وسيجري التعاون في مجراه الذي توحيه ضرورات الحوادث ودراية الخبراء، وقد يهدينا تاريخ القرية الصغيرة في ماضيها المعلوم إلى تاريخ العالم الواسع في مستقبله المجهول، فإن القرية قد تمثل لنا أطوار العالم في مستقبله، كما يمثل الجنين أطوار نوعه في ماضيه على قول النشوئيين.
والقرية قد فرغت من تنظيم المبادلات بين أصحاب المال وأصحاب الحاجة، فعالجتها في سوقها الصغير بعلاجاتها المختلفة وهي: العملة، أو المقايضة، أو الرهن، أو الضمان، أو الخدمة سدادا للدين، أو حساب الضائع والمفقود والإحسان، ثم لجأت أخيرا إلى علاج يجمع بين مصالح الباعة والمشترين، وهو جماعات التعاون التي يعتبر المشتركون فيها من البائعين ومن المشترين، ولا يحتاج العالم الواسع إلى ابتداع علاج جديد غير هذه العلاجات التي طال عليها القدم، ولكنه يحتاج إلى الأساليب التي تمكنه من تطبيقها في نطاقه الواسع، ويحاول الآن شتى المحاولات فيهتدي حينا، ويضل حينا، ولن يزال ردحا طويلا بين الهدى والضلال.
ومهما يكن من صواب الآراء التي توحي بتلك المحاولات، فالتجارب العملية حيلة ضرورية لا تغني عنها محاولة يختارها أصحاب هذه الآراء.
فهذه التجارب العملية هي التي تهدي كل أمة إلى اجتناب الجهود الضائعة في تقدير لوازمها والموازنة بين ما تحتاجه من العالم، وما يحتاجه العالم منها، واستمرار الإحساس بالنقص والتعويض من هنا تارة ومن هناك تارة أخرى، خليق أن يوقظ الغافل، ويرشد الضال، ويصحح المخطئ عن جهالة منه وعن لجاجة في الباطل.
وإذا كانت المحاولات من أهل الرأي لا تغني عن التجارب العملية، فالأمر الذي لا شك فيه كذلك أن التجارب العملية لا تغني وحدها عن محاولات أهل الرأي، وعن اختيار الحلول التي تتمشى مع حلول الضرورة فتعجل خطاها وتقوم اعوجاجها، وقد كان التساند بين ضرورات الواقع ومحاولات المدبرين والمتدبرين ديدنا طبيعيا يتكرر في كل حركة من حركات التاريخ الكبرى، ويصدق على أعمال الأفراد، كما يصدق على أعمال الجماعات.
فالهيئات الدولية - ولو لم تكن لها سلطة عامة - تستطيع أن تجمع الإحصاءات الدقيقة والبيانات الوافية، وأن تضع أمام المسئولين في كل أمة تقديرا نافعا يلاحظونه في استخراج محصولاتهم ومصنوعاتهم، فلا تضيع الجهود عبثا في زيادة صنف لا يطلب، أو نزارة صنف مطلوب.
والحواجز المصطنعة التي تقام بين المعسكرين المتقابلين لا تثبت طويلا أمام الضرورات الحقيقية التي يحسها الناس في أرجاء الكرة الأرضية، والأخطار الملفقة التي يخلقها الحاكمون لحماية أنفسهم تتطلب من الأمم فوق طاقتها، وتدفعها جميعا إلى أخطار حقيقية يعجز الحاكمون عن إخفائها.
وليست العقبات في طريق التعاون بين الأمم وليدة اليوم، ولا هي مما يزول غدا كل الزوال، ولكنها صحبت الإنسان في عمله لذات نفسه وعمله لأهله وقومه، ولا تزال تصحبه حيث كان، لا يصلحها ولا يخفف ضررها إلا ما يخفف كل ضرر اجتماعي من تطور الأخلاق، وتطور الضمانات التي تكف عدوان المعتدي، وتكفل للمصاب بالضرر أن يدفعه عنه بقوة العرف والقانون أو قوة الاتحاد بين المشتركين في المصاب الواحد، وعلى هذه الوتيرة زالت عقبات كثيرة بالأمس وتزول غدا عقبات كثيرة لا مناص من زوالها مع تبدل الأحوال.
ولنرجع إلى مثل القرية التي عالجت شئونها في مشكلات العملة والمقايضة والرهن والضمان وسائر ما هنالك من أشباه هذه المشكلات، فالتاجر الذي يملك في القرية مالا يقرضه لأناس من أهلها ويشارك به أناسا آخرين في الزرع والماشية، يكسب بهذا المال جاها يستغله في المشروع وغير المشروع من مآربه ولباناته، وقد يستغله في ابتزاز الحقوق وهتك الأعراض وإيذاء الأبرياء، ولكنه لا يجعل هذا العمل قاعدة يعلنها، ولا هو يعترف به إذا اتهمه به أحد ضحاياه، ويختلف نصيب التاجر من هذا الجاه باختلاف القرى واختلاف الآداب والعلاقات بين أهلها، فيستطيع في قرية ما يعجز عنه في غيرها، وقد يصبح الجاه ضريبة في عنقه يؤديها لمن يحترم جاهه ويقبل مكانته بين عشيرته، وقد يصبح ولا جاه له بينهم إذا عرفوا كيف يستغنون عن تجارته، وكيف يتبادلون البيع والشراء بينهم على سنة التعاون، وتكافؤ المنافع والصفقات، وإن هذه الأحوال العامة في القرية لهي من معدن الأحوال العامة في الدنيا العريضة بما رحبت، ولعلها هي هي بعد تكبير الأحجام وامتداد المسافات والأقوام، والأعوام. وقد كانت الدولة العظيمة قبل مائة سنة تسيطر - كتاجر القرية - على أسواق الدنيا وتكسب بعدتها وعتادها جاها يتيح لها أن تسخر شعوبها تسخير الأرقاء، وأن تستفيد من حاجاتهم إليها ما يستفيده التاجر من حاجات العملاء، فأصبحت الدولة العظيمة وهي اليوم عاجزة عما كانت تقدر عليه قبل مائة سنة، وقبل عشرين سنة، وتغيرت أمور كثيرة في الدنيا قبل أن يتم هذا التغيير؛ بعض هذه الأمور الكثيرة أن الدولة العظيمة أصبحت دولا عظاما تتنافس فيما بينها، وتحد كل منها من إرادة غيرها كما يحد غيرها من قدرتها، وبعض هذه الأمور الكثيرة أن القابضين على أزمة الدولة في داخلها تغيروا وتغيرت مصالحهم في حكم أنفسهم وحكم الشعوب التي دخلت في حوزتهم، وبعض هذه الأمور الكثيرة أن السيادة على الشعوب بالقوة والقسوة أصبحت من الصفقات الخاسرة التي تزيد كلفتها على غنيمتها، وبعض هذه الأمور الكثيرة أن المغلوبين عرفوا حقوقهم وعرفوا حاجة الغالبين إليهم، وعرفوا بينهم روابط من الشكاية المشتركة، والمقاومة المشتركة لم تكن معروفة لأسلافهم، وجملة هذه الأمور تجيز لنا أن نوازن بين عوامل التضامن العالمي، وعوامل الفرقة والشقاق، فلا نبالغ إذا قلنا: إن الأولى راجحة على الثانية؛ لأن عوامل التضامن مقبلة متقدمة وعوامل الفرقة والشقاق مدبرة مترددة تنكس على عقبيها.
1
Page inconnue