وإلى «مصرية».
إليكما كان إهداء «زينب» في البدء.
ولعل من الحق أن يكون إليكما إهداء هذه المجموعة في الختام.
كفارة الحب
كانت تناهز الخامسة والثلاثين، صبوح الوجه، حلوة الابتسامة، ذكية النظرة، أدنى إلى القصر، غير بادنة وغير نحيفة. وكانت شفتاها المقدتين تزيدان ذكاء نظرتها وحيا بالكثير من المعاني. وكان أصدقاؤها لا يعرفون من أمرها إلا القليل الذي ينقله إليهم صديقنا وقريبها حمزة ... لكنهم كانوا يعنون بأنبائها لما تناقلت الألسن وتناهبت الأسماع من حديثها في الشهور الأخيرة. فالقاهرة مدينة شديدة التسامح مع عبث الهوى، شديدة الإغضاء عمن يسلمون عنانهم لدوافع تياره، لكنها شديدة الدهشة لصادق الحب، ترهف الآذان إذا حدث أحد في حي من أحيائها عن غرام صادق وعاطفة تستعذب الصحبة وتستهين بالموت. لذلك أثارت قصة زهيرة دهشة القاهريين وطلعتهم، وزاد ما في نفوس ظرفائهم من شك أصيل في صدق عاطفة الحب أو في استطاعة امرأة أن ترى في الحب خطيئة تستأهل التكفير عنها.
وكان صديقنا وقريبها حمزة يخطو إلى الأربعين بقلب مطمئن ونفس باسمة للحياة سخرا من الحياة. وكان مع ذلك شديد العناية بشئون يعتبرها كثيرون من أصحابه تافهة ويراها هو جليلة الخطر ما دامت لا تعنيه وحده، بل تعني آخرين معه. من ذلك أنه كان شديد الدقة في مواعيده حتى لكنا نضبط ساعاتنا ساعة يدق الجرس ويدخل هو علينا، ولكنا نتهمه بأنه إذا ألفى نفسه تقدم عن موعده دقيقة أو دقيقتين وقف بالباب ممسكا ساعته بيده حتى تكون الثانية المضبوطة التي يدق الجرس فيها. وكنا يومئذ ننتظره في الساعة الخامسة تماما، وقبيل هذا الموعد ببرهة دق الجرس، فأمسكنا ساعاتنا بأيدينا وتلاقت نظراتنا تتهم الساعات جميعا بتقديم بضع ثوان عن الموعد الدقيق، لكن الداخل لم يكن حمزة، وانقضت بعد الخامسة دقائق وانقضى ربع الساعة وانقضى نصف الساعة ولم يجئ. هنالك بدأ يساورنا القلق عليه وجعل كل منا يلقي ما يجول بظنه أنه سبب تأخره، قال أحدنا: لا بد أصابه مرض مفاجئ، وقال آخر: بل تعلق بأذياله في اللحظة الأخيرة صديق لحوح، وقال ثالث: ما أكثر ما يصيب الناس من حركة المرور في هذه الأيام. وبدأ كل يقص ما حمله على ظنته. وفيما نحن كذلك دق الجرس ودخل حمزة فحيا وجلس مطرقا، وخلع طربوشه ووضعه إلى جانبه، ثم طلب فنجالا من القهوة، وسألنا عما كنا نتحدث فيه. فلما ذكرنا له ما كان من مخاوفنا بسبب تأخيره، بدت على وجهه أمارات تردد حاول بعدها أن يعدل بالحديث إلى غير هذا الموضوع. لكن أحدنا ألح به يسأله عن علة تأخره. ورأينا نحن على قسمات حمزة ما دلنا على أن في الأمر سرا لا يأبى هو أن يبوح به، ولنا في الاستماع إليه لذة أي لذة. فشاركنا صاحبنا في إلحاحه، وبدرت من أحدنا هذه الكلمة: لعل شيئا يتصل بزهيرة كان سبب تأخرك. فاندفع حمزة قائلا: نعم. نعم بسبب زهيرة تأخرت، لقد قضيت عندها هذا النهار منذ صباحه، ولقد رأيتها اليوم غيرها في سابق أيامها. لقد كانت دائما ساكنة سكون أبي الهول برغم ما تعرف من تناول الناس حديثها، بل لقد كانت تبتسم إشفاقا على هؤلاء الذين يتهمونها بأخس التهم، ازدراء إياهم وعبثا بحمقهم وجهلهم الحياة وإسراعهم إلى القضاء في أدق شئونها، شئون العواطف. أما اليوم فكانت ساكنة سكون أبي الهول، كانت ساكنة سكون القبر. فلما اطمأن مقامي عندها وبدأت أبادلها الحديث، قالت إنها فكرت طويلا فيما يقول الناس عنها، وخشيت أن يعلق بذهني منه شيء أقسو به في الحكم عليها، وأنها تريد لذلك أن تقص علي قصتها. وفي قصصها قضيت الوقت كله، وما أدري أكانت قصتها اعترافا أو وصية أم دفاعا، لكنها ختمت قصتها بقولها: أما تراني وقد قصصت عليك حديثي، كفارة الحب.
ثم إنها اعتذرت قائلة إنها تشعر بصداع، وطلبت إلى خادمتها أن تجيئها بكوب ماء صبت فيه مسحوقا أبيض من ورقة أخرجتها من حقيبتها، ثم أشارت إلي أنها بحاجة إلى الاستراحة، فاستأذنتها وجئت إلى مودعكم. ولئن كنتم قد لاحظتم علي شيئا من اضطراب النفس، فهو من أثر هذه القصة التي روت والتي جعلتني أشعر حقا بأنها كفارة لذنوب لا تقع عليها أثقل تبعاتها.
قال أحدنا: هات الوصية.
وقال الآخر: هات الدفاع.
وقال ثالث في صوت محزون: ارو ياصاح حديث كفارة الحب.
Page inconnue