إلى المجد حتى عد ألف بواحد
على أنني أحب ألا أمضي بالحديث عند هذه النقطة، دون أن أنبه القارئ إلى فكرة هامة لو أفلتت من أيدينا فقد أفلت ركن ركين في بنية الفكر العربي، ألا وهو أنهم - أعني أسلافنا من مفكري العرب - لم يتصوروا قط أن يقتصر الإنسان على حكمة العقل، دون أن يمدها إلى فعل يؤديه بناء عليها، فلا يكون العلم علما عندهم إلا إذا أعقبه العمل على أساسه ... «فالقوة العالمة» - على تعبيرهم - التي تتمثل فيما نحصله من معارف وعلوم تكملها «القوة العاملة» التي تتمثل في تنظيم أمور الحياة وترتيبها.
وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم ابن مسكويه حين يقول: «إن ما يخص به الإنسان من حيث هو إنسان وبه تتم إنسانيته وفضائله هو الأمور الإرادية.» كما نفهمه كذلك حين يحدد الخير أنه «فعل» ما قصد به وجود الإنسان، ويحدد الشر بأنه هو ما يعوق ذلك الفعل. وتطبيقا لهذه القاعدة لا يكون الخير أبدا فيمن «يتأمل» وهو ساكن، بل لا يكون الخير أبدا فيمن يملأ رأسه بثقافات الأولين والآخرين، ثم لا «فعل» بعد ذلك يؤديه على ضوء ما قد عرف ... ... وفي هذه العلاقة الوثيقة بين «العلم» و«العمل» عند المفكرين العرب، نذكر الإمام الغزالي وكتابين له، أراد بكل منهما أن يكون قسيما للآخر، كأنما أراد أن يعلن بألا حياة على أي درجة من الكمال إلا إذا اجتمع فيها قسط من ذينك القسيمين، وأما الكتابان اللذان أعنيهما فهما: «معيار العلم» و«ميزان العمل»، ففي الكتاب الأول يضع للعلم حدوده ويقيم له الأسس التي تضمن له الصواب، وفي الكتاب الثاني يبين كيف يجيء العمل وفق ذلك العلم.
ويرى الغزالي - كغيره من المفكرين العرب - أن صورة الإنسان الكامل لا تتحقق لنا إلا إذا حللنا النفس الإنسانية أولا، فنراه يهيب بالباحث أن يعرف نفسه - كأنه في ذلك سقراط - فيقول: اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك. كما يروي في هذا السياق حديثا شريفا: «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه.» ثم يقرر لنا في السياق نفسه أن معرفة النفس ومعرفة الله أمران متلازمان، «ومن رحمة الله على عباده أن جمع في شخص الإنسان - على صغر حجمه - من العجائب ما يكاد بوصفه يوازي عجائب كل العالم حتى كأنه نسخة مختصرة من هيئة العالم؛ ليتوصل الإنسان بالتفكير فيها إلى العلم بالله» ...
هكذا كان اتجاه أسلافنا في تصويرهم للإنسان الكامل أن يضعوا الزمام في منطق العقل لمعرفة ظاهر الكون وباطن الإنسان، فيكون ذلك مؤديا إلى معرفة الله، فلو أننا اليوم أعدنا لأنفسنا الصورة نفسها؛ ألفينا أنفسنا في عصر العلم هذا وكأننا صانعوه لا غرباء بين أهله (اقرأ الفصل العاشر من كتاب «تحديد الفكر العربي»).
الفصل العاشر
مصري يكتب عن مصر
1
في أوائل عام 1956م تلقيت عرضا من دار كبرى للنشر في الولايات المتحدة الأمريكية، يعرض علي أن أكتب كتابا متوسط الحجم عن مصر، يصور لقارئه أهم ما يتعلق بمصر في ماضيها وحاضرها، فما لبثت بعد ذلك يوما واحدا حتى انكببت انكبابا في جمع المادة المطلوبة لأصوغها في كتاب. وأذكر أني إذ أخذت في الكتابة؛ شعرت شعور العاشق ينظم قصيدة يتغزل بها في الحبيبة، دون أن يسمح لعاطفته - على شدتها - أن تجرفه فينحرف عن الحقيقة الواقعة كما يقررها التاريخ وتقرها المشاهدة العلمية، وحسب تلك العاطفة أن تكون صادقة، فلا يضير الحقيقة الواقعة أن ينظر إليها الرائي بعين مفتونة بجمالها وجلالها معا.
فرغت من كتابة الكتاب في نحو ستة أشهر، وجعلت عنوانه «أرض مصر وأهلها»، ورسمت به صورة مشرقة عن هذا البلد الخالد، ملتزما علمية الحقائق المعروضة ودقتها في كل كلمة أوردتها في سياق الحديث، ولكن ما حيلتي إذا كانت الحقائق - التي لا ينكرها إلا جاحد ظلوم - تشع الضياء الباهر كما تشعه شمس الضحى؟ وما حيلتي إذا كان المصري، إذا ما أنصفت في تصويره ظاهرا وباطنا، وجدته يحمل في سلوكه البادي حكمة الخبير، كما يكن في عمقه الخافي خشية الله ونقاء الضمير؟
Page inconnue