رأى من الحاضرين قبولا لكلامه، فانساب في حديثه البلنسي يقص عليهم قصة البلية التي أورثتها حواء أم البشر للفقراء.
فإن آدم لما أطاع حواء وطرده الله من الفردوس لعصيانه، خرج إلى العالم مع زوجته، وكان قد حكم عليه الله بأنه لن ينال عيشه إلا من عرق جبينه، فجعل يقطع الأشجار والأثمار ويأتي بها لحواء، وصارت حواء تخيط الملابس لأولادها من ورق التين، ومرت السنون فكثر الأولاد حتى ضاق زرع آدم بهم، وكانت حواء تلد ولدا في كل عام.
وكان يأتي إليهم من عند الله ملك كل عام فيعاينهم، ويكتب تقريرا عنهم ويقدمه لمولاه. وكانت حواء كلما أتى ملك تهش وتبتسم وتتقدم إليه وتقول: «هل أنت من فوق؟ كيف حال الله؟ عندما ترجع إليه اذكر له أني ندمت على عصياني، ما أثمن الرفاهية التي كنا فيها في الجنة! قل له: إن العيش هنا صعب، وإننا في اشتياق لرؤيته حتى نتأكد أنه ليس غاضبا علينا». وكان كل ملك يجيبها بالإيجاب، ثم يصفق بجناحيه ويطير في أسرع من لمح البصر حتى يختفي في السحب.
وتواتر مجيء الملائكة وذهابهم على حواء لغير ما فائدة، فإنه يظهر أن الله كان مشغولا بإدارة الكون، حتى لم يعد له من الوقت متسع لينظر في شئون الأرض، ولكن حدث أنه في صبح أحد الأيام انسل ملك إلى كوخ حواء، وقال لها: «أصغي إلي يا حواء، فإنه ربما أتى الله هذا المساء لزيارتكم إذا كان الجو جميلا، فإني سمعته أمس يحادث ميكائيل ويقول له: «كيف حال هذين الخاطئين؟».
فدهشت حواء من هذه المفاجأة وراحت تجري إلى آدم، وكان كعادته مقوس الظهر يشتغل في زرع قطعة أرض فأخبرته الخبر، وعاد الاثنان إلى الكوخ فكنسا ما أمامه ورشاه بالماء، ونظفا غرفة الجلوس، ولبسا أحسن ثيابهما، ثم جلسا ينتظرا زيارة المولى العظيم، وإذا بصوت مرعب قد نفذ إلى أذن حواء فانتبهت، وكان صوت أبنائها الذين كانوا يبلغون الآن عشرين أو ثلاثين نفسا. ولم تكن قد افتكرت بهم للآن، فكانت عيونهم رمضة، وأنوفهم وسخة ، وأجسادهم قد علتها طبقة من الأقذار، فقالت: «وكيف لي أن أريه هذا القطيع؟ إنه إذا رآهم يحكم عليهم بالإهمال، فإن الرجال عادة لا يعرفون مبلغ التعب الذي تتعبه المرأة مع أولادها».
وبعد أن ترددت طويلا قامت وانتخبت ثلاثة منهم، وغسلتهم، ونظفتهم، ثم طردت الباقين إلى حظيرة الخنازير، وأقفلت عليهم بالرغم من صراخهم.
وما هدأت قليلا حتى رأت سحابة بيضاء كبيرة تنزل إلى الأرض، وسمعت حفيف الفضاء من كثرة خفيق أجنحة الملائكة ورفرفتها، ونزل أولئك الزوار السماويون ومشوا في حقول الحنطة، فتراءوا لها كأنهم نجوم تسري في الأرض، ورأت الملائكة وقد استلوا سيوفهم النارية وجاء إليها بعضهم، وأقسموا لها أنها لا تزال في صباها جميلة فتية، وقام البعض الآخر يقفز من شجرة إلى أخرى، ويأكل ما يشاء من الأثمار مما جعل آدم يتسخط ويحسب أنه لن يبقى له شيء على الشجر بعد ذهابهم.
ثم جاء الله بعدهم، وكانت قصائب شعر رأسه بيضاء، كالفضة وكان لابسا تاجا لامعا كالشمس، وكان محفوفا بجميع كبار موظفي السماء، فحيا الله آدم ثم ربت لحواء على خدها، وقال: «كيف حالك؟ هل صرت أكثر عقلا من قبل؟».
فتأثر أبوانا الأولان من مجاملة الله لهما، وقدما له كرسيا كبيرا مصنوعا من أحسن الخشب، ومحشوا بأجود القش، فلما جلس عليه سأل آدم عن حاله فأخبره بالمشاق التي يعانيها.
فقال الله: «هذا حسن فإنك ستعلم من ذلك ألا تطيع زوجتك في ما تشير عليك به، فاشتغل واعرق وإياك أن تقاوم الذين هم أعلى منك».
Page inconnue