تأمله مليا في ذهول قبل أن يقول: أمن أجل هذا تريد أن تضحي بمستقبلك؟ أصل الحياة ومآلها؟ أصل الحياة آدم، ومصيرنا إلى الجنة أو النار. أم جد جديد في ذلك؟ - كلا، أعلم هذا، أريد أقول.
فعاجله قائلا: هل جننت؟ ... أسألك عن مستقبلك، فتجيبني بأنك تريد أن تعرف أصل الحياة ومآلها؟ ... وماذا تعمل بعد ذلك؟ ... تفتح دكانا لاستطلاع الغيب؟
خاف كمال إن هو استسلم للارتباك والصمت أن يغلب على أمره أو يضطر إلى التسليم بوجهة نظر أبيه، فقال مستنجدا شجاعته: اعذرني يا بابا إذا لم أكن أحسنت التعبير عن رأيي، أريد أن أواصل دراستي الأدبية التي بدأتها بعد الكفاءة، أن أدرس التاريخ واللغات والأخلاق والشعر. أما المستقبل فأمره بيد الله.
فهتف السيد متهكما حانقا، وكأنما يتم سرد ما سكت كمال عنه: وادرس أيضا فن الحواة، والقره جوز، وفتح المندل، ونبين زين نبين. لم لا! اللهم غفرانك، أكنت حقا تدخر لي هذه المفاجأة؟ ... لا حول ولا قوة إلا بالله.
اقتنع السيد أحمد بأن الحال أخطر مما قدر، فحار في أمره، وجعل يسائل نفسه: أأخطأ فيما أباح لابنه من حرية القول والرأي؟ كلما مد له في حبل الصبر والتسامح لج الآخر في العناد وتمادى في الجدل. وما لبث أن قام في نفسه صراع بين نزعته الاستبدادية وبين تسليمه بحق «اختيار المدرسة»، حرصا على مستقبل كمال من ناحية، وكراهية للانهزام من ناحية أخرى، ولكنه انتهى على غير عادته - أو بالأحرى على غير عادته في الزمن القديم - بتغليب الحكمة، فعاد إلى النقاش وهو يقول: لا تكن غرا، ثمة شيء في عقلك لا أدريه أسأل الله لك منه النجاة، ليس المستقبل لهوا ولعبا، ولكنه حياتك التي لن تكون لك حياة غيرها. فكر في الأمر طويلا، الحقوق خير مدرسة لك، إني أفهم الدنيا خيرا منك، ولي أصدقاء من كافة الطبقات ولا خلاف بينهم في ذلك، أنت طفل أحمق، ألا تدري ما هي النيابة وما هو القضاء؟ هذه وظائف تهز الأرض هزا، وفي وسعك أن تتبوأ واحدة منها، كيف تعرض عنها بكل بساطة وتختار أن تكون ... معلما؟
شد ما تألم - لا غضبا لكرامة المعلم فحسب - ولكن غضبا لكرامة العلم أولا وأخيرا، العلم الحقيقي في نظره. لم يكن حسن الظن بالوظائف التي تهز الأرض هزا، فطالما وجد الكتاب المسيطرين على روحه يطلقون عليها العظمة الزائفة والمجد الزائل، وغير ذلك من نعوت الاستهانة والاستخفاف، فآمن - تبعا لأقوالهم - بألا عظمة حقيقية إلا في حياة العلم والحقيقة، واقترنت من ثم كل مظاهر السلطان والجاه في ذهنه بالزيف والتفاهة، غير أنه تحاشى الإفصاح عن إيمانه هذا أن يستفحل غضب أبيه، وقال برقة وتودد: على أي حال مدرسة المعلمين مدرسة عليا.
تفكر السيد مليا، ثم قال متبرما يائسا: إذا لم تكن بك رغبة في الحقوق، وبعض الناس يعشقون التعاسة، فاختر مدرسة محترمة: الحربية، البوليس ... وشيء خير من لا شيء.
فقال كمال منزعجا: أدخل الحربية أو البوليس وقد نلت البكالوريا؟ - ما حيلتي إذا لم يكن لك في الطب نصيب؟
عند ذلك شعر بضوء آت من ناحية المرآة أقلق عينه اليسرى، فمد بصره صوب الصوان، فرأى أشعة شمس العصر المائلة المتسربة إلى الحجرة من النافذة المطلة على الفناء، وقد زحفت من الجدار المواجه للفراش حتى غيبت جانب المرآة، مؤذنة باقتراب موعد انصرافه إلى الدكان، فتزحزح قليلا مبتعدا عن الضوء المنعكس، ثم نفخ نفخة وشت بضيقه وأنذرت - أو بشرت - في الوقت نفسه بوشك انتهاء الحديث، وتساءل واجما: ألا توجد مدرسة أخرى غير هذه المدارس المغضوب عليها؟
فقال كمال وهو يغض بصره حرجا لعجزه عن إرضاء أبيه: لم يبق إلا مدرسة التجارة ولا أرب لي فيها.
Page inconnue