر في أنحاء البلاد انتشارا واسعا؛ لأنها تبعث على السلام الذي يقتل الشهامة والشجاعة في الرجال.
1
وينصح بيكون كما نصح أرسطو من قبله باجتناب الثورات ما أمكن ذلك. وخير سبيل لهذا هو التوزيع العادل للثروة بين الناس: «إن المال كالسماد لا يجود إلا إذا انتشر.» ولكنه لا يرمي بهذا إلى اشتراكية أو ديمقراطية؛ لأنه لا يؤمن بمقدرة الدهماء الذين بلغ من ازدرائه لهم أن قال: «إن أخس ضروب الرياء هو مصانعة الدهماء.» «ولقد أصاب فوقيون
Page inconnue