وبعد أن تهادت السفينة عدة أيام من فوق النيل المقدس، فخلفت من ورائها فراسخ عديدة كستها الخضرة الزمردية، وأضفت الطبيعة على أشجارها بهاء اللازورد، دلفت فجاءة إلى رحاب أخذت خضرتها تقل شيئا بعد شيء، وما لبثت غير قليل حتى أصبحت بين شاطئين قاحلين، لا يأتي النظر فيهما، مهما امتد، على غير رمال صفراء، وتلال تناثرت من فوق تلك الرقعة الفاقعة اللون، التي تتواصل أمام النظر حتى تلتقي بالأفق، كسلوك زريابية، تندفق في بحر من اللجين، وقد رصعت تلك الرمال بأدغال من شجر العود، تمايلت أوراقها النصلية تمايل النشوان الثمل، أو بحرجات من النخيل كللتها الأخواص الريشية؛ فيخيل إليك أنها مشاعل أعدها عفرية من الجن، لتنير تلك البيد المترامية؛ إذ ما انفجرت رءوسها عن لهب عظيم.
فلما وصلت السفينة تلقاء «ممفيس»، أشرفت على هياكل قامت كتلها الصخرية من فوق عمد عظام، وقصور ذات قباب بيض، زادت الشمس شهبتها بهاء، وأبواب كأنها قطع الجبال، وقد أطلت جميعا على النهر الأقدس، فانعكست صورها على صفحته النحاسية.
وألقى المسافرون عصا الترحال إزاء الأهرام، فأعجب «قيصر» وحق له أن يعجب لتلك القوة العظيمة، والمهارة الفائقة التي أعتدت من الحجر الصامت، قبورا تنطق بعظمة الماضي، أما الذين هم من شيعة «أفلاطون»، أولئك الذين لم يأبهوا بحاجات البدن ولذائذ الجسم، واعتقدوا أن الخلود إنما هو نتيجة للجمال الذي تحسه الروح، والهدوء الذي تأنسه النفس، فقد سألوا أنفسهم! أية فكرات تلك التي حومت في وجدان «خوفو»، و«خفرع» وأترابهما، عن سر الحياة وسر الموت؟ أكان اعتقادهم أن الموت هو الحياة في عالم آخر، ليست حياة الأرض إلا وسيلة تسلم إليه؟ أرفعوا القواعد من هذه الأجداث العظام تحية للموت؛ أم أرادوا أن يتحدوا الفناء، ويسخروا من البلى، فشيدوا تلك المثلثات الباقيات؟
لقد تناثر من حول «ممفيس» كثير من الآثار الساحرة التي خلفها القدماء في السهل المنبسط من وراء المدينة، ولكن «أبا الهول» كان أبعثها على التأمل وأدعاها إلى العجب، ولقد ترغب «كليوبطرا» إلى «قيصر»، محبها وحاميها، أن يقايس بين ملامحها الناعمة، وملامح «أبي الهول» الجهم العظيم، لعله يقع على أوجه من الشبه بينهما.
وأخذت الشمس تتوارى من وراء تلال «لوبيا»، بعد أن أشرف المحبان على «أبي الهول»!
ما أشبه ذلك المسخ العظيم، قابعا من فوق فراشه المرمل، بهولة من الهول الأسطورية، شرعت في الانفلات من أمواج بحر لجي؟ ها هي تقتبل الشرق! وقد ارتسمت على فمها ابتسامة ساخرة كادت تغيب في الظل المعكوس عن الشمس الغاربة، وارتمت على ظهرها الأحوى خيوط من الأشعة الباهتة، فلابستها صورة حي من الجبابرة العظام، حط في تلك البقعة فجاءة، فذرى جلاميدها أباديد.
لقد استوحى «أوديپوس» من قبل مسخا كأبي الهول، استوحاه مشفقا مما تخبئ الأيام، أما وإن «قيصر» القاهر، عاهل الرومان وسيد الدنيا، ما زال يسبح في بحر الحياة اللجي، والليالي من حوله تذهب الواحدة تلو الأخرى مثقلة بالأحداث، فعليه أن يقف أمام الرمز المصري مطرق الرأس خاشع البصر، مكتنف النفس بشتى الحسوس المتنافرة، لعله يحظى منه بشيء ينير سبيله في الحياة!
أمجيب قيصر أنت يا سر الأسرار؟ كلا، ما فاز أحد قبل «قيصر» منك بجواب، وما كنت تخشى عظمة قيصر، فإنها عظمة يخشاها الفانون وأنت من الخالدين، ولكن لا، فبرغمك أجبت «قيصر»، وبرغمك أجبت غيره من أبناء الفناء، وإنما كان جوابك تلك الابتسامة السحرية التي ظلت تسخر من الشعوب والأمم والأقدار.
ولقد غشيت «قيصر» غاشية من التأمل والفكر، فمرت بخياله ذكريات رومية وواجباته ومكانته من الدنيا الحافة به، وما في القيصرية التي يحميها من متضارب الأغراض وكامن المطامع التي لا يقمعها إلا قيصر وحده؛ وأخذ يصيخ بقلبه إلى موحيات ذلك الهس النفسي العميق، ولكن ذراع النمرة المصرية طوق «قيصر»، فاستفاق من غشيته، وتطلع فرأى القمر يبزغ من وراء الرمال محمر اللون، كأنما هو نفس من أنفاس الليل، فأنساه حديث النفس، وصرفه إلى حديث الحب مرة ثانية، ذلك بأن الحب كان قد أخضع «قيصر» وتملك حواسه جميعا، فأعماه عن كل شيء إلا عن «كليوبطرا»، وأصم أذنيه، إلا عن حديث قلبها. •••
في اليوم الثلاثين من بدء الرحلة، بلغ العاشقان جزيرة «فيله»، تلك الدرة العصماء التي يحويها الأخضران: الماء والسماء، ولقد رق كلاهما وشف، حتى لقد يتعذر عليك أن تقضي أيهما ظل لصاحبه، ولا غرو، فلقد كانا مصدرا للوحي الذي استلهم منه الشعراء على مدار العصور، ولقد حط كل من بلغ «فيله» رحاله فيها غير طامع بأن يحظى بفردوس آخر من فراديس الأرض؛ فهنالك ضرب المفتنون مخايمهم، وألقوا العصا على بساطها السندسي، قانعين بأن ينعموا فيها بعبادة الجمال، ناسين كل ما آنسوا من آلام الحياة في غيرها من رحاب البسيطة، وقليلا ما هم، أولئك الذين سعدوا بهذه الأمنية المنشودة.
Page inconnue