هتف حسين بسرور: لو تحقق هذا الحلم!
أما إسماعيل فقال ضاحكا: أخاف أن أجد نفسي وحيدا بعد بضع سنين!
تلاقت آلات الأوركسترا جميعا في حركة متدفقة سريعة، أعلنت - فيما أعلنت - عما في كل آلة من مرونة وقوة، كأنما تشترك كلها في سباق عنيف بات الهدف منه في مرمى العين ومتناول الطموح، فسما بها اللحن إلى ذروته العليا، تلك الذروة التي توحي بتداني الختام. انجذب وعيه إلى الأنغام المستعرة رغم استغراقه بالشجن، فانخرط في عدوها حتى تدافع دمه ولهثت منه الأنفاس، وسرعان ما داخلته رقة، وأسكرته أريحية جعلت من حزنه نشوة دامعة، فتنهد مع النهاية من الأعماق. وتملى أصداء اللحن المترنمة في روحه بانفعال وتأثر، فخيل إليه أنه يتساءل: ألا يمكن أن تنتهي عواطفه المتأججة في ذروتها إلى ختام كذلك؟ ألا يمكن أن يكون للحب - كهذا اللحن وككل شيء - نهاية؟ وذكر أحوالا مرت به في أوقات نادرة، فترات من الفتور حتى بدا وكأنه لم يبق من عايدة إلا اسمها، أتذكر هذه الفترات؟ وكان يهز رأسه حيرة، ثم يتساءل: هل انتهى حقا كل شيء؟ وإذا بخيال يطوف، أو فكرة تخطر، أو منظر يرى، فيستيقظ من غفوته ويلقى نفسه غريقا في بحر الهوى مكبلا بأصفاد الأسر. جرب إذا حلت بك فترة من هذه الفترات أن تقبض عليها بكل قواك، وألا تدعها تفلت حتى يستقر بك الشفاء، أجل حاول أن تفني خلود الحب. قال حسين شداد باسما: بدأت الحفلة بتلاوة سورة على سبيل البركة.
القرآن؟ ما ألطف هذا! الباريسية الحسناء نفسها لا تستطيع أن تعقد قرانها إلا بمأذون وقرآن! وهكذا سيقترن زواجها في ذهنك بالقرآن والشمبانيا! - حدثنا عن نظام الحفلة؟
قال حسين وهو يشير براحته إلى البيت: عما قليل يعقد القران، وبعد ساعة يدعى الجميع إلى الموائد، ثم ينتهي كل شيء، وتبيت عايدة هذه الليلة في بيتنا لآخر مرة، ثم تسافر مع الصباح إلى الإسكندرية لتستقل بعد غد الباخرة إلى أوروبا.
ستضيع منك مناظر ما أخلقها بالتسجيل لتكون زادا لألمك الشره، كرؤية اسمها الجميل وهو يكتب في الوثيقة الشرعية، ومنظر وجهها المتطلع إلى إعلان النبأ السعيد، ولون الابتسامة التي يفتر عنها ثغرها عند زفاف البشرى، ثم منظر العروسين وهما يتلاقيان، حتى ألمك يعوزه الزاد. - وهل يعقد القران مأذون؟ - طبعا.
هكذا أجاب حسين، أما إسماعيل فضحك ضحكة عالية، وقال: بل قسيس!
أي سخافة في سؤالك! ... سل أيضا هل يبيتان الليلة معا! أليس من المحزن أن يسد مجرى حياتك رجل لا شأن له كهذا المأذون؟ ولكن دودة حقيرة هي التي تأكل جدث أكبر الكبراء. فكيف ستكون جنازتك حين يحم القضاء؟ شيء هائل يملأ الطريق أم لمة تمضي؟ ... وإذا بالصمت يشمل البيت حتى استحال نورا بلا تغاريد فشعر بخوف وانقباض. الآن في مكان ما، لعلها هذه الحجرة أو تلك. ثم لعلعت زغرودة طويلة مجلجلة أحيت ذكرى قديمة، زغرودة كتلك الزغاريد التي عرفها من قبل فلا تمت إلى باريس بسبب، ثم تبعتها زغاريد مجتمعة كالصواريخ، لشد ما يبدو هذا القصر الليلة كأي بيت من بيوت القاهرة. وتابعت دقات قلبه الزغاريد حتى لهث، ثم سمع إسماعيل يهنئ فهنأ بدوره، وتمنى عند ذاك لو كان منفردا، ثم تعزى بأنه سينفرد بنفسه أياما وليالي فوعد ألمه بزاد لا يفنى. وانبعثت الأوركسترا تعزف مقطوعة يعرفها حق المعرفة هي «العفو يا سيد الملاح»، فنادى قدرته الهائلة على التحمل والتصبر وإن كانت كل قطرة من دمه تطرق جدران عروقه مؤذنة بأن كل شيء قد انتهى، إن التاريخ نفسه قد انتهى، إن الحقيقة جميعا قد انتهت، إن الأحلام التي فوق الحياة قد انتهت، وإنه يواجه الصخر المدبب الأطراف ولا شيء غيره. قال حسين متأملا: كلمة ثم زغرودة ويدخل الواحد منا في دنيا جديدة، سوف نعرف ذلك كلنا يوما ما.
فقال إسماعيل لطيف: سوف أباعد ما استطعت بيني وبين ذلك اليوم. - كلنا؟ إما السماء وإما لا شيء. - لن أذعن لذلك اليوم أبدا.
بدا عليهما أنهما لم يكترثا لقوله، أو أنهما لم يحملاه على محمل الجد، بيد أن إسماعيل عاد يقول: لن أتزوج حتى أقتنع بأن الزواج ضرورة لا محيص عنها.
Page inconnue