إننا أحوج الأمم إلى نقل الآداب والعلوم الإنجليزية والأمريكية والألمانية والفرنسية والإيطالية بصفة خاصة إلى لغتنا، فأين العاملون؟ وهل يضيرهم ما يقوله الجامدون من أنهم يسيئون إلى الأدب العربي بهذه المترجمات لأن الذوق العربي لا يتمشى معها؟! أليس مما يزيد ثروة لغتنا أن ننقل إليها أرقى الأساليب الغربية في البيان نقلا أمينا كما يفعل الغربيون مثل ذلك إزاء الآداب الشرقية؟ وكيف تتسع آفاقنا في التعبير والتفكير إذا لم نتطلع إلى آفاق غيرنا ممن سبقونا في الحضارة والثقافة؟!
هذه ملاحظاتي الرئيسية لكتابنا وشعرائنا على السواء، يجب أن نكون بررة بروح العصر الذي نعيش فيه، مبرهنين على أن لغتنا العظيمة قابلة لاستيعاب جميع ثقافته وقادرة على ذلك، وبذلك نضمن لها الحياة الشاملة التي تستأهلها ونصون كرامتها وكرامتنا.
حديث الفن
ليس حديث القطن ولا حديث الشركات المالية ولا ذكرى الحرب اليابانية الروسية ولا مشاكل البلقان ولا أمثال هذه الأمور بما يعد بمثابة ثورة أو حدث خطير في عرف الفن، وإنما الثورة والحدث الخطير أمور أخرى؛ فنحن نسمع أو على الأصح نقرأ في الصحف الإنجليزية عن أغاني (مدام بترفلاي) منذ سنة 1905 ونقرأ عن نبوغ الممثلين الهزليين والموسيقيين في إنجلترا حيث توجد صالات الموسيقى الباهرة، ونقرأ عن ابتداع جورج إدواردز للرواية الموسيقية الهزلية وعن نجاح اختراعه هذا بين الإنجليز إلى حد بعيد، حتى إن روايته (فيرونيك) مثلت أربعمائة وتسعين مرة متوالية، ونقرأ عن رواج مثل أغنية
The Gibson Girl
رواجا مدهشا، ومثل هذه الحوادث هي التي تعني الفن لا المشاكل السياسية وغير السياسية وإن أثرت على الفن أحيانا من طريق غير مباشر في التصوير الهزلي مثلا كما حدث بالنسبة للمطالبات بحق الانتخاب حينما ظهرت في إنجلترا منذ سنوات قليلة مضت.
ويجب أن يعنينا في مصر أمر هذا التمثيل الغنائي المرح، فنحن شعب يحب الموسيقى والغناء كما تشهد بذلك (دار التمثيل العربي) وغيرها وتقديسنا صوت الشيخ سلامة حجازي، حتى إننا أبينا إلا أن نحول روايات شكسبير إلى شبه غنائيات! فحبذا لو استغل افتتاننا هذا بالتمثيل الغنائي لإدخال هذا النوع في بلادنا ولو بتمصير هذه الموسيقى الأوروبية البديعة، وإن لم تتح لي فرصة سماعها كاملة بل كل ما سمعته منها مختارات في بعض الحفلات الأوروبية الكبرى بالقاهرة كانت قوية التأثير في نفسي، وعزز إيماني بها ما سمعته من بعض الوجهاء المثقفين الذين زاروا إنجلترا أخيرا واستمتعوا خير استمتاع بهذا اللون من التمثيل الجميل، وقد نتدرج من ذلك إلى خلق الأوبرات العربية على غرار رواية (عايدة) بشرط أن تكون شعرا خالصا، وهذا غير عزيز على همة شعرائنا الأعلام، وأخص بالذكر أساتذتنا الأجلاء مطران وشوقي وحافظ، هذا هو بعض حديث الفن، فهل يضيع هذا الحديث في مصر؟
طبقة الشعراء
لا بد أن يكون الشاعر كثير الانفعال يتيقظ لأقل شيء ويدقق في معظم الشئون، ومثل هذا الرجل هو الذي تخرج كلمته من القلب فتقع في القلب، ويستطيع أن يؤثر بما يقرضه على أية نفس كانت تفهم وتعي، وليس هناك ما يحدث اليقظة النفسية غير كثرة (التأمل)، فهو الذي ينتقل بصاحبه إلى ما فوق السماكين ! هناك يقدر أن يشرف على هذا الكون فيمثله أحسن تمثيل، ويصوره أجمل تصوير.
ولكن ماذا يدفع النفوس البشرية إلى دقة النظر والفحص؟ أليس ما يحيط بها من الضيق الشديد والأزمات القوية التي تدفعها إلى البحث عن طرق ملاقاتها؟ لذلك كان من البديهي المعقول أن الطبقة التي يخرج منها معظم الشعراء هي الطبقة الوسطى أو التي أقل منها مرتبة بلا نزاع، والدليل أن الرجل إذا شب منها فإنه يتربى أحسن تربية للعناية التي يصرفها والداه أولا وهي طبيعة هذا النوع من الأفراد، ولما تقع عليه عيناه من الحوادث الجمة التي يستفيد منها بخبرته أفضل النصائح الغالية والعبر فيقدر على وصفها ويكون دائما قوة عاملة مفكرة تنأى عن الشر، ولا تنظر إلا عيون الطبيعة فتتناجيان وتتحببان وتعطفان على بعضهما، وحسبك أن تعلم أن أبا تمام الشاعر المشهور كان فقيرا يسقي بالجرة في جامع بمصر وما زال يأخذ بأسباب العلم حتى وصل إلى ما وصل إليه، وأن فكتور هوجو شاعر الفرنسيس وحكيمهم الكبير لم يكن من أهل الرياش والسعة بل زد على ذلك أنه كان عصاميا وصل إلى درجة رفعته باجتهاده وفطنته، وما يمنع الغني العظيم عن الوصول إلى منزلة الشاعر إلا عنايته بلذته الجسمية أكثر من عنايته بلذته النفسية وانخداعه بالظواهر الكاذبة وفساد تربيته في الغالب، ولو تناول الشعر فإما أن يكون واحدا من اثنين: رجل شذ عن ذاك القياس لشهامة نفسه وعلو آدابه وحسن خلقه فيزيد الشعر جلالا على جلال، أو محب للأدب يقول ما يقول طمعا في البلاغة وهو في الغالب لا يؤثر نفسه إلا بما صدر حقيقة عن انفعال، والشعر ماثل في كل نفس ومطبوع في كل قلب بشري غير أن صاحبه عاجز عن بيانه ووصفه في التركيب اللائق به وتأديته نطقا، ولقد ترى في كثير من العبارات ولو كانت من أفواه العامة خواطر ومعاني شعرية مبعثها الطبع ورائدها السليقة، ولا يكون المرء ذا قوة فكرية تستنبط التشبيهات الغريبة ما لم يكن متجردا من ذلك الثوب الكثيف: ثوب المادة ، ولا ينزعه عنه إلا أدب يفيد وعلم ينفع، ونظرة صادقة إلى الوجود يميز بها بين الباطل والحق، ويفتح باب فكره المغلق فيقف على مناهج الفضيلة التي يحث على اتباعها ويدري بمهبط الرذيلة فينبه الوجدان إلى عواقبها السيئة.
Page inconnue