وهذه النفقات الطائلة التي ينفقها على طعامه لا تبلغ نصف دخله من فائدة أمواله، ولا يخفى أن هذه العيشة ثقيلة متعبة، ولكن صاحب المليون مدفوع إليها بحكم الثروة الكبيرة، وإذا لم يعش على تلك الصورة التي ذكرناها فلا فارق بينه وبين أدنى الناس.
وكنت أظن أن قمصان وسراويل صاحب المليون منسوجة من خيوط ذهبية، وأن مسامير نعل حذائه أيضا من خالص الذهب، ويرتدي على رأسه بدلا من البرنيطة قبعة مصنوعة على نمط خاص به مرصعة بالجواهر والدر وسائر أنواع الحجارة الكريمة، وأن رداءه الخارجي (السترة) خيط من أفخر الحرير وأغلاه ثمنا، ولا يقل طوله عن مائة متر مزدان بثلاثمائة زر من الذهب النقي، وأنه في أيام الأعياد يرتدي ثماني سترات واثني عشر بنطلونا، ومع أن ذلك يبهظ جسمه ولكنه يتحمل ذلك بسرور؛ ليمتاز عن سائر الناس في كل شيء، وكنت أتصور أن جيب صاحب المليون عبارة عن هوة عميقة يستطيع أن يخفي فيه الكنيسة ودار الندوة العمومية وكل شيء أراده، وإذا تصورت جوفه فكان في نظري لا يقل اتساعه عن مخزن إحدى البواخر البحرية الكبيرة الحجم، ولكني مع كل هذه التصورات ما كنت أقدر أن أتصور طول رجليه ورجلي بنطلونه، ولكني ظننت أن اللحاف الذي ينام تحته صاحب المليون لا يقل طوله عن ميل مربع، وتصورت أيضا أنه إذا كان من المغرمين بمضغ التبغ فإنه يلقي في فمه دفعة واحدة كمية من أجوده لا تقل عن رطلين، وإذا كان من المغرمين في استنشاقه فإنه يضع من مسحوقه المعروف بالنشوق كمية في أنفه لا يقل وزنها عن الرطل، وهو معذور فيما يفعله لأن النقود تطلب إنفاقها .
وأما أصابع يديه فإنها عجيبة مدهشة ليست كأصابع الناس المعروفة، وقد اختفت فيها قوة سحرية بحيث يمدها إلى أبعاد شاسعة إذا شاء ثم يرجعها إلى حالتها المعتادة، حتى إنه لو كان جالسا في نيويورك وبلغه بأن دولارا نبت في سيبيريا فإنه يمد أصابعه من فوق بوغاز بيرين ويقتلع الدولار الذي نبت في أرض سيبيريا وهو جالس على مقعده.
ومع كل ما تصورته من هذه التصورات فإني لم أستطع تصور رأس صاحب المليون الذي أتخيله بأنه لا يقل عن أحد المردة، وإنما كنت أظن أنه في غنى عن الرأس ما دام له تلك الأعضاء الضخمة والفم الواسع والطول المتناهي والأصابع السحرية التي كلها تعصر الذهب عصرا؛ وبوجه الإجمال فإني أجهدت القريحة جهد الطاقة وحصرت كل قواي العقلية لأستطيع تمثل وتصور صاحب الملايين فذهبت أتعابي العقلية سدى.
ولكن لا أقدر أن أصف لك أيها القارئ الكريم عظم الدهش والحيرة والاضطراب التي وقعت علي عند ما أتاح لي الزمان مشاهدة صاحب الملايين وأنه لا يفرق في شيء مطلقا عن بقية الناس.
رأيت أمامي رجلا شيخا نحيف الجسم حليق الذقن صغير اليدين كباقي الناس، وقد سقطت أسنانه فاستبدلها بأسنان اصطناعية من الذهب، وكذلك تساقط شعر حاجبيه ورأسه؛ وبوجه الإجمال فإن الشخص الجالس أمامي لم يكن يفرق في شيء عن طفل صغير ابن ساعته، ويصعب على كل أحد أن يحكم هل هو في بدء حياته أم في منتهاها.
وأما ملابسه فهي قريبة الشبه من ملابس ميت من عامة الناس، وفي يده خاتم ذهب، وعلى صدره سلسلة ذهبية، وأسنانه أيضا من الذهب كما قدمنا، وإذا وزن الذهب المتحلي به فلا يزيد عن مثقال، وكل إنسان يتصور خدمة الدوقات في فرنسا ورأى رسومهم لا يشك إلا بأن هذا الرجل واحد منهم، وقد استقبلني في غرفة ليس فيها شيء من الرياش الفاخر والداخل إليها يظنها من أول وهلة أنها إصطبل أفيال لا قاعة استقبال.
ولما وقفت أمامه سألته قائلا: هل أنت صاحب الملايين؟
فأحنى رأسه وقال: نعم أنا هو ذلك الرجل.
فتظاهرت بتصديق كلامه، ولكن أردت أن أتحقق تصوراتي السابقة بشأنه، فسألته مستفسرا عن كمية اللحم التي يستطيع أكلها على طعام الصباح؟
Page inconnue