وكأنما هو ضد طبائع الأشياء أن يولد جديد في الثقافة أو في الحضارة دون أن يتصدى له قديم ليبرز عيوبه وليمحوه من الوجود إذا استطاع، وربما كانت هذه الحراسة من التقاليد القائمة لما عسى أن ينجم من الجديد من تشويه لمعالم الشخصية الأصيلة؛ فتتصدى له بالتحدي حتى تلجم خطاه. أقول: ربما كانت هذه الحراسة الثقافية في صالح الأمة بصفة عامة حتى لا تلعب بها النزوات والأهواء، لكنها أيضا قد تكون مصدر ضرر بالغ إذا بولغ فيها مبالغة من شأنها أن تقتل براعم الإبداع الفكري والفني كلما بزغت لتينع وتزدهر. ومهما يكن من أمر فقد حدث للثقافة العربية الجديدة التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة أن نهض من يقاومها مقاومة عنيدة، مقيما حجته على أساس أن الجديد غريب على الروح العربية الأصيلة وضار بها وليس بذي نفع لأبنائها، لكننا نلحظ في أولئك الذين نهضوا لمقاومة الثقافة الجديدة أنهم فعلوا ذلك بعد أن أشربوا حتى ارتووا من تلك الثقافة نفسها التي يقاومونها؛ ولذلك جاءت مقاومتهم لها مستخدمة أدواتها وأسلحتها. وأقوى مثل نسوقه لذلك هو الغزالي في حملته ضد الفلسفة اليونانية في كتابه «تهافت الفلاسفة».
ولقد كنت أتحدث عن مراحل رحلتي الثقافية في دنيا التراث، متدرجا معه خلال القرون الخمسة الأولى من تاريخ المسلمين، ومهتديا بدرجات الإدراك المتصاعدة في قوتها وسطوعها، كما وردت في آية النور: مشكاة فمصباح فزجاجة فكوكب دري فشجرة مباركة. المشكاة لتأثر الحواس بما تتلقاه مما حولها من مؤثرات، والمصباح للعقل في تكوينه للمعاني بناء على ما استخلصه من إدراك الحواس، والزجاجة لانضباط تلك المعاني بما يحددها ويزيدها جلاء، والكوكب الدري للدرجة القصوى من لمع العقل، وهذه الخطوات كلها أجملناها إجمالا سريعا فيما أسلفناه، ثم تأتي الدرجة الأخيرة التي هي الشجرة المباركة رمزا لاعتراف العلم، لا من الخارج بل من النبع الباطني، من طبيعة الذات الداخلية، وهو ضرب من الإدراك يجيء إلى صاحبه برؤية باطنية مباشرة، فلا استدلال لأفكار من أفكار سواها، ولا إقامة برهان على فكرة بفكرة أخرى، فمثل هذه المعرفة اللدنية التي تغترف من خلجات النفس لا شك في يقين صوابها - عند صاحبها - حتى ولو عارضته فيها الدنيا بأسرها؛ لأنه أحسها بوجدانه كما يحس العاشق عشقه لمن يعشقه، وكما يحس الخائف خوفه، والمتألم ألمه، والنشوان نشوته.
مرحلة «الشجرة المباركة» التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، هي المرحلة الأخيرة من رحلتي الثقافية في دنيا التراث، حيث سمعت دعوة إلى رفض الحواس ورفض العقل (إلا في الميادين الخاصة بهما)، واللجوء إلى رؤية الباطن رؤية مباشرة لشهود «الحق». وكان صاحب الدعوى الذي اخترناه ليكون الناطق بها والمفصح عن فحواها هو الإمام الغزالي.
لكنها وقفة ذات وجهين؛ لأنها إذ تدعو إلى رؤية الحق بالشهود المباشر، فهي في الوقت نفسه تدعو إلى نبذ أداة العقل كما تمثل في فلسفة اليونان - وفلسفة أرسطو في صورتها السينوية (أي عند ابن سينا) بصفة خاصة؛ ومن هنا جاء كتابه «تهافت الفلاسفة» ليبين كيف تتناقض تلك الفلسفة مع نفسها، فكان كتابه ذاك بمثابة إغلاق الباب الذي تسللت منه أضواء الثقافة الجديدة الساطعة التي حدثتك عنها. ولسوء حظ الثقافة العربية أن كان الغزالي من القوة بحيث جاءت حركته تلك إغلاقا لبث فعله يؤثر في مجرى الفكر العربي نحو ثمانية قرون كاملة، لم تظهر فيها حركة فتح مضادة تلغيها إلا ابتداء من القرن التاسع عشر، وحتى رد ابن رشد على كتاب الغزالي بكتاب «تهافت التهافت» (أي إن التناقض ليس في فلسفة أرسطو، بل هو في كتاب الغزالي) أقول: حتى ابن رشد بكتابه «تهافت التهافت» لم يغير من الأمر شيئا؛ إذ كاد تأثير ابن رشد يقتصر على الغرب، فكأنما جعلناها قسمة ثقافية: الغزالي لأبناء الشرق وابن رشد لأبناء الغرب (الرحلة الثقافية في دنيا التراث هي التي فصلت أخبارها وثمارها في كتاب «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»).
5
قل ما شئت عما في تراثنا العربي من قوة وغزارة وإبداع، فذلك كله صحيح، لكننا نغمض أعيننا عن الحق إذا نحن أغمضناها عن عوامل أخرى تعمل فينا كأبشع ما يستطيع فعله كل ما في الدنيا من أغلال وأصفاد، وإنه لمن العبث أن يرجو العرب المعاصرون لأنفسهم نهوضا أو ما يشبه النهوض قبل أن يفكوا عن عقولهم تلك القيود؛ لتنطلق نشيطة حرة نحو ما هي ساعية إلى بلوغه، إنه لا بناء إلا بعد أن نزيل الأنقاض ونمهد الأرض ونحفر للأساس القوي المكين، وسأكتفي من هذه العوامل المعوقة بثلاثة:
الأول:
أن يكون صاحب السلطان السياسي هو في الوقت نفسه - وبسبب سلطانه السياسي - صاحب «الرأي»، لا أن يكون صاحب «رأي» (بغير أداة التعريف)، بحيث لا يمنع رأيه هذا أن يكون لغيره من الناس آراؤهم.
الثاني:
أن يكون للسلف كل هذا الضغط الفكري علينا، فنميل إلى الدوران فيما قالوه وأعادوه ألف ألف مرة، لا أقول: إنهم أعادوه بصورة مختلفة، بل أعادوه بصورة واحدة، تتكرر في مؤلفات كثيرة، فكلما مات مؤلف لبس ثوبه مؤلف آخر، وأطلق على مؤلفه اسما جديدا، فظن أن الطعام الواحد يصبح أطعمة كثيرة إذا تعددت له الأسماء.
Page inconnue