فقال وهو يعاني سكرات الخيبة والحنق: كلا، ولكني لا أجد سببا للرفض.
قالت ببرود: لعل عندي أسبابا.
ضحك ضحكة عالية ناضبة، ثم غلبه الحنق، فقال هازئا: لعلك تخافين على بكارتك!
رنت إليه بنظرة طويلة قاسية، ثم قالت بحنق وتشف: أنا لا أرضى إلا بمن أحبه.
هم بأن يضحك مرة أخرى، ولكنه أمسك بعد أن ضاق صدره بهذه الضحكات الآلية المحزنة، ومد يده إلى القارورة فصب منها في كأسه بلا تدبر حتى امتلأت إلى النصف، ولكنه تركها على المائدة، وراح ينظر إلى المرأة في حيرة لا يدري كيف يخرج من المأزق الذي دفع نفسه إليه ... الأفعي بنت الأفعى لا ترضى إلا بمن تحبه، هل يعني هذا إلا أنها تحب كل ليلة رجلا! هيهات أن تمحى من صفحتك فضيحة الليلة، السادة هناك في الداخل، وأنت هنا تحت رحمة عوادة متدللة ... اسلخها بلسانك ... اركلها بقدمك ... ادفعها أمامك إلى الحجرة قهرا، الأجدر أن تشيح عنها بوجهك وتغادر المكان فورا، في أعيننا لعنة تذل الأعناق، ما ألطف جيدها، لا تمار في حلاوتها، طاش الرأي ووجب الألم. - لم أكن أتوقع هذا الجفاء!
وقطب مصمما وقد تجهم وجهه، فنهض رافعا كتفيه في استهانة، وهو يقول: ظننتك مثل خالتك لطافة وذوقا فخاب ظني، ولن ألوم إلا نفسي!
سمع وسوسة شفتيها وهي تمتص ريقها مصة الاحتجاج والانتقاد، ولكنه مضى إلى ملابسه فأخذ يلبسها على عجل حتى انتهى منها في أقل من نصف المدة التي تتطلبها عادة أناقته. كان مصمما غاضبا، ولكن اليأس لم يبلغ به نهايته، ظل جزء من نفسه متمردا يأبى أن يصدق ما وقع أو يعز عليه أن يسلم به، فتناول عصاه وهو يترقب بين لحظة وأخرى أن يحدث شيء فيكذب ظنه، ويصدق أماني كبريائه الجريح، كأن تضحك فجأة حاسرة عن وجهها قناع الجد الزائف، أو أن تهرع إليه مستنكرة غضبه، أو أن تثب أمامه لتحول بينه وبين الذهاب، أجل كثيرا ما تكون مصة الريق التي ندت عنها مناورة يعقبها الاستسلام، غير أن شيئا من ذلك لم يحدث.
ولبثت وهي بمجلسها تنظر إلى لا شيء، متجاهلة إياه كأنها لا تراه، فغادر الحجرة إلى الدهليز، ومنه إلى الباب الخارجي، ثم إلى الطريق وهو يتنهد في حزن وأسف وغيظ. قطع الطريق المظلم مشيا على الأقدام حتى بلغ جسر الزمالك، وجو الخريف الرطيب يتسلل في لطف إلى داخل ملابسه. ومن هناك استقل تاكسي، فطوى به الأرض طيا وهو ذاهل من السكر والفكر، حتى انتبه إلى ما حوله في ميدان الأوبرا، والسيارة تدور به في طريقها إلى العتبة الخضراء. في أثناء دورانها حانت منه التفاتة فلمح على ضوء المصابيح سور حديقة الأزبكية فعلق به بصره حتى غيبه عنه منعطف الطريق، ثم أغمض عينيه وهو يشعر بشكة تنفذ إلى أعماق قلبه، ووجد في باطنه صوتا كالأنين يهتف في عالمه الصامت داعيا بالرحمة للفقيد العزيز، فلم يجرؤ على ترديد الدعاء بلسانه أن يذكر اسم الله بلسان مشبع بالخمر، وعندما رفع جفنيه، ذرفت عيناه دمعتين غزيرتين.
8
لم يدر ماذا ركبه! شيطان رجيم أم داء وبيل؟ نام وهو يأمل أن يكون انتهى من سخف الليلة الماضية، بسخف السكر دعاه، وللسكر سخف لا ريب فيه يفسد لذاته ويقلب مسراته، وعندما ألقى عليه الصباح نوره وجده من قلق يتقلب، ورشاش الدش يترشش على جسده العاري، تشتت فكره وخفق قلبه، تخايل لعينيه وجهها وطنت في أذنيه وسوسة شفتيها ورجع قلبه صدى الألم، ثم تجتر أفكارك الظامئة كفتى مراهق والطريق من حولك يحييك تحية الإجلال، يحيون فيك الوقار والورع وحسن الجوار، ولو علموا أنك ترد تحياتهم في آلية، وفكرك عنهم غائب مهموم في حلم جارية عالمة ... عوادة ... امرأة تعرض جسدها كل ليلة في سوق المضاجع ... لو علموا ذلك. لأولوك بدل التحية ابتسامة هزء ورثاء. فلتقل الأفعى «نعم» وعند ذاك أعرض عنها بكل ازدراء وارتياح، ماذا دهاني؟ وماذا أروم؟ هل أدركك الكبر؟ أتذكر ما ابتلى جليلة وزبيدة من عاديات الزمن؟ تلك آثار بغيضة يجدها القلب ولا يدركها الحس، لكن مهلا، حذار أن تسلم للوهم، فيسلمك الوهم لقمة سائغة للانهيار. ما هي إلا شعرة بيضاء، لغير ذلك من البواعث أعرضت عنك العوادة الحقيرة، الفظها كما تلفظ ذبابة اندست في فيك وأنت تتثاءب، وا أسفاه! أنت تعلم أنك لن تلفظها، لعلها الرغبة في الانتقام ولا شيء سوى ذلك، رد اعتبار ليس إلا، ينبغي أن تقول الجارية «نعم»، ولك أن تهجرها بعد ذلك قرير العين، لا شيء فيها يستحق النضال، أتذكر ساقيها وجيدها وشهوة عينيها؟ لو داويت كبرياءك بلعقة من الصبر لفزت - من ليلتك - بالمتعة والبهجة. ماذا وراء هذا القلق كله؟ إني أتألم، أجل، إني أتألم، إني مكروب بما نزل بي من مهانة، أتوعدها بالازدراء ثم تخطر منها على القلب خطرة فتستعر عروقي ... استبق الحياء ولا تجعل من نفسك أضحوكة، إني أستحلفك بالأولاد من بقي منهم ومن ذهب ... هنية كانت المرأة الوحيدة التي هجرتك فجريت وراءها، ماذا لقيت منها؟ ألا تذكر! فتوة الزفة يرقص ويسكر ويصول ويجول، ثم يعمل عصاه في المصابيح وطاقات الورد والمزامير والمدعوين، حتى يغطي الصوات على الزغاريد ... ذاك رجل؟ كن فتوة العوامة واقتل أعداءك بالتجاهل والإعراض. ما أضعف أعداءك وما أقواهم! ساق مسترخية لا تكاد تقوى على المشي غير أنها تهد الجبال الرواسي، ما أفظع سبتمبر إذا ارتفعت حرارته المشبعة بالرطوبة! ما ألطف أماسيه! خاصة ما يكون منها في العوامة، إن بعد العسر يسرا!
Page inconnue