إنه قد يتبادر إلى أذهاننا أن الماضي شيء مفروض علينا، لا قبل لنا بعملية اختيارية نتحكم بها فيما نأخذه وما نتركه، وأن هذه الحرية في التركيب والبناء مقصورة على تصورنا للمستقبل، ولا تمتد كذلك إلى تصورنا للماضي، لكن أمعن النظر قليلا تجد ألا فرق في حرية الصنع والبناء بين ماض ومستقبل، كلاهما هو ما نصنعه نحن باختيارنا، كل ما في الأمر من اختلاف بين الحالتين، هو أننا بإزاء الماضي أمام أكوام مركومة من مواد البناء، فنتقدم ونأخذ منها ما يحلو لنا أن نأخذه، ثم نقيمه في البناء الذي يحلو لنا أن نقيمه لأنفسنا، على حين أننا بإزاء المستقبل نحفر القنوات التي يتسرب فيها الحاضر على نحو ما نريد له أن يتسرب؛ لتتكون الصورة التي نحب لها أن تكون.
الماضي والحاضر كلاهما من صنعنا، وإن هذا الصنع ليجيء نتيجة لاهتماماتنا نحن في الآونة الحاضرة ...
الفصل التاسع
أصالة ومعاصرة
1
إذا استعرضت حياتي الفكرية من أولها إلى آخرها، وجدت أنه ربما كانت قضية الجمع بين الأصالة الثقافية التي تضرب بجذورها إلى المقومات الأولية التي جعلت من العربي عربيا على طول التاريخ العربي ومن المصري مصريا بما قد كان قبل العروبة وبعدها، وبين المعاصرة التي تجعلنا جزءا من زماننا، لا بمجرد وجودنا الجسدي بل بنشاطنا الفكري كذلك . أقول: إن قضية الجمع بين أصالتنا وضرورة معايشتنا لعصرنا ربما كانت أهم ما تعرضت له من اهتمامات بالتفكير وبالكتابة. ثم ما هو أكثر من ذلك؛ فقد أصبحت على يقين من أن هذه المسألة هي أم المسائل الثقافية جميعا، من أهمها من صفوة رجال الثقافة بيننا، فكأنما أزاح عن عاتقه العبء الذي بغيره يكون وجوده كعدم وجوده في حياتنا الراهنة؛ إذ هي حقا القضية التي يصح أن نقول حيالها قولة هاملت في أزمته النفسية: أن أكون أو ألا أكون، ذلك هو السؤال.
والحق أنني لم أبدأ حياتي الفكرية بالرأي الذي تحولت إليه منذ أواسط الستينيات، بل لبثت أعواما وأعواما لا أرى للحياة القومية المزدهرة إلا صورة واحدة، هي صورة الحياة كما يحياها من أبدعوا حضارة هذا العصر، ولقد شاءت تطورات التاريخ أن يكون هؤلاء المبدعون هم من أبناء أوروبا وأمريكا، فهناك ولد العصر بعلومه وفنونه ونظمه؛ ولهذا فقد أصبحت درجات التحضر لسائر شعوب الأرض إنما تقاس بمقدار قربها أو بعدها من الطراز الغربي القائم. هكذا كان الرأي عندي حتى لقد بلغت فيه حدودا من التطرف الذي لم يعرف لنفسه حيطة وحذرا، وكان الأمر في ذلك يبدو أمام ذهني وكأنه من البديهيات التي لا حاجة بها إلى مزيد من تأمل وبحث؛ فقد كان يكفيني حينئذ أن أرى في الغرب علما لا وجود له عندنا إلا نقلا عنهم ومحاكاة، وأن أرى في الغرب قوة يسيطر بها علينا ويحتل منا مراكز القيادة والسيادة، وأن أرانا في كل مناحي الحياة أتباعا، هم هناك يبدعون ونحن هنا ننقل عنهم ما يبدعونه، ونحفظ عن ظهر قلب ما يصلون إليه من معرفة، وذلك على أحسن الفروض.
حدث أثناء دراستي في إنجلترا في أواسط الأربعينيات أن التقيت هناك بطبيب مصري، أصبح فيما بعد مرموقا في بلادنا بعلمه في ميدانه، التقيت به وقد جاء إلى انجلترا في بعثة قصيرة، وكان بيني وبينه صداقة قديمة، فما كاد الجلوس يستقر بنا على مائدة حتى انطلق يبدي عجبه وتعجبه من تلك السمعة الكاذبة التي شاعت عندنا في مصر عن إنجلترا وعلمها، لماذا يا صديقي؟ سألته فأجاب: لأنه ما من كتاب طلبوا منا دراسته هنا إلا وهو معروف لنا ومدروس في مصر قبل حضورنا ... إذن فقد نسي صديقي ذاك - وهو من أنبه شبابنا حين كان شابا، ومن ألمع رجالنا حين أصبح رجلا في أربعينياته وما بعدها - نسي صديقي ذاك أن الكتب التي عرفها في مصر ودرسها، ثم وجد أنها هي الكتب التي يوصى بها في جامعات إنجلترا كذلك، هي من صنعهم في الحالتين؟ وإلى هذا الحد تحول غشاوة على أعيننا دون الرؤية الواضحة لحقيقة موقف الغرب وموقفنا من العلوم إبداعا وكشفا.
هكذا كان الأمر يبدو لي مدى أعوام طويلة؛ فهم الذين يخلقون الجديد دائما، ونحن في كل ما نحياه من عصرنا في موقف المستعير.
وفاتني طوال تلك السنين أن السؤال الحقيقي هو: ماذا وراء قوتهم وضعفنا؟ ما السر الكامن في تقدمهم وتخلفنا؟ فليست المشكلة في صميمها هي أن عندهم كذا وكذا من نتائج العلم والفن، وليس عندنا مثل ما عندهم؛ لأنه لو كانت هذه هي المشكلة في جوهرها؛ إذن لكان حلها هو أن ننقل مما عندهم ليصبح عندنا وكان الله يحب المحسنين، لا، ليست هذه هي المسألة المؤرقة، بل إنها هي «ما وراء» إبداعهم وقوتهم، فلما اختفى هذا «الماوراء» من حياتنا نحن، ذهب عنا الإبداع والقوة.
Page inconnue