فهذا شاذٌ قليلٌ، وليس مثل السريع، لأنّ ذاكَ في السريع لم تجئ قصيدةٌ إلا وهذا الاختلاف فيها. وهذا البناء من الكامل قليلٌ، ولم يجئ فيه إلا شاذًا.
ولو قال قائل: إنّ إسكان هذا كالإسكان في الزّحاف، لم يكن به بأسٌ. ولا أراه جازَ، إلا أن المقيّد لم يبق فيه إجراء صوت ولا مدّ له. فرأوا أنه موضع السكون وترك المدّ فجاز هذا السكون فيه لذلك. وأمّا:
لا يبعدنْ قومي الذين همُ ... سمُّ العداةِ وآفةُ الجزرِ
الخالطينَ نحيتَهم بنضارِهمْ ... وذوي الغِنى منهمْ بذي الفقرِ
فجمع في المطلقِ بين الساكن والمتحرك، فلأنّه صدرُ متفاعلن، وإسكان ثانية جائزٌ كثيرٌ فلذلك أجازوه.
وإذا احتاج الشاعر إلى مثل حركة بكر في الرّفع قال: بكر، وفي الجرّ بكر. حرّكها بحركة الآخر، لأنّ الآخر قد تدخله الألف في السكت، فتبين حركته، ولكنّه على حركة ما قبله. فيقول: رأيت البكر، والعلم والجحر، إن اضطرّ في الشعر. وذلك لأنهم قد يتبعونه الأول في الجرّ والرفع فيقولون: هند، إذا وقفوا، وهذا علم، لأنهم لو ضمّوا الأسوط صار فعل، وليس في كلامهم فعلْ. ويقولون: مررت بجمل، فيضمّون الميم على الجيم، لأنّهم لو كسروها على اللام صارت فعل، وليس في كلامهم فعل اسمًا. قال الشاعر فيما حرّك فيه الساكنُ:
أنا ابن ماويّة إذ جدَّ التَّقُرْ
سمعته ممن أثق به. وسمعت من ينشده ساكنًا. وقال:
علّمنا إخوانّنا بنو عجلْ
الشّغزبيَّ واعتقالًا بالرِّجلْ
باب
التقييد والإطلاق
اعلم أنَّ الجزء إذا تمَّ بحرفِ الرّويّ لم يكن فيه إلا التقييد، نحو قوله:
وقاتم الأعماقِ خاوي المخترقْ
فقولُه ولمخترقْ مستفعلنْ، فلو أطلقته جاء أكثر من مستفعلن، لأنه يجيء ترقي، فيكون الجزء مستفعلتن وهذا لا يكون. وكذلك:
سبقنا البرية في غزونا ... بحملِ المزادِ ونوطِ القربْ
فقوله قرب فعل. ولا يكون ها هنا قربي، لأنه يكون فعلن، ولا يكون ها هنا. فهذا المقيّد الذي لا يجوز إطلاقه، وهذا الذي لا يجوز إطلاقه يجوز فيه المرفوع والمنصوب والمجرور والمجزوم، والخفيف والثقيل. قال الشاعر:
أصحوت اليوم أمْ شاقتكَ هرْ ... ومنَ الحبِّ جنونٌ وسعرْ
فراءُ هر مثقّلةٌ، وراء سعر مخفّفة مرفوعة. وقال فيها:
أيها القلبُ، تناهَ وانزجِرْ ... إنّما للمرءِ، فاعلمْ، ما قدِرْ
وأمّا قوله:
صفيّةُ قومي، ولا تجزَعي ... وبكّي النساءَ على حمزهْ
فمطلق، لأنَّ الزاي حرف الرَّويّ، وهي متحركةٌ والهاء وصلٌ. وإن شئت قلت: على حمزتي، فجعلت التاء رويًا، وجعلته فعل، لأنَّ الهاء إذا وصلت صارت تاءً. والتاءُ لا تكونُ وصلًا. وقد وضعت العرب التاءَ مع الهاء في أشعارها كثيرًا. قال أبو النّجم:
أقولُ إذْ جئنَ مدبَّجاتِ:
ما أقربَ الموتَ منَ الحياةِ!
ومنهم من يقول: الحياة فيجعلها تاءً في الوقف لئلاَّ يختلف الرويُّ، كما فعل في الوصلِ. ولأنَّ الوقف في القوافي يجيء على غير الوقف في الكلام. يقولون:
أقلّي اللّومَ، عاذلَ، والعتابا
ويحذفون كثيرًا ممّا لا يحذفُ في الكلام. ومع ذا أنَّ ناسًا من العرب يقفون على هاء التأنيث بالتاء، فيقولون: حمزت.
فأمّا ما يجوز فيه التقييد والإطلاق فالمتقارب، نحو:
كأنّي ورحلي إذا رعتُها ... على جمزَى جازئٍ بالرِّمالْ
وفي الرّملْ:
يا بني الصّيداء، ردّوا فرسي ... إنَّما يفعلُ هذا بالذلّيلْ
وفي الكامل نحو: أبُنَيَّ، لا تظلمْ بمكةَ لا الصغيرَ ولا الكبير فليس شيء يجوز فيه التقييد والإطلاق غيرَ هذه الأبيات الثلاثة، وما كان عل بنائها. وذلك لأنَّ في بنائها شعرًا أقصر منها وأطولَ، فمدّوها عن الأقصر، وقصروها عن الأطول. ألا ترى أنَّ في المتقارب فعولن وفعل، وفعول بينهما. وفي الرّملِ فاعلاتن وفاعلنْ، وفاعلان بينهما. وفي الكامل متفاعلاتنْ ومتفاعلنْ، ومتفاعلانْ بينهما.
فجاز هذا، كما يثقَّلونَ ما ليس بثقيل. قال الشاعر:
أقولُ إذ خرَّتْ على الكلكلِّ
ثم قال:
ببازلٍ وجناءَ أو عيهلِّ
وقال:
تعرَّضتْ لي بمكان حلِّ
تعرُّضَ المهرَةِ في الطّولِّ
1 / 14