رحلة في دنيا التراث
1
اشتدت بي الرغبة - في أواخر الستينيات - أن أرسم لنفسي صورة متماسكة غنية - نسبيا - بتفصيلاتها عن الثقافة العربية إبان القرون الخمسة الأولى بعد ظهور الإسلام، فلقد شعرت يومئذ أنني على كثرة ما قرأته من ذلك التراث قراءة كانت دائما لا تستهدف غاية تريد الوصول إليها، اللهم إلا المعرفة لذات المعرفة، لم تزل تنقصني الروابط التي تصل أشتات المقروء بعضها ببعض في صورة واحدة، فتستطيع أن تقول إنني كنت إلى ذلك الحين قد خزنت في نفسي أكداسا من حقائق عن الثقافة العربية إبان تلك القرون الخمسة التي أردت دراستها، لكن تلك الحقائق كانت عندي بغير «تاريخ» يربطها في سيرة متصلة المراحل لتصبح «حياة» لها دوافعها وأهدافها؛ فاشتدت بي الرغبة في أن أنصرف بمعظم جهدي بضع سنوات - نحو الدراسة المنشودة - لعلي أكمل النقص الذي أحسست به في معرفتي بالتراث.
لكنني ما إن هممت بالتنفيذ وحولي مكتبة جامعية على درجة كبيرة من الغنى بما احتوت عليه من أصول ومراجع، حتى رأيتني كمن وقف على شاطئ محيط متسع الآفاق عميق الأغوار، قائلا لنفسي: دونك المحيط فاسبح إلى حيث شئت من شطآنه النائية! فكيف أبدأ وإلى أين أتجه؟ ماذا أختار من هذه المراجع التي تعد بالألوف؟ وماذا أدع مطمئنا لما اخترت وما تركت؟
إنه لا بد من خطة سير أرسم بها طريقي؛ أعني أنه لا بد لي من «منهج» ينظم لي الخطوات المتعاقبة في رحلتي، فكان أول سؤال طرحته على نفسي لأرسم منهج الرحلة على أساس الإجابة عنه، هو: ما هدفك مما أنت مقدم عليه؟ ولم ألبث أن أجبت: أريد أن أتعقب طريق «العقل» العربي في مساره، عندما كان العرب في ذروة عنفوانه، ولماذا «العقل» وطريقه دون سائر الجوانب التي منها ما هو خطير وهام كالوجدان الديني والإبداع الفني وغيرهما مما يتصل بالطبيعة الإنسانية في أعمق أعماقها؟ اخترت طريق «العقل» في مساره إطارا يجمع لي الأشتات التي أعرفها والتي لم أكن قد عرفتها بعد من الثقافة العربية؛ لعدة أسباب أدركتها فور اختياري: فالاتجاه العقلي أولا أبرز ما يميزني إزاء مواقف الحياة. وثانيا لأن طريق العقل هو وحده الذي تأتي فيه الخطوات المتعاقبة مكملة بعضها لبعض إما صعودا أو هبوطا؛ فالخطوة اللاحقة تجيء لتكمل الخطوة السابقة في اتجاهها وفي سرعتها وفي أهم مقوماتها. وثالثا لأننا إذا كنا نريد اليوم أن نلتمس رباطا قويا يصل حاضرنا بماضينا، فيحسن أن نلتمسه في دنيا «المعقولات»؛ لأنها هي التي يمكن أن تدوم مع الأيام، فكما كانت «معقولة» للسابقين، تكون «معقولة» كذلك عند اللاحقين.
ولكن ماذا أردت «بالعقل» عندما اخترت في تلك اللحظة أن يكون طريق العقل في الثقافة العربية منهجي في البحث والاختيار؟ أردت به شيئين ، يكفي أن يتوافر أحدهما في موقف ما لأصف ذلك الموقف بأنه عقلاني في نزعته، أحدهما أن تكون حركة الفكر حيال المشكلة المعروضة سائرة بصورة صريحة على منهج المنطق الذي يقدم المقدمات ثم ينتزع منها النتائج كما هو واضح - مثلا - في الفكر الرياضي أو في فكر الفقهاء المسلمين، أو في طريقة التناول التي نراها بين الفلاسفة ومن يطلق عليهم في الفكر الإسلامي بالمتكلمين. وأما ثانيهما فهو أن يعالج الإنسان مشكلة عرضت له معالجة لا تردها إلى «مقدماتها»، بل تسير بها إلى ما يحلها ويزيل عنها موضع الإشكال، ففي أمثال هذه الحالات تلمح ما يمكن أن نسميه بالإدراك الفطري السليم الذي يعرف كيف يخرج من مأزق تأزم في حياته، دون أن يعرف شيئا عن المقومات النظرية ولا عند قواعد الاستدلال الصحيح التي يشترطها أصحاب المنطق الصوري.
ولم يكد الأمر يتبلور أمامي على هذه الصورة، من حيث اختياري لطريق العقل في مسار الثقافة العربية محورا أنتقي على أساسه ما أقرؤه، حتى أراد لي الله أن تقفز إلى ذهني آية النور، مقرونة بتفسير الإمام الغزالي لها في كتابه «مشكاة الأنوار»، فكنت عندئذ كمن كان تائها في فلاة لا تحددها معالم، وفجأة انفتح أمامه طريق السير واضحا مضيئا مفصل المراحل والخطوات. تقول الآية الكريمة:
الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء . «النور» في تأويل الإمام الغزالي لهذه الآية الكريمة هو قوة الإدراك السليم، ولما كان مثل هذا الإدراك إنما يتصاعد درجات، جاء «النور» في الآية على درجات تزداد قوة درجة فوق درجة، وهذه الدرجات في تعاقبها بمثابة مراحل ينمو بها العقل ويكتمل، فأولى درجات الإدراك هي مجرد إحساس الحاسة بما ينطبع عليها ويؤثر فيها، وهي الدرجة التي تمثلها الآية بالمشكاة، والمشكاة كالنافذة مفتوحة تتلقى الضوء، ثم تأتي الدرجة التالية التي هي المصباح داخل المشكاة، والمصباح هنا يرمز للعقل الذي يتلقى المؤثرات الخارجية فيحولها إلى معان، وتبقى تلك المعاني مبهمة الحدود إلى أن تحيط الزجاجة بالمصباح فتثبت شعلة الضوء وتظهر حدودها ويزداد لمعانها؛ فالزجاجة هنا هي كالمخيلة عند الإنسان في عمليات الإدراك، تعمل عمل القالب الذي تنصب فيه مادة لم تتشكل؛ فتنخرط في شكل يرسم حدودها، ولكن من أين تستمد المخيلة قوتها تلك؟ إنها تستمدها من «شجرة مباركة»، وهي ترمز هنا إلى وحي أو إلهام من الله سبحانه وتعالى. وهنا ينتهي التسلسل لأن قوة الإلهام لا يسأل عن مصدرها؛ إذ هي كالزيتونة تضيء بزيتها وليست بحاجة إلى مصدر خارج ذاتها، فلو أننا رتبنا درجات الإدراك من أعلى إلى أسفل قلنا: إن الوحي الإلهي يهدي أولا، فتستقيم بهدايته مخيلة الإنسان في تشكيلها للمعاني، وكانت تلك المعاني قد تكونت بحدود مبهمة بفعل العقل، وفعل العقل إنما ينصب على ما تتلقاه الحواس بصرا وسمعا وغير ذلك. أو إذا رتبنا درجات الإدراك صعودا بها من أدناها إلى أعلاها، كانت بداية الشوط انطباعات تتلقاها الحواس من عين وأذن وغيرها، فيتناول العقل تلك المادة الحسية ليستخرج منها معانيها، ثم تؤدي المخيلة دورها في صقل تلك المعاني والدقة في تحديدها، ومصدر هذه القوة آخر الأمر مبادئ أولية يدركها الإنسان بلمعات من بصيرته، ولا موضع بعد ذلك لسؤال يسأل عن البصيرة ما مصدرها؛ لأنها عيان مباشر يتفجر من فطرة الإنسان بمشيئة الله.
أسلفت لك القول بأنني ما كدت أرسم لنفسي منهجا أختار على أساسه ما أختاره من ذلك الخضم الزاخر من حولي - الذي هو «التراث» العربي في أصوله ومراجعه - حتى قفزت إلى ذهني آية النور، وتأويل الغزالي للنور بأنه قوة الإدراك، تتدرج من مجرد الحس بما هو موجود، صعودا إلى الذروة الإدراكية المتمثلة في رؤية الحق إدراكا مباشرا.
فكان السؤال الذي نشأ عندي، هو: أتكون هذه الدرجات الإدراكية هي نفسها الخطوات التي يتدرج فيها العقل عند نمائه؟ وهي نفسها المراحل الثقافية التي تتدرج بها أمة إبان صعودها الحضاري؟ إنه مجرد فرض فرضته لأقيم عليه النتائج التي تهديني في السير، فإذا صدق هذا الفرض على الثقافة العربية كنت قمينا أن أجد أول ما أجد مرحلة من الإدراك الفطري النقي السليم، الذي يحكم على الأشياء وعلى المواقف بقوة البديهة وحدها، ولا يطالب نفسه بالتنظير الذي يبحث عن العلل والبراهين. ووجدت بعد ذلك مرحلة تتلوها، تتسم بما تتسم به العملية العقلية، ألا وهي تقعيد القواعد للمادة المحصلة قبل ذلك بقوة الإدراك الفطري. ووجدت ثالثا مرحلة تواصل العملية العقلية بمزيد من الدقة النظرية، وربط القوانين العلمية بعضها ببعض. ووجدت رابعا وأخيرا مرحلة يقف فيها صاحب الإدراك موقف المتصوفة، الذي ينشد رؤية الحق بمواجهة مباشرة، فهو - مرة أخرى - ضرب من الإدراك الفطري الذي بدأنا به، لكنه كان في المرحلة الأولى إدراكا لجزئيات تأتي فرادى، وهو الآن آخر الشوط إدراك للمبدأ الأول في صورته الكلية الضرورية اليقينية الشاملة.
Page inconnue