ليس هنا المكان المناسب لذكر شيء من تفصيلات الفكرة، مما دعاني إلى تبينها والدفاع عنها ومحاولة نشرها في العالم العربي - فذلك كله سيرد مكانه في فصل تال من هذا الكتاب - لكن حسبي هنا أن أقول عن هذا الاتجاه شيئا واحدا؛ وهو أنه يقصر الفكر الفلسفي على تحليل ما تقدمه لنا العلوم من قضايا أساسية تحليلا يكشف عن الجذور الأولية التي منها تنبت هذه الفكرة العلمية أو تلك، مما هو متضمن في مجالات العلوم المختلفة، وبهذا نعفي الفلسفة من أن يكون لها هي نفسها قضاياها الخاصة بها عن أي شيء خاص بالكون أو بالإنسان، لماذا؟ لأننا في عصر العلم هذا نسلم زمام الكشف عن حقائق الأشياء إلى رجال العلم ولهم مناهجهم وأجهزتهم التي تمكنهم من الوصول إلى نتائج صحيحة، لكن العلم إنما يبدأ بحوثه في أي مجال من نقطة بعينها، ثم لا يسأل ماذا يسبق تلك النقطة مما يشبه جذور الشجرة الدفينة تحت التراب؟ فيكون هذا «التأصيل» مهمة الفلسفة.
وسأترك الحديث في هذا إلى حينه، مكتفيا بالقول بأنني حين عدت إلى مصر (في خريف سنة 1947م) كان قد تبلور فكري في شعبتين: إحداهما وجوب الأخذ بروح الثقافة الأوروبية المعاصرة، لعلها تنتهي بنا إلى مثل ما انتهت بأصحابها إليه من وضع الإنسان الفرد في مكانة تشبه التقديس، والثاني هي وجوب الدعوة إلى التجريبية العلمية؛ لأنها إذا كانت مجرد اتجاه فلسفي هناك، فهي بالنسبة للأمة العربية ضرورة؛ إذ من شأنها أن تضبط اللفظ في مجال التفكير العلمي ضبطا صارما، وهو ما أظننا في أشد الحاجة إليه، وسوف أورد ذلك فيما بعد بشيء من التوضيح.
9
وعدت إلى مصر، ونقلت إلى جامعة القاهرة (وكان اسمها يومئذ جامعة فؤاد الأول) مدرسا بقسم الفلسفة في كلية الآداب، وما كدت أشمر عن ساعد العمل الجاد في سبيل الهدفين المذكورين حتى عوقتني معوقات سرعان ما تغلبت عليها بوقفة إرادية حازمة وحاسمة.
فلم تكن قد مضت بعد عودتي أشهر قليلة حتى دعاني وزير التعليم، ودعا معي المرحوم محمد بدران، وقال لنا: إن «أمرا» صدر إليه من القصر الملكي بأن يترجم إلى العربية كتاب «آثرت الحرية» لكرافتشنكو، الروسي الذي أفلت من استبداد الحكم في بلاده، وأخرج للناس هذا الكتاب ليوضح لهم حقيقة الحياة في الروسيا. وأضاف الوزير لنا بأن القصر يريد للترجمة أن تنجز في ثلاثة أشهر، ولما كان يعلم عنا قدرة حاجته في هذا المجال، فهو بدوره يكلفنا بأداء هذا الواجب خلال الأشهر الثلاثة، ومن ناحيتي حاولت التخلص، فلم يدع لي الوزير مجالا للحديث، ولقد أخجلني بما كان يعرفه عني من تقدير له.
اتفق معي الأستاذ بدران على أن يتولى هو الربع الأول والربع الأخير من الكتاب، وأن أتولى أنا الربعين الثاني والثالث في سياقهما المتصل، ولم يفتني بالطبع ما كان يخفيه في نفسه من غرض في هذا التقسيم، وهو أن يوضح اسمه على الغلاف قبل اسمي، لكنني مع ذلك وافقت مبتسما في إشفاق؛ لأن العمل كله صخرة ألقيت على كاهلنا بصورة لا تجوز إلا في بلد يسوده الطغيان، ولا يخفف من وقع السخرة أن يجيء الاسم أولا أو أن يجيء ثانيا.
ومع ذلك فلا بد لي أن أذكر هنا كيف كنت أرتعد فزعا أثناء عملية الترجمة كلما ورد وصف من تلك الأوصاف المخيفة للطريقة التي كان يحكم بها الشعب الروسي كما رآها كرافتشنكو، ولقد أنجزت نصيبي في أقل من شهرين، وظننت أنني بعد ذلك سأفرغ إلى عملي، وأذكر أني لكي أخرج ترجمة ذلك الكتاب من حياتي خصصت له ساعتين بعد أذان الفجر من كل صباح، ثم أبدأ يومي وكأن شيئا لم يكن.
لكنني إذ فرغت من «آثرت الحرية» وقعت في حفرة أخرى، برغم أن الأمر هذه المرة لم يصدر من «جهات عليا» - على حد العبارة المألوفة - بل صدر من أستاذ أكن له الحب والتقدير، هو الأستاذ أحمد أمين؛ وذلك أن الجامعة العربية (وكان الأستاذ أحمد أمين عندئذ مديرا للإدارة الثقافية بها) قررت ترجمة «قصة الحضارة» تأليف ولديورانت، ومرة أخرى طلب إلى الأستاذ محمد بدران وإلي أن نضطلع بهذا العمل، فبدأنا معا بالمجلد الأول، وهو يحتوي على خمسة أقسام (صدر كل قسم منها كتاب مستقل في ترجمته العربية) فكان نصيب الأستاذ بدران «مصر» و«الصين»، وكان نصيبي «نشأة الحضارة» و«الهند وجيرانها» و«اليابان»، لكنني بعد هذا المجلد الأول نفضت يدي من هذا المشروع الضخم، ويكفي أن يعلم القارئ أن الترجمة ما زالت مستمرة في أجزائه، برغم أن ما صدر منه حتى الآن بلغ الجزء الثلاثين أو ما يقرب من ذلك، فهو موسوعة ضخمة، تعرض أطوار الحضارة عرضا خلابا، ولو كنت طاوعت النصح بأن أمضي في ذلك المشروع؛ لما كتبت ورقة واحدة في تخصصي العلمي، ولا في بسط وجهة نظري الثقافية.
ومع ذلك فما نفضت يدي من «قصة الحضارة» إلا لأتورط مرة ثالثة، لكن العمل هذه المرة كان متصلا بالدراسة الفلسفية على وجه من الوجوه، إلا أنني مع ذلك لم أكن أريد التورط فيه في ذلك الحين لأنصرف إلى عملي، سواء ما اتصل منه بالتدريس في الجامعة، أو ما اتصل منه بالحياة الثقافية العامة التي ما تركت المشاركة فيها يوما واحدا منذ بدأت حياتي العملية. أما العمل الذي اعترضني هذه المرة فهو ترجمة كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية» لبرتراند رسل، والكتاب ضخم، ويقع في ثلاثة أقسام: الفلسفة اليونانية والفلسفة الوسيطة والفلسفة الحديثة، وكان هذا الكتاب قد صدر أثناء وجودي بإنجلترا، وقرأته هناك أول صدوره، ووجدت فيه عرضا جديدا مبتكرا لتاريخ الفلسفة؛ لأنه يربط علاقات وثيقة بين الفكر الفلسفي من جهة، والظروف الاجتماعية السائدة في العصر المعين من جهة أخرى، مما يبين بيانا جليا أن ذلك الفكر الفلسفي هو انعكاس مباشر للحياة كما يجري في دنيا الواقع.
ترجمت الجزأين الأول والثاني، ولأمر ما رفضت رفضا جازما أن أكمل الجزء الثالث ليكتمل العمل، والخير في أن أمسك عن ذكر الظروف التي حملتني على ذلك الرفض. وعلى أية حال فقد أسدلت بهذا ستارا على ما أسميته بمرحلة الانتقال من سيرتي العقلية، لأبدأ مرحلتي الجديدة التي دعوت خلالها إلى هدفين: الأخذ بروح ثقافة العصر، وأن تكون التجريبية العلمية ضابطا للفكر في مجالاته العلمية.
Page inconnue