قال كمال برجاء: لم تعد الحق فيما قلت، وسوف تقتنع نينة به عاجلا، فأرجو أن يكون كلامك عن عدم البقاء في البيت مجرد هفوة لسانية.
فقال ياسين وهو يهز رأسه في حزن: أنا أول من يعز عليه هجر هذا البيت، ولكني سأتركه عاجلا أو آجلا ما دام انتقال مريم إليه مستحيلا، فلا تنظر إلى مسألة ذهابي إلا من هذه الزاوية، سأنتقل إلى بيتي بقصر الشوق، ومن حسن الحظ أن شقة أمي لا تزال خالية، وسأقابل والدي في الدكان وأوضح له أسباب ذهابي متحاشيا كل ما يعكر صفوه، لست غاضبا، سأترك البيت آسفا عليه كل الأسف، آسفا على فراق أهله وأولهم نينة، لا تحزن، ستعود المياه إلى مجاريها في وقت قريب، ليس في هذه الأسرة قلب أسود، وقلب والدتك أنصعها بياضا.
ومضى إلى صوان ملابسه ففتحه، وجعل ينظر إلى ملابسه ولوازمه، وتردد قليلا قبل أن ينفذ ما عقد العزم عليه، فالتفت إلى كمال، وهو يقول: سأتزوج من هذه الفتاة كما قضت بذلك المقادير، ولكني - علم الله - مقتنع كل الاقتناع بأني لم أسئ إلى ذكرى فهمي، أنت أعلم يا كمال بما كان من حبي له، كيف لا؟ إذا كان هناك من سيساء بهذا الزواج، فهو أنا.
11
قادت خادم صغيرة ياسين إلى حجرة الاستقبال ثم انصرفت، كان يقوم بزيارة بيت المرحوم السيد محمد رضوان لأول مرة في حياته، وكانت الحجرة - على طراز الحجرات ببيت أبيه - واسعة الأركان، مرتفعة السقف، فيها مشربية تشرف على شارع بين القصرين ونافذتان تطلان على العطفة الجانبية التي يفتح عليها مدخل البيت، وقد فرشت أرضها ببسط صغيرة، واصطفت في جوانبها الكنبات والمقاعد، وأسدلت على الباب والمنافذ ستائر من مخمل رمادي باهت من القدم، وعلى الجدار المواجه للباب علقت البسملة في إطار أسود كبير، بينا توسطت الجدار الأيمن - فوق الكنبة الرئيسية - صورة للمرحوم السيد محمد رضوان تمثله في أوسط العمر.
اختار ياسين أول كنبة صادفته إلى يمين المدخل، فجلس وهو يتفحص المكان بعناية حتى ثبتت عيناه على وجه السيد محمد رضوان الذي بدا وكأنه يبادله النظر بعيني مريم. ابتسم ابتسامة راضية وراح ينش لا شيء بمنشته العاجية ... ثمة مشكلة قد واجهته مذ فكر في المجيء لخطبة مريم، هي خلو البيت من جنس الرجال، وعدم توفيقه إلى إنابة أحد من جنس النساء عنه، فكانت النتيجة أن جاء وحده كأنه مقطوع من شجرة - على حد تعبيره - الأمر الذي أخجله بعض الشيء كرجل ورث عن وسطه الاعتزاز بالأهل والأسرة، غير أنه كان مطمئنا من ناحية أخرى إلى أن مريم لا بد وأن تكون قد مهدت له السبيل عند أمها، بحيث إن مجرد إعلان زيارته سيشي بما جاء من أجله، ومن ثم يهيئ له جوا طيبا لإنجاز مهمته.
عادت الخادم إلى الظهور حاملة صينية القهوة، فوضعتها على المنضدة أمامه، وتراجعت وهي تخبره بأن ستها الكبيرة في الطريق إليه. وستها الصغيرة ترى هل علمت بحضوره؟ وما صدى ذلك في نفسها الرقيقة؟ سوف يحملها بحسنها إلى قصر الشوق، ولتفعل بنا القوة ما تشاء. من كان يظن لأمينة هذه القدرة على الغضب؟ كانت في وداعة الملاك. قاتل الله الحزن ! كذلك غضب أبوه وهو يعترف له في الدكان بأنه هجر البيت، ولكن غضب رحيم كشف عن تأثره وحزنه، ترى: هل تطلعه أمينة على تاريخ مريم؟ غضب الثكلى شيء مخيف، ولكن كمال وعد بأن يحملها على السكوت، في قصر الشوق صادفتك أول مفاجأة سعيدة في هذا الجو العاصف! هو موت الفكهاني وحلول ساعاتي محله، إلى القبر! سمع نحنحة عند الباب، فاتجه بصره إليه وهو ينهض، وما لبث أن رأى ست بهيجة وهي تدخل بجنبها؛ إذ إن مصراع الباب المفتوح لم يكن ليتسع لها إذا دخلت بعرضها، ولمح عن غير قصد الخطوط التي تحد تفاصيل جسمها الجسيم، فلم يتمالك من العجب عندما مرت أمام عينيه عجيزتها التي كادت قمتها تبلغ منتصف ظهرها ويفيض أسفلها على فخذيها، فكأنما كرة منطاد. وأقبلت نحوه في خطوات متمهلة ناءت بقناطير اللحم والشحم، ثم مدت له يدا بضة بيضاء برزت من كم فستانها الأبيض الفضفاض، وهي تقول: أهلا وسهلا. شرفت ونورت.
فصافحها ياسين بأدب، ولبث واقفا حتى جلست على الكنبة المجاورة فجلس. كان يراها عن كثب لأول مرة؛ إذ إن علاقتها القديمة بأسرته واكتسابها مع الأيام منزلة أشبه بمنزلة الأم في السن والاحترام حملاه على تجنب تفحصها - كما يفعل مع غيرها من النساء - كلما لمحها عن بعد في الطريق، لذلك خيل إليه أنه عثر على كشف جديد. وكانت ترتدي فستانا قد غطى على جسمها من العنق إلى ما فوق القدمين، وحتى القدمان وارتهما في جورب أبيض رغم دفء الجو، بينا امتد كما الفستان على ذراعيها وساعديها حتى المعصمين، ولفت رأسها وعنقها بخمار أبيض طرح ذيله العريض على أعلى الصدر والظهر؛ فبدت في احتشام يناسب المقام ويوافق العمر الذي قارب الخمسين - فيما علم - وإن تبدت في صحة ريانة تنطق بصفاء المزاج وشباب القلب. ولاحظ فيما لاحظ أنها تطالعه بوجه طبيعي لم يمسه زخرف أو زواق رغم ما عرف عنها من حب التبرج وإتقان التزين، الأمر الذي نصبها من قديم مرجعا لكل ما يتعلق بالذوق النسائي من ملبس وزواق في الحي كله. وذكر بهذه المناسبة كيف كانت أمينة تدافع عن هذه المرأة كلما عن لأحد أن ينتقد إفراطها في التبرج، ثم كيف انقلبت تحمل عليها لأتفه الأسباب في السنوات الأخيرة، رامية إياها بقلة الحياء وتجاهل ما يستوجبه عمرها من احتشام. - خطوة عزيزة يا ياسين أفندي. - الله يكرمك!
كاد يختم جملته بقوله: «يا تيزة»، ولكن إحساسا غريزيا خوفه في اللحظة الأخيرة من النطق بها، خاصة وأنه لاحظ أنها لم تدعه ب «يا ابني» كما كان المنتظر، وعادت المرأة تسأل: كيف حالكم؟ والدك وأم فهمي وخديجة وعائشة وكمال؟
أجاب، وهو يشعر بحياء لسؤالها عن الذين ناصبوها العداء بلا سبب وجيه: كلهم بخير، سألت عنك العافية.
Page inconnue