وقد صار لهذه الأساطير علم خاص ويدعى في الإنجليزية والفرنسية: «فوكلور» ويرمي إلى البحث عن أصل هذه الأساطير ومنشأها الأول، ومبلغ انتشارها، وما طرأ عليها من التغير عند انتقالها من أمة إلى أخرى، وعلة هذا التغيير ودلالته على مزاج الأمة أو تاريخها.
ومن يستقص الأساطير الشائعة بين فلاحينا التي يروونها لأطفالهم يجد عددا كبيرا منها قد نزل إلينا من المصريين القدماء؛ فإن هذه الأسطورة التي سنرويها الآن للقارئ قد وجدت مكتوبة على بردي لا يقل عمره عن أربعة آلاف عام، وهو موجود الآن في بطرسبرج، ومن يقرأها لا بد أنه يذكر أنه سمع أمثالها من مربيته أو والدته وهو بعد طفل.
قال الراوي وهو بحار: «ذهبت إلى البحر الأخضر العظيم في سفينة يبلغ طولها مئة وخمسين ذراعا في عرض خمسين ذراعا وكان فيها مئة وخمسون بحارا من نخبة البحارة المصريين. وكانوا يرقبون السماء ويرقبون الأرض. وكانت قلوبهم أجرأ من الأسود. وكانوا يتنبئون عن العاصفة قبل مجيئها ويخبرون عن الزوبعة قبل حدوثها».
وكانت غاية السفينة بلاد البونت وهي أرض المصريين القدماء المقدسة، ومكانها قطر الصومال الآن، ثم حدثت الزوبعة وتحطمت السفينة قريبا من الشاطئ وهلك جميع البحارة ولم ينج سوى الراوي الذي يقول: «إني نجوت وحدي ولم يكن لي رفيق سوى قلبي».
ثم هدأت العاصفة وصحا الجو فعاد إلى البحار روعه، فقام وأخذ يسعى يفتش عما يقتات به فوجد أن سفينته قد تحطمت على شاطئ جزيرة غير مأهولة، ولكن أشجار الفاكهة زاكية تشتبك فيها دوالي الكروم بأغصان الرمان والتين، وكانت الأسماك تروح وتغدو إلى جانب الشاطئ والبحر منبسط حول الجزيرة هادئ لا يقلق هدوءه سوى ظهور الدلافين التي كانت تثب ثم تغوص فتترك وراءها رشاشا من الماء يلتمع في ضوء الشمس.
قال الراوي: «وجدت هناك تينا وعنبا وبصلا جيدا وبطيخا ورمانا وقرعا من جميع الأصناف، وكان هناك أسماك وطيور وكل ما اشتهيته وجدته هناك؛ فأكلت وشعت، ووضعت على الأرض ما جمعته بين ذراعي ثم أخرجت زندي وأشعلت نارا وقدمت قربانا للآلهة».
وبينما هو يأكل سمع صوتا كالرعد ظنه أولا صوت أمواج البحر ولكنه عاد، فرأى أيضا أن الأرض ترتجف والأشجار تصطك ونظر فإذا بشيء رائع جعله ينبطح على وجهه ويخفي رأسه في الأرض قال: «ثم كشفت عن وجهي فرأيت ثعبانا طوله ثلاثون ذراعا وكان ذنبه ذراعين وكان جلده مغطى بالذهب وعيناه من الفيروز الحقيقي. فكان بذلك كاملا من جميع الجهات ففتح فمه وأنا منبطح على وجهي وقال لي: «من أتى بك هنا أيها الصغير. من أتى بك هنا؟» إذا لم تقل لي حالا من أتى بك إلى هذه الجزيرة فإني أعرفك مقدارك بعد إذ تكون رمادا وتصير شيئا لا يرى».
ولكنه لفرط فزعه لم يقدر على الجواب، ورق قلب الثعبان له فحمله في فمه وسار إلى أن وصل إلى مسكنه فوضعه هناك، وكان البحار لا يزال مروعا، فقال له الثعبان: «من أتي بك إلى هنا أيها الصغير. من أتي بك إلى جزيرة البحر الأخضر العظيم التي تطفو على الماء؟» فقال البحار: «كنت مسافرا إلى المناجم بأمر الملك في سفينة يبلغ طولها مئة وخمسين ذراعا في عرض خمسين ذراعا، وكان فيها مئة وخمسين بحارا من نخبة البحارة المصريين، وكانوا يرقبون السماء ويرقبون الأرض، وكانت قلوبهم أجرأ من الأسود، وكانوا يتنبئون عن العاصفة قبل مجيئتها ويخبرون عن الزوبعة قبل حدوثها، وكان لكل منهم قلب جرئ وذراع عبل وكلهم مجرب، وثارت العاصفة ونحن بعد في البحر الأخضر العظيم قبلما نصل إلى الشاطئ، ثم تضاعفت هبوط العاصفة، وكانت الأمواج ترتفع ثمانية أذرع، فتعلقت أنا بلوح من الخشب، وتحطمت السفينة وهلك جميع من كان فيها سواي أنا وحدي الذي أقف الآن إلى جانبك، وحملتني أمواج البحر الأخضر العظيم إلى هذه الجزيرة».
فتحنن عليه الثعبان وقال له: «لا تخف أيها الصغير لا تخف ولا يغلبك اليأس، فإذا كنت قد أتيت إلي فإن الله هو الذي أبقى على حياتك وحملك إلى هذه الجزيرة التي لا ينقصها شيء بل يوجد فيها كل شيء حسن، وستقضي هنا شهرا بعد شهر حتى تنتهي أربعة أشهر، ثم ترد إلينا سفينة من بلادك تعرف بحارتها وتعود معهم حيث تموت وتدفن في بلدك».
وأنس به الثعبان وأقبل إليه يحدثه عن ماضيه حتى يسري عنه فقال له: «لقد نزل بي مثل ما نزل بك؛ فقد كنت أسكن أنا وأخوتي وأولادي هنا في هذه الجزيرة وكنا جميعا 72 ثعبانا غير بنت جاءتنا علي سبيل الصدفة، فنزل علينا نجم فاحترق الجميع وذهبوا، وكنت وقت أن احترقوا بعيدا عنهم ولم أكن بينهم، وعندما عدت ورأيتهم كومة من الجثث أوشكت أن أموت جزعا عليهم».
Page inconnue