ومضى يوم واحد جاء بعده الجيران يشكون الغلام لأبويه؛ فقد ظفر بقطعة من الفحم، وراح يتسلل إلى حيث استطاع سبيلا من دورهم، وأخذ يخط كلمة «ظلم» على الأشياء فيفسدها، حتى أتلف للجيران أبوابهم ونوافذهم وجدرانهم وأثاثهم.
فضربه أبوه، وسأله في غيظ قائلا: ما الذي يغريك بهذه الكلمة تكتبها في كل مكان، تكتبها لنا بالطباشير وللجيران بالفحم؟
وأجاب الغلام بعينين دامعتين: لست أدري يا أبت! اعف عني هذه المرة ولن أعود. لكن لم يكد يمضي يوم آخر حتى جاء أصحاب الدكاكين المجاورة يشكون الغلام لوالديه؛ فقد ظفر هذه المرة بما ليست تمحى آثاره في يسر، كما محيت آثار الفحم والطباشير؛ ظفر بوعاء فيه طلاء أسود وفرجون، جاء به من عمارة قريبة يقام بناؤها، وراح يغافل أصحاب الدكاكين ويكتب أمام متاجرهم على الطوار: «الظلم» «ظلم»؛ فشوه الطريق بخطه الرديء من ناحية، وأساء إلى المتاجر وأصحابها من ناحية أخرى؛ لأن هؤلاء يريدون إغراء الزبائن بما يكتب أمام متاجرهم، لا تنفيرهم بالمعنى السيئ والشكل الرديء.
وها هنا بلغ الغيظ من الوالد أبلغ مداه، وجاء بغلامه أمام الشاكين يضربه ضربا مبرحا هذه المرة، حتى مست الرحمة قلوبهم وهم الغرباء قبل أن تمس قلبه وهو الوالد.
وسأله أبوه من جديد: ما الذي يغريك بهذه الكلمة تكتبها لنا بالطباشير وللجيران بالفحم ولهؤلاء الناس بالطلاء؟ فأجابه الغلام بصوت مخنوق بالبكاء: لست أدري يا أبت! اتركني هذه المرة ولن أعود إلى مثل ذلك أبدا.
لكن الغلام لم يكن عند وعده هذه المرة أيضا، فمضت ثلاثة أيام لم يعكر صفوها «ظلم» لم يصب أحدا من الناس، وفي اليوم الرابع تأخر الغلام عن موعد عودته من المدرسة، وشغل الأبوان وبحثا عنه في مظانه كلها، فلم يعثر له على أثر حتى إذا ما كانت الساعة العاشرة أو نحوها من الليل، دق الجرس وأسرع الأبوان في لهفة إلى الباب، فإذا ابنهما في صحبة رجل من رجال الشرطة.
قال الشرطي: هذا ابنكم، وجدناه ينقر بابا لدار من دور الحكومة بمبراة: فأخذناه إلى قسم الشرطة، وكتبنا عن الأمر «محضرا»، لكننا نريد مواصلة سؤاله وعقابه غدا، ورأينا أن نسوقه إلى داره ليمضي ليله مع والديه حتى لا يشغلان عليه بالا.
ونظر الغلام إلى أبيه نظرة يطلب بها العفو والعطف، فلم يسأله أبوه عن شيء وبات محزونا.
حتى إذا ما جاء الصبح، وذهب إلى الدار الحكومية التي أتلف الغلام بابها بمبراته، وجد ابنه قد حفر على الباب كلمة «ظلم»، حفرها كلمة كبيرة عميقة، حتى ليدهش الرائي كيف استطاع أن يصنع ذلك كله في ظلمة الليل، وأين كان الحارس طول الساعات التي استغرقها الفتى في حفر ذلك كله على باب من الخشب الصلب المتين؟
واتفق رجال الشرطة مع الوالد الحيران أن يخلوا له سبيل الغلام، وكان ذلك بمشورة طبيب استشاره الوالد في أمر ولده، فأشار الطبيب بأن يصحب الوالدان ابنهما إلى مكان من الريف لتهدأ أعصابه؛ لأنه مريض.
Page inconnue