وتبادلا نظرة طويلة، أفصحت في عيني كمال عن الإصرار والتحدي، فانعكست في عيني فؤاد مهادنة، وابتسامة كأشعة الشمس الجهنمية التي تنعكس على سطح الماء لألاء ضاحكا، ثم واصل كمال حديثه: إني أرى الشهوة غريزة حقيرة، وأمقت فكرة الاستسلام لها، لعلها لم تخلق فينا إلا كي تلهمنا الشعور بالمقاومة والتسامي حتى تعلو عن جدارة إلى مرتبة الإنسانية الحقة، إما أن أكون إنسانا، وإما أن أكون حيوانا.
فتريث فؤاد قليلا، ثم قال بهدوء: أظن أنها ليست شرا خالصا، فهي الدافع إلى الزواج، فالذرية.
خفق قلب كمال خفقة عنيفة لم تجر لفؤاد في خاطر، أهذا هو الزواج في النهاية؟ لكنه لم يكن يجهل هذه الحقيقة في جملتها، وإن كان في حيرة لا يدري كيف يوفق الناس بين الحب والزواج، إنها مشكلة لم يرتطم بها في حبه؛ لأن الزواج بدا دائما - ولأكثر من سبب - فوق مرتقى أمانيه - ولكن ذلك لم يمنع من قيامها مشكلة تتطلب الحل. ما كان يتصور أن يكون اتصال سعيد بينه وبين معبودته إلا عن طريق العطف الروحي من ناحيتها، والتطلع الهيمان من ناحيته، طريق بالعبادة أشبه، بل هو العبادة نفسها، فأي شأن للزواج في هذا؟ - الذين يحبون حقا لا يتزوجون.
تساءل فؤاد بدهش: ماذا قلت؟
فطن حتى قبل تساؤل فؤاد إلى أن لسانه خان إرادته، فبدا عليه الارتباك لحظة حرجة، وراح يتذكر آخر أقوال فؤاد قبل ندود هذه الجملة الغريبة عنه حتى اهتدى بشيء من الجهد - على حداثة العهد بسماعها - إلى كلماته عن الزواج والذرية، فصمم على مداراة هفوته وعلى تصحيح معناها ما أمكن، فقال: الذين يحبون ما فوق الحياة لا يتزوجون، هذا ما عنيت.
ابتسم فؤاد ابتسامة خفيفة أو لعله كان يقاوم ضحكة، غير أن عينيه العميقتين لم تنما عما وراءهما، واكتفى بأن قال: هذه أمور خطيرة، والحديث عنها الآن سابق لأوانه، فلندعها مرهونة بأوقاتها.
فرفع كمال منكبيه باستهانة وثقة، وقال : فلندعها ولننتظر.
فؤاد في واد وهو في واد، على ذلك فهما صديقان، لا يسعه أن ينكر أن الخلاف في نفسه يجذبه إليه على ما في ذلك من جهد تعانيه أعصابه المرة بعد المرة، ألم يئن له أن يعود إلى البيت؟ الوحدة ومناجاة النفس تتجاذبانه. الكراسة النائمة في درج مكتبه تهيج جيشان صدره، لا بد للمكدود في مكابدة الواقع من انتجاع بعض الراحة في الانطواء. - آن لنا أن نعود.
7
كان الحنطور يتابع سيره على شاطئ النيل حتى وقف أمام عوامة في نهاية المثلث الأول من طريق إمبابة، وما لبث أن غادره السيد أحمد عبد الجواد، ثم تبعه على الأثر السيد علي عبد الرحيم.
Page inconnue