Qasida Wa Sura
قصيدة وصورة: الشعر والتصوير عبر العصور
Genres
ويكبر عنها كمه وبراجمه
قياما لمن يشفي من الداء كيه
ومن بين أذني كل قرم مواسمه
إن المتنبي يتطير إلى سيف الدولة الجالس في خيمته ويترقب جوده وكرمه كما يترقب الناظر إلى السحاب ذي البرق اللامع ما يجود به من المطر. وهو يبدأ في وصف الصور المرسومة على قبة الخيمة أو ما نسميه اليوم الطبيعة الصامتة، فيتعجب لرياض لم ينبتها غيث من السحاب، وأغصان شجر عظيم عليها حمائم لا تغني، وبذلك يومئ منذ البداية إلى أنها صور ممثلة، ونسيج حاكته يد الإنسان لأيدي الطبيعة. ثم يجول بعينيه في حواشي الأثواب التي اتخذت منها الخيمة، فيرى عليها دوائر ونقوشا بيضاء كأنها قلائد من الدر الذي يثقبه ناظمه لأنه ليس بدرا حقيقيا، كما يشاهد صور وحوش وحيوانات متحاربة بطبيعتها، يستدرك على الفور فيتذكر ويذكرنا بأنها تبدو في الوقت نفسه حيوانات مسالمة؛ لأنها مجرد صور لا روح فيها. ومع ذلك فإن اللوحة الدرامية التي صورها في قوله «يحارب ضده ويسالمه»، لا تلبث أن تغريه بحيويتها وحركتها فيقول إن الريح إذا ضربت تلك الثياب ماجت وكأن الحيل المسنة (المذاكي) التي عليها تصول وتجول، وكأن الأسود تختل الظباء لتصيدها. وقد كان من الممكن أن نعيش التجربة وأن يستغرقنا المنظر المائج بالحركة والصراع، لولا أن الشاعر قد استخدم «إذا» و«كأن» ليذكرنا مرة أخرى بأنها صور محاكية. وهو يسارع إلى تأكيد هذا في البيت التالي الذي يبدأ بصورة ملك الروم وهو ساجد لسيف الدولة. ومع أن الملك متوج فإن التاج الحقيقي هو العمامة التي تزين رأس سيف الدولة؛ لأن تيجان العرب هي عمائمها. ثم يزيد الشاعر في تصوير ذل الملوك الذين يغلبهم سيف الدولة كما غلب هذا الملك، فيقول إنهم يقبلون بساطه لأنهم لا يقدرون على تقبيل كمه أو يده. ولا ندري إن كانت الصورة التي سجلها لنا المتنبي قد حوت إلى جانب ذلك الملك الرومي ملوكا آخرين أذلهم سيف الدولة وشفاهم من غيهم وطغيانهم، وترك عليهم آثار قهره لهم، أم إن سجود ملك الروم المرسوم على الخيمة قد ألهب خياله فابتداع صورا أخرى في تمجيد ممدوحه وتعظيم شجاعته وقوته. ومهما يكن الأمر فيبدو أن التفاصيل السابقة هي كل عناصر الصورة التي رآها المتنبي، وأن كل ما تلاها صور فنية من إبداع خياله لا من وحي الصورة المرسومة على قبة المفازة التي جلس تحتها سيف الدولة ليستعرض وفود الأسرى والشعراء ...
لا شك في أن النماذج القليلة السابقة تقربنا خطوة من قصيدة الصورة دون أن تفي بمقوماتها، أو تتيح المقارنة الجمالية به النص اللغوي والأصل الفني الذي أتت عليه يد الفناء. وقد يستطيع الباحث أن يعثر على نماذج أخرى في ديوان الشعر العربي من عصوره القديمة حتى عصر البعث أو الإحياء (ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض قصائد شوقي المشهورة مثل قصيدته عن معبد أنس الوجود أو قصيدته عن أبي الهول)، ولكن الحقيقة التاريخية تقول إن قصيدة الصورة بمعناها المفهوم في الشعر العالمي لم تظهر بصورة محددة إلا على يد الشاعر العالم الدكتور أحمد زكي أبو شادي (1892-1955م) رائد جماعة أبولو، ومؤسس مجلتها التي حفلت أعدادها (بين سبتمبر 1932م وأكتوبر 1934م) بنماذج منها وضعها في باب مستقل سماه «شعر التصوير». والغريب أن «أبا شادي» هو الذي انفرد بكتابة هذا النوع من الشعر، ولم يشاركه فيه غير شاعرين اثنين هما إسماعيل سري الدهشان - الذي كتب قصيدة بعنوان الصائدة المتجردة أمام صورة فوتوغرافية لحسناء تقف إلى ركبتيها في مياه البحر
28 - وأحمد مخيمر الذي استوحى مع أبي شادي صورة أخرى لرسام فرنسي اسمه «ماناسيه»، فكتب أبياتا قليلة تحت العنوان الذي وضع لتلك الصورة وهو ملاك أم شيطان.
29
قدم أبو شادي من هذا الشعر التصويري كما سماه سبع عشرة قصيدة أرفق بها الصور نفسها، وهي صور توضيحية مطبوعة بالألوان في أغلب الأحوال، خالية من أي قيم فنية حقيقية. والقليل من هذه الصور أو اللوحات المصورة منسوب إلى أسماء أصحابها الذين سقطوا من ذاكرة تاريخ الفن، أو لعلهم لم يعلقوا بها أبدا لأنهم كانوا في الغالب من رسامي المجلات المصورة (مثل إيفلين بول، وج. دي جلن، وماناسيه)، وليس من بينها سوى لوحة واحدة يحتمل أن تكون لمصور كبير (وهي اللوحة التي وضعت أيام قصيدته عن إيليا وصموئيل). وبمراجعة هذه القصائد من الشعر التصويري نجد أنها تقف عند حدود التصوير بمعناه الوصفي التوضيحي المباشر لتفاصيل الصورة المنشورة معها، كما نجد أنها تتسق مع التيار الوجداني الذي سارت فيه حركة أبولو مهتدية بشعر الرومانطيقية الإنجليزية والفرنسية من ناحية، وبشعر مطران ومدرسة الديوان وشعراء المهجر من ناحية أخرى. وعناوين القصائد وموضوعاتها لها دلالتها الكافية على معالم التجديد كما تصوره هذه الجماعة التي أسسها أبو شادي، واختار أن يسميها باسم رب الفنون في الأساطير اليونانية، بالإضافة إلى دلالتها على ثقافته المتنوعة واطلاعه الواسع على الشعر الإنجليزي بوجه خاص؛ فبجانب ثلاث قصائد معبرة عن الروح الرومانطيقية بوجه عام (وهي المساء في الصحراء، في الواحة، ملاك أم شيطان)، نجد سائر القصائد مستمدة من تاريخ مصر القديمة وأساطيرها (مثل نفرتيتي والمثال، في المعبد، أوزوريس والتابوت، إيزيس والطفل الأمير، إيزيس تغادر بيبلوس، موسى في اليم) أو من الأساطير اليونانية القديمة (مثل زيوس ويوروبا، أفروديت وأدونيس، بلوتو وبرسفون، أبولو ودفني)، أو من أسفار العهد القديم (إيليا وصموئيل). فهل ينطبق على قصائد الصورة هذه وصف أبي شادي نفسه بأنها أمثلة معتدلة من النظم الحر الجامع بين الشعر القصصي وشعر التصوير؟ وهل يصدق عليها ما قاله في العدد الأخير من مجلة أبولو
30
ضمن هواجسه النقدية التي راح فيها يدافع عن التصوير في شعره ويرد اتهام المحافظين والتقليديين وعيبهم عليه بالإسراف في تطبيق ملكة التصوير على المحسوس والمتخيل، «كأن الشعر وقف على التصوير العاطفي وحده وليس له أن يصور المظاهر الفنية في الكائنات والأشياء، ولا أن يجسم الأخيلة الفنية التي هي بمثابة حقائق للشاعر وإن كانت عدما أو وهما لغيره!» هل نجح أبو شادي في تصويره الشعري الذي زعم أنه يعبر عن الدقة المنوعة في إبراز شتى الحالات من المخيلة والوجدان في تصاوير مختلفة نابضة بالحياة سواء أكانت تصاوير ذاتية أم تصاوير قصصية؟ وهل استطاعت قصائد الصور التي كان أول من حاول كتابتها أن تحقق مزاعمه النظرية والنقدية الطموح أم قصرت أجنحة شعره عن التحليق في أجوائها البعيدة؟
Page inconnue