قال كمال بحماس: ذلك الخلود. - أوه ... سوف تنشط كعادتك للدفاع، أنت وطني لحد المرض، نحن نختلف في هذا، ربما كان أحب إلي أن أكون في فرنسا من أن أكون في مصر.
فقال كمال وهو يواري ألمه تحت ابتسامة رقيقة: ستجد هنالك الفرنسيين أعظم أمم الأرض وطنية! - نعم، الوطنية مرض عالمي، لكني أحب فرنسا نفسها، وأحب في الفرنسيين مزايا لا تمت إلى الوطنية بسبب.
هذا محزن مؤسف حقا بيد أنه لا يثير حفيظته؛ لأنه صادر عن حسين شداد. إسماعيل لطيف يحنقه أحيانا باستهانته، حسن سليم يغضبه أحيانا بتكبره، أما حسين شداد فيحظى برضاه على أي حال من الأمر.
وقفت السيارة غير بعيد من سفح الهرم الأكبر منضمة إلى صف طويل من السيارات الفارغة، ولاح خلق كثيرون هنا وهناك، تفرقوا جماعات صغيرة، ومنهم من امتطى حمارا، أو جملا، أو تسلق الهرم، غير باعة ومكاريين وجمالين، أرض واسعة لا تحد إلا أن الهرم انطلق في وسطها كمارد خرافي، أما تحت المنحدر من الناحية الأخرى فقد ترامت المدينة، رءوس أشجار وخط مياه وأسطح عمارات، ترى أين يقع بين القصرين من هذا كله؟ والبيت القديم؟ أين أمه وهي تسقي الدجاج تحت سقيفة الياسمين؟ - فلنترك كل شيء في السيارة لنتجول أحرارا.
غادروا السيارة، ومضوا صفا واحدا بدأ من السيارة بعايدة فحسين ثم بدور، وأخيرا كمال الذي أمسك بيد صديقته الصغيرة، وطافوا بالهرم الأكبر متصفحين أركانه، ثم أوغلوا في الصحراء، وكانت الرمال تقاوم أقدامهم فتعرقل انطلاقهم، غير أن الهواء هفا لطيفا منعشا، وراوحت الشمس بين الظهور والاختفاء، وانتشرت تجمعات السحب في آفاق السماء ترسم في اللوحة العلية صورا تلقائية تعبث بها يد الهواء كيفما اتفق. قال حسين وهو يملأ رئتيه بالهواء: جميل ... جميل ...
ورطنت عايدة بالفرنسية، فأدرك كمال بمعلوماته المحدودة في تلك اللغة أنها تترجم قول أخيها، وكانت الرطانة عادة مألوفة لديها، فخففت من غلوائه في التعصب للغته القومية من ناحية، وفرضت نفسها على ذوقه كأمارة من أمارات الحسن النسائي من ناحية أخرى. قال كمال بتأثر، وهو يتأمل ما حوله: جميل حقا، سبحان الله العظيم.
فقال حسين ضاحكا: إنك تجد دائما وراء الأمور إما الله، وإما سعد زغلول. - أظن أنه لا خلاف بيننا فيما يتعلق بالأول! - ولكن دأبك على ذكره يضفي عليك مسحة دينية خاصة كأنك من رجال الدين، (ثم بلهجة تسليم) فيم العجب وأنت من حي الدين؟
أتكمن وراء هذه الجملة سخرية ما؟ وهل يمكن أن تشاركه عايدة في سخريته؟ ترى ما رأيهما في الحي القديم؟ وبأي عين تنظر العباسية إلى بين القصرين والنحاسين؟ هل مسك الخجل؟ مهلا إن حسين لا يكاد يبدي أي اهتمام بالدين، المعبودة فيما يبدو أقل اهتماما منه، ألم تقل يوما: إنها تحضر دروس الدين المسيحي في الميردي دييه، وأنها تشهد الصلاة وتترنم بأناشيدها؟ ولكنها مسلمة، مسلمة رغم أنها لا تعرف عن الإسلام شيئا يذكر! ما رأيك في هذا؟ أحبها، أحبها لحد العبادة، وأحب دينها رغم وخز الضمير، أعترف بهذا مستغفرا ربي.
أشار حسين بيده إلى ما يحيط بهم من آي الجمال والجلال، ثم قال: هذا ما يستهويني حقا، أما أنت فمجنون بالوطنية. قارن بين هذه الطبيعة الجليلة وبين المظاهرات، وسعد، وعدلي، واللوريات المحملة بالجنود!
فقال كمال باسما: الطبيعة والسياسة كلتاهما شيء جليل.
Page inconnue