لم أعد أجد فيه ما يثير اهتمامي. سرعان ما تجاهلني سابحا في فضاء المحل، وبصفة خاصة في سقفه المزخرف بالتهاويل. وندت عنه إشارات كأنما يخاطب المجهول. قلت لنفسي إنه الحي الميت أو الميت الحي. ورغما عني عقدت مقارنة بين غيبوبته السعيدة، وأرقي المرهق، فحسدته للحظة عابرة.
مجرد لحظة عابرة.
عودة القرين
وقفت المرسيدس السوداء أمام الكازينو. غادرتها الهانم بجمالها الملحوظ وعمرها الناضج، ونظرتها المطمئنة، وتبعها ولد في الثامنة، وبنت في السادسة، ثم تبعهم رب الأسرة. ذهبوا لتوهم إلى الحديقة الخلفية واتخذوا مجلسهم تحت شجرة وارفة، يتلقون من الشمس دفقات متفرقة حسبما تسمح الأغصان المورقة بهبة طيبة يجود بها صباح خريفي رائع. وانطلق الطفلان نحو الجدول لمشاهدة الضفادع ومعابثتها. وتجري الأمور كالعادة يوم عطلة الأسبوع حتى تناول الغداء ظهرا. ولعله اليوم الوحيد الذي ينسى فيه البك هموم مكتبه ودورة رأس المال وحساب الوارد والمنصرف. قال الرجل بحبور: يوم جميل.
فقالت الهانم: يجب أن نفكر في السفر أيضا. - الأماكن الجميلة لا حصر لها.
ومضت الأسر السعيدة تجيء تباعا، حتى علت أصوات الأطفال على أصوات العصافير، وهمست الهانم في أذنه: ثمة رجل غريب ينظر نحوك كأنه يعرفك.
التفت نحو رجل يقف في الشرفة المطلة على الحديقة، حسن الهيئة يوحي منظر وجهه الطويل النحيل بالعناء، بيده قارورة شراب، وسرعان ما تحول واختفى في الداخل، عرفه من النظرة الأولى، فاخترقته موجة عاتية من الكآبة والتشاؤم بددت بهجته وطمأنينته، والظاهر أنه لم يحسن مداراة أثره فسألته الهانم: هل عرفته؟
فأجاب متمالكا نفسه: عميل لا أرتاح إليه ممن يعرضون لنا في عملنا المتشعب.
ووجد الحل الأمثل في الهروب من عينيها بتصفح الصحف التي جاء بها. لكن منظر الرجل لم يفارق مخيلته. ظنه شق طريقه مثله، وأن غيبته الطويلة تشي بنجاحه واستقراره. وهو لم ينسه، ولا في وسعه أن ينساه، وكلما خطرت بباله الذكرى السوداء الدامية أطل عليه وجهه، وثمة أمور لا يمكن أن تنسي. المهم أن منظره يخفي وراءه نذير كارثة. ويقينا لقد رجع إلى العدم، وراح يحوم من حوله، وعما قليل يطالعه بوجهه الكالح ويمارس بأسه معه.
وفي ضحى اليوم التالي جاء مكتبه واستأذن في مقابلته. لم يجد مناصا من استقباله كصديق قديم، دخل حجرته جريئا باسما كأنما تسوقه المودة والأشواق، وفتح ذراعيه قائلا: بالأحضان!
Page inconnue