فتفرس في ومسح عن وجهه بيده آثار الحقد والشر، وقال لي: أعد سؤالك فإني لم أتفهمه.
فكررت سؤالي وسألته رأيه بشأن الفنون الجميلة.
فأجابني بقوله: إني لا أفتكر مطلقا بالفنون، وإنما أبتاع ما أحتاجه منها.
فقلت له: ذلك أمر معلوم لدي، ولكن يحتمل أن يكون لكم فيها رأي من الآراء، أو بعبارة أخرى أريد معرفة حاجتك منها؛ فما دمت تبتاعها فلا شك أنه يكون لك رأي في نقصانها وكمالها؟
فقال: أجل! إنني أطلب مطالب خاصة أهمها أن تكون الفنون فكاهية تجلب السرور لفؤادي وتزيل عنه ما علق به من الأكدار والأحزان، وإيضاحا لذلك أقول: أنا أريد أضحك وأسر وأبتهج ولا يوجد في أعمالي الخاصة ما يسبب ذلك، ومما لا يخفى عليك أنه يجب على الإنسان أن يطلب الرياضة أحيانا ويرتاح من عناء الأعمال، ويفرغ ما في دماغه من الهموم، ويعمل لما يعيد لجسمه النشاط والهمة؛ ولذلك فإن الفنون إذا رسمت مثلا على سقوف الغرف وجدرانها يجب أن يكون الغرض منها تهييج الشهية للطعام. وأما الإعلانات التي يعلقونها على جدران الأسواق والبيوت فيجب كتابتها بحبر شديد الاحمرار لتوجه إليها التفات الناظرين عن بعد مسافة ميل، ويجب أن تكون مكتوبة بعبارات مشوقة تجذب قارئيها وتدفعهم بقوة تأثيرها إلى المحلات المعلن عنها، ومتى كانت على هذا المثال تستحق الاعتبار ويهون على أصحاب المعامل دفع قيمة أجرة طبعها. وأما التماثيل فيجب أن تصنع من البرونز لمتانته وصلابته، وكذلك آنية الأزهار يجب أن تصنع من البرونز الذي هو خير من الخزف المعرض في كل آونة للثلم والكسر. وإني أنشرح كثيرا بمصارعة الديوك وتسميم الجرذان لما في ذلك من الفكاهة، وقد رأيت ذلك في لندن وقصدت ملاهيها التي تمثل فيها هذه الأمور، وطابت نفسي برؤيتها. وأما المضاربة «بالبوكس» فإنها جميلة جدا تزيل الغم عن الفؤاد، ولكن لا أريد أن تكون عاقبتها بالموت. وأما الموسيقى فإنها فن جميل ويجب أن تكون أنغامها وطنية محضة، خذ لك مثلا النغم الوطني الأميركي؛ فإنه يؤثر على سامعه تأثيرا شديدا لحسن توقيعه. إن أميركا أحسن وأجمل بقعة في العالم؛ ولذلك تجد الموسيقى الأميركية أرق وأحسن موسيقى في سائر أقطار الأرض، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل؛ لأنه حيث تكون الموسيقى الجميلة يكون هناك الناس الأفاضل الكرام، والأميركيون أغنى الناس على الإطلاق، ولا تجد أمة تضاهيها في اتساع الثروة وفي كثرة المال؛ وبناء عليه فلا تستغرب إذا صرحت لك بأنه سيأتي وقت يهاجر إلينا فيه جميع سكان الأرض. أما أنا فكنت أسمع ترهات هذا الطفل المريض، وقد مر في مخيلتي ذكر برابرة تاسمانيا
2
الذين يأكلون لحوم البشر، ولكن الذين رأوهم يصفونهم بأن أفئدتهم تضم عواطف شريفة ليس لها أثر عند أمثال هذا الشخص من عبيد الشيطان الأصفر.
وبعد ذلك أردت أن أسأله سؤالا أضع فيه حدا لإعجابه ببلاده التي دنسها بحياته الفاسدة وسيره المفسود، فقلت له: هل تذهب أحيانا إلى مراسح التمثيل؟
فأجاب: لا ريب في ذلك، فإني أكثر من التردد عليها؛ لأني أعتبر التمثيل من ضمن الفنون الجميلة التي تشرح صدر الإنسان.
فقلت: وما يعجبك في تلك المراسح؟
Page inconnue