نحب بعضنا
وراحت الأيدي الصغيرة تصفق على إيقاعه.
4 - آن لك أن تخبرني عن المدرسة التي تنوي الالتحاق بها!
كان السيد أحمد عبد الجواد متربعا على الكنبة بحجرة نومه، على حين جلس كمال على طرفها المواجه للباب شابكا ذراعيه على حجره يكتنفه الأدب والطاعة. ود السيد لو يجيبه الفتى قائلا: «الرأي رأيك يا أبي!» بيد أنه كان مسلما بأن اختيار المدرسة ليس من الأمور التي يدعي لنفسه فيها حقا مطلقا، وأن موافقة الابن عامل جوهري في الاختيار، إلى أن مدى علمه بالموضوع كله كان محدودا جدا، وقد استمد أكثره مما يثار أحيانا في بعض مجالسه بين أصحابه من الموظفين والمحامين الذين أجمعوا على الإقرار بحق الابن في اختيار نوع دراسته تفاديا من الإخفاق والفشل. لهذا كله لم يستنكف أن يجعل الأمر شورى مسلما أمره إلى الله. - نويت يا بابا بإذن الله، وبعد موافقة حضرتك طبعا، الالتحاق بمدرسة المعلمين العليا.
ندت عن رأس السيد حركة موحية بالانزعاج، واتسعت عيناه الزرقاوان الواسعتان، وهو يحدج ابنه بغرابة، ثم قال بنبرات ناطقة بالاستنكار: المعلمين العليا! ... مدرسة المجانية! أليس كذلك؟
فقال كمال بعد تردد: ربما، لا أدري شيئا عن هذا الموضوع.
فلوح السيد بيده مستهزئا، كأنما أراد أن يقول له: «ينبغي أن تتجمل بالصبر قبل أن تقطع برأي فيما ليس لك به علم.» ثم قال بازدراء: هي كما قلت لك، ولذلك يندر أن تجذب أحدا من أولاد الناس الطيبين، ثم إن مهنة المعلم ... أتدري شيئا عن مهنة المعلم أم أن علمك بها لا يعدو علمك بمدرستها؟ هي مهنة تعيسة لا تحوز احترام أحد من الناس. إني عليم بما يقال عن هذه الشئون، أما أنت فغر صغير لا تدري من أمور الدنيا شيئا، هي مهنة يختلط فيها الأفندي بالمجاور، خالية من كل معاني العظمة والجلال، ولقد عرفت أناسا من الأعيان والموظفين المحترمين يأبون - الإباء كله - أن يزوجوا بناتهم من معلم مهما تكن مكانته.
ثم بعد أن تجشأ ونفخ طويلا: فؤاد بن جميل الحمزاوي، وهو من كنت تخلع عليه البالي من بذلك سيلتحق بمدرسة الحقوق، ولد ذكي متفوق، ولكنه ليس أذكى منك، وقد وعدت أباه بالمعاونة في تسديد مصروفاته حتى تتحقق له المجانية، فكيف أنفق على أولاد الناس في المدارس المحترمة، وابني يتعلم بالمجان في المدارس الحقيرة؟
كان هذا التقرير الخطير عن «المعلم ورسالته» مفاجأة مزعجة لكمال، لم هذا التحامل كله؟ لا يمكن أن يرجع ذلك إلى عمل المعلم الذي هو تلقين العلم، فهل يرجع إلى مجانية المدرسة التي تخرجه؟ لم يكن يتصور أن يكون للغنى أو الفقر دخل في تقدير العلم، أو أن يكون للعلم قيمة خارجة عن ذاته. كما يؤمن بذلك إيمانا عميقا لا يمكن أن يتزعزع، كما يؤمن بكفالة الآراء السامية التي يطلع عليها في مؤلفات رجال يحبهم ويعتز بهم. مثل: المنفلوطي، والمويحلي وغيرهما. كان يعيش بكل قلبه في عالم «المثال» كما ينعكس على صفحات الكتب، فلم يتردد فيما بينه وبين نفسه عن تخطئة رأي أبيه رغم جلاله ومكانته من نفسه، معتذرا عن ذلك بجناية المجتمع المتأخر عليه، وأثر «الجهلاء» من أصحابه فيه، وهو ما أسف له كل الأسف، بيد أنه لم يسعه إلا أن يقول ملتزما غاية ما يستطيع من الأدب والرقة، وكان في الواقع يردد نصا من مطالعاته: العلم فوق الجاه والمال يا بابا.
ردد السيد رأسه بين كمال وبين صوان الملابس، كأنما يشهد شخصا غير منظور على خرق الرأي الذي سمع، ثم قال باستياء: حقا؟ عشت حتى أسمع هذا الكلام الفارغ، كأن ثمة فرقا بين الجاه والعلم! لا علم حقيقي بلا جاه ومال. ثم ما لك تتكلم عن العلم كأنه علم واحد! ألم أقل لك إنك غر صغير؟ هنالك علوم لا علم واحد؛ للصعاليك علومهم، وللباشوات علومهم. افهم يا جاهل قبل أن تندم.
Page inconnue