كان التصور القديم يقابل بين «الفكر» من ناحية و«العالم» من ناحية أخرى، وجاء التصور الجديد ليجد مفهوم «الفكر» غامضا، فاستبدل به «اللغة» التي تحمل فكرا، وجعل المقابلة بين «اللغة» و«العالم» فأصبح الأمر واضحا ومحددا، فبعد أن كنا لا ندري كيف نراجع الفكر على الواقع؛ أصبح ميسورا أن نطابق اللغة على الواقع، فنرى إن كان التصوير اللغوي للواقع دقيقا أو لم يكن (راجع الفصل المعنون «ثورة في الفلسفة المعاصرة» في كتابي «قشور ولباب»).
الفصل الخامس
دفاع عن العقل
1
لقد أسلفت لك الحديث عن الفرق في منطق اللغة بين تركيب لفظي يشير إلى كائنات العالم الخارجي، وتركيب لفظي آخر يتجه بانتباه السامع أو القارئ نحو ما يجري في دخيلة نفسه من مشاعر، وأذكر أني ضربت لك مثلا يوضح هذا الفرق بين قولين: عبارة تقول لك عن الهرم الأكبر إنه يقع غربي النيل، ويبعد عنه نحو عشرة كيلومترات، وعبارة أخرى تقول عن الهرم نفسه بأنه يثير في النفس ذكريات مجد قديم، ويوحي بجلال الخلود، وها أنا ذا أضيف إلى تلك التفرقة بين الوظيفتين اللتين تؤديهما اللغة: أن تلك التفرقة ذاتها هي أيضا تمييز بين مجالين في حياة الإنسان: مجال العقل ومجال الوجدان، ففي مجال العقل يكون التفاهم بين الناس قائما على أساس ما يمكن مراجعته وضبطه والحكم عليه بالصواب أو بالخطأ بحسب مطابقته أو عدم مطابقته للواقع الذي جاءت الجملة المعينة لتتحدث عنه، وأما في مجال الوجدان فالأمر متروك كله للمتلقي يشعر كيف شاءت له ميوله؛ إذ لا سبيل هنا إلى مراجعة ولا إلى ضبط أو حكم بصواب أو بخطأ.
عد إلى العبارتين اللتين أسلفت ذكرهما عن الهرم الأكبر، تجد الأولى ممكنة المراجعة على الواقع الفعلي جزءا بجزء، للتأكد من أن الهرم الأكبر يقع حقا غربي النيل، وأن المسافة بين الهرم والنيل تبلغ فعلا ما يقرب من عشرة كيلومترات، وللسامع أو القارئ بعد ذلك أن يحكم على العبارة بأنها صادقة أو كاذبة بناء على ما وجده في عملية المراجعة. وأما العبارة الثانية فلا سبيل فيها إلى شيء من ذلك؛ فقد تصادف سامعا ينظر إلى الهرم الأكبر فلا يثير في نفسه شيئا عن مجد قديم، ولا يوحي له بشيء عن جلال الخلود، بل لعل ذلك السامع يجهل ماذا يراد بالمجد وبالخلود، فلا مراجعة هنا ولا تصويب ولا تكذيب؛ لأن الأمر كله مرهون بصاحبه وما يشعر به أو لا يشعر.
الجانب العقلي جانب عام مشترك بين الناس، والجانب الوجداني فردي خالص، ففي الجانب العقلي إذا ما تبينت شواهد الصدق وجب على السامع أن يذعن؛ إذ لا مفر له من برهان يقيمه منطق العقل، أئذا قيل لأحد: إن الثمانية أكبر من الخمسة، والخمسة أكبر من الثلاثة، إذن تكون الثمانية أكبر من الثلاثة، استطاع السامع أن ينكر صدق القول؟ لكن ما هكذا الشأن إذا قيل له: إن غروب الشمس يبعث على كآبة النفس وانقباضها؛ لأن السامع في هذه الحالة قد تكون هذه حاله إزاء الغروب وقد لا تكون.
ومنذ حملت القلم كاتبا في صدر الشباب؛ أدركت في شيء من الغموض أولا وفي كثير جدا من الوضوح آخرا؛ أدركت الفرق في استخدام اللغة بين الحالتين، ثم أدركت فوق ذلك أن العربي بصفة عامة (والمصري عربي) أشد ميلا - بحكم ثقافته - إلى العبارة المثيرة للوجدان منه إلى العبارة المستندة إلى عقل، وأدركت فوق هذا وذلك أن في مقدمة الإصلاح - إذا أردنا إصلاحا - أن نربي الأجيال الجديدة على وقفة أخرى، يفرق لنفسه فيها تفرقة واضحة بين ما هو عام فيحيله إلى العقل وأدواته، وما هو خاص فلا بأس عندئذ في الركون إلى لغة الشعور.
لماذا انقضت على مصر منذ بدأت نهضتها الحديثة حتى الآن (وأنا أكتب هذا سنة 1982م) مائة وخمسون عاما على الأقل، ومع ذلك لا نستطيع أن ندعي بأنها تشربت من ثقافة العصر الجديد ما كنا نتمنى لها أن تتشربه؟ لماذا أصبح المتعلمون في مصر يعدون بعشرات الملايين ومع ذلك فإذا ما أمعنا النظر في هؤلاء المتعلمين أنفسهم - ودع عنك من لم ينل حظا من التعليم - وجدنا نفورهم من رؤية الحياة بنظرة علمية تلتزم منطق العقل لا يقل عن نفور أجدادهم الذين غمرتهم موجات الظلام إبان القرون الثلاثة السابقة على بدء النهضة الحديثة؟ أسئلة كهذه كنت ألقيها على نفسي فأجد لها جوابا واحدا، هو: نقص في تربية العقل، وإسراف في إشعال الوجدان.
2
Page inconnue