وعند العودة إلى المنزل استخلص باربايني العبرة فقال: «انظر يا استاورو ... في كل مكان مضللون، ولكن الذكاء يسقط الحواجز حتى ولو كانت ترتدي حلة عسكرية.»
وأخذ باربايني يدخل في الشيخوخة، ومرض القلب يجعله من عام إلى عام غير صالح لكسب قوته، والتعب يرهقه، وأصبحت السوداوية تعاوده مرات أكثر، وكنت أنا في الثانية والعشرين قويا شجاعا واسع الحيلة، وبفضل المدخرات الصغيرة التي كانت لدينا استطعت أن أقرر دعوته إلى الخلود إلى الراحة ؛ ولكي تروقه تلك الراحة اخترت لإقامتنا مكانا لم نستكشفه من قبل؛ هو جبل لبنان.
آه ... يا له من جبل جميل وحزين، وكلما فكرت في العام الذي أقمناه فيه ثمل قلبي ودمي في نفس الوقت! ... غزير غزير ... وأنت يا دليتا! وأنت يا هرمون! وأنت يا ملمتين، وأنت يا شجرات السدر ذات الأذرع الطويلة الحانية التي كان يلوح أنها تريد أن تحتضن الأرض كلها، وأنت يا أشجار الرمان التي تكتفين بثلاث حفنات من الطحلب الذي ينمو في فجوات الصخور؛ لكي تهبي المسافر الجوال فاكهتك الغزيرة العصير.
وأنت أيها البحر الأبيض الذي تستسلم في متعة إلى لمسات إله الدفء، وتمد صفحتك الشاسعة الصافية إلى نوافذ البيوت اللبنانية الصغيرة المتدرجة أمام اللانهاية!
إلى كل هذا أقول: وداعا فلن أراك بعد ذلك، ولكن عيناي ستحتفظان إلى الأبد بضوئك الناعم الفريد، لقد خبا هذا النور في ذاكرتي، فالحياة لم تشأ أن تتم سعادتي، ولكن يا إلهي! أين ومتى تمنحنا الحياة المتع الكاملة؟
سيزار بترسكو (1892)
ابتدأ سيزار بترسكو في سنة 1922 بمجموعة من القصص «خطابات ...» ثم رسخت قدمه ككاتب مرموق بفضل روايته الطويلة «انهيارات» سنة 1927، وهي التي عرى فيها صراع الطبقات في المجتمع الروماني قبل وبعد الحرب العالمية الأولى.
وككاتب خصب خطط سيزار بترسكو لعمل بلزاكي واسع حققه إلى حد بعيد، والثلاثون قصة ورواية التي كتبها يمكن أن تكون «كوميديا بشرية» تجمع حقائق المجتمع الروماني من 1920 إلى 1944 وتنقدها بلا رحمة، مثل: «كاليافيكتوري» و«كنز الملك درماييتس»، و«الذهب الأسود»، و«يوم أحد الأعمى»، و«عين مصاص الدماء»، و«كارلتون»، و«في الجنة العامة»، و«مدينة البطارقة» ... إلخ.
ومنذ سنة 1944 دخل سيزار بترسكو - عضو أكاديمية الجمهورية الرومانية الشعبية - معركة المثقفين الرومانيين من أجل بناء الاشتراكية، ولم يتخل عن هذه المعركة التي يساهم فيها بقصصه واستطلاعاته ومذكرات سياحاته، مثل: «تعال وسوف ترى»، و«رجال الأمس واليوم والغد»، و«مذكرات ثأر»، و«تأملات كاتب» ... إلخ. (1) الذهب الأسود
لقد حول اكتشاف طبقات كبيرة من البترول - في سرعة - قرية بيكول فويفوديزي إلى مدينة ، وأدى تدفق الذهب الأسود إلى تغيرات اجتماعية عميقة، ولما كانت رءوس الأموال الرومانية قد أصبحت سريعا غير كافية، فقد تكونت شركة دولية مديرها العام إنجليزي هو ريجينالد جيبونز، وأسرع أليكوتوادر بربكوب ككثير غيره من الفلاحين إلى بيع أرضه للشركة المستغلة وبدد - بسرعة - المال الذي دفع له واستسلم للخمر، ولما لم يعد يملك غير بيت صغير، فقد اضطر إلى أن يقبل وظيفة متواضعة كحارس للمغارة، ولكن كانت له بنت هي هينوتزا الرقيقة الرائعة الجمال التي تعلق بها ريجينالد جيبوتز وتزوجها، وبعد أن أملى على بريكوب - مقابل معاش يمنحه إياه - أن يذهب ليعيش في مكان يبعد بمقدار مائة كيلو متر، وبالرغم من أن هينوتزا كانت مخطوبة لغيره، فإنها قد استسلمت - كواجب - لزواج بلا حب ظل زواجا أبيض، وعاشت في إطار باذخ، ولكن مع رجل بارد العاطفة، لا بد أن تخضع لمطالبه المذلة، وأصبحت حياتها من يوم إلى يوم أقسى احتمالا؛ حتى اضطرت المرأة الشابة أن تسلم نفسها بإرادتها إلى موت فظيع في لهب جردل من البنزين أشعلته بنفسها.
Page inconnue