افتتاحية
الزنا
المحامي
القدماء والمحدثون
الحيوان
العصور القديمة
الفنون
التنجيم
الإلحاد
السلطة
المؤلفون
النفي
الإفلاس
الجمال
الأسقف
الكتب
بوليفيرد أو بوليفارت
بورجيز
البراهمة
الشخصية
الدجال
القوانين المدنية
المناخ
الحس السليم
تسلسل الأحداث
التناقضات
الحنطة
كرومويل
العادات
الديمقراطية
القدر
المخلص
الخدمة الكنسية
الصورة المجازية
عن المسرح الإنجليزي
الحسد
المساواة
الكفارة
المتطرف
إزورفيدام
الإيمان
العقول الزائفة
الوطن
العلل الغائية
الاحتيال
الإرادة الحرة
اللغة الفرنسية
الصداقة
الله
التاريخ
الجهل
المزدرون
جان دارك
التقبيل
اللغات
القوانين
الحرية
المكتبة
حدود العقل البشري
الجرائم المحلية
الحب
الترف
تأمل عام عن الإنسان
الرجل ذو القناع الحديدي
الزواج
السيد
الأدباء
التحول، التناسخ
ملتون، عن لومه على الانتحال
المحمديون
الجبل
العري
القانون الطبيعي
الطبيعة
ضروري
المستجدات الجديدة
الفيلسوف
القوة، القدرة الكلية
الصلوات
خلاصة الفلسفة القديمة
التحيزات
النادر
العقل
الدين
الطائفة
تقدير الذات
النفس
الدول والحكومات
الخرافة
الدموع
الموحد
التسامح
الحق
الطغيان
الفضيلة
لماذا؟
افتتاحية
الزنا
المحامي
القدماء والمحدثون
الحيوان
العصور القديمة
الفنون
التنجيم
الإلحاد
السلطة
المؤلفون
النفي
الإفلاس
الجمال
الأسقف
الكتب
بوليفيرد أو بوليفارت
بورجيز
البراهمة
الشخصية
الدجال
القوانين المدنية
المناخ
الحس السليم
تسلسل الأحداث
التناقضات
الحنطة
كرومويل
العادات
الديمقراطية
القدر
المخلص
الخدمة الكنسية
الصورة المجازية
عن المسرح الإنجليزي
الحسد
المساواة
الكفارة
المتطرف
إزورفيدام
الإيمان
العقول الزائفة
الوطن
العلل الغائية
الاحتيال
الإرادة الحرة
اللغة الفرنسية
الصداقة
الله
التاريخ
الجهل
المزدرون
جان دارك
التقبيل
اللغات
القوانين
الحرية
المكتبة
حدود العقل البشري
الجرائم المحلية
الحب
الترف
تأمل عام عن الإنسان
الرجل ذو القناع الحديدي
الزواج
السيد
الأدباء
التحول، التناسخ
ملتون، عن لومه على الانتحال
المحمديون
الجبل
العري
القانون الطبيعي
الطبيعة
ضروري
المستجدات الجديدة
الفيلسوف
القوة، القدرة الكلية
الصلوات
خلاصة الفلسفة القديمة
التحيزات
النادر
العقل
الدين
الطائفة
تقدير الذات
النفس
الدول والحكومات
الخرافة
الدموع
الموحد
التسامح
الحق
الطغيان
الفضيلة
لماذا؟
قاموس فولتير الفلسفي
قاموس فولتير الفلسفي
تأليف
فولتير
ترجمة
يوسف نبيل
مراجعة
جلال الدين عز الدين علي
افتتاحية
لا يستلزم هذا الكتاب قراءة متصلة، ولكن من أي موضع يفتحه القارئ سيجد فيه مادة جديرة بالتأمل. إن أكثر الكتب فائدة هي تلك التي يؤلف القراء أنفسهم نصفها؛ فهم يتوسعون في الأفكار التي تقدم بذرتها إليهم؛ ويصوبون ما يبدو لهم خاطئا، ويعززون بتأملاتهم ما يبدو لهم ضعيفا.
حقا، لا يمكن لهذا الكتاب أن يقرأه إلا أناس مستنيرون؛ فالإنسان العادي ليس مهيأ لمثل هذه المعرفة، ولن تكون الفلسفة أبدا من نصيبه. أما الذين يقولون إن ثمة حقائق يجب حجبها عن العوام فليسوا بحاجة إلى التنبيه إلى أن العوام لا يقرءون؛ فهم يعملون ستة أيام في الأسبوع، وفي السابع يذهبون إلى الحانة. باختصار، لا تكتب الأعمال الفلسفية إلا للفلاسفة، وعلى كل إنسان نزيه أن يحاول أن يصبح فيلسوفا، دون أن يتباهى بأنه فيلسوف.
استخلصت هذه المقالات المرتبة أبجديا من الأعمال الأكثر تقديرا التي لا يسع كثيرين أن يصلوا إليها، وإذا كان المؤلف لا يشير دائما إلى مصادر معلوماته، بما أنها شهيرة بما يكفي لدى المثقفين، فلا يجب اتهامه بمحاولة الاستيلاء على قيمة جهد غيره؛ لأنه هو نفسه يحافظ على إخفاء ذاته؛ عملا بوصية الإنجيل: «فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك.»
الزنا
(1) مذكرة عن قاض كتبت عام 1764م تقريبا
ابتلي قاض كبير في مدينة فرنسية بأن كانت له زوجة أغواها كاهن قبل زواجها، وغطت نفسها بالعار منذئذ بفضائحها العامة. كان القاضي هادئا جدا، فاكتفى بتركها دون ضجة. هذا الرجل المشرف على الأربعين، المفعم بالفحولة، الحسن المظهر، في حاجة لامرأة، وهو أيقظ ضميرا من أن يغوي زوجة رجل آخر، ويخشى أن يضاجع عاهرة أو أرملة يمكن أن يتخذها خليلة. في تلك الحالة المزعجة المؤسفة، يتوجه إلى الكنيسة بالتماس هذا موجزه:
زوجتي مجرمة، وأنا الذي أعاقب. لا بد من امرأة أخرى لراحة حياتي، وحتى من أجل فضيلتي؛ والطائفة التي أنتمي إليها تحرمها علي؛ تمنعني من الزواج بفتاة شريفة. تحرمني القوانين المدنية الحالية، المؤسسة لسوء الحظ على القانون الكنسي، من حقوق الإنسانية. تنزل بي الكنيسة إلى الاختيار بين ابتغاء الملذات التي تستنكرها أو التعويضات المخزية التي تشجبها؛ تحاول أن تجبرني على أن أكون مجرما.
أتطلع بعيني إلى كل شعوب الأرض. ما من أحد سوى شعب الكنيسة الرومانية الكاثوليكية يعتبر أن الطلاق والزواج الجديد ليسا حقين طبيعيين.
ما الذي قلب القاعدة هكذا، وجعل من ارتكاب الزنا فضيلة عند الكاثوليك؛ ومن الافتقار لزوجة واجبا حين تنتهك شرف المرء زوجته انتهاكا شائنا؟
لم لا يحل رباط تفسخ على الرغم من القانون العظيم الذي تقره مدونة القوانين: «كل رباط يجوز حله»؟ يجوز لي الانفصال عن زوجتي في المعيشة والنفقة، ولكن لا يجوز لي الطلاق. يستطيع القانون أن يحرمني من زوجتي، ويدعني بلا عزاء سوى ما يدعى «السر المقدس»! يا له من تناقض! يا لها من عبودية! يا لها من قوانين ولدنا في ظلها!
يبقى الأغرب أن قانون كنيستي هذا يتناقض مباشرة مع الكلمات التي تؤمن هذه الكنيسة نفسها بأنها من أقوال يسوع المسيح: «من طلق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى يزني» (متى 19: 9).
أنا لا أبحث فيما إن كان يحق لأحبار روما أن يخرقوا، حسب مشيئتهم، شرع من يعتبرونه سيدهم؛ ما إن كان يجوز حينما تكون الدولة بحاجة إلى وريث أن نرفض تلك التي يمكنها أن تهبها وريثا؛ لا أسأل: ألا ينبغي تطليق امرأة مشاغبة معتوهة قاتلة فاسدة تماما كما هو الحال في حالة الزنا؟ إنما أتقيد بالحالة المؤسفة التي تعنيني: الله يسمح لي بأن أتزوج، ولا يسمح لي أسقف روما بذلك.
كان الطلاق يمارس وسط الكاثوليك تحت حكم كل الأباطرة؛ كما كان موجودا في كل ولايات الإمبراطورية الرومانية التي تفككت. طلق ملوك فرنسا الذين كانوا يدعون «الرعيل الأول» كلهم تقريبا زوجاتهم من أجل اتخاذ زوجات جديدات. وفي النهاية، جاء جريجوري التاسع عدو الملوك والأباطرة الذي جعل بمرسوم بابوي الزواج نيرا لا تمكن قلقلته؛ أصبح مرسومه هو شريعة أوروبا. ولما أراد الملوك تطليق الزوجة الزانية، طبقا لشرع يسوع المسيح، لم يكن بإمكانهم أن ينجحوا في ذلك. كان لزاما إيجاد ذرائع سخيفة؛ أجبر لويس الأصغر، من أجل إتمام طلاقه البائس من إلينور الجوانية، على ادعاء علاقة لم توجد. وحتى يستطيع هنري الرابع أن يطلق مارجريت دي فالوا، تذرع بحجة أكثر زيفا؛ ألا وهي رفض الامتثال. كان على المرء أن يكذب ليحصل على طلاق بطريقة شرعية.
ماذا؟! يستطيع ملك أن يتنازل عن تاجه، ولكنه لا يستطيع أن يتخلى عن زوجته دون موافقة البابا! أكان ممكنا أن يتمرغ رجال مستنيرون في هذه العبودية السخيفة طويلا في ظروف أخرى؟!
أن يتخلى كهنتنا ورهباننا عن اتخاذ زوجات، فذلك أمر أقبله؛ لكنه انتهاك لحقوق العامة، هو مصيبة عليهم، لكنهم يستحقون هذه البلية التي جلبوها على أنفسهم. لقد كانوا ضحايا الباباوات الذين أرادوا جعلهم عبيدا، وجنودا بلا عائلات، وبلا وطن، يعيشون من أجل الكنيسة فقط. لكنني، أنا القاضي الذي أخدم الدولة طوال النهار، أحتاج إلى زوجة في المساء، والكنيسة ليس لها حق أن تحرمني من منحة يمنحنيها الرب. كان تلاميذ المسيح متزوجين، ويوسف كان متزوجا، وأنا أريد أن أكون زوجا. لو كنت، أنا الألزاسي، معتمدا على كاهن يقيم في روما، ولو كانت لديه تلك القدرة الوحشية على أن يحرمني من زوجة، فليجعلني إذا خصيا ينشد ترنيمة «ارحمني» في كنيسته الصغيرة. (2) مذكرة لصالح النساء
تقتضي العدالة أننا، ما دمنا كتبنا هذه المذكرة عن الأزواج، يجب علينا أيضا أن نضع أمام العامة القضية التي تخدم الزوجات التي عرضتها على اللجنة السياسية بالبرتغال كونتيسة آرسيرا، وهذه فحواها:
حرم الإنجيل الزنا على زوجي تماما كما حرمه علي؛ سيدان مثلي تماما، ما من شيء أرسخ من هذا. حينما ارتكب عشرين خيانة، وحينما أعطى عقدي لإحدى غريماتي، وقرطي لأخرى، لم أطلب من القضاة أن يحكموا عليه بحلق شعره، وأن يحبسوه بين الرهبان، وأن يمنحوني ممتلكاته. أما أنا، فلأني قلدته مرة واحدة، وفعلت مع أوسم شباب لشبونة ما كان يفعله كل يوم بلا عقاب مع أحمق العاهرات في الباحة والبلدة، فعلي أن أستجوب أمام رجال محكمة لو كان أي منهم معي في غرفتي وحدنا لركع عند قدمي؛ علي أن أحتمل في المحكمة أن يقص الحاجب شعري الأجمل في العالم ، وأن أحبس بين راهبات لا يفقهن، وأن أحرم من مهري، وبنود ميثاق زواجي، وتمنح كل ممتلكاتي لزوج مغرور لتساعده على أن يغوي نساء أخريات، وأن يزني من جديد.
إنني أسأل إن كان هذا عادلا، وليس دليلا على أن القوانين من صنع أزواج خانتهم زوجاتهم؟
قيل لي، ردا على دعواي، إنني يجب أن أكون سعيدة إذ لم أرجم عند بوابة المدينة بأيدي كهنة الأبرشية وخدامها وعامة الشعب؛ فهذا ما كان يجري عند أول أمة على الأرض، الأمة المختارة، الأمة العظيمة، الأمة الوحيدة التي كانت على حق حين كانت الأمم الأخرى على باطل.
أرد على هؤلاء المتوحشين بأنه حينما قدم الزانية المسكينة متهموها إلى سيد الشرع القديم والجديد، لم يأمر برجمها؛ وبأنه، على العكس من ذلك، وبخهم على ظلمهم، وسخر منهم بأن كتب بإصبعه على الأرض، مقتبسا ذلك المثل العبري القديم «من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر.» وبأنهم حينئذ انسحبوا جميعا، يدبر الأكبر سنا أولا؛ لأن الكبار سبق أن ارتكبوا فواحش أعظم.
أما المتخصصون في القانون الكنسي فيجيبون بأن واقعة هذه الزانية لم تذكر إلا في إنجيل القديس يوحنا، وأنها لم تدرج فيه إلا في وقت متأخر. يؤكد ليونيتوس ومالدونات أنهما لم يجدا تلك الواقعة في نسخة واحدة يونانية قديمة، وأنه لم يشر إليها أي من المفسرين الثلاثة والعشرين القدامى. لم يتعرف عليها أوريجانوس ولا القديس جيروم، ولا يوحنا الذهبي الفم، ولا ثيوفيلاكت، ولا نونوس، ولم يعثر على تلك الواقعة في الإنجيل السرياني، ولا في نسخة ألفيلاس.
هذا ما يقوله محامو زوجي الذين لا يكفيهم حلق شعري ولكنهم يريدون رجمي كذلك.
لكن المحامين الذين ترافعوا عني يقولون إن أمونيوس، الكاتب من القرن الثالث، أقر بأن هذه القصة حقيقية، وأنه إن كان القديس جيروم قد رفضها في بعض المواضع، فهو يتبناها في مواضع أخرى، وباختصار، هي موثقة اليوم. أنهي كلامي عند هذه النقطة، وأقول لزوجي: «إن كنت أنت بلا خطيئة فاحلق شعري، واسجني، وخذ ممتلكاتي؛ ولكن إن كنت ارتكبت من الخطايا أكثر مما ارتكبته، فعلي أنا أن أحلق شعرك، وأسجنك، وأستولي على ثروتك. يجب أن تكون هذه الأمور متساوية بالعدل.»
يجيب زوجي بأنه أسمى مني، وبأنه سيدي، وبأنه أطول مني بما يزيد على بوصة، وبأنه مشعر مثل دب؛ ولذلك فإني أدين له بكل شيء، وهو لا يدين لي بشيء.
لكنني أتساءل: أليست الملكة آن، ملكة إنجلترا، رئيسة زوجها؟ ألا يدين زوجها، أمير الدنمارك الذي هو قائد بحريتها، بالطاعة الكاملة لها؟ ألم تكن لتحصل على حكم بإدانته من محكمة النبلاء لو شكت بخيانته؟ واضح، إذا، أن النساء لا يحظين بمعاقبة أزواجهن إن لم يكن هن الطرف الأقوى.
المحامي
المحامي رجل لا يملك ثروة كافية ليقتني واحدا من تلك المكاتب اللامعة التي يضع الجميع أعينهم عليها، يدرس قوانين ثيودوسيوس وجستنيان ثلاثة أعوام، حتى يتمكن من أن يتعلم أصول المهنة المتبعة في باريس، وفي النهاية يسجل في نقابة المحامين، ويكون لديه حق الترافع في قضايا مقابل المال، إن كان يتمتع بصوت جهوري.
القدماء والمحدثون
لم ينته النزاع الكبير بين القدماء والمحدثين إلى تسوية حتى يومنا هذا؛ ما زال مطروحا على طاولة النقاش منذ أن خلف العصر الفضي العصر الذهبي. اعتقدت البشرية دائما أن الأزمان القديمة الطيبة كانت أفضل كثيرا من اليوم. يتمنى نسطور في الإلياذة أن يندس في عقلي أخيل وأجاممنون، وسيطا حكيما، ويبدأ بقوله لهم: «لقد عشت فيما مضى مع رجال أفضل منكم؛ لا، لم أر، ولن أرى أبدا شخصيات بعظمة درياس وسينايوس وإكساديوس وبوليفيموس الذي يضارع الآلهة ... إلخ.»
اقتصت الأجيال التالية لأخيل عن سوء تقدير نسطور. لم يعد أحد يعرف درياس؛ وربما بالكاد يسمع المرء عن إكساديوس أو سينايوس ذكرا؛ أما بوليفيموس الذي يضارع الآلهة، فلم تكن له هو أيضا سمعة طيبة، إلا بافتراض أن امتلاك عين كبيرة في الجبهة وأكل لحم البشر النيء ينطويان على شيء إلهي.
لا يتردد لوكريتيوس في أن يقول إن الطبيعة تدهورت (الكتاب الثاني، البيت 1159). تحفل العصور القديمة بمديح عصور أقدم منها. يكافح هوراس هذا التحيز بكل قوة وبراعة في رسالته الجميلة لأغسطس (الرسالة الأولى، الصفحة الثانية). يقول: «أيجب إذا أن تكون قصائدنا مثل خمورنا، أقدمها هي المفضلة دوما؟»
يعبر فونتينيللي المثقف العبقري عن أفكاره حيال ذلك الموضوع كما يأتي:
تختزل مسألة الأولوية ما بين القدماء والمحدثين بأكملها، إذا أحسن فهمها، في معرفة ما إن كانت الأشجار التي كانت موجودة سابقا في ريفنا أضخم من تلك الموجودة اليوم. إن كانت أضخم فلا يمكن مساواة هوميروس وأفلاطون وديموسثينس باللاحقين في القرون الأخيرة.
فلنلق الضوء على تلك المفارقة. إن كان القدماء أكثر ذكاء منا، فهذا معناه أن عقول أهل تلك الأزمنة كانت أفضل تنظيما، وكانت مكونة من أنسجة أشد أو أدق، مليئة بقدر أكبر من أرواح الحيوان. لكن ما سبب أفضلية تنظيم عقول تلك الأزمنة؟ لا بد أن الأشجار أيضا كانت أكبر وأجمل؛ لأنه لو كانت الطبيعة حينها أكثر شبابا وعنفوانا، لكانت الأشجار، مثلها مثل عقول البشر، تعكس هذا العنفوان وهذا الشباب. («استطراد بشأن القدماء والمحدثين» المجلد الرابع طبعة عام 1742م.)
بعد إذن أكاديميي عصرنا المرموقين، أقول إن الصياغة المناسبة للمسألة ليست هكذا. لا يتعلق الأمر بأن نعرف ما إن كانت الطبيعة قادرة على أن تنتج في أيامنا هذه عبقريات عظيمة وأعمالا جيدة كتلك التي حفل بها العصر القديم اليوناني أو اللاتيني، ولكن أن نعلم ما إن كنا نملكها بالفعل. قطعا، ليس مستحيلا أن توجد أشجار بلوط كبيرة في غابة شانتيللي مثل تلك الموجودة في غابة دودونا. لكن بافتراض أن أشجار البلوط في دودونا تكلمت، فسيصبح جليا أن لديها ميزة أعظم من أشجارنا التي لن تتكلم أبدا في جميع الأحوال.
الطبيعة ليست شاذة، ولكن من المحتمل أنها منحت أهل أثينا بلدا وسماء أكثر ملاءمة من وستفاليا وليموزين لتشكيل عبقريات معينة. بالإضافة لذلك، من المحتمل أن حكومة أثينا، يدعمها المناخ، وضعت في رأس ديموسثينس شيئا لم يضعه هواء منتجعات كليمار وجرينويلري، ولا حكومة كاردينال ريشيليو في رءوس أومير تالون وجيروم بينيو.
ومن ثم فالخلاف ها هنا مسألة تتعلق بالحقائق . أكانت العصور القديمة أزخر بالآثار العظيمة بكل أنواعها، حتى وقت بلوتارخ، من القرون الحديثة، بدءا من قرن آل ميديتشي حتى زمن لويس الرابع عشر؟
شيد الصينيون، قبل أن يبدأ عصرنا بما يزيد على مائتي عام، ذلك السور العظيم الذي لم يكن قادرا على حمايتهم من غزو التتار. والمصريون، قبل ذلك بثلاثة آلاف سنة، أثقلوا الأرض بأهراماتهم المذهلة التي وصلت مساحة قواعدها إلى تسعين ألف قدم مربع. لا أحد يشك في أنه لو أراد المرء أن يضطلع بمثل هذه الأعمال غير المجدية اليوم، فمن السهل أن يحالفه النجاح بنفقة باهظة من المال. سور الصين العظيم أثر غرضه التخويف؛ والأهرامات آثار لدواعي الخيلاء والمعتقدات الخرافية. كلا الأثرين يبرهنان عن صبر عظيم لدى الشعوب، لكنهما لا يشهدان على عبقرية فائقة. لم يكن الصينيون أو المصريون قادرين على صنع تمثال واحد كالتماثيل التي يصنعها نحاتونا اليوم.
يدعي شوفالييه تومبل الذي جعل شاغله الشاغل هو الاستخفاف بكل المحدثين أنهم لا يملكون شيئا في فن العمارة يمكن مقارنته بمعابد اليونان وروما، لكنه، وإن كان إنجليزيا، لا بد أن يعترف بأن كنيسة القديس بطرس أجمل كثيرا من الكابيتول.
غريبة هي الثقة التي يؤكد بها أن لا جديد في علم الفلك الحديث ولا في معرفة جسم الإنسان اللهم إلا الدورة الدموية. إن ولعه برأيه، المبني على تقديره الهائل لذاته، يجعله ينسى اكتشاف أقمار المشتري، وحلقات زحل وأقماره الخمسة، ودوران الشمس حول محورها، وحساب مواقع ثلاثة آلاف نجم، وقوانين كبلر ونيوتن للأجرام السماوية، وأسباب تقدم الاعتدالين، ومئات المعارف الأخرى التي لم يخطر ببال القدماء إمكان وجودها.
اكتشافات علم التشريح وفيرة بالمثل. لم يكن اكتشاف عالم جديد مصغر تحت عدسة الميكروسكوب ذا قيمة من وجهة نظر شوفالييه تومبل الذي غض بصره عن عجائب معاصريه، وحول ناظريه نحو الإعجاب بجهل القدماء.
وهو يمضي إلى حد الإشفاق علينا؛ إذ لم يبق لدينا شيء من سحر الهنود، والكلدانيين، والمصريين. هذا السحر، وفق فهمه، هو معرفة عميقة بالطبيعة، استطاعوا من خلالها صنع المعجزات. لكنه لا يستشهد بمعجزة واحدة؛ لأنه في الحقيقة لم تكن هناك أي معجزات البتة. يسأل: «أين ذهبت تلك الموسيقى الساحرة التي خلبت لب الإنسان والحيوان والأسماك والطيور والثعابين وغيرت طبيعتهم؟»
يؤمن عدو قرنه هذا حقا بخزعبلات أورفيوس، ولم يسمع على ما يبدو شيئا من الموسيقى الجميلة من إيطاليا أو حتى فرنسا، التي لا تسحر الثعابين ولكنها تسحر آذان الذواقة في حقيقة الأمر.
يبقى الأغرب من ذلك أن رأيه في كتابنا البارعين ليس أفضل من رأيه في فلاسفتنا، على الرغم من حياته التي كرسها للمقالات الجميلة. يرى رابليه رجلا عظيما، ويعتبر أن كتاب «العلاقات الغرامية ببلاد الغال» أحد أفضل أعمالنا. كان شوفالييه، مع ذلك، مثقفا، من رجال الحاشية، سفيرا، رجلا كثير الذكاء، رجلا أعمل فكره عميقا في كل ما رآه. كان عظيم المعرفة، لكن التحيز تكفل بإفساد كل هذه الجدارة.
ثمة جماليات في أعمال يوريبيديس وسوفوكليس؛ لكن بها نقائص أكثر كثيرا، بل قد أزعم أن مشاهد كورنيلي الجميلة وتراجيديات راسين المؤثرة تتفوق على تراجيديات سوفوكليس ويوريبيديس بقدر ما يتفوق الأخيران على ثيسبيس. كان راسين واعيا تماما بتفوقه العظيم على يوربيديس؛ لكنه مدح الشاعر اليوناني ليقلل من شأن بيرو.
يتفوق موليير، في أعماله الجيدة، على أعمال تيرانس الرائقة على برودتها، وعلى أعمال أرسطوفان المضحكة، وأعمال دانكورت الهزلية.
هكذا، توجد مجالات يتفوق فيها المحدثون بدرجة كبيرة على القدماء، ومجالات أخرى أقل كثيرا نحن الأدنون فيها. وإلى هذا الاستنتاج يختزل الجدل.
الحيوان
كم هو مؤسف ومثير للشفقة أن يقال إن الحيوانات محض آلات محرومة من الفهم والشعور، تؤدي أعمالها دائما بالطريقة نفسها، ولا تتعلم شيئا، ولا تتقن شيئا ... إلخ!
ماذا؟! ذاك الطائر الذي يصنع عشه في نصف دائرة عندما يسنده على حائط، ويبنيه في ربع دائرة عندما يكون في زاوية، وفي دائرة كاملة عندما يكون على شجرة؛ أيتصرف هذا الطائر دائما بالطريقة نفسها؟ كلب الصيد الذي دربته على مدار ثلاثة أشهر، ألا يعرف بنهاية مدة تدريبه أكثر مما كان يعرفه قبل دروسك؟ ألا يكرر الكناري النغمة التي علمتها له توا؟ ألا تقضي أنت وقتا معتبرا في تعليمه؟ ألم تره من قبل يصحح خطأ ارتكبه بنفسه؟
ألأنني أتحدث إليكم تحكمون أن لدي مشاعر وذاكرة وأفكارا؟ حسنا، لا أتحدث معكم، ترونني أعود إلى المنزل في مظهر بائس، أبحث عن ورقة ما بقلق، وأفتح المكتب حيث أذكر أني وضعتها، وأجدها ثم أقرؤها بفرحة. تستطيعون من ذلك أن تحكموا أني قد خبرت مشاعر الأسى والفرحة، وأن لدي ذاكرة وقدرة على الفهم.
طبقوا الحكم نفسه على الكلب الذي فقد سيده؛ الذي بحث عنه في كل الطرقات بعواءات ملؤها الأسى، ثم يدخل المنزل شديد الانفعال، متململا، ويهبط درجات السلم ويصعدها، ويتنقل من غرفة لأخرى، وفي النهاية يجد سيده الذي يحبه في غرفة مكتبه، ويظهر له فرحته بصيحات سروره، وبقفزاته، ومداعباته.
أما المتوحشون فيمسكون بهذا الكلب الذي يتفوق في الصداقة إلى حد مذهل على الإنسان؛ يثبتونه بالمسامير على الطاولة، ويشرحونه وهو حي كي يظهروا أوردته المساريقية. تكتشفون أن به كل أعضاء الحس التي فيكم. أجبني أيها المؤمن بالآلة: هل رتبت الطبيعة كل وسائل الشعور في الحيوان كي لا يشعر؟ هل صممت أعصابه حتى يصبح بليد الإحساس؟ لا تفترض ذلك التناقض السافر في الطبيعة.
لكن المعلمين يسألون: ما روح الحيوان؟ وأنا لا أفهم ذلك السؤال. للشجرة القدرة على أن تستقبل في أليافها عصارتها التي تدور، وأن تبسط براعم أوراقها وثمارها؛ أستسأل ما روح الشجرة؟ لقد منحت هذه الهبات؛ والحيوان منح هبات الشعور والذاكرة وعددا معينا من الأفكار. من الذي أنعم بهذه الهبات؟ من الذي أعطى هذه القدرات؟ إنه من جعل عشب الحقول ينمو، ومن جعل الأرض تنجذب نحو الشمس. «أرواح الحيوانات هي أشكال جوهرية.» هكذا قال أرسطو، ومن بعده المدرسة العربية، ومن بعد المدرسة العربية المدرسة الأنجليكانية، ومن بعد المدرسة الأنجليكانية السوربون، وبعد السوربون لا أحد على الإطلاق.
يزعم فلاسفة آخرون أن «أرواح الحيوانات مادية»، لكنهم ليسوا أفضل حظا من الآخرين. عبثا نسألهم عن ماهية الروح المادية؛ ليس أمامهم سوى أن يقروا بأنها مادة ذات إحساس، لكن من منحها هذا الإحساس؟ معنى أنها روح مادية هو أنها مادة تمنح الإحساس للمادة. لا يمكن أن تصدر من هذه الدائرة.
استمع إلى بهائم آخرين يتناقشون عن البهائم؛ روحهم روح روحانية تموت مع الجسد. لكن ما دليلك على ذلك؟ ما فكرتك عن تلك الروح الروحانية التي لديها في الحقيقة مشاعر وذاكرة وقدر من الأفكار ومن البراعة، لكنها لن تستطيع مطلقا أن تعرف ما يعرفه طفل في السادسة؟ على أي أساس تتخيل أن هذا الكائن، الذي ليس جسدا، يموت مع الجسد؟ إن أكبر الحمقى هم الذين تمادوا فزعموا أن هذه الروح لا هي جسد ولا هي روح. ثمة نظام دقيق. يمكننا أن نفهم أن الروح هي فقط شيء غير معروف مختلف عن الجسد. هكذا، ما ينتهي إليه منهج هؤلاء السادة هو أن روح الحيوانات هي جوهر لا هو جسدي ولا هو شيء غير جسدي.
من أين يمكن أن تأتي هذه الأخطاء المتناقضة الكثيرة للغاية؟ تأتي من عادة البشر في اختبار ماهية شيء ما قبل أن يعرفوا إن كان موجودا. إن اللسان، صمام المنفاخ، يسمى بالفرنسية «روح» المنفاخ. ما هذه الروح؟ إنها اسم أعطيته لصمام المنفاخ الذي يسقط؛ فيسمح للهواء بأن يدخل، ويرتفع مرة أخرى ويدفعه عبر أنبوب، عندما أجعل المنفاخ يتحرك.
ما من روح منفصلة في الآلة، لكن ما الذي يجعل منفاخ الحيوانات يتحرك؟ سبق أن أخبرتكم، ما يجعل النجوم تتحرك. أصاب الفيلسوف الذي قال: «إن الله هو روح البهائم.» لكن كان عليه أن يذهب أبعد من ذلك.
العصور القديمة
هل شاهدت في قرية ذات مرة بيير أودري وزوجته بيرونيل وهما يرغبان في التقدم على جيرانهما في الموكب؟ يقولان: «كان أجدادنا يقرعون الأجراس قبل أن يمتلك أولئك الذين يزاحموننا اليوم زريبة خنازير.»
إن غرور بيير أودري وزوجته وجيرانه لا يعرف أكثر من ذلك. تتقد عقولهم. الشجار مهم؛ فالشرف على المحك. الأدلة ضرورية. يكتشف طالب يغني في الجوقة قدرا حديدية قديمة صدئة تحمل علامة «أ»، أول حروف اسم صانع القدور الذي صنع القدر. يقنع بيير أودري نفسه أن هذه القدر كان خوذة أسلافه. بهذه الطريقة نفسها انحدر قيصر من نسل بطل، ومن نسل الإلهة فينوس. هكذا هو تاريخ الأمم، هكذا هي، ضمن حدود ضيقة جدا، معرفة العصور القديمة المبكرة. «يبرهن» باحثو أرمينيا أن الجنة الأرضية كانت في أرضهم. و«يبرهن» بعض السويديين عميقي الرؤية أنها كانت بالقرب من بحيرة فينير التي يبدو بوضوح أنها بقية منها. و«يبرهن» بعض أبناء إسبانيا أيضا أنها كانت في قشتالة. أما اليابانيون والصينيون والهنود والأفارقة والأمريكيون فليسوا تعساء بما يكفي لكي يعرفوا، حتى، أنه كانت فيما مضى جنة أرضية عند منابع فيسون وجيحون وتيجريس والفرات أو - إن كنت تفضل - عند منابع جوادالكيفير وجواديانا ودورو وإيبرو؛ لأنه يمكن للمرء بسهولة أن ينحت من كلمة فيسون كلمة فايتيس، ومن فايتيس بايتيس، الذي هو جوادالكيفير (النهر الكبير). وجيحون هو بوضوح جواديانا الذي يبدأ بحرف «ج». وإيبرو الذي هو في كتالونيا هو إيفرات (الفرات) ولا شك، فكلاهما يبدآن بحرف «إ».
لكن يظهر رجل اسكتلندي «يبرهن» بدوره أن جنة عدن كان موقعها في إدنبره، التي احتفظت بهذا الاسم. ومن الممكن أن نصدق أنه بمرور قرون قليلة سيحقق هذا الرأي نصيبه من النجاح.
يقول رجل خبير في التاريخ القديم والحديث إنه كان فيما كان أن الكون كله احترق؛ فقد قرأت في صحيفة أنهم وجدوا في ألمانيا فحما أسود نقيا بين الجبال على عمق 100 قدم، مغطى بالخشب. وتثار الشكوك حتى في أنه كان هناك فحامون في هذا المكان.
تبين لنا مغامرة فايتون أن كل شيء كان يغلي في قاع البحر. يثبت لنا كبريت جبل فيزوفيوس بما لا يمكن دحضه أن ضفاف أنهار الراين والدانوب والجانج والنيل والنهر الأصفر العظيم ما هي إلا بعض من الكبريت والنترات وزيت الصمغ التي تنتظر فقط لحظة الانفجار لتحيل الأرض رمادا، كما حدث بالفعل. والرمل الذي نسير عليه دليل كاف على أن الأرض تحولت إلى زجاج، وأن عالمنا ما هو إلا كرة زجاجية، تماما كما هي أفكارنا.
ولكن إن كانت النار غيرت من عالمنا، فالماء أسفر عن تغييرات أفضل بالمقابل؛ فيمكنك أن ترى بوضوح أن البحر الذي يصل مده إلى ثمانية أقدام في مناخنا أنتج جبالا يتراوح ارتفاعها بين 16 و17 ألف قدم. هذا حقيقي لدرجة أن بعض المثقفين الذين لم يذهبوا إلى سويسرا من قبل وجدوا سفينة ضخمة بكل أشرعتها وصواريها متحجرة على جبل القديس جوتهارد، أو في سفح منحدر لا يعلم المرء أين هو، لكن من المؤكد تماما أنها كانت هناك. لهذا، فالبشر كانوا في الأصل أسماكا، «وهو المطلوب إثباته.»
لننزل إلى عصور قديمة أقل قدما، دعنا نتحدث عن العصور التي تركت غالبية الأمم الهمجية فيها بلادها لتبحث عن بلاد أخرى كانت بالكاد أفضل. إن كان ثمة أي حقيقة في التاريخ القديم، فحقا كان ثمة بعض قطاع الطرق الغاليين الذين توجهوا لسلب روما في عهد كاميلوس. وعبر قطاع طرق غاليون آخرون، كما يقال، إليريا في الطريق لتأجير خدماتهم، بوصفهم قتلة، لقتلة آخرين في اتجاه تراقيا. لقد بذلوا دماءهم من أجل الخبز، ثم استقروا لاحقا في غلاطية، ولكن من كان هؤلاء الغال؟ هل كانوا من البيريشون أم من الأنجويين؟ كانوا بلا شك غاليين سماهم الرومان «الكيسالبيين»، وهم الذين نطلق نحن عليهم اسم «الترانسالبيين»، قاطنو الجبل الجوعى، المجاورين لجبال الألب والأبينيني. أما الغاليون القاطنون عند نهري السين والمارن فلم يعرفوا في ذلك الوقت بوجود روما، ولم يخطر ببالهم عبور ممر مونت سوني الجبلي كما فعل هانيبال بعد ذلك، حتى يذهبوا لسرقة خزائن أعضاء مجلس الشيوخ الرومان الذين كان كل أثاثهم ثوبا من قماش رمادي رديء، مزينا بشريط بلون دم الثور؛ ومقبضين صغيرين من العاج، أو بالأحرى عظمة كلب، على أذرع المقاعد الخشبية، وفي مطابخهم قطعة من لحم خنزير نتن.
خرج الغاليون، الذين كانوا يتضورون من الجوع ولا يجدون شيئا ليأكلوه في روما، ينشدون حظهم من الثراء في مكان أبعد، وهو ما اعتاد الرومان أن يفعلوه بعد ذلك، حينما نهبوا بلادا كثيرة جدا، بلدا تلو آخر ، وكما فعلت شعوب الشمال حين دمروا الإمبراطورية الرومانية.
علاوة على ذلك، ما الذي يفيدنا بقدر ضئيل بشأن هذه الهجرات؟ إنها سطور قليلة كتبها الرومان كيفما اتفق؛ لأن الكلتيين أو الفولشيين أو الغاليين، هؤلاء الناس الذين يراد تصديق أنهم كانوا بلغاء، لم يكونوا يعرفون في ذلك الوقت، هم وشعراؤهم، كيف يقرءون أو يكتبون.
ولكن يبدو لي غريبا أن نستنتج من ذلك أن الغاليين أو الكلتيين الذين انتصر عليهم فيما بعد قليل من جيوش قيصر، وحشد من البرجونديين، وأخيرا، حشد من السيكاموريين بقيادة أحد الكولديين، كانوا أخضعوا العالم كله من قبل، ومنحوا أسماءهم وقوانينهم لآسيا. ليس الأمر مستحيلا من الناحية الرياضية، وإن تمت «البرهنة» عليه فسأتراجع، فسيكون همجيا أن ننكر على الفولشيين ما يقره المرء للتتار.
الفنون
إن حداثة الفنون لا تثبت بأي منطق حداثة العالم
ظن كل الفلاسفة أن المادة أزلية لكن الفنون تبدو حديثة. ما من فن، حتى فن صنع الخبز، ليس حديثا. أكل الرومان القدامى الثريد، ولم يفكر غزاة الأمم الكثيرة هؤلاء في طواحين الهواء ولا في السواقي. تبدو هذه الحقيقة للوهلة الأولى مناقضة لفكرة قدم العالم كما هو، أو تفترض ثوراث رهيبة في هذا العالم. يصعب على جحافل المتوحشين أن تفني الفنون التي أصبحت ضرورية. افترض أن جيشا من الزنوج يجتاحنا كالجراد من جبال كوبوناس عبر مونوموتابا ومونوميجي ونوسيجوايز وماريكاتس؛ وأنهم اجتازوا الحبشة، والنوبة، ومصر، وسوريا، وآسيا الصغرى وجميع أنحاء أوروبا؛ وأنهم أطاحوا كل شيء، ونهبوا كل شيء؛ ستبقى ثلة من الخبازين، وثلة من صانعي الأحذية، وثلة من الحائكين، وثلة من النجارين. ستبقى الفنون الأساسية، ولن تباد إلا فنون الترف. هذا ما رأيناه حين سقوط الإمبراطورية الرومانية؛ أصبح فن الكتابة نادرا للغاية، وولدت من جديد معظم الفنون التي أسهمت في رفاهية الحياة فقط بعد زمن طويل. نحن نخترع فنونا جديدة كل يوم.
من كل هذا لا يمكن للمرء في النهاية أن يستنتج شيئا يتناقض مع قدم العالم؛ لأننا حتى لو افترضنا أن طوفانا من الهمج جعلنا نخسر جميع الفنون، حتى فنون الكتابة وصنع الخبز، وبافتراض ما هو أبعد من ذلك؛ أنه طوال عشرة أعوام لم يكن عندنا خبز أو أقلام أو حبر وورق؛ فالأرض التي تستطيع أن تبقى عشرة أعوام دون أن تأكل خبزا، ودون أن تدون أفكارها ستتمكن من أن تمضي قرنا، ومائة ألف قرن بلا هذه الوسائل المساعدة.
واضح تماما أن الإنسان وبقية الحيوانات يمكنهم الوجود بلا خبازين، ولا روائيين، ولا حتى لاهوتيين، وتشهد بهذا أمريكا كلها، وتشهد بهذا ثلاثة أرباع قارتنا.
إن حداثة الفنون بيننا لا تثبت بذلك حداثة العالم كما ادعاها إبيقور، أحد أسلافنا، في أحلام يقظته، الذي افترض أن الذرات الأبدية شكلت الأرض بالصدفة في انحدارها. يقول بومبوناتزي: «إن لم يكن العالم أزليا، فإنه، مثلما يرى جميع القديسين، قديم جدا.»
التنجيم
لعل التنجيم يستند إلى أسس أفضل مما يستند إليه السحر؛ لأنه إذا لم يكن أحد يستطيع رؤية الغيلان أو أرواح الموتى أو الحوريات أو الشياطين أو الأرواح الشريرة، فلطالما اعتبر أن تنبؤات المنجمين تنجح. لو استشرنا منجمين اثنين بشأن حياة طفل وبشأن الطقس، وقال أحدهما إن الطفل سيبلغ سن الرجولة، وقال الآخر إنه لن يبلغها، وإذا تنبأ أحدهما بهطول المطر وتنبأ الآخر بطقس جميل، فمن الواضح أن أحدهما سيكون نبيا.
بلية المنجمين الكبيرة هي أن السماء تغيرت منذ أقرت قواعد الفن؛ الشمس التي كانت وقت اعتدالها عند برج الحمل في زمن بحارة الأرجو تقع اليوم عند برج الثور. والمنجمون، لسوء حظهم، يعزون اليوم إلى أحد أبراج الشمس ما ينتمي بوضوح إلى برج آخر، لكن لا يعد ذلك حجة دامغة ضد التنجيم؛ أساطين هذا الفن يخدعون أنفسهم، لكن لم يثبت أن الفن لا يمكن أن يوجد.
ما من سخف في قول إن طفلا ما ولد في فترة محاق القمر، أثناء جو عاصف، عند شروق نجم ما، وأصبحت بنيته ضعيفة، وحياته بائسة قصيرة، وهو النصيب المعتاد لأصحاب البنى الضعيفة؛ أما هذا الصبي، فعلى العكس، ولد والقمر بدر، والشمس قوية، والجو هادئ، مع شروق نجم ما، وصارت بنيته سليمة، وحياته طويلة وسعيدة. لو أن هذه الملحوظات كررت، ولو اتضح أنها دقيقة، فستصبح هذه الخبرة قادرة بعد آلاف الأعوام على تشكيل فن يصعب التشكيك فيه. ربما يفكر المرء وقتها، بشيء من المشابهة، في أن الناس مثل الأشجار والخضراوات التي لا بد أن تزرع وتبذر في مواسم معينة فقط. ولن يكون دليلا ضد المنجمين أن نقول: ولد ابني في وقت محظوظ، ومع ذلك مات في المهد؛ فسيجيب المنجم وقتها: كثيرا ما نصادف أشجارا زرعت في أوانها وهلكت؛ أجبتك بناء على ما تقوله النجوم، ولم آخذ في اعتباري عيوب بيئة التنشئة التي أتحتها لطفلك. لا ينجح التنجيم إلا حينما لا تعترض علة طريق الخير الذي يمكن أن تصنعه النجوم.
وما كان المرء ليحقق نجاحا أكبر في تكذيب المنجم بالقول: من بين طفلي اللذين ولدا في الدقيقة نفسها، أصبح واحد ملكا، والآخر مجرد وكيل كنسي في إبراشيته؛ لأن بإمكان المنجم الدفاع عن نفسه جيدا بتوضيح أن الفلاح اغتنى حينما أصبح وكيلا للكنيسة، كما فعل الأمير حينما أصبح ملكا.
ولو ادعى امرؤ أن قاطع طريق أمر البابا سيكستوس الخامس بشنقه ولد في الوقت نفسه الذي ولد فيه سيكستوس الذي تحول من راعي خنازير إلى البابا، لقال المنجمون إن أحدهما تأخر ثواني قليلة، وإنه مستحيل، طبقا للقواعد، أن يتنبأ النجم نفسه بالتاج الثلاثي وبالمشنقة. إذا، فقط لأن مجموعة من الخبرات كذبت التنبؤات، أدرك الناس في النهاية أن الفن كان مضللا، ولكنهم، قبل تحررهم من الأوهام، ظلوا أمدا طويلا يصدقونها في سذاجة.
تنبأ واحد من أشهر علماء الرياضيات في أوروبا، يسمى ستوفلر - وهو الذي ذاع صيته في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وعمل طويلا في مهمة إصلاح التقويم التي اقترحت في مجمع كونستانس - بفيضان عالمي في عام 1524م، وقال إن هذا الفيضان سيصل في شهر فبراير، وإن الأمر منطقي تماما؛ لأن زحل والمشتري والمريخ كانوا مشتركين في برج الحوت. أصاب الهلع كل شعوب أوروبا وآسيا وأفريقيا الذين سمعوا بالنبوءة، توقع الجميع الفيضان بصرف النظر عن قوس قزح. وسجل كتاب معاصرون عدة أن سكان المقاطعات البحرية في ألمانيا سارعوا ببيع أراضيهم بأسعار بخسة للغاية لمن كان قادرا على الدفع ولم يكن يصدق السخافات مثلهم. تسلح كل فرد بمركب كفلك نوح، وصنع طبيب من تولوز يدعى أورويل سفينة ضخمة لنفسه ولأسرته وأصدقائه، واتخذت احتياطات مماثلة في أجزاء كبيرة من إيطاليا. وأخيرا، حل شهر فبراير ولم تسقط قطرة ماء واحدة. لم يكن شهر قط أكثر جفافا، ولم يكن المنجمون قط أكثر حرجا، ومع ذلك، فما ثبطت همتهم، وما شعروا بإهمال بيننا؛ بل استمر معظم الأمراء في استشارتهم.
ليس لي شرف الإمارة، لكن كلا من كونت بولانفيلييه الشهير ورجلا إيطاليا يدعى كولوني، كان يحظى بمكانة كبيرة في باريس، تنبآ بأني سأموت بلا مراء في عمر الثانية والثلاثين. كنت شريرا إلى حد أني غششتهم حتى الآن فيما يناهز ثلاثين عاما؛ ولهذا ألتمس معذرتهم.
الإلحاد
(1) القسم الأول (1-1) عن المقارنة المتكررة بين الإلحاد والوثنية
يبدو لي أن رأي ريشيوم اليسوعي عن الإلحاد والوثنية في «القاموس الموسوعي» لم يفند بقوة كافية؛ هذا الرأي الذي تبناه من قبل القديس توما، والقديس جريجوريوس النزينزي، والقديس قبريانوس، وترتليانوس؛ هذا الرأي الذي عبر عنه أرنوبيوس بقوة حينما خاطب الوثنيين قائلا: «ألا تستحون أن توبخونا على احتقارنا آلهتكم؟ ألم يكن الأجدر بكم الكفر بأي إله من أن تنسبوا للآلهة أفعالا شائنة؟»
1
هذا الرأي الذي أقره منذ أمد طويل بلوتارخ الذي يقول: «إنه يفضل أن ينفي الناس وجود شخص يدعى بلوتارخ على القول إنه متقلب سريع الغضب حقود.»
2
وهو الرأي الذي دعمته مؤخرا كل أعمال بايل في الجدل.
إليكم أساس النزاع الذي أبرزه بقوة ريشيوم اليسوعي، وأصبح أكثر معقولية مع شرح بايل له:
3
عند باب أحد المنازل يقف بوابان، يسألان: «أيمكن التحدث إلى سيدكما؟» فيجيب أحدهما: «إنه ليس هناك.» ويجيب الآخر: «هو هناك، لكنه منشغل بعمل نقود مزيفة، وعقود مزورة، وخناجر وسموم؛ ليمحق أولئك الذين لم يفعلوا شيئا سوى تحقيق غرضه.» يشبه الملحد البواب الأول، بينما يشبه الوثني الآخر. من الواضح إذا أن الوثني يسيء إلى الإله بأشد مما يفعل الملحد.
أستميح الأب ريشيوم، وحتى بايل، عذرا. ليس هذا الوضع الملائم للأمر على الإطلاق. لكي يشبه البواب الأول الملحدين، يجب ألا يقول: «سيدي ليس هنا.» ولكن يجب أن يقول: «ليس لدي سيد؛ ذاك الذي تدعي أنه سيدي ليس هنا. رفيقي أحمق إذ يخبرك بأنه مشغول بتركيب السموم وشحذ الخناجر ليغتال أولئك الذين نفذوا نزواته؛ لا يوجد كائن كهذا في العالم.»
هكذا فهم ريشيوم الأمر فهما بالغ السوء، ونسي بايل نفسه في أحاديثه المسهبة حتى إنه أعطى لريشيوم شرف تفسير ما قاله بألفاظ مغلوطة.
يبدو أن بلوتارخ يعبر عن نفسه تعبيرا أفضل كثيرا من ذلك في تفضيله الناس الذين ينفون وجوده على أولئك الذين يدعون أن بلوتارخ صعب العشرة. حقا، ماذا يعنيه في أن يقول الناس إنه ليس موجودا في العالم؟ لكن يعنيه كثيرا ألا تلطخ سمعته. الوضع مختلف مع الكائن الأعلى.
لا يتحدث بلوتارخ حتى عن الموضوع الرئيس في المناقشة. ليست المسألة معرفة من الأكثر إساءة إلى الكائن الأعلى؛ من ينكره أم من يشوهه. مستحيل أن نعرف، إلا بالوحي، إن كان الله مستاء من الهراء الذي يقوله البشر عنه.
غالبا ما يسقط الفلاسفة دون ترو في أفكار العامة؛ في افتراض أن الله غيور على مجده، سريع الغضب، يحب الانتقام؛ في تبني صور خيالية بدلا من تبني أفكار حقيقية. الموضوع المهم للعالم كله هو معرفة ما إذا كان من الأفضل لصالح البشرية جمعاء أن نعترف بإله يثيب ويعاقب، يكافئ على الأفعال الصالحة الخفية، ويعاقب على الجرائم السرية، من ألا نعترف بأي من ذلك على الإطلاق.
يجهد بايل نفسه في سرد كل الأعمال الشائنة التي تعزوها الأساطير لآلهة العصور القديمة، ويجيبه خصومه بملاحظات مبتذلة لا تعني شيئا. تقاتل دائما مؤيدو بايل وخصومه دون أن يلتقوا. لقد اتفقوا جميعا على أن جوبيتر كان زانيا، وأن فينوس كانت امرأة لعوبا، وأن ميركوري كان وغدا، لكن رأيي أن ذلك ليس هو ما يستدعي الاهتمام؛ فلا بد أن يميز المرء بين «تحولات» أوفيد وبين ديانة الرومان القدماء. أكيد أنه لم يكن قط لدى الرومان أو حتى اليونانيين معبد مكرس لميركوري الوغد، وفينوس اللعوب، وجوبيتر الزاني.
الإله الذي أطلق عليه الرومان «الإله الأفضل» كان طيبا جدا، وعظيما جدا، ولم يعرف عنه أنه شجع كلوديوس على النوم مع زوجة قيصر، أو قيصر على اللواط مع الملك نيكوميديس.
لا يقول شيشرون إن ميركوري حرض فيريس على سرقة صقلية، على الرغم من أن ميركوري في الأسطورة سرق بقرات أبولو. كانت الديانة الحقيقية للقدماء أن جوبيتر «الطيب جدا والعادل جدا» والآلهة الثانويين عاقبوا شهود الزور في الجحيم. بالمثل، ظل الرومان لوقت طويل هم أكثر المتدينين برا بالأيمان؛ ومن ثم كان الدين مفيدا للغاية للرومان. لم يكن هناك أمر بالإيمان ببيضتي ليدا، وبتحول ابنة إيناخوس إلى بقرة، وبحب أبولو لهياسينثوس.
لذلك، يجب على المرء ألا يقول إن ديانة نوما قد دنست الربوبية. وهكذا نجد أن الناس كانوا يتنازعون على وهم، وكثيرا ما حدث هذا.
السؤال إذا هو: هل يمكن أن توجد أمة من الملحدين؟ يبدو لي أنه يجب على المرء أن يميز بين ما يطلق عليه أمة وبين مجتمع فلاسفة فوق الأمة. صحيح تماما أنه في كل بلد يحتاج العوام لأشد شكيمة، وأنه لو كان لدى بايل فقط خمسمائة فلاح أو ستمائة ليحكمهم، فإنه لم يكن ليعجز عن أن يعلن لهم وجود الله المثيب والمعاقب. لكن بايل لم يكن ليتكلم عنه لأتباع إبيقور الذين كانوا أغنياء جدا، مولعين بالراحة، ويرعون كل الفضائل الاجتماعية، وعلى رأسها الصداقة، هربا من حرج الشئون العامة وخطرها. قصارى القول أنهم كانوا يحيون حياة مريحة وبسيطة. يبدو لي أنه بهذه الطريقة قد حسم الجدال فيما يخص المجتمع والسياسة.
أما الأجناس الهمجية بأسرها، فقد قيل إنه لا يمكن للمرء أن يعدهم بين الملاحدة أو المؤمنين. يشبه سؤالهم عن عقيدتهم سؤالهم عما إن كانوا يؤيدون أرسطو أم ديموقريطس، بينما هم لا يعلمون شيئا عن هذا أو ذاك. هم ليسوا ملحدين بأكثر من كونهم «مشائين».
في هذه الحالة سأجيب بأن الذئاب تعيش هكذا، وأن جماعة من أكلة لحوم البشر المتوحشين - كما تظنهم - ليست مجتمعا. ويجب أن أسألك دائما: حينما تقرض نقودك شخصا في مجتمعك، ألا تريد أن يؤمن مدينك ومحاميك وقاضيك بالله؟ (1-2) عن الملاحدة الجدد؛ أدلة عباد الله
نحن كائنات ذكية؛ والكائنات الذكية لا يمكن أن يخلقها كائن خام، أعمى، غير عاقل. ثمة اختلافات، قطعا، بين أفكار نيوتن وبين روث بغل؛ لذلك فإن ذكاء نيوتن أتى من ذكاء آخر.
حينما نرى آلة جميلة، نقول إن هناك مهندسا جيدا، وإن ذلك المهندس يتمتع بحكم ممتاز. العالم بالتأكيد آلة مثيرة للإعجاب؛ ولذلك يوجد في العالم ذكاء مثير للإعجاب، أينما يكن. هذه الحجة قديمة، ولا بأس في ذلك.
كل الأجسام الحية تتكون من تروس وأذرع، تؤدي وظائفها طبقا لقوانين الميكانيكا؛ ومن سوائل تجعلها قوانين الهيدروستاتيكا تدور على الدوام؛ وحينما يفكر المرء أن كل هذه الكائنات لديها إدراك لا يرتبط بنظامها العضوي، تغمر المرء الدهشة.
تعمل حركة الأجرام السماوية وحركة أرضنا الصغيرة حول الشمس، جميعها، وفقا لأعقد قانون رياضي. كيف حظي أفلاطون الذي لم يكن على دراية بأي من تلك القوانين؛ أفلاطون الفصيح، وإن يكن واهما، الذي قال إن الأرض قائمة على مثلث متساوي الأضلاع، والماء عند مثلث قائم الزاوية؛ أفلاطون الغريب الذي قال إنه لا يمكن أن يكون هناك أكثر من خمسة عوالم؛ لأنه لا يوجد سوى خمسة أجسام منتظمة، أقول كيف حظي أفلاطون الذي لم يكن يعلم حتى حساب المثلثات الكروية مع ذلك بعبقرية راقية بما يكفي، وغريزة محظوظة بما يكفي لأن يدعو الله «المهندس الأبدي» وأن يشعر بوجود ذكاء مبدع؟ يعترف اسبينوزا نفسه بذلك؛ فمن المستحيل أن نتهرب من تلك الحقيقة التي تحيط بنا وتضغط علينا من كل الاتجاهات. (1-3) أدلة الملاحدة
على الرغم مما سبق، عرفت أشخاصا عنيدين يقولون إنه ما من ذكاء مبدع على الإطلاق، وأن تلك الحركة وحدها شكلت بنفسها كل ما نراه وكل ما نحن عليه. يقولون لك بتبجح :
إن توليف ذلك الكون كان ممكنا، بما أننا نرى هذا التوليف موجودا؛ وبناء عليه، كان ممكنا للحركة بمفردها أن ترتب أجزاءه بنفسها. فلنفكر في أربعة من الأجرام السماوية فحسب، المريخ والزهرة وعطارد والأرض؛ لنفكر أولا في أماكنها فقط، ونستبعد ما خلا ذلك، ولنر كم لدينا من الاحتمالات أن الحركة بنفسها وضعت كلا منها في مكانه. لدينا فقط أربعة وعشرون احتمالا مقابل واحد؛ أن تلك الأجرام لن تكون حيثما هي بالنسبة إلى كل منها. لنضف إلى تلك الأجرام الأربعة كوكب المشتري. سيكون لدينا فقط مائة وعشرون احتمالا مقابل واحد؛ أن المشتري والمريخ والزهرة وعطارد وأرضنا لن تكون في أماكنها التي نراها فيها الآن.
أضف زحل في النهاية؛ سيصبح أمامنا فقط سبعمائة وعشرون احتمالا مقابل واحد، لصالح وضع تلك الكواكب الستة الكبيرة في ترتيبها الذي تحتفظ به فيما بينها طبقا للمسافات بينها؛ لذلك يتضح أنه خلال سبعمائة وعشرين احتمالا، استطاعت الحركة بمفردها أن تضع الأجرام الرئيسية الستة في ترتيبها.
أضف بعد ذلك كل الأجرام الثانوية، وكل توليفاتها، وكل حركاتها، وكل الكائنات التي تنبت وتعيش وتشعر وتفكر وتعمل في كل العوالم، ولن يكون عليك إلا أن تزيد من عدد الاحتمالات؛ أن تضاعف هذا العدد إلى الأبد، حتى ذلك العدد الذي ندعوه نتيجة ضعفنا «لا نهاية». ستكون هناك وحدة لصالح تشكيل العالم، كما هو حاليا، بالحركة وحدها؛ لذلك فمن الممكن دوما أن تكون حركة المادة بمفردها أنتجت الكون بأكمله كما هو قائم الآن. لا، بل من الحتمي أن يحدث هذا التوليف بلا انقطاع.» يقولون: «لذا، ليس فقط من الممكن للعالم أن يكون كما هو كائن بالحركة وحدها، ولكن كان من المستحيل ألا يكون هكذا بعد عدد لا نهائي من التوليفات.» (1-4) الرد
يبدو لي هذا الافتراض كله خياليا إلى حد مذهل لسببين؛ أولا: أن في هذا الكون كائنات ذكية، وأنكم لن تعرفوا كيف تثبتون أن الحركة يمكنها بمفردها أن تنتج الفهم. ثانيا: أنه، باعترافكم، يوجد عدد لا نهائي من الاحتمالات في مواجهة احتمال واحد للمراهنة على أن سببا ذكيا مبدعا يحرك الكون. عندما يكون المرء بمفرده في مواجهة اللانهاية، يشعر المرء بالضآلة الشديدة.
نكرر مرة ثانية أن اسبينوزا نفسه اعترف بهذا الذكاء؛ فهو يشكل حجر الأساس لنظريته. لم تقرءوا ذلك على الرغم من وجوب قراءته. لماذا تودون أن تتجاوزوه، وتغرقوا منطقكم الواهن بعنادكم الغبي في لجة لم يجرؤ اسبينوزا أن يهبط إليها؟ أتدركون جيدا الحماقة القصوى في قول إن علة عمياء هي التي ترتب أن نسبة مربع مدار كوكب إلى مربع مدارات الكواكب الأخرى هي نفسها نسبة مكعب مسافته إلى مكعب مسافات الكواكب الأخرى إلى المركز المشترك؟ إما أن الأجرام السماوية ضليعات في علم الهندسة أو أن «المهندس الأبدي» هو من رتب الأجرام السماوية.
لكن أين هو «المهندس الأبدي»؟ أهو في مكان واحد أم في جميع الأماكن، دون أن يشغل حيزا؟ لا أدري البتة. هل من جوهره الخاص أنه رتب كل تلك الأشياء؟ لا أدري البتة. أهو هائل بلا كمية وبلا كيفية؟ لا أدري البتة. كل ما أعرفه هو أن على المرء أن يعبده، وأن يكون عادلا. (1-5) اعتراض جديد من ملحد معاصر
4
هل يمكن للمرء أن يقول إن أعضاء الحيوانات تتوافق مع احتياجاتها؟ ما هي هذه الاحتياجات؟ البقاء والتكاثر. هل هو مدهش إذا أنه من ضمن التوليفات اللانهائية التي أنتجتها الصدفة، ثمة إمكانية فقط لاستمرار تلك الكائنات التي لديها أعضاء تكيفت مع التغذية واستمرار أنواعها؟ ألم تنقرض كل الأنواع الأخرى بالضرورة؟ (1-6) الرد
هذا الاعتراض المكرر بكثرة منذ عصر لوكريتيوس، تدحضه بما يكفي هبة الإحساس لدى الحيوانات، وهبة الذكاء في الإنسان. كيف يمكن للتوليفات «التي أنتجتها الصدفة» أن تنتج هذا الإحساس وهذا الذكاء كما ذكرنا سابقا؟ لا شك أن أطراف الحيوانات مصنوعة لتلبي احتياجاتها بفن لا يمكن استيعابه، ولا تجرؤ على نكرانه. ليس لديك ما يمكن أن تضيفه بشأنه. وتشعر بأنه ليس لديك ما ترد به على تلك الحجة العظيمة التي تسوقها الطبيعة ضدك. يكفي تناسق جناح بعوضة أو أعضاء حلزون لتفنيد حجتك كليا. (1-7) اعتراض موبرتيوس
وسع الفلاسفة الطبيعيون المحدثون من نطاق تلك الجدالات، ودفعوها في كثير من الأحوال إلى التفاهة والفظاظة. لقد وجدوا الله بين ثنايا جلد وحيد القرن؛ ويمكن للمرء بمنطق مساو أن ينكر وجوده بسبب درقة السلحفاة. (1-8) الرد
يا له من منطق! إن السلحفاة ووحيد القرن وكل الأنواع المختلفة تبرهن بالتساوي في تنوعها اللانهائي عن العلة ذاتها، والتصميم ذاته، والهدف ذاته، وهو البقاء والتكاثر والموت.
هناك وحدة في هذا التنوع اللانهائي؛ فالدرقة والجلد يشهدان على ذلك بالتساوي. ماذا؟! تنكر الله لأن الدرقة لا تشبه الجلد؟! أسرف الصحافيون في مدائحهم لأولئك الفلاسفة الحمقى، مدائح لم يمنحوها لنيوتن ولا للوك، وكلاهما عابدان للإله الذي تكلم بالمعرفة الكاملة. (1-9) اعتراض موبرتيوس
ما نفع الجمال والتناسب في تكوين الثعبان؟ يقول بعض الناس إنه ربما يكون لهما استخدامات نجهلها. فلنصمت على الأقل؛ ولنمتنع من الإعجاب بحيوان لا نعرفه إلا بالضرر الذي يفعله. (1-10) الرد
ولتصمت أنت أيضا، بما أنك لا تستطيع أن تدرك جدواه أكثر مما أستطيع؛ أو أن تعترف بأن كل شيء في الزواحف يثير الإعجاب في تناسقه.
بعض الزواحف سام، وأنت أيضا تنفث السم. إنما نسأل هنا عن الفن المذهل الذي شكل الثعابين وذوات الأربع والطيور والأسماك وذوات القدمين. هذا الفن في حد ذاته دليل كاف. تسأل لماذا يؤذي الثعبان؟ ماذا عنك؟ لماذا تسببت بالأذى مرارا؟ لماذا اضطهدت؟ وهذا أعظم جرم يمكن أن يرتكبه فيلسوف. هذا سؤال مختلف، سؤال حول آفة أخلاقية ومادية. كم تساءل المرء طويلا لماذا يوجد كثير من الثعابين وكثير من البشر الأشرار الأسوأ من الثعابين. لو كان للذباب أن يعقل لاشتكى إلى الله من وجود العناكب؛ ولكنه كان سيقر بما أقرت به مينيرفا عن أراكني، في الأسطورة، أنها تنسج شبكتها ببراعة مذهلة.
على المرء إذا أن يعترف بهذا الذكاء الذي لا يوصف الذي أقر به اسبينوزا نفسه. وعلى المرء أن يوافق على أن هذا الذكاء يبرق في أكثر الحشرات تفاهة كما في النجوم. أما ما يتعلق بالآفات الأخلاقية والعيوب الجسدية فماذا يستطيع المرء أن يقول؟ ماذا يستطيع أن يفعل؟ فليعز نفسه بأنه يستمتع بالخير الأخلاقي والجسدي في عبادة الكائن الأبدي الذي خلق واحدا وسمح بالآخر.
كلمة أخرى عن هذا الموضوع: إن الإلحاد رذيلة يقترفها قلة من الأذكياء، والخرافة رذيلة الحمقى. ولكن المدلسين! ماذا يكونون؟ مدلسين. (2) القسم الثاني
لنتكلم عن المسألة الأخلاقية التي أثارها بايل، لنعرف «هل يمكن أن يوجد مجتمع من الملاحدة؟» فلنحدد قبل أي شيء في هذا الشأن ما هو التناقض الكبير الذي يبديه المشاركون في هذا الجدال. أولئك الذين عارضوا رأي بايل بحماسة عظيمة، أولئك الذين أنكروا بأبشع الإهانات إمكانية وجود مجتمع من الملاحدة، زعموا بالجرأة نفسها أن الإلحاد هو دين الحكومة في الصين.
هم قطعا مخطئون تماما بشأن الحكومة الصينية؛ كان عليهم أن يقرءوا مراسيم أباطرة تلك البلاد الشاسعة ليروا بأعينهم أن هذه المراسيم هي بحد ذاتها عظات، وأنه في كل موضع ثمة ذكر للكائن الأعلى، المهيمن المنتقم المثيب.
ولكنهم في الوقت نفسه، ليسوا أقل خطأ بشأن استحالة وجود مجتمع من الملاحدة. ولا أدري كيف يمكن أن ينسى السيد بايل مثالا صارخا كان قادرا أن يحقق النصر لقضيته.
ما الذي يجعل مجتمعا من ملاحدة يبدو مستحيلا؟ هذا لأن المرء يحكم بأن الناس الذين ليست لديهم مرجعية لا يمكنهم العيش معا أبدا؛ أن القوانين لا تجدي في مواجهة الجرائم السرية؛ أن وجود الله المنتقم الذي يعاقب - في هذا العالم أو في العالم الآخر - الأشرار الذين هربوا من العدالة البشرية، ضروري.
صحيح أن شرائع موسي لم تبشر بحياة أخرى، ولم تهدد بعقوبات بعد الموت، ولم تعلم اليهود الأوائل عن خلود الروح، ولكن اليهود، وهم أبعد ما يكون عن تسميتهم بالملاحدة، وأبعد ما يكون عن الإيمان بتجنب الجزاء الإلهي، كانوا أكثر الناس تدينا. لم يؤمنوا بوجود الله الأبدي فقط، ولكنهم اعتقدوا أنه حاضر دائما بينهم، وكانوا يرتجفون خشية أن يعاقبوا في أنفسهم أو زوجاتهم أو أطفالهم أو في ذريتهم القادمة حتى الجيل الرابع. كان هذا وازعا فعالا للغاية.
أما غير اليهود فظهرت بينهم طوائف كثيرة بلا وازع: شك الشكوكيون في كل شيء، وعلق الأكاديميون الحكم على كل شيء، وكان الإبيقوريون مقتنعين بأن الإله لا يمكن أن يقحم نفسه في شئون البشر، وفي الحصيلة لم يقروا بأي إله. كانوا مقتنعين بأن الروح ليست جوهرا، ولكنها ملكة ولدت، وتضمحل مع الجسد؛ ومن ثم لم يكن من نير يثقلهم إلا الأخلاق والشرف. كان أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان الرومان ملاحدة حقيقيين؛ لأن الآلهة لم تكن توجد عند رجال لم يخافوها ولم يرجوا منها شيئا. هكذا كان مجلس الشيوخ الروماني في زمن قيصر وشيشرون - حقا - جماعة من الملاحدة.
يقول الخطيب العظيم، في خطبته من أجل كلوينشوس، لمجلس الشيوخ المنعقد بأكمله: «ما الضرر الذي يسببه له الموت؟ نحن نرفض كل الخرافات الموروثة من الأراضي الخفيضة، من أي شيء يحرمه الموت حينئذ؟ لا شيء سوى الوعي بالألم.»
ألم يعترض قيصر، صديق كاتالينا، متمنيا إنقاذ حياة صديقه، في مواجهة شيشرون هذا نفسه، محتجا بأن إماتة المجرم لا تعني معاقبته على الإطلاق؛ لأن الموت «لا يعني شيئا»، ولكنه مجرد نهاية لكل أوجاعنا، وهو لحظة سعيدة أكثر منها مأساوية؟ أولم يستسلم شيشرون ومجلس الشيوخ جميعا لتلك الحجج؟ لقد شكل غزاة الكون المعروف ومشرعوه مجتمعا من الناس الذين لم يخشوا شيئا من الآلهة، وكانوا ملاحدة حقيقيين.
علاوة على ذلك، يبحث بايل ما إن كانت الوثنية أخطر من الإلحاد، وما إن كان انعدام الإيمان بالإله جريمة أكبر من اعتناق آراء تافهة عنه. ويتبنى في ذلك رأي بلوتارخ؛ فيعتقد أن الافتقار لرأي أفضل من تبني رأي سيئ. لكن، مع كل الإجلال لبلوتارخ، كان من الأفضل كثيرا لليونانيين بوضوح أن يخشوا سيريس ونبتون وجوبيتر من ألا يخشوا أحدا على الإطلاق. قداسة الأيمان ضرورية للغاية، وينبغي أن يثق المرء بأولئك الذين يؤمنون بأن من يحنث في قسمه يعاقب أكثر مما يثق بأولئك الذين يظنون أن بإمكانهم أن يحنثوا في أيمانهم بلا عقوبة. لا شك أن وجود دين في مدينة متحضرة، وإن يكن دينا سيئا، أفضل كثيرا من الافتقار لأي دين على الإطلاق.
لذلك يبدو أن بايل كان ينبغي عليه أن يدرس، بدلا من ذلك، أيهما أخطر: التعصب أم الإلحاد؟ إن التعصب أخطر ألف مرة؛ لأن الإلحاد لا يثير الشغف الدموي، بينما يثيره التعصب. لا يتعارض الإلحاد والجريمة، لكن التعصب يؤدي إلى ارتكاب الجرائم؛ فالمتعصبون هم من ارتكبوا مذابح يوم سان بارثولوميو. عاش هوبز، الذي قضى حياته ملحدا، حياة هادئة وادعة. أما متعصبو عصره فأغرقوا إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا في الدم. لم يكن اسبينوزا ملحدا فقط، لكنه كان يعلم الإلحاد. لم يكن هو بالتأكيد من أسهم في الحكم القضائي بإعدام بارنيفلدت، ولم يكن هو من مزق الإخوة دي ويت إربا وأكلهم مشويين.
الملاحدة، في المقام الأول، باحثون وقحون ومضللون وفاسدو الفكر، وبما أنهم غير قادرين على فهم الخلق، وأصل الشر، وغيرها من الإشكاليات، فهم يلجئون إلى فرضية أبدية الأشياء وفرضية الحتمية.
لا يملك الطموحون والحسيون الوقت لإعمال العقل، أو لاعتناق نظرية سيئة؛ فلديهم أشياء أخرى ليفعلوها غير مقارنة لوكريتيوس بسقراط. هكذا تسير الأمور بيننا.
لم تكن الأمور تسير هكذا مع مجلس الشيوخ الروماني الذي كان يتألف بالكامل تقريبا من ملاحدة نظريا وعمليا، بمعنى أنهم لم يؤمنوا بالعناية الإلهية ولا بالحياة الآخرة. كان هذا المجلس يتألف من مجموعة من الفلاسفة، والرجال الحسيين، والطموحين، شديدي الخطورة الذين دمروا الجمهورية. كانت الإبيقورية موجودة تحت حكم الأباطرة؛ فقد كان ملحدو مجلس الشيوخ متمردين في عصر سيلا وقيصر، بينما كانوا عبيدا ملاحدة إبان حكم أوغسطوس وتيبيريوس.
لا أتمنى أن أضطر إلى التعامل مع أمير ملحد، يجد من مصلحته أن يسحقني بمدفع؛ سأكون متأكدا تماما من السحق. ولو كنت سيدا فلن أرغب في الاضطرار إلى التعامل مع حاشية ملاحدة مصلحتهم في قتلي بالسم؛ سيكون علي أن أتناول ترياقا كل يوم. ضروري إذا للأمراء والشعوب أن تكون فكرة الكائن الأعلى، الخالق المهيمن المثيب المنتقم، محفورة بعمق في عقول الناس.
يقول بايل في كتابه «أفكار عن المذنبات» إن ثمة شعوبا ملحدة؛ الكفرة، والهوتنتوت، والتوبينامبو، وكثير من الأمم الصغيرة الأخرى ليس لديها إله. وهم لا ينكرونه ولا يؤكدونه، ولم يسمعوا بذكره. أخبرهم بأن هناك إلها، وسيؤمنون به بسهولة. أخبرهم بأن كل شيء يحدث من خلال طبيعة الأشياء، سيصدقونك بالقدر نفسه. يعني ادعاؤك أنهم ملاحدة أنك تنسب إليهم شيئا كما لو قال المرء إنهم مناهضون لديكارت، وهم لا يؤيدون ديكارت ولا ينكرونه. إنهم أطفال حقيقيون، والطفل ليس ملحدا ولا متدينا، هو لا شيء.
ما الخلاصة التي نستنتجها من كل هذا؟ أن الإلحاد وحش فتاك عند من يحكمون، وأنه فتاك أيضا عند الأشخاص الذين يحيطون برجال الدولة، على الرغم من أن حيواتهم قد تكون بريئة؛ لأنه ربما يبدو صحيحا لرجال الدولة وهم في مكاتبهم أنه إن كان غير قاتل بقدر التعصب، فإنه غالبا ما يكون قاتلا للفضيلة. دعنا نضف على وجه الخصوص أن لدينا اليوم ملاحدة أقل مما كان في أي وقت مضى، منذ أن أدرك الفلاسفة أنه ما من نبتة بلا بذرة ولا بذرة بلا خطة ... إلخ، وأن القمح لا يمكن أبدا أن ينتج من العفن.
لقد رفض بعض علماء الهندسة غير الفلاسفة العلل الغائية، ولكن الفلاسفة الحقيقيين اعترفوا بها. يعلن معلم المسيحية عن الله للأطفال، ويبرهن عنه نيوتن للمتعلمين.
إذا كان هناك ملحدون فمن الملومون إن لم يكونوا طغاة الأرواح المأجورين الذين، بجعلهم إيانا نثور ضد حيلهم، أجبروا قلة من العقول الضعيفة على أن تنكر الله الذي لا يبجله هؤلاء الوحوش. كم أوصل مستنزفو البشر هؤلاء المواطنين المقهورين إلى نقطة الثورة ضد ملكهم!
أولئك الذين تغذوا على أجسامنا يصيحون لنا: «عليكم أن تقتنعوا بأن أتانا تكلمت؛ صدقوا أن سمكة بلعت رجلا وأبقت عليه بداخلها، وبنهاية ثلاثة أيام لفظته على الشاطئ آمنا معافى؛ لا تشكوا أبدا أن إله هذا الكون قد أمر نبيا يهوديا أن يأكل الغائط (حزقيال)، ونبيا آخر أن يشتري عاهرتين لينجب منهما أبناء زنا (هوشع). هذه هي حقا الكلمات التي نطق بها إله الحق والطهر. ولتؤمن بمائة شيء آخر، سواء أكان مقيتا بصريا أم مستحيلا رياضيا. إن لم تفعل فسيحرقك إله الرحمة، ليس فقط عبر ملايين آلاف الملايين من القرون في نار جهنم، ولكن عبر الأبدية كلها، سواء أكان لك جسد أم لم يكن.»
هذه السخافات غير المقنعة تثير اشمئزاز العقول الضعيفة والطائشة، وكذلك العقول الحكيمة والحازمة. يقولون: «يصور معلمونا الله لنا على أنه الأكثر وحشية وهمجية من بين كل الكائنات، ولذلك فما من إله.» لكن عليهم أن يقولوا: «ولذلك فإن معلمينا ينسبون إلى الله سخافاتهم وسوراتهم، ولذلك فالله هو عكس مما يدعون، فالله حكيم وخير بقدر ما يصورونه مجنونا وشريرا.» هكذا يفسر الحكماء الأمور. لكن إذا سمعهم أحد المتعصبين، فسيتهمهم أمام قاض هو بدوره كلب حراسة للكهنة، وسيحرقهم كلب الحراسة هذا على نار هادئة، معتقدا أنه ينتصر للجلال الإلهي ويحاكيه، وهو ينتهك حقه.
هوامش
السلطة
أيها البشر البائسون، سواء أرتديتم أردية خضراء، أم عمائم، أم أردية سوداء، أم أردية كهنوتية، أم عباءات وأشرطة حول الرقبة، لا تسعوا أبدا إلى استغلال السلطة حيثما تكون هناك مسألة للعقل وحده، أو ترضوا بأن تكونوا محل ازدراء عبر كل القرون كأكثر الناس صلفا، وأن تعانوا كراهية الجماهير مثل أكثر الناس ظلما.
حدثكم المرء مئات المرات عن السخافة المتغطرسة التي أدنتم بها جاليليو، وأحدثكم للمرة الحادية بعد المائة، وأتمنى أن تحافظوا على ذكراها السنوية إلى الأبد. أتمنى أن يكتب على ضريحكم المقدس:
هنا يرقد سبعة كرادلة يساعدهم بعض من الإخوة الأدنى رتبة، ألقوا بأستاذ الفكر في إيطاليا في غياهب السجن وهو في السبعين من عمره، وجعلوه يصوم على الخبز والماء لأنه علم الجنس البشري، ولأنهم كانوا جهلة.
وهناك صدر حكم لصالح تصنيفات أرسطو، وهناك صدر القرار، على علم وعدل، بفرض عقوبة التجديف على كل من كانت لديه الجرأة الكافية لتبني رأي يخالف رأي المجمع الكنسي، الذي أحرق كتبه مجلسان فيما سبق.
الأدهى من ذلك أنه في كلية لم تكن توجد بها ملكات عظيمة، صدر مرسوم ضد الأفكار الفطرية، ثم مرسوم لصالح الأفكار الفطرية، دون أن يقول لهذه الكلية شمامستها شيئا عما تكونه الفكرة.
اتخذت في المدارس المجاورة إجراءات قانونية ضد الدورة الدموية.
اتخذ إجراء ضد التطعيم، واستدعيت مجموعات للمثول أمام المحكمة.
احتجز في سلطة الرقابة على الفكر واحد وعشرون مجلدا من الحجم الكبير، كتب فيها بغدر وشر أن المثلث دائما ما تكون له ثلاث زوايا؛ وأن الأب أكبر من الابن؛ وأن ريا سيلفيا فقدت عذريتها قبل أن تنجب طفلها؛ وأن الطحين ليس ورقة سنديان.
في عام آخر صدر الحكم التالي: «يمكن لكائن خرافي يطن في الفضاء أن يلتهم أفكارنا المجردة.» ثم أقر على سبيل الجزم.
والنتيجة أن الجميع ظنوا أنفسهم أرفع مقاما من أرشميدس، وإقليدس، وشيشرون، وبليني، ومشوا بخيلاء في أرجاء الجامعة.
المؤلفون
كلمة مؤلف اسم جنس يمكن - مثله مثل أسماء بقية المهن - أن يدل على الخير أو الشر، الجدير بالاحترام أو بالسخرية، النافع والمقبول أو النفاية التي تلقى في سلة المهملات. ***
نعتقد أن مؤلف العمل الجيد يجب أن يحجم عن ثلاثة أشياء: عن ذكر اسمه - إلا بتواضع جم - وعن رسالة الإهداء، وعن المقدمة. أما الآخرون فيجب أن يحجموا عن شيء رابع، هو الكتابة. ***
المقدمات حجر عثرة آخر. «الأنا» كما يقول باسكال «كريهة». تحدث عن نفسك بأقل ما تستطيع؛ لأنك لا بد أن تعرف جيدا أن تقدير القارئ لنفسه عظيم بقدر تقديرك لنفسك. لن يغفر لك أبدا أن تجبره على أن يحمل رأيا جيدا عنك. كتابك هو الذي يتحدث عنك إذا قرأه الجمهور. ***
إن أردت أن تكون مؤلفا، وإن أردت أن تكتب كتابا، فكر مليا في أنه لا بد أن يكون مفيدا وجديدا، أو على الأقل مقبولا للغاية. ***
إذا تجرأ جاهل أو مؤلف قليل القدر على الانتقاد بلا تمييز، فيمكنك أن تبهته، لكن لا تشر إليه إلا نادرا خشية أن تلطخ كتاباتك. ***
إذا هوجمت بشأن أسلوبك فلا ترد البتة؛ عملك وحده هو ما يشكل الرد. ***
لو قال أحدهم إنك مريض، فكن مقتنعا بأنك معافى، من دون أن ترغب في أن تثبت للجمهور أنك بصحة جيدة. وفي المقام الأول ، تذكر أن الجمهور لا يبالي كثيرا أكنت مريضا أم معافى. ***
يصنع مائة كاتب مؤلفات لأكل الخبز، بينما يغتني عشرون مؤلفا قليل القدر من تلك المؤلفات، أو من تبريرها، أو من نقدها أو السخرية منها، بدافع أكل الخبز أيضا؛ لأنهم لا يملكون مهنة أخرى. كل هؤلاء الأشخاص يذهبون يوم الجمعة إلى ضابط شرطة باريس ليطلبوا تصريحا ببيع نفاياتهم. لديهم جمهور يلي جمهور البغايا مباشرة، لا ينظرون إليهم لأنهم يعرفون أن هذه تعاملات سرية.
1 ***
المؤلفون الحقيقيون هم من نجحوا في أحد الفنون الحقيقية، في الشعر الملحمي، أو في المأساة أو الملهاة، أو في التاريخ أو الفلسفة، هم الذين علموا البشر أو فتنوهم. أما الآخرون الذين تحدثنا عنهم فهم بين الأدباء كالدبابير بين الطيور.
هوامش
النفي
النفي لفترة أو طول العمر، العقاب لمن يدينهم المرء بالجنوح، أو من يرغب المرء في أن يبدوا هكذا.
منذ فترة ليست بالطويلة، كان المرء ينفي خارج مجال الاختصاص القضائي لصا تافها أو مزورا بسيطا؛ إنسانا مذنبا بأحد أعمال العنف. كانت النتيجة أنه يصير هجاما كبيرا، أو مزورا على نطاق أوسع، أو قاتلا داخل مجال اختصاص قضائي آخر. كأننا ألقينا في حقول جيراننا بالأحجار التي تزعجنا في حقولنا.
أولئك الذين كتبوا عن حقوق الإنسان تعذبوا كثيرا ليعرفوا على وجه اليقين إن كان إنسان نفي من أرضه ما زال ينتمي إلى وطنه أم لا. يماثل ذلك سؤال مقامر أبعد عن طاولة اللعب عما إن كان لا يزال واحدا من المقامرين.
إن كان مسموحا لكل إنسان بموجب الحق الطبيعي أن يختار وطنه، فإن من يفقد حق المواطن يمكنه، من باب أولى، أن يختار لنفسه وطنا جديدا، ولكن هل يستطيع أن يحمل السلاح ضد بني وطنه السابقين؟ هناك آلاف الأمثلة لذلك. كم من البروتستانت الفرنسيين الذين استوطنوا هولندا وإنجلترا وألمانيا خدموا في الجيش ضد فرنسا وضد جيوش بها أقارب وإخوة لهم! شن اليونانيون الذين كانوا في جيوش ملك فارس الحرب ضد اليونانيين من مواطنيهم السابقين. شوهد سويسريون يخدمون في الجيش الهولندي ، ويطلقون النار على سويسريين يخدمون في الجيش الفرنسي. يبقى هذا أسوأ من أن تحارب ضد أولئك الذين نفوك؛ لأنه يبدو في نهاية الأمر أن سل السيف من أجل الانتقام أقل فسادا من سله من أجل المال.
الإفلاس
عرفت حالات إفلاس قليلة في فرنسا قبل القرن السادس عشر. السبب الأكبر هو أنه لم يكن هناك مصرفيون. كان اللومبارديون اليهود يقرضون بفائدة نسبتها عشرة بالمائة؛ وكانت التجارة تدار بالنقود. أما الصرافة والحوالات المالية إلى البلاد الأجنبية فكانت سرا مجهولا لكل القضاة.
لا يعني ذلك أنه لم يفلس أناس كثيرون، لكن لم يكن ذلك يسمى «إفلاسا»، كان المرء يقول: «حرج»؛ فتلك الكلمة ألطف وقعا على الأذن. استخدم المرء كلمة «قطع» كما فعل البولونيون، ولكن كلمة «قطع» ليس لها وقع حسن.
جاءتنا الإفلاسات من إيطاليا، «بانكوروتو»، «بانكاروتا»، «جامباروتا إي لا جيوستيتسيا نون إمبيكار» (لا يجتمع الإفلاس والعدالة). كان لكل تاجر مقعده (بانكو) في مكان التبادل، وحينما كانت أعماله تسوء يعلن أنه «فاليتو» أي أفلس، ويتخلى عن أملاكه لدائنيه بشرط أن يستبقي جزءا كبيرا منها لنفسه، ويكون حرا طيب السمعة. لم يكن هناك ما يقال له، فمقعده انكسر «بانكو روتو» أو «بانكا روتا»، لا، بل كان يمكنه في مدن معينة أن يحتفظ بملكيته كاملة، ويصد دائنيه، بشرط أن يجلس عاري المؤخرة على حجر في حضور كل التجار. كان ذلك اشتقاقا ملطفا للمثل الروماني القديم الذي يعني «الدفع نقدا أو بالمؤخرة». لكن تلك العادة لم تعد قائمة؛ إذ فضل الدائنون أموالهم على مؤخرات المفلسين.
في إنجلترا وبعض البلاد الأخرى يعلن المرء إفلاسه في الصحف الرسمية. يجتمع الشركاء والدائنون معا بمقتضى ذلك الإعلان الذي يقرأ في المقاهي، ويتوصلون إلى أفضل ترتيب ممكن.
ولما كانت تظهر وسط الإفلاسات حالات احتيال مرارا، كان ضروريا فرض عقاب عليها. وإذا رفعت إلى المحكمة تعتبر في كل مكان بمنزلة السرقة، ويحكم على المذنبين بعقوبات مخزية.
ليس حقيقيا أن عقوبة الموت في فرنسا سنت ضد المفلسين بلا تمييز. لم تتضمن الإفلاسات البسيطة أي عقوبة؛ أما المفلسون المحتالون فقد عانوا عقوبة الموت في دويلات أورليون تحت حكم شارل التاسع، وفي دويلات بلوا في عام 1576م، لكن تلك المراسيم التي جددها هنري الرابع كانت محض تهديدية.
يتعذر إثبات أن رجلا ما لوث سمعته عمدا، وتخلى عن كل بضائعه لدائنيه طوعا كي يغشهم. حينما كان يتبادر شك حيال الأمر كان المرء يكتفي بأن يضع ذلك الرجل تعيس الحظ تحت المشهرة، أو يرسل للتجديف في السفن، على الرغم من أنه عادة ما يكون لدى المصرفي حكم ضعيف بالإدانة.
كان المفلسون يعاملون بطريقة لائقة للغاية في الأعوام الأخيرة من حكم لويس الرابع عشر، وأعوام الوصاية على العرش. الحالة المؤسفة التي انحدرت إليها الشئون الداخلية للمملكة، وكثرة التجار الذين لم يستطيعوا أو يريدوا الدفع، وكمية المتعلقات التي لم تبع أو لم يكن ممكنا بيعها، والخوف من كساد التجارة كافة؛ كل ذلك أجبر الحكومة في أعوام 1715م و1716م و1718م و1721م و1722م و1726م على تعليق كل الإجراءات ضد كل من كانوا في حالة إفلاس. أحيلت كل المناقشات حول تلك الإجراءات على هيئة الاستشاريين القضاة، وهي هيئة قضائية من التجار ذات خبرة كبيرة بهذه القضايا، وأفضل تشكيلا للخوض في هذه التفاصيل التجارية من البرلمانات التي كانت مشغولة بقوانين المملكة أكثر من انشغالها بالأمور المالية. ولما كانت الدولة في ذلك الوقت توشك على الإفلاس، كان يتعذر عقاب مفلسي فقراء الطبقة المتوسطة.
منذ ذلك الوقت أصبح لدينا رجال بارزون، مفلسون محتالون، لكنهم لم ينالوا عقابهم.
الجمال
سل ضفدعا: ما الجمال «مثال الجمال؟» سيجيبك أن الجمال هو زوجته الضفدعة صاحبة العينين المستديرتين الجاحظتين من رأسها الصغير، وفم واسع منبسط، وبطن صفراء، وظهر بني اللون. سل زنجيا غينيا، الجمال من وجهة نظره هو جلد أسود زيتي، وعينان عميقتان، وأنف مفلطح. اسأل الشيطان، سيخبرك بأن الجمال زوج من القرون، وأربعة مخالب وذيل. استشر الفلاسفة في النهاية، سيجيبونك بكلام مبهم؛ فلا بد من أن يتوفر لديهم شيء يتسق مع الجمال المطلق في الجوهر، مع «مثال الجمال».
ذات يوم ، حضرت مسرحية تراجيدية بالقرب من فيلسوف. سمعته يقول: «يا لجمالها!» فسألته : «ما الجمال الذي وجدته فيها؟» فأجاب: «إنها جميلة لأن المؤلف حقق هدفه.»
في اليوم التالي، تناول دواء جعله في حال جيدة. فقلت له: «حقق الدواء هدفه. يا له من دواء جميل!» ففهم جيدا أنه لا يمكن للمرء أن يقول إن الدواء جميل، وأنه حينما نخلع صفة «الجمال» على شيء، فلا بد أن يثير الشيء فيك الإعجاب به ويسعدك. وافق على أن المسرحية التراجيدية أثارت بداخله تلك المشاعر، وأنها لذا كانت «مثال الجمال».
أبحرنا إلى إنجلترا؛ ومثلت المسرحية ذاتها هناك بعد ترجمتها ترجمة متقنة؛ جعلت كل الجمهور يتثاءب! فقال لي: «عجبا! يبدو أن «مثال الجمال» عند الإنجليز ليس نفسه عند الفرنسيين.» بعد تفكير عميق، توصل إلى استنتاج أن الجمال غالبا ما يكون نسبيا، فما يبدو أنه لائق في اليابان غير لائق في روما، وما يساير الموضة في باريس لا يساير الموضة في بكين، وقد أنقذ نفسه بذلك من متاعب تأليف دراسة طويلة عن الجمال.
هناك أفعال يراها العالم كله جميلة. أرسل اثنان من ضباط قيصر متعاديان بشدة، كل منهما إلى الآخر تحديا، ليس من سيسفك دم الآخر، بل من سيدافع دفاعا حسنا عن المعسكر الروماني الذي يوشك الهمج على مهاجمته. يوشك أحدهما، بعد أن صد العدو، على الموت؛ فيهرع الآخر لمساعدته، وينقذ حياته، ويكمل النصر.
صديق يضحي بحياته من أجل صديقه؛ ابن من أجل أبيه ... الألجوني ... الفرنسي ... الصيني، سيقولون جميعا إن هذا «جميل» للغاية؛ فهذه الأفعال تمنحهم السرور ويعجبون بها.
سيرونها أشبه بحكمة زرادشت الأخلاقية العظيمة: «إذا شككت في كون الفعل عادلا فأحجم.» ولكونفشيوس: «انس الجراح، ولا تنس أبدا العطف.»
الزنجي مستدير العينين أفطس الأنف الذي لن يصف بكلمة «الجمال» سيدات قصورنا، سيصف بهذه الكلمة بلا تردد هذه الفعال وهذه الحكم. حتى الرجل الشرير سيتعرف على جمال تلك الفضائل التي لا يجرؤ على أن يحاكيها. ولذا، فالجمال الذي يخترق الحواس والخيال، وما يطلق عليه «الذكاء» غالبا ما يكون ملتبسا. ليس ذلك هو الجمال الذي يحدث القلب. ستجد كثيرا ممن يخبرونك بأنهم لم يجدوا شيئا جميلا في ثلاثة أرباع الإلياذة؛ لكن لن ينكر أحد أن إخلاص كورديوس لقومه كان جميلا للغاية، بافتراض أن ذلك حقيقي.
هناك أسباب أخرى كثيرة تجعلني أقرر ألا أكتب دراسة عن الجمال.
الأسقف
كان صمويل أورنيك ابن بلدة بازل، كما تعرفون، شابا لطيفا جدا، كما كان يحفظ العهد الجديد عن ظهر قلب باليونانية والألمانية. حينما بلغ من العمر عشرين عاما أرسله والداه في رحلة؛ كلفاه بنقل بعض الكتب إلى مساعد الأسقف بباريس في عهد فروند. وصل إلى محل إقامة رئيس الأساقفة؛ فأخبره السويسري أن السيد لا يقابل أحدا. قال أورنيك له: «أيها الرفيق ... أنت شديد الوقاحة مع مواطنيك. لقد سمح الرسل للجميع بالاقتراب منهم، ورغب يسوع المسيح في أن يدع الناس كل الأطفال الصغار يأتون إليه. ليس لدي ما أطلبه من سيدك، على العكس، جلبت له شيئا.»
قال له السويسري: «فادخل إذا.»
ينتظر ساعة في حجرة الانتظار، ولأنه كان بسيطا للغاية بدأ في التحدث مع خادم كان مغرما بإخباره بكل شيء يعرفه عن سيده. قال أورنيك: «لا بد أنه فاحش الثراء حتى يكون لديه كل هؤلاء الغلمان والخدم الذين أراهم يركضون في أنحاء المنزل.»
أجاب الآخر: «لا أعلم كم يبلغ دخله؛ لكني سمعت أنه قيل لجولي وآبي شاريير إنه مدين بمليونين.» «لكن من تلك السيدة التي تخرج من الغرفة؟» «إنها مدام دي بومرو، إحدى خليلاته.» «إنها جميلة للغاية حقا؛ لكني لم أسمع أنه كان للرسل هذه الرفقة في غرف النوم في أوقات الصباح. آه! أعتقد أن رئيس الأساقفة سيستقبلني.» «قل: «قداسته».» «عن طيب خاطر.» يحيي أورنيك قداسته، ويقدم كتبه، ويستقبل بابتسامة لطيفة جدا. يقول له رئيس الأساقفة أربع كلمات، ثم يركب مركبته تحت حراسة خمسين فارسا. أثناء ركوبه، يترك السيد أحد الأغمدة تسقط. يندهش أورنيك تماما من أن السيد يحمل دواة حبر كبيرة هكذا في جيبه. فيقول المهذار: «ألا ترى أن ذلك خنجره؟ كل شخص يحمل خنجرا حينما يذهب إلى البرلمان.»
يقول أورنيك: «هذه طريقة لطيفة في تصريف الأمور.» وينصرف مندهشا للغاية.
يجتاز فرنسا مثقفا نفسه من مدينة لأخرى؛ ثم يعبر إلى إيطاليا. حينما يصل إلى أرض البابا، يلتقي أحد أولئك الأساقفة الذين يصل دخلهم إلى ألف كراون، سائرا على قدميه. كان أورنيك مهذبا للغاية، فعرض عليه مكانا في المركبة. «أنت في طريقك قطعا لزيارة مريض، أليس كذلك سيدي؟» «سيدي، أنا في طريقي إلى مقر معلمي.» «معلمك؟ إنه، بلا شك، يسوع المسيح. أليس كذلك؟» «إنه الكاردينال أزولين يا سيدي. أنا وكيل صدقاته. يدفع لي قليلا جدا، لكنه وعدني بأن يضعني في خدمة دونا أوليمبيا امرأة أخيه المفضلة.» «ماذا! أنت تعمل لدى كاردينال؟ ألا تعلم أنه لم يكن ثمة كرادلة في زمن يسوع المسيح والقديس يوحنا؟»
صاح الأسقف الإيطالي: «أهذا ممكن؟» «لا شيء حقيقي أكثر من ذلك. لابد وأنك قرأت ذلك في الإنجيل.»
أجاب الأسقف: «لم أقرأه مطلقا. كل ما أعرفه هو ورد سيدتنا.» «أخبرك أنه لم يكن هناك كرادلة ولا أساقفة، وحينما كان هناك أساقفة، كان الكهنة متساوين معهم تقريبا طبقا لتأكيدات القديس جيروم في مواضع عدة.»
قال الإيطالي: «أيتها العذراء المقدسة! لا أعلم شيئا عن ذلك؛ وماذا عن الباباوات؟» «لم يكن هناك أي باباوات مثلما لم يكن هناك كرادلة.»
رشم الأسقف الطيب علامة الصليب؛ ظن أن معه روحا شريرة، وقفز من المركبة.
الكتب
تحتقرها، الكتب، أنت يا من غمرت طوال حياتك في غرور الطموح وفي البحث عن اللذة، أو في البطالة، لكن فكر في أن العالم المعروف بأكمله، باستثناء الأجناس الهمجية، تحكمه الكتب وحدها. إن أفريقيا بالكامل - يصدق ذلك على إثيوبيا ونيجيريا - تخضع لكتاب القرآن بعد أن كانت تنوء بكتاب الإنجيل. أما الصين فيحكمها كتاب كونفوشيوس الأخلاقي، وجزء كبير من الهند يحكمه كتاب الفيدا، وحكمت بلاد فارس لقرون طويلة بكتب أحد الزرادشتيين.
إن كانت لديك قضية في محكمة فإن بضائعك وشرفك وحياتك بأكملها تعتمد على تفسير كتاب لم تقرأه أبدا. «روبرت الشيطان»، و«أبناء إيمون الأربعة »، و«خيالات السيد أوفل» هي أيضا كتب؛ لكن الأمر مع الكتب مثله مع البشر تماما؛ قلة قليلة تلعب دورا كبيرا، أما البقية فتضيع وسط الزحام.
من يقود البشر في البلاد المتحضرة؟ من يعرفون القراءة والكتابة. أنت لا تعلم عن أبقراط ولا بورهافا ولا سيدنهام، لكنك تضع جسدك في أيدي أولئك الذين قرءوا لهم. تسلم روحك لأولئك الذين يدفع لهم ليقرءوا الكتاب المقدس، مع أنه لا يوجد بينهم خمسون شخصا قرءوه بمجموعه بعناية.
إلى ذلك الحد تحكم الكتب العالم، حتى إن الذين يصدرون الأوامر اليوم في مدينتي سكوبيوس وكاتوس رغبوا في أن تكون كتب قوانينهم لهم بمفردهم؛ إنه صولجانهم. جعلوها جريمة عظمى أن ينظر رعاياهم إلى الكتب بلا تصريح. في بلاد أخرى كان ممنوعا أن تفكر في الكتابة دون إذن.
هناك أمم يعتبر فيها التفكير محض موضوع للتجارة. تقيم عمليات العقل الإنساني هناك بقدر ما يكتبون.
في بلد آخر، حرية تعبير المرء عن ذاته بالكتب من أهم الامتيازات التي لا يمكن انتهاكها. اطبع ما تشاء محتملا ألم الملل أو ألم العقاب إذا ما أسأت استعمال حقك الطبيعي إساءة بالغة.
قبل اختراع الطباعة الرائع، كانت الكتب نادرة، وأغلى من الأحجار الكريمة. لم تكن ثمة كتب بين الأمم الهمجية حتى عهد شارلمان، ومن عهده حتى عهد الملك الفرنسي شارل الخامس، الملقب ب «الحكيم»، ومن شارل مباشرة حتى فرانسوا الأول، كانت هناك ندرة كبيرة.
العرب وحدهم كانت لديهم كتب منذ القرن الثامن حسب تقويمنا حتى القرن الثالث عشر.
كانت الصين مليئة بها حينما لم نكن نعرف كيف نقرأ أو نكتب.
وظف النساخون بكثرة في الإمبراطورية الرومانية منذ وقت سكيبيو حتى غزو الهمج.
انهمك اليونانيون كثيرا في النسخ حتى وقت أمينتاس وفيليب والإسكندر؛ واصلوا تلك الحرفة خاصة في الإسكندرية.
هذه الحرفة جاحدة نوعا ما. دائما ما بخس التجار المؤلفين والناسخين حقهم. استغرق إتمام نسخ الإنجيل على الرق من الناسخ عامين من العمل الكادح. كم استغرقوا من وقت وعناء لينسخوا بطريقة سليمة باليونانية واللاتينية أعمال أوريجانوس وكليمندس الإسكندري، وكل هؤلاء المؤلفين الذين دعوناهم «الآباء»؟
ظلت قصائد هوميروس لفترة طويلة لا يعرفها إلا القليلون، حتى إن بيسيستراتوس كان أول من رتبها ونسخها في أثينا قبل خمسمائة عام تقريبا من زمن استفادتنا منها.
اليوم، ربما لا توجد عشر نسخ من الفيدا والزندافيستا في الشرق بأكمله.
ولم تكن لتجد كتابا واحدا في روسيا بأكملها في عام 1700م، باستثناء كتاب القداس وبعض الأناجيل القليلة في منازل رجال في عمر الشيخوخة سكارى من البراندي.
يشتكي اليوم الناس من الإفراط، لكن القراء لا يشتكون من ذلك؛ فالعلاج سهل؛ لأنه لا أحد يجبرهم على القراءة. لم يعد للمؤلفين أن يشتكوا. هؤلاء الذين يصنعون الجمهور يجب ألا يصرخوا بأنهم يسحقون. بصرف النظر عن الكم الهائل من الكتب، فما أقل ما يقرأ الناس! ولو قرأ المرء على نحو مفيد، فسيرى الحماقات المؤسفة التي يقدم عامة الناس أنفسهم فريسة لها كل يوم.
ما يضاعف عدد الكتب، على الرغم من قانون منع المضاعفة غير الضرورية، هو أنه بالكتب يصنع المرء كتبا أخرى؛ بمجلدات عدة سبق طبعها، اختلق تاريخ فرنسا وإسبانيا دون إضافة أي شيء جديد. كل القواميس تكتب بالاستعانة بالقواميس، وكل كتب الجغرافيا الحديثة تقريبا هي تكرارات لكتب الجغرافيا. أنتج جمع كتابات القديس توما ألفي مجلد ضخم في اللاهوت؛ وعائلة الدود الصغير نفسها التي أكلت الكتاب الأم تقرض الأبناء أيضا.
بوليفيرد أو بوليفارت
الطريق، الحصن، الساتر الترابي. تمثل بلجراد حصن الإمبراطورية العثمانية على الجانب المجري. من ذا الذي يصدق أن هذه الكلمة كانت تعني في الأصل فقط لعبة البولنج؟ كان أهل باريس يلعبون البولنج على عشب الساتر الترابي. كان هذا العشب يسمى «الفيرد» (الخضرة)، على غرار سوق الخضرة. كما نقول «وقف على الخضرة». ومن هنا تأتى أن الإنجليز - ولغتهم نسخة من لغتنا في معظم الكلمات غير الساكسونية - سموا لعبة البولنج «البولينجرين»، واسترددنا نحن منهم ما كنا أعرناه لهم. وجريا على مثالهم، نمنح اسم «بولينجرين»، دون أن نعرف قوة الكلمة، للمساحات العشبية التي استحدثناها في حدائقنا.
سمعت ذات مرة سيدتين خرجتا للمشي على البوليفيرد (التسمية الإنجليزية للمماشي الخضراء) وليس على البوليفارت (التسمية الفرنسية للمماشي الخضراء). سخر الناس منهما، وكانوا مخطئين. لكن العادة تسود في جميع الأحوال، وكل من يواجه العادة يزجر أو يستهجن.
بورجيز
لا تكاد أسئلتنا تلتفت إلى الجغرافيا، ولكن دعنا نسمح لأنفسنا أن نعرب في كلمات قصيرة عن دهشتنا من مدينة بورجيز. يزعم «قاموس تريفو» «أنها واحدة من أقدم بلدات أوروبا، وأنها كانت عاصمة إمبراطورية الغال، وأنها منحت الكلتيين ملوكهم.»
لا أرغب في النزاع حول عراقة أي بلدة أو عائلة، ولكن هل كانت للغال إمبراطورية؟ وهل كان للكلتيين ملوك؟ هذا الهوس بالعراقة هو المرض الذي لن يشفى منه المرء قريبا. ليس لدى الغال ولا ألمانيا ولا اسكندينافيا أي شيء قديم سوى الأرض والشجر والحيوانات. إن أردت أشياء قديمة فيمم نحو آسيا، وحتى حينئذ، لن تجد سوى القليل. الإنسان قديم، والآثار جديدة، هذا ما أشرنا إليه في أكثر من مقالة.
إن كان مفيدا حقا أن يولد المرء داخل تجويف صخري أو خشبي أقدم من غيره، فسيكون معقولا حينئذ إثبات أن تاريخ بلدة المرء يعود إلى زمن حرب العمالقة، لكن طالما أنه لا توجد أدنى فائدة في هذه الخيلاء، فعلى المرء أن يتجنبها. هذا كل ما كان علي أن أقوله بشأن بورجيز.
البراهمة
أليس محتملا أن يكون البراهمة أول مشرعي الأرض، وأول الفلاسفة، وأول اللاهوتيين؟
ألا تشكل آثار التاريخ القديم القليلة المتبقية لنا افتراضا عظيما لصالحهم، بما أن الفلاسفة اليونانيين الأوائل ذهبوا إليهم ليتعلموا الرياضيات، وأن أقدم التحف التي جمعها أباطرة الصين كانت جميعها هندية؟
سنتحدث في موضع آخر عن «الشاستا»، وهو أول كتاب في لاهوت البراهمة، كتب منذ ما يقرب من ألف وخمسمائة عام قبل كتابهم «الفيدا»، وهو سابق على جميع الكتب الأخرى.
لم تذكر حولياتهم شيئا عن أي حرب شنوها في أي وقت. إن كلمات من قبيل: «أسلحة»، «يقتل»، «يشوه»، لن تجدها في الآثار الباقية، سواء في «الشاستا» التي لدينا، أو في «الإزورفيدام»، أو في «الكورموفيدام ». أستطيع على الأقل أن أؤكد أني لم أرها في هاتين المجموعتين الأخيرتين ؛ لكن الأغرب أن «الشاستا» التي تتحدث عن مؤامرة في السماء لا تشير إطلاقا إلى أي حرب في شبه الجزيرة العظيمة المحصورة بين نهري السند والجانج.
أما العبريون الذين عرفوا مؤخرا جدا، فلم يذكروا البراهمة مطلقا؛ فلم تكن لديهم معرفة بالهند حتى بعد غزوات الإسكندر، وإقامتهم في مصر التي ذكروها بشر كثير. لن تجد اسم الهند إلا في سفر إستير، وسفر أيوب الذي لم يكن عبريا. يمكن للمرء أن يلحظ تباينا فريدا بين الكتب المقدسة عند العبريين وتلك التي عند الهنود. الأخيرة تعلن فقط عن السلام واللطف؛ فهي تحرم قتل الحيوانات. أما كتب العبريين فتتحدث فقط عن القتل وعن مذابح الناس والوحوش؛ فكل شيء يذبح باسم الرب. شتان بين الاثنين.
لا شك أننا ورثنا من البراهمة إيماننا بفكرة سقوط المخلوقات السماوية الثائرة ضد سيد الطبيعة؛ ومن المحتمل أن اليونانيين استمدوا من هناك أيضا أسطورة العمالقة، ومن هناك أيضا اقتبس اليهود في النهاية، في القرن الأول من عصرنا فكرة ثورة لوسيفر.
كيف أمكن هؤلاء الهنود أن يفترضوا ثورة في السماء من دون أن يروا مثيلا لها على الأرض؟ يمكن بصعوبة تصور قفزة كتلك من الطبيعة الإنسانية إلى الطبيعة الإلهية. عادة ما يذهب المرء من المعلوم إلى غير المعلوم.
لا يتخيل المرء حرب عمالقة حتى يشهد بعض الناس أكثر قوة من الآخرين يتجبرون على رفاقهم. لابد وأن البراهمة الأوائل مروا بنزاعات عنيفة أو على الأقل قد رأوها في السماء.
إنها ظاهرة مدهشة جدا أن يخترع مجتمع من البشر الذين لم يشنوا حربا قط أنواعا من الحروب في فضاءات متخيلة، أو في كون بعيد عن كوننا، أو فيما يطلق عليه السماء أو الجنة. لكن يجب أن نلحظ بعناية أنه في ثورة الكائنات السماوية ضد سيدها، لم تهب أي عواصف، ولم يسل أي دم سماوي، ولم تقذف جبال من قمتها، ولم تقطع الملائكة إلى نصفين كما في قصيدة ملتون السامية الخيالية.
وفقا للشاستا ، هي فقط عصيان رسمي لأوامر «الأعلى»، مؤامرة يعاقب الله عليها الملائكة المتمردين بإرسالهم إلى مكان ظليل شاسع يسمى «الأوندرا» خلال فترة مونونثور كامل. والمونونثور هو أربعمائة وستة وعشرون مليون عام من أعوامنا، لكن الله رأف بالمذنبين وعفا عنهم بعد خمسة آلاف عام، وكانت الأوندرا مطهرا وحسب.
وجعل «المرد» منهم رجالا، وأحلهم عالمنا، بشرط ألا يأكلوا الحيوانات، وألا يتزاوجوا مع الذكور من أنواعهم الجديدة، وإلا أعيدوا إلى الأوندرا.
هذه هي بنود الإيمان البراهمي الأساسية التي استمرت بلا انقطاع منذ أزمان سحيقة حتى يومنا. يبدو غريبا لنا أن تعد فيها خطيئة أكل دجاجة مهلكة بقدر ممارسة اللواط.
هذا مجرد جزء صغير من نشأة الكون القديم عند البراهمة. تثبت شعائرهم ومعابدهم أن كل شيء كان مجازيا بينهم؛ ولا يزالون يمثلون الفضيلة برمز امرأة لديها عشر أذرع تقاتل عشر خطايا مميتة تمثلها الوحوش. لم يعجز مبشرونا عن اعتبار صورة فضيلة هذه شيطانية، وأن يؤكدوا لنا أن الشيطان يعبد في الهند. لم نكن أبدا وسط هؤلاء الناس إلا لنغني أنفسنا ونفتري عليهم.
نسينا بالفعل شيئا ضروريا للغاية في هذه المقالة الصغيرة بشأن البراهمة، وهو أن كتبهم المقدسة مليئة بالمتناقضات. لكن الناس لا يعرفون عنها شيئا، ولدى العلماء الحلول جاهزة، والمعاني الاستعارية، والمجازات، والرموز وتصريحات بريما وبراهما وفيستنو الواضحة التي يجب أن تسد أفواه كل من يجادل.
الشخصية
من الكلمة اليونانية التي معناها «انطباع» أو «نقش».
هي ما نقشته الطبيعة فينا.
أيستطيع أحد أن يغير شخصيته؟ نعم، إن استطاع تغيير جسده. من الممكن لرجل ولد خطاء، أو عنيدا، أو عنيفا، إذ يبتلى بالسكتة الدماغية في شيخوخته، أن يصبح أحمق، وطفلا باكيا، وجبانا، ومسالما. لم يعد جسده كما كان. لكن طالما كانت أعصابه ودماؤه ونخاعه على حالتها، فلن تتغير طبيعته أكثر مما تتغير غريزة ذئب أو سمور.
تتكون الشخصية من أفكارنا ومشاعرنا. حسنا، معروف لنا أننا لا نمنح أنفسنا المشاعر ولا الأفكار؛ ومن ثم فشخصيتنا لا تعتمد علينا.
ولو اعتمدت علينا لما كان أحد ناقصا.
لا نستطيع أن نمنح أنفسنا الأذواق والمواهب. لماذا ينبغي أن نمنح أنفسنا الملكات؟
إن لم يفكر المرء مليا، فسيعتقد أنه سيد كل شيء؛ لكن حينما يتفكر المرء فسيجد أنه ليس سيدا على شيء.
إن رغبت في أن تغير شخصية إنسان بشكل كامل، فطهره بالمنظفات كل يوم حتى تقتله. لم يعد شارل الثاني عشر، وهو مصاب بالحمى القيحية في طريقه إلى بيندر، الشخص نفسه. كان المرء يطل عليه وكأنه يطل على طفل.
لو كان لدي أنف معقوف وعينان تشبهان عيني القطة فربما أستطيع إخفاءهما بقناع. هل أستطيع أن أفعل المزيد مع الشخصية التي منحتني إياها الطبيعة؟
تقدم رجل ولد عنيفا طائشا أمام فرانسوا الأول، ملك فرنسا، ليشكو ظلما؛ سيماء الأمير، هيئة رجال البلاط الوقورين، طبيعة المكان بذاتها، كل هذا يحدث انطباعا قويا على هذا الرجل؛ بطريقة آلية، يغض ناظريه، ويرق صوته الأجش، ويقدم التماسه بتواضع حتى يكاد المرء يصدق أنه ولد لطيفا - على الأقل في تلك اللحظة - كأحد رجال الحاشية الذي كان يرتبك من مجرد الوقوف بينهم. لكن فرانسوا الأول يفهم بالفراسة، ويكتشف بسهولة في العينين الذليلتين، المشتعلتين بنار كامنة، وفي عضلات وجهه المشدودة المتوترة، وفي شفتيه المزمومتين أن ذلك الرجل ليس لطيفا كما أجبر على أن يبدو. يتبعه هذا الرجل إلى بافيا، ويؤخذ معه، ويزج به إلى السجن نفسه في مدريد. لا يحدث جلالة فرانسوا الأول الانطباع نفسه؛ يزداد ألفة مع موضوع احترامه. ذات يوم، وهو ينزع حذاءي الملك، وينزعهما بطريقة سيئة؛ يغضب الملك إذ يشعر بالحنق من حظه العثر؛ يطرد صاحبنا الملك، ويلقي بحذاءيه خارج النافذة.
ولد سيكتوس الخامس مشاكسا عنيدا متغطرسا طائشا حقودا متكبرا. بدا وكأن هذه الشخصية لانت أثناء تجارب إعداده للرهبنة. يبدأ في التمتع بقدر من المصداقية في رتبته الكهنوتية، وإذا به يستشيط غضبا على أحد الحراس، ويضربه بقبضة يده. كان الرجل محققا في فينيسيا يقوم بواجباته بعجرفة. وحينما اعتقد نفسه كاردينالا، استولى عليه الغضب البابوي. يغلب هذا الغضب طبيعته، فيدفن شخصيته في الظلام، ويحاكي الرجل المتواضع الخامد . انتخب لمنصب البابا، وإذا به يعود إلى سابق عهده بعد أن تخلص من أعباء السياسة وكل مرونتها المقهورة؛ فيصبح أكثر الحكام غرورا وطغيانا.
قد تقتلع الطبيعة بشوكة حقل، لكنها تعود إليك. (هوراس، الكتاب الأول، الرسالة العاشرة)
اطرد الطبيعة ترجع إليك خببا. (ديستوش، «جلوريو»، الفصل الثالث، المشهد الخامس)
يكبح كل من الدين والنازع الأخلاقي قوة الطبيعة، لكنهما لا يستطيعان تحطيمها. السكير المعزول في الدير، الذي تقلل حصته إلى ربع لتر من عصير التفاح المخمر في الوجبة لن يعود يثمل؛ لكنه سيظل يحب الخمر.
تضعف الشيخوخة الشخصية. إنها شجرة لا تنتج سوى ثمار سيئة، لكن الثمرة تبقى دوما من الطبيعة نفسها. إنها متغضنة مغطاة بالطحالب، وتصبح وقد أكتلها الديدان؛ لكنها دوما شجرة سنديان أو كمثرى. إن كان بمقدور المرء أن يغير شخصيته، فسيمنح نفسه شخصية تسيطر على الطبيعة. وهل يمكن أن يمنح المرء نفسه شيئا؟ ألا نتلقى كل شيء؟ حاول أن تحرك رجلا كسولا بنشاط متواصل؛ أن تجمد باللامبالاة نفس رفيق طائش تغلي؛ أن تلهم شخصا آخر لا أذن له ولا ذوق بأن يتذوق الموسيقى والشعر؛ لن تنجح أكثر مما لو شرعت في منح البصر لمن ولد أعمى. نحن نكمل ونرقق ونخفي ما وضعته الطبيعة بداخلنا؛ لكننا لا نضع أي شيء بداخلنا على الإطلاق.
قال امرؤ لفلاح: «لديك سمك أكثر مما ينبغي في تلك البركة، لن يكبر؛ هناك ماشية أكثر مما ينبغي في مرجك، والعشب يتناقص، وستصبح تلك الماشية نحيفة.» حدث بعد هذا التحذير أن التهم سمك الكراكي أكثر من نصف أسماك المبروك لدى صاحبنا، وأن التهمت الذئاب نصف أغنامه؛ فسمنت البقية. أيمكن أن يهنئ نفسه على تدبيره؟ هذا الريفي هو أنت؛ فإحدى عواطفك التهمت العواطف الأخرى، بينما تعتقد أنك انتصرت على نفسك. ألا نشبه جميعا هذا الجنرال العجوز الذي بلغ التسعين من عمره إذ يلتقي بعض الضباط الصغار وهم يزنون مع بعض الفتيات؛ فيقول لهم بغضب: «أيها السادة، أهذه هي القدوة التي منحتكم إياها؟»
الدجال
المقالة المعنونة «الدجال» في «القاموس الموسوعي » مليئة بحقائق مفيدة، ومعروضة على نحو جيد. عرض فيها شوفالييه دي جوكور الدجل في الطب.
سننعم هنا ببعض الحرية لنضيف بعض التأملات. يسكن الأطباء في المدن الكبيرة، فما من أطباء تقريبا في الريف؛ فالمدن الكبيرة هي التي يكون فيها المرضى الأغنياء، وتكون أسباب أمراضهم هي: العهر، والإفراط في الطعام، والعواطف. قال ديمولان - ليس المحامي، ولكن الطبيب الذي كان ممارسا عاما جيدا كالآخر - وهو يموت، إنه ترك من ورائه طبيبين عظيمين: الحمية وماء النهر.
في عام 1728م، وفي زمن القانون، أفضى الدجال الشهير، من الطراز الأول هو الآخر، المسمى فيلار إلى بعض الأصدقاء، بأن عمه الذي عاش حوالي مائة عام ولم يمت إلا بحادث، قد ترك له سر ماء يمكنه بسهولة أن يطيل العمر إلى مائة وخمسين عاما، بشرط أن يكون الإنسان معتدلا. حينما شاهد جنازة تمر، هز كتفيه في شفقة، وعلق بقوله: لو أن المتوفى شرب من مائي لما كان في هذا الموضع. وأكد أصدقاؤه - الذين أعطاهم من ذلك الماء بسخاء واتبعوا الحمية الموصوفة بقدر ما - هذا وأثنوا عليه. باع حينئذ زجاجة الماء بستة فرنكات، وكانت المبيعات مذهلة. كان ماء من نهر السين مضافا إليه قليل من النترات. أولئك الذين تناولوه، وأخضعوا أنفسهم لنظام غذائي معين، وفي مقدمتهم أولئك الذين ولدوا بصحة جيدة، تمتعوا بصحة ممتازة في غضون أيام قليلة. قال للآخرين: «إنه خطؤكم إن لم تشفوا تماما؛ صححوا هاتين الرذيلتين وستحيون مائة وخمسين عاما على الأقل.» انصلح حال بعضهم، وزادت ثروة هذا الدجال الطيب مثل سمعته. وضعه الأب دي بونس المتحمس في مكانة أعلى من المارشال دي فيلار، قائلا له: «إن المارشال يقتل الرجال؛ لكنك تحييهم.»
علم الناس أخيرا أن مياه فيلار مجرد مياه نهر عادية، فلم يطلبوا المزيد منها، وانصرفوا إلى دجالين آخرين.
أكيد أنه أحسن صنعا، وأن اللوم الوحيد الذي يمكن أن يوجهه المرء ضده هو أنه باع ماء السين بأثمان غالية جدا. قاد الرجال إلى الاعتدال، وكان سابقا على أرنو الصيدلي الذي أتخم أوروبا بوصفاته ضد السكتة الدماغية دون أن يوصي بأي فضيلة.
عرفت طبيبا في لندن يدعى براون ، مارس الطب في باربادوس، كان يمتلك معملا لتكرير السكر وزنوجا، سرق منه مبلغ كبير. كان يطلق على زنوجه «فتياني»، وكان يقول لهم: «لقد ظهرت الأفعى الكبرى لي أثناء الليل، وقالت إن السارق سيكون لديه في تلك اللحظة ريشة ببغاء على طرف أنفه.» وضع المذنب يده على أنفه بلا إرادة؛ فقال السيد: «أنت الذي سرقتني. لقد أخبرتني الأفعى العظيمة بذلك حالا.» واسترد نقوده. بالكاد يستطيع المرء أن يدين ذلك الدجل؛ إذ يجب على المرء أن يجد طريقة ليتعامل بها مع الزنوج.
أما سكيبيو الإفريقي - هذا السكيبيو العظيم، الذي يختلف عن الدكتور براون - فجعل جنوده يؤمنون طواعية بأنه ملهم من الآلهة. كان ذلك الدجل عرفا سائدا لفترة طويلة؛ فهل يستطيع أحد أن يلوم سكيبيو على انتفاعه منه؟ ربما كان هو الرجل الأكثر تشريفا للجمهورية الرومانية، لكن لماذا لم تلهمه الآلهة بتقديم بيان عن ثرواته؟
فعل نيوما ما هو أفضل، وكان ذلك ضروريا لضبط بعض قطاع الطرق، ومجلس شيوخ كان هو أشد قسم من قطاع الطرق هؤلاء استعصاء على الحكم. لو عرض قوانينه على القبائل المجتمعة لخلق سفاحو سلفه آلاف المصاعب. انتسب نيوما إلى الإلهة إيجريا التي منحته بعض القوانين من الإله جوبيتر، وكان مطاعا بلا اعتراض، وحكم بسلاسة. كانت تعليماته جيدة، ونجح دجله، ومع ذلك فلو أن عدوا سريا اكتشف الحيلة، وقال: «أعدموا منتحلا يدنس اسم الآلهة من أجل أن يخدع الناس.» لتحمل نوما خطر إرساله إلى السماء مع رومولوس.
محتمل أن يكون نيوما اتخذ تدابيره بعناية شديدة، وخدع الرومانيين لصالحهم ببراعة مناسبة للوقت والمكان وذكاء الرومانيين الأوائل.
أوشك محمد على الفشل عشرين مرة، لكنه نجح في النهاية مع عرب المدينة، وصدق الناس أنه كان صديقا حميما للملاك الرئيس جبريل. إن ذهب امرؤ اليوم إلى القسطنطينية ليعلن أنه المفضل لدى الملاك الرئيس رفائيل، الأعلى مكانة من جبريل، وأنه هو وحده من يجب أن يؤمنوا به؛ فسيعدمونه على الخازوق في مكان عام. على الدجالين، إذا، أن يختاروا وقتهم بعناية شديدة.
ألم يكن ثمة بعض الدجل عند سقراط مع شيطانه المحبب، وإعلان أبولو الدقيق الذي ادعى أنه أحكم الرجال جميعا؟ كيف يستطيع رولان، في تاريخه، أن يسوق الحجج من هذه الكهانة؟ كيف يتأتى أنه لا يكشف أن هذ الفكرة الفجة دجل صاف؟ أساء سقراط اختيار وقته. ولو أنه أتى قبل ذلك بمائة عام لحكم أثينا.
كان جميع قادة الطوائف في الفلسفة دجالين نوعا ما، ولكن أعظمهم جميعا كانوا أولئك الذين تاقوا إلى السيطرة. يعد كرومويل أبشع دجالينا. لقد ظهر في الوقت الذي يمكن أن ينجح فيه تماما: لو أنه ظهر إبان حكم إليزابيث لشنق، ولو أنه ظهر إبان حكم تشارلز الثاني لبدا سخيفا تماما. ظهر في وقته، حينما كان الناس مشمئزين من الملوك؛ وظهر ابنه في وقت كان الناس فيه ضجرين من حام. (1) عن الدجل في العلم والأدب
من النادر أن تخلو العلوم من دجل. يود الناس أن تقبل آراؤهم؛ يود العالم المولع بالنقد أن يحجب العالم الوديع، ويرغب العالم المتعمق أن يسود بمفرده. يبني الجميع نظرياتهم الخاصة في الفيزياء والميتافيزيقا ولاهوت العصور الوسطى. إنها منافسة في استفادة كل واحد من بضاعته. لديك عملاء يطرونها، وحمقى يصدقونك، وحماة يدعمونك.
أثمة دجل أعظم من الاستعاضة بالكلمات عن الأشياء، ومن الرغبة في جعل الآخرين يؤمنون بما لا تؤمن به أنت نفسك؟
يثير واحد الزوابع حول مادة دقيقة، متشعبة، كونية، محززة، غائرة؛ والعناصر الأخرى من المادة التي ليست مادة على الإطلاق، وتناغم مسبق، يجعل ساعة الجسد تدق معلنة الساعة، حينما تشير إليه ساعة الروح بعقربها. تجد هذه الأوهام مناصرين لأعوام قليلة. وحينما تصبح تلك النفايات بالية، يظهر متعصبون جدد على المسرح الجوال: إنهم يطردون الجراثيم من العالم، يقولون إن البحر أنتج الجبال، وإن الرجال كانوا يوما ما أسماكا.
كم من الدجل قد زج به في التاريخ، سواء بإدهاش القارئ بالعجائب، أم بدغدغة الخبث البشري بالهجاء، أم بتملق أسر الطغاة بالمديح الشائن؟
الصنف الحقير الذي يكتب من أجل كسب العيش دجال بطريقة أخرى. رجل ما فقير لا عمل له، يبتلى بدخول الجامعة، ويعتقد أنه يعرف كيف يكتب، يتودد إلى أحد باعة الكتب ويسأله العمل عنده. يعلم بائع الكتب أن غالبية الناس الذين يعيشون في منازل ترغب في أن تكون لديها مكتبات صغيرة؛ ومن ثم فإنها تحتاج إلى مختصرات وعناوين جديدة. يكلف الكاتب بإعداد مختصرات لكتب «التاريخ لرافين ثويراس»، و«تاريخ الكنيسة»، و«مجموعة الأمثال الطريفة» المستخلصة من «الميناجيانا»، و«قاموس الرجال العظماء»، حيث يوضع متحذلق مغمور إلى جانب شيشرون، ويوضع قزم من إيطاليا بالقرب من فيرجيل.
ويأمر بائع كتب آخر بروايات أو ترجمات لروايات، ويقول للعامل: «إن لم تكن لديك مخيلة فيمكنك أن تقتبس بعض المغامرات الموجودة في «كورش»، أو في «جوثمان دالفراتشيه»، أو في «أسرار رجل رفيع»، أو «أسرار امرأة رفيعة»، ومن المجموع ستعد مجلدا من أربعمائة صفحة، مقابل عشرين فلسا للصفحة.»
يعطي بائع آخر مجلات عشرة أعوام ماضية وحولياتها لرجل عبقري، ويقول له: «ستعد لي خلاصة من كل ذلك، وتسلمها لي في غضون ثلاثة أشهر تحت عنوان «التاريخ الأمين للأزمنة»، بقلم شوفالييه دي تروا إيتوال، ملازم البحرية العامل بوزارة الخارجية.»
يمكنك أن تجد من هذه الأنواع من الكتب ما يقرب من خمسين ألف كتاب في أوروبا، وتروج جميعها مثل سر تبييض الجلد، وصبغة الشعر، والدواء لكل داء.
القوانين المدنية
موجز من مذكرات وجدت بين أوراق أحد المحامين، قد تكون بحاجة إلى تمحيص
فلتكن عقوبات المجرمين مجدية. فلا جدوى من رجل مشنوق، أما رجل محكوم عليه بأشغال عامة فلا يزال يخدم الدولة، وهو عبرة حية. ***
فلتكن كل القوانين واضحة وموحدة ودقيقة؛ فتأويل القوانين غالبا ما يفسدها. ***
لا تشهر إلا بالرذيلة. ***
لتكن الضرائب دوما تناسبية. ***
يجب ألا تتعارض القوانين والأعراف أبدا؛ لأنه إن كان العرف صالحا فلن يساوي القانون شيئا.
المناخ
يؤثر المناخ على الدين من حيث العادات والشعائر. لن يلقى مشرع صعوبة تذكر في جعل الهنود يستحمون في نهر الجانج في مواسم قمرية معينة ؛ فهذا يمنحهم سرورا عظيما، لكنه سيرجم لو أنه اقترح الاستحمام نفسه على شعوب تقطن على ضفاف نهر دفينا بالقرب من أرشانجل. حرم الخنزير على عربي يعتقد أنه سيصاب بالجذام إن أكل من هذا اللحم المقيت المقزز في بلده، سيطيعك فرحا. أصدر التحريم نفسه على شخص وستفالي، سيعقد العزم على قتالك.
الامتناع من الخمر وصية جيدة في بلاد العرب؛ حيث تكون عصائر البرتقال والليمون والليمون الحامض ضرورية للصحة. ربما لم يكن محمد ليمنع الخمر في سويسرا، خاصة قبل خوض معركة.
هناك عادات من باب الفانتازيا الصافية. لماذا تخيل كهنة مصر الختان؟ ليس للأمر علاقة بالصحة. قمبيز الذي عاملهم هم وعجلهم المقدس أبيس كما يستحقون، وحاشية قمبيز، وجنود قمبيز؛ لم تقطع قلفاتهم، وتمتعوا بصحة جيدة. ليس للمناخ علاقة بأعضاء الكاهن التناسلية. كان المرء يقدم قلفته إلى إيزيس، ربما كما قد يقدم في أي مكان باكورة ثمار الأرض. كان الأمر بمنزلة تقديم بواكير الحياة.
دائما ما دارت الأديان على محورين؛ الالتزام والعقيدة. أما الالتزام فيعتمد بقدر كبير على المناخ؛ وأما العقيدة فلا تعتمد عليه إطلاقا. يمكن بسهولة خلق عقيدة مقبولة عند خط الاستواء بقدر ما تكون مقبولة تماما عند الدائرة القطبية. وقد ترفض فيما بعد في باتافيا وفي أوركنيس، بينما تصان بالأيدي والأسنان في سالامنكا. لا يعتمد ذلك إطلاقا على الأرض والمناخ، ولكن على الرأي، وهو ملكة العالم المتقلبة.
ستكون ممارسات معينة من إراقة الخمر فريضة في بلد منتج للخمر، ولن يخطر ببال مشرع أن يؤسس في النرويج طقوسا مقدسة لا يمكن أداؤها دون خمر.
سيؤمرون بوضوح بحرق البخور في ساحة المعبد حيث تذبح البهائم تكريما للإله، وعشاء للكهنة. محل القصاب هذا الذي يدعى «معبدا» سيصبح مكانا للعدوى اللعينة إن لم يطهر باستمرار، ولولا الاستعانة بالعطور لتسببت ديانة القدماء في الطاعون، حتى جدران المعبد الداخلية كانت تزين بأكاليل الزهور لجعل الهواء أطيب.
لن يضحى ببقرة في أرض شبه الجزيرة الهندية الملتهبة؛ لأن ذلك الحيوان يمد سكانها باللبن الضروري شديد الندرة في تلك الأرض القاحلة، ولحمه جاف، ويحوي القليل جدا من الغذاء، ومن شأن هذا تكدير حياة البراهمة. على النقيض ستصبح البقرة مقدسة؛ نظرا إلى ندرتها ونفعها.
لن يدخل المرء معبد جوبيتر آمون إلا وهو حاف، حيث تكون الحرارة مفرطة، بينما يجب على المرء أن ينتعل حذاءه جيدا ليؤدي طقوسه الدينية في كوبنهاجن.
لا يتعلق الأمر بالمعتقد؛ آمن الناس بتعدد الآلهة في كل الظروف المناخية؛ ويسهل على تتري القرم كما يسهل على ساكن مكة الإيمان بالله الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد. ينتشر الدين من مكان لآخر من خلال عقيدة الدين أكثر مما ينتشر من خلال شعيرته. سرعان ما عبرت عقيدة وحدانية الله من المدينة إلى القوقاز؛ ومن ثم يستسلم المناخ للرأي.
قال العرب للترك: «لقد اختتنا في شبه الجزيرة العربية دون أن نعرف حقا السبب؛ كانت عادة قديمة لكهنة مصر أن يقدموا إلى أوشيرث أو أوزيريس جزءا صغيرا مما يعتبرونه الأثمن. وقد تبنينا تلك العادة ثلاثة آلاف عام قبل أن نصبح محمديين. ستختنون مثلنا؛ ومثلنا ستكونون مضطرين لمضاجعة إحدى زوجاتكم كل جمعة، وأن تمنحوا في كل عام اثنين ونصفا بالمائة من دخلكم للفقراء. نحن نشرب الماء والشربات فقط، ويحرم علينا كل شراب مسكر؛ فهو ضار في بلاد العرب. ستحافظون على ذلك النظام على الرغم من أنكم تعشقون الخمر، وعلى الرغم من أنه ربما يكون ضروريا لكم أن تذهبوا مرارا إلى ضفاف نهري فاسس وآراس. وفي النهاية، إن أردتم أن تدخلوا الجنة وتكونوا في منزلة جيدة هناك، فستسلكون الطريق إلى مكة.»
خضع سكان شمال القوقاز لتلك القوانين، واعتنقوا في كل أرجاء البلد دينا لم يصنع من أجلهم.
في مصر، تلت العبادة الرمزية للحيوانات معتقدات تحوت، وبعد ذلك شاركت آلهة الرومان مصر بالكلاب والقطط والتماسيح، وجاءت بعد ديانة الرومان المسيحية، وأزاحتها تماما الديانة المحمدية التي ربما تخلي مكانها لدين جديد.
وسط كل تلك التقلبات لم يؤثر المناخ في شيء؛ بل فعلت الحكومة كل شيء. نحن نفكر فقط في العلل الثانوية دون أن نرفع عيوننا الدنيوية إلى تلك العناية الإلهية التي تقودها. تلقى الدين المسيحي الذي نشأ في سوريا، تطوره الرئيس في الإسكندرية؛ حيث كان سكان تلك الأراضي حينئذ يعبدون توتاتيس، وإرمينسول، وفريدا، وأودين.
وهناك شعوب لم تصنع أديانها الحكومات ولا المناخ. ما الذي فصل شمال ألمانيا، والدنمارك، وثلاثة أرباع سويسرا، وهولندا، وإنجلترا، واسكتلندا، وأيرلندا من الاتحاد الروماني؟ الفقر. كان الغفران والخلاص من المطهر يباعان بأسعار أغلى مما ينبغي لأرواح لم تكن أجسادها تملك إلا القليل من المال في ذلك الوقت. التهم الأساقفة والرهبان دخل المقاطعة بالكامل. اتخذ الناس ديانة أرخص. وفي النهاية، بعد عشرين حربا أهلية، اعتقد الناس أن ديانة البابا جيدة جدا للسادة العظماء، وأن الديانة المنقحة جيدة جدا للمواطنين. سيكشف الوقت ما إن كانت الديانة اليونانية أم الديانة التركية ستسود على بحر إيجة والبحر الأسود.
الحس السليم
أحيانا ما نجد في التعبيرات الشائعة صورة تجول بخواطر الناس جميعا. لم يكن تعبير
sensus communis
عند الرومان يدل على الحس السليم فقط، ولكن على الإنسانية، وملكة الإحساس أيضا. ولأننا لسنا جيدين كالرومان، تدل هذه الكلمة عندنا على نصف ما كانت تدل عليه عندهم فقط. تعني فقط الحس السليم، والمنطق الواضح، المنطق العامل، فكرة أولى عن الأشياء العادية، وحالة متوسطة بين الغباء والذكاء. عبارة «ليس لدى هذا الرجل حس سليم» إهانة بالغة، وكذلك قول «رجل ذو حس سليم» إهانة؛ فهي تعني أنه ليس غبيا تماما، وأنه يفتقر لما يسمى الفطنة والفهم. لكن من أين يأتي تعبير «الحس السليم» ما لم يكن مرتبطا بالحواس؟ حينما صاغ الناس تلك الكلمة اعترفوا بأنه لا شيء يدخل الروح سليما عبر الحواس؛ فلم إذا استعملوا كلمة حس لتشير إلى التفكير المشترك؟
يقول الناس أحيانا إن «الحس السليم نادر للغاية.» ما دلالة هذه العبارة؟ أن العقل العامل عند كثير من الناس يمنع من التقدم بسبب التحيز، وأن أي شخص يحكم بعقلانية شديدة في أمر ما سينخدع كثيرا دائما في أمر آخر. هذا العربي الذي سيصبح حاسبا ماهرا، أو كيميائيا عليما، أو فلكيا دقيقا ، سيعتقد رغم هذا أن محمدا وضع نصف القمر في كمه.
لماذا يتبع الحس السليم في العلوم الثلاثة التي أتحدث عنها، ولماذا يجانب الحس السليم في مسألة نصف القمر هذه؟ لأنه في الحالة الأولى شاهد بعينيه وأعمل ذكاءه؛ أما في الثانية فرأى بعيون أناس آخرين، وأغلق عينيه؛ فأفسد الحس السليم الذي بداخله.
كيف أمكن لهذا الاغتراب العقلي الغريب أن يعمل؟ كيف تتمكن الأفكار التي تتحرك في الدماغ بخطى شديدة الانتظام والإحكام في عدد كبير من الموضوعات أن تعرج على نحو مشين في قضية أخرى أوضح وأسهل فهما ألف مرة؟ يحمل ذلك الرجل دائما مبادئ الذكاء ذاتها. لا بد وأن لديه عضوا فاسدا، إذا، كما يحدث أحيانا حينما يكون لأفضل الذواقة ذوق فاسد تجاه نوع معين من الطعام.
كيف شوه عضو هذا العربي الذي يرى نصف القمر في كم محمد؟ بالخوف. أخبروه أنه إن لم يؤمن بهذا الكم فستسقط روحه فور موته حين عبور الصراط الضيق في جهنم إلى الأبد. بل قيلت له أمور أسوأ: إذا انتابتك شكوك حيال ذلك الكم، فسيعاملك أحد الدراويش على أنك مارق؛ وسيثبت لك آخر أنك أحمق بليد، توفرت لك كل الدوافع الممكنة للإيمان، ولم ترغب في أن تخضع منطقك المتعالي للدليل؛ وسيشي بك درويش ثالث إلى الديوان الصغير في مقاطعة صغيرة، وستوضع على الخازوق وفقا للقانون.
كل هذا يرعب العربي الطيب، وزوجته، وأخته، وأسرته الصغيرة كلها، ويضعهم في حالة هلع. لديهم حس سليم بشأن كل شيء آخر، لكن في هذا البند خيالهم مجروح كما كان خيال باسكال الذي كان يرى باستمرار جرفا بجانب مقعده. أيؤمن صاحبنا العربي حقا بكم محمد؟ لا. إنه يجتهد ليؤمن؛ يقول إنه مستحيل لكنه حق؛ يصدق ما لا يصدقه. بشأن ذلك الكم، يخلق في رأسه فوضى من الأفكار التي يخشى من فض اشتباكها؛ وليس هذا حقا امتلاك الحس السليم.
تسلسل الأحداث
يقال إن الحاضر يفضي إلى المستقبل، وإن الأحداث مرتبط بعضها ببعض بحتمية لا تقهر. إنه القدر الذي يعتبره هوميروس أعلى حتى من جوبيتر. يعلن سيد الآلهة والناس هذا صراحة أنه لا يستطيع أن يمنع ابن ساربيدون من الموت في وقته المحدد. ولد ساربيدون في اللحظة التي كان يجب أن يولد فيها، ولم يكن ممكنا أن يولد في لحظة أخرى؛ ولم يكن ممكنا بالمثل أن يموت قبل حرب طروادة؛ ولم يكن ممكنا أن يدفن في أي مكان آخر سوى ليقيا، وكان عليه أن ينتج في الوقت المحدد الخضروات التي كان لا بد أن تتحول إلى قوت لقليل من الليقيين؛ ووجب على ورثته أن يؤسسوا نظاما جديدا في دوله؛ وكان على هذا النظام الجديد أن يفرض نفوذا على الممالك المجاورة؛ ونتج منه ترتيب جديد من الحرب والسلام مع جيران ليقيا؛ وهكذا، خطوة فخطوة، اعتمد مصير العالم بأكمله على موت ساربيدون، الذي اعتمد بدوره على خطف هيلين، وارتبط هذا الخطف بالضرورة بزواج هيكوبا الذي نجده بتتبع الأحداث السابقة مرتبطا بأصل الأشياء.
لو أن إحدى هذه الحقائق كانت مرتبة على نحو مختلف لنتج عن ذلك كون آخر، ولما كان ممكنا أن يوجد الكون الحالي. لذا، لم يكن ممكنا لجوبيتر أن ينقذ حياة ابنه، على الرغم من أنه كان جوبيتر.
نظرية الضرورة والقدرية هذه اخترعها في زمننا لايبنتس، كما يقول الناس، تحت اسم السبب الكافي بذاته. ومع ذلك فهي قديمة للغاية؛ فالقول بأنه لا أثر دون علة، وأن أصغر العلل تحدث أعظم الآثار لا يعود تاريخه إلى اليوم.
يقر اللورد بولينجبروك بأن مشاحنات السيدتين مالبورو وماشام هيأت له الفرصة لعقد معاهدة الملكة آن المباشرة مع لويس الرابع عشر؛ وأن هذه المعاهدة أدت إلى سلام أوتريخت؛ وأدى سلام أوتريخت هذا إلى اعتلاء فيليب الخامس عرش إسبانيا. أخذ فيليب الخامس نابولي وصقلية من مملكة النمسا؛ ويدين الأمير الإسباني الذي هو اليوم ملك نابولي بمملكته بوضوح لسيدتي ماشام، وما كان له أن ينالها، بل ربما ما كان له أن يولد، لو كانت دوقة مارلبورو أكثر كياسة تجاه ملكة إنجلترا. اعتمد وجوده في نابولي على حماقة بدرجة أو بأخرى في بلاط لندن.
ادرس موقع كل من شعوب الأرض؛ أقيموا هكذا على أساس تعاقب الوقائع التي تبدو بلا رابط، ولكنها موصولة بكل شيء. كل شيء ترس وبكرة وحبل وخيط في هذه الآلة الهائلة.
الأمر كذلك في المجال المادي: تجلب ريح تهب من أعماق أفريقيا والبحار الجنوبية نصيبا من الجو الأفريقي الذي يسقط في هيئة مطر في وديان الألب؛ هذه الأمطار تخصب أراضينا، ورياحنا الشمالية بدورها ترسل أبخرتنا بين الزنوج؛ فنحسن إلى غينيا، وتحسن غينيا إلينا. تمتد السلسلة من طرف الكون إلى الطرف الآخر.
لكن يبدو لي أن حقيقة هذا المبدأ يساء استخدامها إساءة غريبة. يستنتج بعض الناس منه أنه لا توجد حتى ذرة واحدة صغيرة لم تؤثر حركتها في الترتيبات الحالية بالعالم؛ أنه ما من مصادفة واحدة ضئيلة بين الناس أو الحيوانات إلا وهي رابط ضروري في سلسلة القدر العظيمة.
دعنا نتفاهم: كل أثر له علته بوضوح، رجوعا من علة إلى علة إلى هاوية الأزل؛ لكن ليس لكل علة أثرها الذي يستمر حتى آخر الزمان. أعترف بأن كل الأحداث ينتج بعضها بعضا؛ إذا كان الماضي أدى إلى الحاضر، فالحاضر يؤدي إلى المستقبل؛ لكل شيء أب، لكن ليس لكل شيء دائما أبناء. الأمر هنا تماما كشجرة الأنساب؛ فكل عائلة تعود كما نقول لآدم؛ لكن في العائلة كثيرا من الأشخاص الذين ماتوا دون أن يخلفوا أثرا يذكر.
ثمة شجرة أنساب للأحداث في ذلك العالم. مفروغ منه أن سكان بلاد الغال وإسبانيا تحدروا من جومر، والروس من ماجوج، أخيه الأصغر. ويجد المرء هذه السلسلة من الأنساب في مجلدات ضخمة كثيرة للغاية! بناء على تلك القاعدة، لا يستطيع المرء أن ينكر أن السلطان العثماني الذي تحدر هو أيضا من ماجوج لم يكن مقدرا له أن يهزم تماما في عام 1769م من قبل كاترينا الثانية، إمبراطورة روسيا. هذه المغامرة ترتبط بوضوح بمغامرات أخرى عظيمة. لكن أن ماجوج بصق إلى اليمين أو اليسار بالقرب من جبال القوقاز، وأنه أحدث دائرتين في بئر أو ثلاثا، وأنه نام على الجانب الأيسر أو الأيمن؛ فلا أرى أن ذلك كان له تأثير كبير على الأمور الحاضرة.
على المرء أن يفكر أن كل شيء ليس كاملا في الطبيعة كما وضح نيوتن، وأن كل حركة ليست متصلة خطوة بخطوة حتى تجعل من العالم حلقة متصلة كما أوضح بعد ذلك. ألق في الماء جسما مساويا له في الكثافة، يمكنك أن تحسب بسهولة أنه بعد وقت قصير ستتبدد حركة ذلك الجسم والحركة التي أحدثها الجسم، تختفي الحركة تماما؛ لذلك فإن الحركة التي ربما يحدثها ماجوج بالبصق في البئر لا يمكن أن تؤثر فيما يحدث اليوم في مولدافيا وفالاشيا؛ لذلك فإن الأحداث الحالية ليست وليدة الأحداث الماضية كلها؛ لها خطوطها المباشرة، ولكن ألف خط صغير إضافي لا ينفعها على الإطلاق. مرة ثانية، لكل كائن أب، ولكن ليس لكل كائن ابن.
التناقضات
إن رغب مجتمع أدبي في إنجاز معجم المتناقضات، فسأسهم بعشرين مجلدا من القطع الكبير. لا يمكن للعالم أن يوجد إلا بالمتناقضات، فما الحاجة إلى إبطالها؟ لجمع حالات الجنس البشري. لكن من الطريقة التي خلق بها البشر، سيكون تناقضا جديدا لو أنهم وافقوا. اجمع كل أرانب الكون، ولن تجد بينها رأيين مختلفين.
أعرف فقط نوعين من الكائنات التي لا تتغير على الأرض؛ علماء الرياضيات والحيوانات. تقودهم قاعدتان لا تتغيران؛ البرهان والغريزة. حتى علماء الرياضيات كان بينهم بعض الخلافات، أما الحيوانات فلم تتغير قط.
ليست التباينات، الضوء والظل اللذان تمثل فيهما الشخصيات العامة في التاريخ، تناقضات؛ فهي ترسم صورة صادقة عن طبيعة الجنس البشري.
يعبر الناس كل يوم عن إدانتهم وعن إعجابهم بالإسكندر، قاتل كليتيوس، المنتقم القادم من اليونان، غازي الفرس، مؤسس الإسكندرية.
بقيصر الفاسق الذي يسرق الخزانة العامة في روما فيجعل بلاده تعتمد على غيرها؛ لكنه هو الذي تساوي رحمته جسارته، ويساوي ذكاؤه شجاعته.
بمحمد، المحتال، قاطع الطريق، ولكن المشرع الديني الوحيد الذي كان يتمتع بالشجاعة، وأسس إمبراطورية عظيمة.
بكرومويل المتحمس، الوغد حتى في تعصبه، المشارك في الحكم بإعدام ملكه؛ ولكن السياسي المحنك بقدر ما هو المحارب الشجاع.
يجتمع ألف تباين معا مرارا، وهذه التباينات موجودة في الطبيعة؛ وهي ليست مدهشة أكثر من يوم جميل تتبعه عاصفة.
البشر مجانين على السواء في كل مكان؛ صنعوا القوانين رويدا رويدا، كما تسد الثغرات في جدار. هنا استولى الأبناء الأكبر على كل ما يستطيعون الاستيلاء عليه من الأبناء الأصغر، وهناك يتشارك الأبناء الأصغر بالتساوي. أمرت الكنيسة بالمبارزة أحيانا، وأحيانا اعتبرتها خطيئة مميتة. حرم كل من مناصري أرسطو وأعدائه بعضهم بعضا كنسيا، وكذلك أصحاب الشعر القصير والطويل. في هذا العالم لدينا قانون يتسم بالكمال فقط كي نحكم من خلاله نوعا من الجنون يطلق عليه المقامرة. قوانين المقامرة هي الوحيدة التي لا تسمح بالاستثناء أو التخفيف أو التنوع أو الطغيان. إن لعب خادم لعبة اللانسكوينت مع الملوك فسيدفع له بلا صعوبة إن فاز؛ وبخلاف ذلك، فالقانون سيف يمزق به الأقوياء الضعفاء.
بصرف النظر عن كل ذلك، يبقى هذا العالم وكأن كل شيء في أفضل ترتيب؛ الشذوذ عن القواعد من طبيعتنا؛ عالمنا السياسي مثل كوكبنا، شيء مشوه يحفظ نفسه دائما. سيكون من الجنون أن نتمنى لو كانت الجبال والبحار والأنهار مرسومة في أشكال منتظمة جميلة؛ ويظل أكثر جنونا أن نطلب الحكمة الكاملة في البشر؛ سيكون ذلك من باب تمني منح الكلاب أجنحة والنسور قرونا.
الحنطة
كانت لدى الغال حنطة في زمن قيصر، ويشعر المرء بالفضول لمعرفة أين وجدها الغال والألمان القدماء حتى يزرعوها. يجيبك الناس بأن أهل مدينة صور قد جلبوها إلى إسبانيا؛ ومن ثم جلبها الإسبان إلى الغال، والغال إلى ألمانيا. ومن أين أتى الصوريون بهذه الحنطة؟ ربما من اليونانيين الذين بادلوهم إياها بالأبجدية.
من منح اليونانيين هذه الهدية؟ إنها سيريس فيما مضى دون شك، وعندما يرجع المرء إلى سيريس، فبالكاد يستطيع أن يذهب أبعد من ذلك. لا بد وأن سيريس هبطت عمدا من السماء لتمنحنا الحنطة، والجودار والشعير ... إلخ.
لكن بقدر ما هوت كثيرا في الوقت الحالي الثقة في أن سيريس هي التي منحت اليونانيين الحنطة، وأن إيشيث أو إيزيس هي التي أنعمت بها على المصريين، فلا نزال في شك من أصل الحنطة.
يؤكد سانشونياثون أن داجون أو داجان، أحد أحفاد تحوت، كان يتحكم في الحنطة في فينيقيا. حسنا. يرجع إلهه تحوته هذا إلى زمن إلهنا القديم يارد تقريبا. نستخلص من ذلك أن الحنطة قديمة جدا، وأنها قديمة قدم العشب. ربما كان داجون هذا هو أول من صنع الخبز، ولكن لا دليل على ذلك.
شيء غريب! نعرف قطعا أننا مدينون بالنبيذ إلى نوح، ولا نعرف من ندين له بالخبز. ويبقى أكثر غرابة أننا شديدو الجحود لنوح؛ فلدينا أكثر من ألفي أغنية لتكريم باخوس، وبالكاد نغني أغنية واحدة لتكريم نوح المحسن إلينا.
أكد لي يهودي أن الحنطة ظهرت من تلقاء نفسها في بلاد ما بين النهرين، مثلها مثل التفاح، والكمثرى البرية، والكستناء، والبشملة في الغرب. أود أن أصدق ذلك إلى أن أتأكد من العكس؛ فلا بد أن الحنطة تنمو في مكان ما. لقد أصبحت الغذاء المعتاد الذي لا غنى عنه في الأماكن ذات المناخ الجيد، وعبر الشمال.
ادعى بعض الفلاسفة العظماء الذين نحترم مواهبهم ولا نتبع مناهجهم (بوفون) في صفحة 195 من كتاب «التاريخ الطبيعي للكلب» أن الإنسان صنع الحنطة؛ وأنه بفضل إلقاء آبائنا ببذور الزوان والنجيلية حولوهما إلى حنطة. وكما لا يوافقنا هؤلاء الفلاسفة في رأينا عن الأصداف، فسيسمحون لنا بألا نوافقهم في الرأي بشأن الحنطة. نحن لا نصدق أن أحدا قط صنع التيوليب من الياسمين. ونجد أن أصل الحنطة مختلف تماما عن الزوان، ولا نؤمن بأي طفرة. حينما يرينا أحد إياها فسوف نتراجع.
ليست الحنطة بالتأكيد غذاء الجزء الأعظم من العالم. تغذي الحنطة والتبيوكة كل أمريكا. لدينا مقاطعات بالكامل لا يأكل فيها الفلاحون شيئا سوى خبز الكستناء، وهو أكثر تغذية وأفضل مذاقا من نبات الجودار والشعير الذي يأكله كثير من الناس، وهو أفضل من الخبز الذي يقدم للجنود. لا يعلم أحد في جنوب أفريقيا بالكامل شيئا عن الخبز. أيضا في الأرخبيل الشاسع لجزر الهند، وسيام، ولاوس، وبيجو، والكوشينشين، وتونكين، وبعض الصين، واليابان، وساحل مالابار، وكورومانديل، وضفاف نهر الجانج؛ يزرع الأرز الذي تسهل زراعته بالمقارنة بالحنطة؛ فأدى هذا إلى إهمال الحنطة. ولا تعرف الحنطة في مساحة خمسة عشر ألف فرسخ على سواحل البحر الجليدي. هذا الطعام الذي تعودنا عليه قيم جدا عندنا، حتى إن خشية حدوث ندرة منه يمكن أن تتسبب في أعمال شغب بين الشعوب الأكثر استعبادا. تجارة الحنطة أهم أهداف الحكومة في كل مكان؛ إنها جزء من كينونتنا، مع ذلك، تبدد هذه السلعة الأساسية أحيانا على نحو سخيف. يستخدم تجار الدقيق أفضل أنواعه لتغطية رءوس شبابنا وشاباتنا. لكن ما يزيد على ثلاثة أرباع الخبز الذي تنتجه الأرض لا يؤكل على الإطلاق. يذكر الناس أن الإثيوبيين كانوا يهزءون بالمصريين الذين كانوا يعيشون على الخبز. لكن بما أن الحنطة هي طعامنا الرئيس، فقد صارت هدفا عظيما للتجارة والسياسة. كتب الكثير عن ذلك الموضوع، حتى إنه لو زرع فلاح حنطة بقدر ما لدينا من مجلدات عن هذه السلعة، لأمل في أوفر محصول، ولأصبح أغنى من الذين يجلسون في صالوناتهم منتشين، متجاهلين عمله الشاق وما يعانيه من بؤس.
كرومويل
(1) القسم الأول
يصور كرومويل على أنه رجل كان محتالا طوال حياته. أجد صعوبة في تصديق ذلك. أعتقد أنه قبل كل شيء، كان متحمسا، وأنه فيما بعد جعل حتى تعصبه في خدمة عظمته. غالبا ما ينتهي الأمر بالمبتدئ المتحمس في عمر العشرين إلى وغد بارع في الأربعين. يبدأ المرء لعبة الحياة الإنسانية العظيمة ساذجا، وينتهي به الأمر وغدا. يبدأ رجل الدولة كراهب مكلف بتوزيع الصدقات، منغمس في الأمور الصغيرة المتعلقة بديره، ورع، وساذج، وأخرق، يواجه العالم بفطرته، ثم يتعلم الراهب ويكون نفسه ويتآمر ويحل محل معلمه.
لم يكن كرومويل يعلم في البداية ما إن كان سيصبح رجل دين أم جنديا. كان كليهما. في عام 1622م خدم في حملة في جيش فريدريك هنري أمير أورانج، وهو رجل عظيم شقيق رجلين عظيمين، ولما عاد إلى إنجلترا دخل في خدمة الأسقف وليامز، وكان عالم اللاهوت المقرب منه، وأثناء هذا أصبح عشيق زوجته. كانت مبادئه هي مبادئ البيوريتانيين، وهكذا كان عليه أن يكره الأسقف من كل قلبه، وألا تكون لديه محبة للملوك. أقصي من منزل الأسقف وليامز لأنه كان بيوريتانيا؛ وهنا ابتسم له الحظ. أعلن البرلمان الإنجليزي معارضته للعرش وجماعة الأساقفة؛ دبر بعض أصدقائه في هذا البرلمان تنصيبه على إحدى القرى. في ذلك الوقت فقط بدأ حقا في الظهور، وكان قد تخطى الأربعين قبل أن يتكلم عنه أحد. كان مطلعا على نحو سطحي على الكتاب المقدس، وجادل على نحو سطحي بشأن حقوق الكهنة والشمامسة، ووعظ بعظات ضعيفة وافتراءات، وكان نكرة. رأيت إحدى تلك العظات وكانت تافهة جدا، تشبه مواعظ جمعية الأصدقاء الدينية (الكويكريين). من المؤكد أنه ما من أثر فيها لهذه البلاغة المقنعة التي أثار بها حماسة البرلمانات فيما بعد. السبب أنه كان في الحقيقة أنسب كثيرا للشئون العامة منه للكنيسة. فضلا عن ذلك، كانت فصاحته تكمن في نبرة صوته ومظهره؛ فإشارة من تلك اليد كسبت كثيرا من المعارك، وقتلت كثيرا من الموالين للعرش، بل كانت أكثر إقناعا من خطب شيشرون. يجب الاعتراف بأن شجاعته التي لا تقارن هي التي جعلته مشهورا وقادته تدريجيا إلى ذروة العظمة.
بدأ انطلاقته بوصفه متطوعا يرغب في تكوين ثروة في مدينة هال المحاصرة من الملك. قام هناك بعمل أعمال متقنة ورفيعة حصل مقابلها على مكافأة تناهز ستة آلاف فرنك من البرلمان. هذه الهدية التي منحها البرلمان لمغامر أوضحت أن حزب التمرد لا بد أن يسود. لم يكن الملك في وضع يسمح له بأن يعطي ضباطه ما أعطاه البرلمان للمتطوعين. بالمال والتعصب لا بد للمرء على المدى الطويل أن يكون سيدا على كل شيء. رقي كرومويل إلى رتبة عقيد؛ حينئذ تطورت مواهبه الحربية العظيمة إلى درجة أنه حينما نصب البرلمان كونت مانشستر فريقا أول لجيوشه، جعل كرومويل فريقا، دون أن يكون مر بالرتب الأخرى. لم يبد أحد قط أجدر بالقيادة، ولم تشهد قط فعالية وحكمة وإقدام ودهاء، أكثر مما في كرومويل. أصيب في معركة يورك، وبينما كانت الضمادة الأولى توضع على جرحه، عرف أن قائده كونت مانشستر يتراجع، وأنهم يخسرون المعركة. يسرع إلى جانب الكونت؛ يجده ينسحب مع بعض الضباط؛ يأخذه من ذراعه ويقول له بثقة وعزة: «أنت مخطئ سيدي. العدو ليس في ذلك الجانب.» يقوده عائدا به قرب ميدان المعركة، ويجمع خلال الليلة أكثر من اثني عشر ألف رجل، ويتحدث إليهم باسم الله، ويقتبس من موسى وجدعون ويوشع، وفي الفجر، يستأنف المعركة ضد الجيش الملكي المنتصر ويدحره تماما. كان على رجل مثل هذا أن يختفي أو أن يصبح سيدا. كان كل ضباطه تقريبا متحمسين يحملون العهد الجديد في سرج الجواد. كان الرجال - في الجيش كما في البرلمان - يتحدثون فقط عن إسقاط بابل، وتأسيس الدين في أورشليم، وتحطيم الوثن. وسط الكثير من المجانين توقف كرومويل عن جنونه، واعتقد أنه من الأفضل أن يحكمهم بدلا من أن يحكموه. بقيت له عادته في الوعظ كما لو كان ملهما. تخيل ناسكا يرتدي حزاما حديديا حول وسطه علامة على التوبة، ثم يخلع حزامه ليضرب به آذان النساك الآخرين، ستجد حينئذ كرومويل. يصبح متآمرا بقدر ما يتآمر عليه؛ يخالط كل عقداء الجيش، وهكذا يشكل وسط الفرق العسكرية جمهورية تجبر القائد العام على أن يستقيل. يعين رئيس جديد يحتقره. كان يدير الجيش، ومن خلاله يدير البرلمان؛ يجبر البرلمان على تعيينه قائدا عاما في النهاية. كان كل ذلك ضمن صفقة كبيرة، لكن ما كان ضروريا هو أن يكسب كل المعارك التي يخوضها في إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا؛ ويكسبها، لا بمراقبة القتال والاعتناء بنفسه، ولكن دائما بالهجوم على العدو، وتجميع قواته، والاندفاع في كل مكان، والإصابة مرارا وهو يقتل الكثير من الضباط الملكيين بيده، مثل رامي قنابل مستميت وغاضب.
وسط هذه الحرب المروعة وقع كرومويل في الغرام. ذهب متأبطا إنجيله ليضاجع زوجة قائده لامبارد. أحبت كونت هولندا الذي كان يخدم في جيش الملك. أسره كرومويل في معركة، واستمتع حين قطع رأس منافسه. كان مبدؤه أن يريق دماء كل عدو مهم، إما في أرض المعركة أو بيد منفذ الإعدام. وما برح يزيد قوته بالجرأة الدائمة على إساءة استخدامها. لم ينقص عمق خططه شيئا من اندفاعه الوحشي. يذهب إلى مقر البرلمان، آخذا ساعته التي يلقيها على الأرض لتتحطم شظايا متناثرة، قائلا: «سأحطمكم مثل هذه الساعة.» ويعود إلى هناك في وقت لاحق، ويطرد كل الأعضاء واحدا تلو الآخر مذلا إياهم. يجبر كل منهم أن ينحني أمامه انحناء أثناء مروره. يمر أحدهم وقبعته على رأسه؛ فيأخذ كرومويل منه قبعته ويلقيها على الأرض قائلا له: «تعلم أن تحترمني.»
حينما أساء لكل الملوك بقطع رأس ملكه الشرعي، وحينما بدأ في الحكم بنفسه، أرسل صورته إلى زعيمة متوجة؛ إلى كريستين ملكة السويد. أرفق مارفل، وهو شاعر إنجليزي شهير، كان يكتب شعرا لاتينيا رائعا، ستة أبيات من الشعر مع هذه الصورة؛ حيث جعل كرومويل نفسه يتكلم. صحح كرومويل البيتين الأخيرين كما يأتي:
أما أنت فلتنحني أمام ظلك الأجدر باحترامك، ولا تنحني أمام الملوك مثل الهمج.
كانت هذه الملكة أول من يعترف به حالما أصبح حامي الممالك الثلاث. أرسل حكام أوروبا كلهم تقريبا سفراءهم إلى «أخيهم» كرومويل؛ إلى خادم الأسقف هذا الذي جعل أحد الحكام، من عشيرتهم، يلقى حتفه بيد منفذ الإعدام. اتفقوا جميعا في التماس محالفته. تودد إليه الكاردينال مازارين بإبعاد ابني تشارلز الأول عن فرنسا، حفيدي هنري الرابع، ابني عم لويس الرابع عشر الأولين. غزت فرنسا دنكيرك من أجله، وأرسلت إليه المفاتيح. بعد موته، لبس لويس الرابع عشر وكل حاشيته الحداد، عدا الآنسة التي كانت لديها الشجاعة لكي تأتي إلى المحفل مرتدية ثيابا ملونة، وحفظت وحدها شرف جنسها.
لم يأت قط ملك أكثر استبدادا من كرومويل. قال إنه فضل الحكم تحت اسم «الحامي» على الحكم تحت اسم «الملك»؛ لأن الإنجليز كانوا يعرفون المدى الذي يبلغه امتياز ملك ما، ولم يعلموا إلى أي مدى يمكن أن يمتد امتياز حام ما. معنى هذا فهم الرجال الذين يحكمهم الرأي، ويعتمد رأيهم على اسم ما. كان يكن ازدراء عميقا للدين الذي أسهم في ثروته . ثمة حكاية مؤكدة محفوظة بمنزل سان جون، تثبت بما فيه الكفاية استهانة كرومويل بالأداة التي عادت عليه بكثير من النفع. كان يشرب ذات يوم مع إيريتون وفليتوود وسان جون، الجد الأكبر للورد بولينجبروك الشهير، ورغبوا في نزع سدادة الزجاجة؛ فسقطت نازعة السدادات أسفل المنضدة؛ بحثوا جميعهم عنها ولم يجدوها. أثناء ذلك كان وفد من الكنائس المشيخية منتظرا في حجرة الانتظار، وأتي الحاجب ليعلن عن وصولهم. قال له كرومويل: «قل لهم إني تقاعدت، وإنني أبتغي الرب.» كان ذلك هو التعبير الذي كان المتعصبون يستخدمونه حينما يتلون صلواتهم. وحينما صرف بذلك جماعة القساوسة، قال تلك الكلمات لكاتمي أسراره: «يعتقد هؤلاء الجراء أننا نبتغي الرب، وما نبتغي إلا نازعة السدادات.»
ما من مثال تقريبا في أوروبا لرجل أتى من مكانة متدنية هكذا وارتقى إلى مكانة عالية هكذا. لكن ما الذي كان ضروريا له بجانب كل مواهبه؟ إنها الثروة. وقد حصل عليها، ولكن أتراه كان سعيدا؟ لقد عاش معيشة الفقر والقلق حتى الثالثة والأربعين، ومنذ ذلك الوقت أغرق نفسه في الدماء، وأمضى حياته في اضطراب، ومات قبل أوانه وهو في السابعة والخمسين من عمره. فلنقارن بين حياته وحياة نيوتن الذي عاش أربعة وثمانين عاما، وادعا دائما، مكرما دائما، منارة لكل الكائنات المفكرة على الدوام، يرى كل يوم تنامي شهرته وسمعته وثروته دون أن يشعر أبدا بالهم أو تأنيب الضمير؛ فلنحكم أيهما كان أوفر حظا. (2) القسم الثاني
حظي أوليفر كرومويل بإعجاب بيوريتانيي إنجلترا ومستقليها؛ وما زال هو بطلهم، لكن ريتشارد كرومويل، ابنه، هو الرجل الذي أفضله.
الأول متعصب، كان من الممكن احتقاره اليوم في مجلس العموم لو أنه تفوه هناك بشيء واحد من الحماقات الغبية التي كان يلقيها بثقة عظيمة أمام متعصبين آخرين استمعوا إليه بفم فاغر وعيون جاحظة باسم الرب. لو قال إن على المرء أن يبتغي الرب ويحارب في معارك الرب؛ ولو أنه قدم لبرلمان إنجلترا الرطانة اليهودية التي تمثل عارا أبديا على الذكاء الإنساني، لكان أرجح أن يذهبوا به إلى مستشفى المجانين من أن يختاروه لقيادة الجيوش.
كان شجاعا بلا شك؛ وكذلك الذئاب؛ هناك حتى قردة مفترسة كالنمور. لقد تحول من متعصب إلى سياسي داهية؛ أي تحول من ذئب إلى ثعلب، ومن الدرجات الأولى، تسلق بالخداع، حيث وصلت به الحماسة الشديدة جدا في تلك الأوقات إلى ذروة العظمة، وسار الدجال فوق رءوس المتعصبين الساجدين. حكم، لكنه عاش في رعب القلق. لم يعرف أياما هادئة، ولا ليالي صافية. لم تدن منه عزاءات الصداقة والمجتمع قيد أنملة، ومات قبل أوانه، ولا شك أنه كان أجدر بالإعدام من الملك الذي ساقه من نافذة في قصره إلى المشنقة.
على النقيض، ولد ريتشارد كرومويل بروح حكيمة رقيقة، ورفض أن يحتفظ بتاج والده مقابل دم اثنين أو ثلاثة من المتمردين الذين كان يمكن أن يضحي بهم من أجل طموحه. فضل الاكتفاء بحياته الخاصة على أن يكون سفاحا طاغية. تخلى عن حماية الدولة له بلا ندم؛ ليعيش عيشة مواطن. استمتع بصحته حرا وهادئا في بلاده، وهناك امتلك نفسه في سلام طيلة ستة وثمانين عاما، محبوبا من جيرانه الذين كان لهم حكما وأبا.
أيها القراء، احكموا أنتم. إن كان عليكم أن تختاروا بين مصير الأب ومصير الابن، فأيهما ستختارون؟
العادات
العادات الوضيعة لا تنم دوما عن أمة وضيعة
ثمة حالات لا يمكن أن يحكم فيها المرء على أمة طبقا لعاداتها وخرافاتها الشعبية. افترض أن قيصر بعد أن غزا مصر راغبا في جعل التجارة تزدهر في الإمبراطورية الرومانية، أرسل سفارة إلى الصين عبر ميناء أرسينوي، فالبحر الأحمر، فالمحيط الهندي. كان الإمبراطور إيفينتي، أول إمبراطور بهذا الاسم، هو الحاكم، وتذكره حوليات التاريخ بأنه أمير مثقف حكيم. بعد أن استقبل سفراء قيصر بكل الأدب الصيني، يتعلم من خلال مترجميه عادات الشعب الروماني - الشهير في الغرب شهرة الشعب الصيني في الشرق - وعلومه وديانته. يتعلم بادئ ذي بدء أن أحبار هذا الشعب رتبوا عامهم بطريقة منافية للعقل لدرجة أن الشمس تحمل بالفعل العلامات السماوية الدالة على الربيع بينما يحتفل الرومان بأول أعياد الشتاء.
يتعلم أن تلك الأمة تدعم بتكلفة مرتفعة كلية للكهنة الذين يعرفون بالتحديد الوقت الذي ينبغي فيه للمرء أن يبحر، والوقت الذي ينبغي فيه أن يحارب، بفحص كبد ثور، أو بالطريقة التي يأكل بها الدجاج الشعير. أتى بهذا العلم المقدس إلى الرومان إله صغير يدعى تاجز انبثق من الأرض في توسكانيا. تعبد هذه الشعوب إلها واحدا قديرا يدعونه دوما الإله العظيم الطيب جدا. ومع ذلك، بنوا معبدا لعاهرة تدعى فلورا، وكان لدى النساء الرومانيات الفاضلات كلهن تقريبا في منازلهن آلهة بيتية صغيرة يتراوح ارتفاعها بين أربع بوصات وخمس. كانت إحداها إلهة الثديين، وأخرى إلهة الردفين. ومن هذه الآلهة المنزلية واحد يدعى الإله المدلل. بدأ الإمبراطور يوفنتي في الضحك، واعتقد قضاة نانكين معه في البداية أن السفراء الرومانيين مجانين أو محتالون انتحلوا شخصيات مبعوثي الجمهورية الرومانية. لكن الإمبراطور، إذ كان عادلا بقدر ما هو مهذب، يحادث السفراء على انفراد. يتعلم أن كهنة الرومان كانوا شديدي الجهل، لكن قيصر كان يعدل التقويم حينئذ؛ يعترفون له بأن مجمع العرافين أسس في العصور الهمجية الأولى؛ وأن ذلك المعهد الباعث على الضحك، العزيز على شعب افتقر طويلا للتحضر، سمح له بالبقاء؛ وأن كل الناس الشرفاء يسخرون من العرافين؛ وأن القيصر لم يستشرهم قط؛ وأنه بناء على رأي رجل عظيم جدا يدعى كاتو، لم يدع قيصر عرافا قط يتحدث إلى رفيقه دون سخرية؛ وأخيرا، أن شيشرون الخطيب العظيم وأفضل الفلاسفة في روما انتهى حينئذ من تأليف كتاب صغير بعنوان «عن العرافة»، وصف فيه بالسخافة الأبدية كل العرافين، وكل تنبؤاتهم، وكل الشعوذة التي فتن العالم بها. يهتم إمبراطور الصين اهتماما شديدا بقراءة كتاب شيشرون؛ يترجمه له المترجمون؛ فيعجب بالكتاب وبالجمهورية الرومانية.
الديمقراطية
لا توجد مقارنة عادة بين جرائم العظماء الذين دائما ما يكونون طموحين وبين جرائم الناس الذين دائما ما يريدون الحرية والمساواة ولا يمكنهم أن يريدوا سواهما. هاتان العاطفتان؛ الحرية والمساواة لا تؤديان مباشرة إلى الافتراء والنهب والاغتيال والتسميم وتخريب أراضي الجيران ... إلخ، ولكن الشخص الطموح، مع جنون السلطة ، قد ينغمس في كل تلك الجرائم، بصرف النظر عن الزمان والمكان.
لذلك، فالحكومة الشعبية بذاتها تعد أقل شرا وأقل بشاعة من السلطة الاستبدادية.
ليست الرذيلة العظمى للديمقراطية بالتأكيد هي الطغيان والوحشية. ظهر جمهوريون قاطنو جبال متوحشون، لكن ليست الروح الجمهورية هي التي صنعت ذلك، وإنما هي الطبيعة.
الرذيلة العظمى للجمهورية المتحضرة يمكن أن نجدها في الأسطورة التركية عن التنين ذي الرءوس العديدة، والتنين ذي الأذيال العديدة. تصيب الرءوس العديدة بعضها بعضا، وتطيع الأذيال الكثيرة رأسا واحدا يود أن يلتهم كل شيء.
تبدو الديمقراطية مناسبة لبلد صغير جدا فقط، فضلا عن أنه لا بد وأن يكون في موقع جيد. ومهما يكن صغيرا؛ فسيرتكب أخطاء كثيرة؛ لأنه سيكون مكونا من البشر. سيسود النزاع هناك كما يحدث في دير؛ لكن لن تكون ثمة مذبحة يوم سان بارثولوميو، ولا مذابح أيرلندية، ولا صلاة غروب صقلية، ولا محاكم تفتيش، ولا مصادرة سفن شراعية لحصولها على بعض الماء من البحر دون أن تدفع ثمنه، إن لم يفترض المرء أن هذه الجمهورية مكونة من شياطين في ركن من الجحيم.
يتساءل المرء كل يوم: هل الحكومة الجمهورية أفضل من حكم ملك؟ دائما ما ينتهي الخلاف بالاتفاق على أن حكم البشر صعب للغاية. اتخذ اليهود الرب نفسه سيدا؛ فانظر ما حدث لهم بسبب هذا: دائما تقريبا ما هزموا وصاروا عبيدا، واليوم ألا تجد أن لهم شأنا؟
القدر
تعد كتب هوميروس الأقدم من بين كل كتب الغرب التي توارثناها. فيها يجد المرء عادات العصور القديمة الدنسة، والأبطال الضخام، والآلهة الضخام المصورين في صورة البشر، لكن فيها يجد المرء من بين التخيلات والتفاهات بذور الفلسفة، وعلى رأسها فكرة القدر الذي هو سيد الآلهة بقدر ما أن الآلهة سيدة العالم.
حينما يتمنى هيكتور النبيل من كل قلبه مقاتلة أخيل النبيل، ويطوف بالمدينة ثلاثا قبل القتال كي ينعم بمزيد من القوة والحيوية؛ حين يقارن هوميروس أخيل سريع العدو الذي يلاحقه بشخص نائم، وحينما تصل مدام داسير إلى نشوة الإعجاب بالفن والإحساس الطاغي بهذه الفقرة، فيريد جوبيتر حينها أن ينقذ هيكتور العظيم الذي قدم تضحيات كثيرة لأجله، ويستشير الأقدار ؛ يزن مصيري هيكتور وأخيل في الميزان (الإلياذة، الجزء الثاني والعشرون)، ويجد أن الطراودة يجب أن يقتلوا بأيدي الإغريق؛ لا يستطيع أن يعارض ذلك، ومن هذه اللحظة، يجبر أبولو، حارس هيكتور البارع، على أن يهجره. لا يعني ذلك أن هوميروس ليس مسرفا - في أغلب الأحوال وخصوصا في هذا الموضع - في الأفكار المتناقضة تماما، متبعا خصال العصور القديمة؛ لكنه أول من يجد المرء عنده فكرة القدر؛ لذلك كانت هذه الفكرة رائجة للغاية في أيامه.
لم يتبن الفريسيون من بين الشعب اليهودي الصغير فكرة القدر إلا بعد قرون عدة؛ لأن هؤلاء الفريسيين أنفسهم، الذين كانوا أول المتعلمين بين اليهود، كانوا مبتكرين للغاية. مزجوا في الإسكندرية بين جزء من عقيدة الرواقيين وبين الأفكار اليهودية القديمة. يدعي القديس جيروم أن طائفة الفريسيين ليست حتى سابقة كثيرا على العصر المسيحي.
لم يكن الفلاسفة في حاجة قط إلى هوميروس أو الفريسيين ليقتنعوا بأن كل شيء يحدث عبر قوانين ثابتة، وأن كل شيء مرتب، وأن كل شيء بالضرورة حادث. هكذا كانوا يتجادلون.
إما أن العالم يوجد بفعل طبيعته، بفعل قوانينه المادية، وإما أن كائنا أعلى شكله طبقا لقوانينه العليا. في كلتا الحالتين هذه القوانين ثابتة، وفي كلتا الحالتين أيضا كل شيء ضروري؛ تتجه الأجسام الثقيلة نحو مركز الأرض دون أن تكون قادرة على التوقف في الهواء. لا يستطيع شجر الكمثرى أبدا أن يثمر أناناسا. لا يمكن لغريزة الكلب الصغير أن تصبح غريزة نعامة؛ كل شيء مرتب، ومتصل بغيره، ومحدد.
يمكن للمرء أن يحصل فقط على عدد معين من الأسنان والشعر والأفكار؛ ويأتي وقت يفقد فيه بالضرورة أسنانه وشعره وأفكاره.
من التناقض أن نقول إن ما كان بالأمس لم يكن، وإن ما هو كائن اليوم غير كائن؛ من التناقض أيضا أن نقول إن ما يجب أن يكون لا يمكن أن يكون.
إن استطعت أن تتدخل في مصير ذبابة فلن يكون هناك سبب وقتها يمنعك من صنع مصير كل الذباب الآخر، وكل الحيوانات الأخرى، وكل البشر، وكل الطبيعة؛ ستجد نفسك في النهاية أقوى من الله.
يقول الحمقى: «أنقذ طبيبي عمتي من مرض قاتل؛ جعلها تعيش عشرة أعوام أطول مما كان مقدرا لها.» يقول آخرون ممن يتصنعون المعرفة: «يصنع الرجل الحكيم مصيره بنفسه.»
لكن الرجال الحكماء غالبا ما يكونون أبعد عن صناعة مصائرهم بأنفسهم، من أن يخضعوا لها؛ فالقدر هو ما يجعلهم حكماء.
يؤكد دارسو السياسة المتعمقون أنه لو أن كرومويل ولدلو وإيريتون ودستة أخرى من البرلمانيين اغتيلوا قبل أسبوع واحد من قطع رأس تشارلز الأول لربما عاش هذا الملك حياة أطول ومات في فراشه. هم محقون. ويمكن أن يضيفوا أيضا أنه لو أن إنجلترا بالكامل ابتلعها البحر، لما انتهى ذلك العاهل على مشنقة بالقرب من وايتهول؛ لكن الأمور كانت مرتبة بحيث كان يجب على تشارلز أن تقطع رأسه.
كان كاردينال دوسات أكثر حكمة بلا شك من مجنون في بدلام، لكن أليس واضحا أن أعضاء دوسات الحكيم خلقت خلافا لأصحاب الأدمغة المشتتة، تماما كما تختلف أعضاء الثعلب عن أعضاء اللقلق والقبرة؟
أنقذ طبيبك عمتك؛ لكنه بالتأكيد لم يناقض نظام الطبيعة؛ بل اتبعه. واضح أن عمتك لم تستطع أن تمنع ولادتها في هذه البلدة أو تلك، وأنها لم تستطع أن تمنع نفسها من الإصابة بمرض معين في زمن معين، وأن الطبيب لم يكن ممكنا أن يكون في مكان آخر سوى البلدة التي كان فيها، وأن عمتك كان عليها أن تتصل به، وأنه كان عليه أن يصف لها تلك الأدوية التي شفتها، أو يظن المرء أنها شفتها، حينما كانت الطبيعة هي الطبيب الوحيد.
يظن قروي أن السماء أمطرت حقله صدفة؛ لكن الفيلسوف يعرف أنه ما من صدفة، وأنه كان مستحيلا في بناء ذلك العالم ألا تمطر السماء في ذلك اليوم في ذلك المكان.
ثمة بشر، لأنهم يرتعبون من الحقيقة، يقرون بنصفها فقط كما يقدم المدينون نصف الدين للدائنين ويطالبون بتأجيل الباقي. يقولون: «بعض الأحداث حتمي، والبعض الآخر ليس كذلك.» سيكون مضحكا جدا أن أحد أجزاء العالم رتب والآخر لم يرتب؛ أن جزءا مما يحدث كان يجب أن يحدث، وجزءا آخر مما يحدث لم يكن يجب أن يحدث. إن فحص المرء بدقة ذلك الأمر سيجد أن العقيدة المناقضة لعقيدة القدر سخيفة؛ لكن كثيرا من الناس مقدور عليهم أن يفكروا على نحو سيئ، وآخرين مقدور عليهم ألا يفكروا على الإطلاق، وآخرين مقدور عليهم أن يضطهدوا من يفكرون.
يقول لك بعض الناس: «لا تؤمن بالقدرية؛ لأنه بما أن كل شيء وقتها سيبدو محتوما، فلن تفعل شيئا، وستتمرغ في اللامبالاة، ولن تحب الأغنياء ولا الشرفاء ولا المجد؛ لن تريد أن تكتسب أي شيء، وستؤمن أنك بلا حول ولا قوة؛ ما من موهبة ستنمى، وسيفنى كل شيء من خلال الفتور.»
لكن لا تخافوا أيها السادة، فستظل لدينا دائما عواطف وتحيزات؛ لأن قدرنا أن نكون خاضعين لعواطفنا وتحيزاتنا. سنعلم أن امتلاكنا جدارة كثيرة وموهبة عظيمة، لا يتوقف علينا أكثر من امتلاكنا رأسا جميل الشعر وأيدي جميلة. سنقتنع بأن علينا ألا نستخف بأي شيء، غير أننا سنحتفظ دوما بخيلائنا.
لدي حتما الدافع لأن أكتب ذلك، بينما لديكم الدافع لتدينوني؛ كلانا حمقى بالتساوي، وكلانا بالتساوي دمى تحركها أصابع القدر. طبيعتكم أن تفعلوا الشر، وطبيعتي أن أحب الحق وأعلنه رغم أنوفكم.
قالت البومة، التي تتغذى على الفئران وبقاياها، للعندليب: «أنه غناءك تحت شجرتك الظليلة الجميلة، وتعال إلى كوتي لعلي آكلك.» رد العندليب: «ولدت لأغني هنا وأسخر منك.»
تسألني ماذا سيكون من شأن الحرية؟ لا أفهمك. لا أعرف ما هذه الحرية التي تتحدث عنها؛ ظللت تجادل عن طبيعتها حتى إنك لا تتعرف عليها. إن كنت ترغب، أو بالأحرى إن كنت تستطيع، أن تتفحص معي ماهيتها بهدوء، فانتقل إلى حرف الحاء.
المخلص
تشير كلمة «مخلص» إلى «المكرس»؛ وبالمعنى الصارم للكلمة، لا ينبغي أن تنتمي هذه الصفة إلا إلى الرهبان والراهبات الذين يلتزمون بالنذور. لكن بما أنه لا ذكر في الإنجيل للنذور ولا للمخلصين؛ فهذا اللقب لا يخص أحدا في واقع الأمر. يجب أن يكون الناس بررة على التساوي. يشبه من يلقب نفسه بأنه مخلص رجلا من العامة يلقب نفسه بأنه ماركيز؛ ينسب لنفسه ميزة لا يمتلكها. يعتقد أنه أهم من جاره. يمكن للمرء أن يتغاضى عن مثل هذه الحماقة في النساء؛ فضعفهن وخفتهن يجعلانهن معذورات. تنتقل المخلوقات الضعيفة من عشيق إلى مدير بحسن نية، لكن لا يمكن للمرء أن يعذر الغشاشين الذين يديرونهن، الذين يستغلون جهلهن، الذين يقيمون عرش كبريائهم على سذاجة الجنس. يتحولن إلى مجموعة حريم صوفية صغيرة مكونة من سبعة أو ثمانية من الجميلات المتقدمات في السن، اللاتي أوهنهن افتقارهن لوظيفة، وغالبا ما يدفع هؤلاء الأشخاص إتاوة لسادتهن الجدد. ما من امرأة شابة بلا عشيق، وما من امرأة مسنة مخلصة بلا قيم. آه! الشرقيون أكثر منا حكمة! ما من باشا قط يقول: «تعشينا بالأمس مع أغا الانكشاريين الذي هو عشيق أختي، وشيخ المسجد الذي هو القيم على زوجتي.»
الخدمة الكنسية
لا تقوم مؤسسة الدين إلا لإبقاء الجنس البشري داخل نظام؛ ولجعل البشر أهلا لعطف الله بفضيلتهم. كل شيء في دين لا يتجه صوب ذلك الهدف يجب اعتباره غريبا وخطيرا.
التوجيه، والوعظ، والوعيد بالعذاب الآتي، والوعود بالسعادة الأبدية، والصلوات، والنصائح، والمساعدة الروحية هي الوسائل الوحيدة التي يمكن للإكليروس أن يستخدموها ليحاولوا أن يجعلوا البشر يتمسكون بالفضيلة في الحياة الدنيا، ويسعدون بالأبدية.
كل الوسائل الأخرى تتعارض وحرية الفكر وطبيعة الروح وحقوق الضمير الثابتة، بل تتعارض وجوهر الدين ذاته والخدمة الكنسية أيضا، وكل حقوق صاحب السيادة.
تفترض الفضيلة الحرية، كما أن تحمل الأعباء يفترض القوة الفعالة. ما من فضيلة تحت الإجبار، وما من ديانة بلا فضيلة. اجعل مني عبدا، ولن أكون سوى عبد.
حتى صاحب السيادة لا يملك الحق في استخدام القسر ليقود البشر إلى الدين الذي يفترض بالضرورة الاختيار والحرية. لا يخضع فكري للسلطة بأكثر مما تخضع الصحة أو المرض لها.
كي نفك أغوار تلك المتناقضات التي امتلأت بها كتب القانون الكنسي، وكي نعدل أفكارنا تجاه الخدمة الكنسية، دعونا نتحر بين آلاف الأشياء الغامضة ماهية الكنيسة.
الكنيسة هي جمعية كل المؤمنين المجتمعين في أيام معينة للصلاة العامة، وللفعال الصالحة في كل الأوقات.
الإكليروس هم أشخاص معينون تحت سلطة صاحب السيادة ليوجهوا هؤلاء المصلين وكل العبادة الدينية.
لم يكن ممكنا أن توجد كنيسة ضخمة بلا إكليروس؛ ولكن هؤلاء الإكليروس ليسوا هم الكنيسة.
ليس أقل وضوحا أنه إن كان الإكليروس، الذين هم جزء من المجتمع المدني، اكتسبوا حقوقا ربما تعرقل المجتمع أو تدمره، فيجب قمع هذه الحقوق.
يظل أكثر وضوحا أنه إن كان الله منح الكنيسة امتيازات أو حقوقا، فلا يجب قصر هذه الامتيازات ولا هذه الحقوق على رئيس الكنيسة أو الإكليروس؛ لأنهم ليسوا الكنيسة، كما أن القضاة ليسوا هم صاحب السيادة في دولة ديمقراطية ولا في دولة ملكية.
في النهاية، واضح تماما أن أرواحنا هي التي تخضع لرعاية الإكليروس، فقط للأمور الروحية.
تعمل روحنا داخلنا؛ والأفعال الداخلية هي الفكر، والإرادة، والنزعات، والإذعان لحقائق معينة. كل هذه الأفعال فوق كل إجبار، وفي نطاق مجال الكاهن الإكليريكي، فقط بقدر ما يجب عليه أن يرشد، وألا يأمر أبدا.
تعمل هذه الروح بالخارج أيضا، والأفعال الخارجية تخضع للقانون المدني؛ هنا يمكن أن يكون للإجبار مكان؛ فالآلام الدنيوية أو البدنية تصون القانون بعقاب من ينتهكونه.
من ثم، يجب أن تبقى طاعة النظام الكنسي دائما حرة وطوعية، ويمكن أن تكون غير ذلك. غير أن الخضوع للنظام المدني يجب أن يكون قسريا إلزاميا.
للسبب نفسه، العقوبات الكنسية التي هي دائما روحية، لا تمتد في الحياة الدنيا إلا إلى أولئك المقتنعين في قرارة أنفسهم بخطئهم. أما العقوبات المدنية فتكون، على النقيض من هذا، مصحوبة بأذى جسدي، سواء أقر المذنبون بعدالتها أم لم يقروا.
ينتج من ذلك بوضوح أن سلطة الإكليروس روحية فقط، ولا يمكن أن تكون غير ذلك؛ لا يجب أن تكون لها أي قوة دنيوية؛ وأنه ما من قوة قهرية ملائمة لخدمة الإكليروس التي قد تتحطم من جرائها.
يتضح من هذا أيضا أن صاحب السيادة، وهو حريص على ألا يعاني من أي تقسيم لسلطته، يجب ألا يسمح بأي مشروع يجعل أعضاء المجتمع المدني في حالة اعتماد خارجي ومدني على الكيان الكنسي.
هذه هي المبادئ الأكيدة للقانون الكنسي الحقيقي التي يجب أن تحتكم إليها الأحكام والقرارات في كل الأوقات طبقا للحقائق الأبدية الثابتة القائمة على القانون الطبيعي والنظام الضروري للمجتمع.
الصورة المجازية
كل شيء في العصور القديمة رمز أو صورة مجازية. بدأ الأمر في كلدو بوضع كبش وطفلين وثور في السماء علامة على ما تنتجه الأرض في الربيع. النار رمز الألوهية في فارس؛ والكلب السماوي يحذر المصريين من فيضان النيل؛ والأفعى التي تخفي ذيلها في رأسها تصبح صورة للأبدية. الطبيعة بأكملها ممثلة ومتنكرة.
وفي الهند، مرة ثانية، يمكنك أن تجد كثيرا من تلك التماثيل القديمة، الغريبة والمروعة التي تحدثنا عنها بالفعل، تمثل الفضيلة المزودة بعشرة أذرع عظيمة تقاتل بها الرذيلة، وهي التي اعتقد مبشرونا البؤساء أنها صورة للشيطان.
ضع كل رموز العصور القديمة هذه أمام عيني رجل سليم الحس، لم يسمع عنها من قبل؛ لن يفهم شيئا؛ هي لغة يجب تعلمها.
اضطر الشعراء اللاهوتيون القدامى إلى أن يهبوا الله عينين ويدين وقدمين؛ إلى أن يعلنوا عنه في شكل إنسان. يسجل القديس كليمندس السكندري بعضا من أشعار كزينوفانيس الكولوفوني («المنوعات» الجزء الخامس) التي يمكن من خلالها أن يرى المرء أن تصور البشر لله على صورتهم ليس وليد اليوم. أما أورفيوس التيراقي، أول لاهويتيي الإغريق، فعبر عن نفسه بالمثل، قبل هوميروس بمدة طويلة، على نحو مماثل لكليمندس السكندري.
ولأن كل شيء كان رمزا أو صورة مجازية، استغل الفلاسفة، وخصوصا من سبق أن سافروا إلى الهند، هذه الطريقة؛ كانت مبادئهم صورا مجازية وألغازا. «لا تثر النار بسيف.» أي لا تستفز الرجال الغاضبين. «لا تخف النور تحت المكيال.» أي لا تخف الحقيقة عن البشر. «امتنع من البقول.» أي تفاد الاجتماعات العامة المتكررة التي يدلي فيها المرء بصوته بحبوب بيضاء أو سوداء. «لا تحتفظ بطيور سنونو في منزلك.» أي حتى لا يمتلئ بالمثرثرين . «في العواصف، اعبد الصدى.» أي الجأ إلى الريف في أزمنة المحن العامة. «لا تكتب على الثلج.» أي لا تعلم العقول الكسولة البليدة. «لا تأكل قلبك ولا مخك.» أي لا تستسلم للحزن، ولا للمجازفات بالغة الصعوبة ... إلخ.
هذه هي حكم فيثاغورس، وليس من الصعب فهم معناها.
أما أجمل الصور المجازية فهي التي ترمز للرب الذي عبر عنه طيماوس اللوكريتي بتلك الفكرة: «دائرة مركزها في كل مكان ومحيطها ليس في أي مكان.» تبنى أفلاطون تلك الصورة المجازية، ووضعها باسكال بين المادة التي عمد إلى استخدامها، وسميت «أفكار» باسكال.
قال القدماء كل شيء في الميتافيزيقا والفلسفة الأخلاقية، نتفق معهم أو نكرر أقوالهم، وما كل الكتب الحديثة من هذا النوع إلا تكرارات.
علاوة على ذلك، كانت هذ الصور المجازية التي تبدو لنا بالغة الغرابة مقدسة لدى الهنود والمصريين والسيريانيين. كان عضوا التكاثر، رمزا الحياة، يحملان في موكب، باحترام جم. نسخر من ذلك، ونجرؤ على أن نعامل هؤلاء الشعوب وكأنهم همج حمقى؛ لأنهم كانوا يشكرون الله ببراءة على أنه منحهم الوجود. ماذا تراهم يمكن أن يقولوا لو أنهم رأونا ندخل معابدنا وعلى أجنابنا أدوات الدمار؟
في طيبة، كانت خطايا البشر تمثل بعنزة، وعلى ساحل فينيقيا كانت الطبيعة تصور في هيئة امرأة عارية بذيل سمكة.
لا يجب أن يندهش المرء لذلك، حين يعلم أن ذلك الاستخدام للصور المجازية وصل إلى العبرانيين حينما شكلوا شعبا بالقرب من الصحراء السورية.
أحد أجمل الصور المجازية الموجودة في الكتب اليهودية هو هذا النص من سفر الجامعة: «في يوم يتزعزع فيه حفظة البيت، وتتلوى رجال القوة، وتبطل الطواحن لأنها قلت، وتظلم النواظر من الشبابيك، وتغلق الأبواب في السوق، حين ينخفض صوت المطحنة، ويقوم لصوت العصفور، وتحط كل بنات الغناء ...»
يشير ذلك إلى أن المسنين قد فقدوا أسنانهم، وأعتم بصرهم، وابيض شعرهم كزهرة شجرة اللوز، وتورمت أقدامهم مثل الجنادب، ولم يعودوا قادرين على إنجاب الأطفال، وأنهم يجب أن يعدوا أنفسهم للرحلة العظيمة.
يعد «نشيد الإنشاد» - كما يعلم المرء - صورة مجازية مستمرة لزواج يسوع المسيح من الكنيسة. إنه صورة مجازية من بدايته إلى نهايته. يوضح «أنطون أوجستين كالميت » بمهارة أن النخلة التي يذهب إليها المحبوب هي الصليب الذي حكم به على سيدنا يسوع المسيح، ولكن يجب الاعتراف بأن الفلسفة الأخلاقية النقية والصحية ما زالت مفضلة على تلك القصص الرمزية.
يرى المرء في كتب هذا الشعب حشدا من الصور المجازية النموذجية التي تثير فينا الاشمئزاز اليوم، وتظهر ميلنا إلى الشك والسخرية؛ لكنها كانت تبدو عادية وبسيطة للشعوب الآسيوية.
نجد في سفر حزقيال صورا تبدو لنا متطرفة ومثيرة للغثيان، لكنها كانت في ذلك الوقت طبيعية. هناك ثلاثون مثالا في نشيد الإنشاد، نموذج الاتحاد الأعف. لاحظوا بعناية أن هذه التعبيرات، وهذه الصور جادة دوما، ولن تجدوا في أي كتاب من العصور القديمة البعيدة أقل قدر من السخرية عن موضوع التكاثر العظيم. عندما تدان الشهوة، يحدث ذلك وفق شروط معينة؛ لكنها لا تثير العاطفة أبدا، ولا تسمح بأقل قدر من الهزل. لم يكن لدى هذه العصور القديمة من يناظر مارشال، وكتولوس، وبترونيوس.
ينتج من كل الأنبياء اليهود وكل الكتب اليهودية، كما من كل الكتب التي تعلمنا أعراف الكلدانيين والفرس والفينيقيين والسيريانيين والهنود والمصريين، أقول: ينتج منها أن عاداتهم لم تكن كعاداتنا، وأن ذلك العالم القديم لم يكن يشبه عالمنا في شيء. اذهب من جبل طارق حتى مكناس، لم تعد الأخلاق كما كانت؛ ولم يعد المرء يجد الأفكار ذاتها؛ غيرت ضفتا البحر كل شيء.
عن المسرح الإنجليزي
ألقيت نظرة على طبعة لأعمال شكسبير أصدرها السيد صمويل جونسون. رأيت فيها أن الأجانب المدهوشين من أنه في مسرحيات شكسبير العظيم يلعب عضو مجلس شيوخ روماني دور المهرج، ويظهر ملك ثملا على خشبة المسرح، يعاملون على أنهم ضعاف العقول. لا أود أن أتهم السيد جونسون بأنه مهرج بائس، وأنه شديد الولع بالخمر؛ لكنني أجد غرابة في أنه يحسب المزاح والسكر من جماليات المسرح التراجيدي، والسبب الذي يقدمه ليس أقل فرادة، وهو أن الشاعر يحتقر التمييزات العرضية للظروف والبلد، مثله مثل الرسام الذي؛ إذ يقنع برسم الشخص، يهمل الثياب. ستكون المقارنة أكثر عدلا لو أنه كان يتحدث عن رسام ينبغي أن يدخل في موضوع نبيل تشوهات سخيفة، ينبغي أن يرسم الإسكندر الأكبر راكبا حمارا في معركة أربيلا، وزوجة داريوس تحتسي الخمر في حانة مع الدهماء.
لكن ثمة شيئا أغرب من كل ما سبق؛ وهو أن شكسبير عبقري. اعتبر الإيطاليون والفرنسيون ورجال الأدب في كل البلاد الأخرى، الذين لم يقضوا بعض الوقت في إنجلترا، أنه مجرد بهلوان، وأنه مهرج أدنى بكثير من هارلكوين، وأنه أكثر المهرجين الذي أضحكوا الجمهور جدارة بالسخرية. غير أن المرء يجد في أعمال الرجل نفسه ما يسمو بالخيال، ويثير القلب في أعماقه. إنها الحقيقة، وإنها الطبيعة نفسها التي تتحدث بلغتها بلا زيف. إنه من التسامي، ولم يسع إليه الكاتب على الإطلاق.
ماذا يمكن للمرء أن يستنتج من ذلك التناقض بين الجلال والدناءة، وبين المنطق السامي والحماقة الفظة، باختصار من بين كل التباينات التي نجدها في أعمال شكسبير؟ نستنتج أنه كان من الممكن أن يكون شاعرا عظيما لو أنه عاش في وقت أديسون.
ربما كان أديسون الشهير الذي ازدهر في أيام الملكة آن هو الوحيد من بين كل الكتاب الإنجليز الذي عرف جيدا كيف يهدي العبقرية بالذوق. كان لديه أسلوب سليم، ومخيلة حكيمة في التعبير، وأناقة، وقوة وبساطة في شعره ونثره. ولما كان صديقا للياقة والنظام، أراد أن تكتب التراجيديا بعظمة، وهكذا ألفت تراجيديته «كاتو».
من الفصل الأول نرى أشعارا تضارع أشعار فرجيل، وأحاسيس تضارع أحاسيس كاتو. ما من مسرح في أوروبا لم يصفق فيه لمشهد جوبا وسيفاكس بوصفه عملا رائعا يظهر المهارة والشخصيات المتطورة تطورا جميلا، والتباينات المتقنة، والصياغة النقية والنبيلة. صفقت أوروبا الأديبة التي تعرف ترجمات هذا العمل حتى للسمات الفلسفية التي امتلأ بها دور كاتو.
حظي هذا العمل بالنجاح الأعظم الذي استحقه جمال تفاصيله، وضمنته له اضطرابات إنجلترا التي كانت هذه التراجيديا في أكثر من موضع تلميحا مذهلا لها. لكن مع انتهاء دلالات هذه التلميحات، وكون الشعر جميلا وحسب، والحكم نبيلة وعادلة وحسب، والنص باردا، لم يعد الناس يشعرون إلا بالبرود. ما من شيء أجمل من المقطع الثاني من قصيدة فيرجيل؛ ولكنها ستبعث على الملل إذا ما تليت على المسرح. على المسرح، لا بد من وجود العاطفة، والحوار الحي، والفعل. سرعان ما عدا الناس إلى غرابات شكسبير الآسرة على فجاجتها.
الحسد
يعرف المرء جيدا ماذا قالت العصور القديمة عن تلك العاطفة المخزية، وما كرره المحدثون. هسيود أول مؤلف كلاسيكي يتحدث عنها.
صانع الخزف حاسد لصانع الخزف الآخر، والحرفي للحرفي الآخر، وحتى الفقير حاسد للفقير الآخر، والموسيقي للموسيقي الآخر (أو إن كان للمرء أن يمنح معنى آخر لكلمة «مطرب»)، والشاعر للشاعر الآخر.
قال أيوب قبل هسيود بوقت طويل: «الغيرة تميت الأحمق» (سفر أيوب: 5: 2).
أعتقد أن ماندفيل، مؤلف «أسطورة النحل»، كان أول من حاول أن يثبت أن الحسد أمر جيد للغاية، وعاطفة مفيدة جدا. سببه الأول لذلك أن الحسد طبيعي للإنسان كالجوع والعطش، ويمكن أن تجده في الأطفال، كما يوجد أيضا لدى الجياد والكلاب. تريد أن يكره أطفالك بعضهم بعضا؟ قبل أحدهم أكثر من الآخر. السر واضح.
يذكر أن أول شيء تفعله شابتان تلتقيان هو أن تفتش كل منهما عما هو سخيف في الأخرى، والشيء الثاني أن تداهن كل منهما الأخرى.
يعتقد أنه لولا الحسد لرعيت الفنون بلا تمييز، وأن رافائيل لم يكن ليصبح رساما عظيما لو لم يكن غيورا من مايكل أنجلو.
اعتبر ماندفيل أن المحاكاة ربما تكون نوعا من الحسد؛ وربما تكون المحاكاة أيضا مجرد حسد لم يخرج عن إطار اللطف.
ربما قال مايكل أنجلو لرفائيل: «قادك حسدك إلى أن تتفوق علي في العمل وحسب؛ لم تهجني، لم تتآمر ضدي مع البابا، ولم تحاول أن تعمل على حرماني كنسيا لأني وضعت المشلولين والعور في الفردوس، ووضعت الكرادلة المفعمين بالحيوية مع نساء جميلات عرايا مثل يدك في الجحيم، في لوحتي عن الدينونة الأخيرة. إن حسدك جدير بالإطراء، فأنت أخ حسود لطيف؛ فلنكن صديقين صالحين.»
لكن إذا كان الحسود إنسانا بائسا بلا مواهب، غيورا من مزايا الآخرين غيرة المتسولين من الأغنياء، إن كان مضغوطا بفعل العوز كما هو بفعل وضاعة شخصيته، فسيكتب لك بعض «أخبار من برناسوس»، و«خطابات السيدة الكونتيسة»، وبعض «الحوليات الأدبية». يظهر هذا الحيوان حسدا لا يستحق الذكر، ولم يكن ماندفيل ليستطيع أن يجد له عذرا أبدا.
يسأل المرء عن سبب تفكير القدماء في أن عين الحسود تسحر من ينظرون لها. إن الحاسد بالأحرى هو المسحور.
يقول ديكارت: «يحفز ذاك الحسد العصارة الصفراوية التي تأتي من الجزء الأدنى من الكبد والعصارة السوداء التي تأتي من الطحال المنتشرة من القلب عبر الشرايين ... إلخ.» لكن ما دام أي نوع من العصارة لا يتكون داخل الطحال، فإن ديكارت بقوله هذا، يبدو أنه غير جدير بالمبالغة في حسد فلسفته الطبيعية.
كان أحد اللاهوتيين الأوغاد - ويدعى فويت أو فويتوس، الذي اتهم ديكارت بالإلحاد - مريضا بالعصارة السوداء، لكنه كان مع ذلك أقل معرفة من ديكارت بكيفية انتشار عصارته الكريهة في دمه.
مدام بيرنل على حق: «الحسود سيموت، ولكن الحسد لن يموت.»
لكنه مثل جيد الذي يقول: «أن تكون حسودا أفضل من أن تكون لديك شفقة.» فلنكن حسودين إذا قدر ما نستطيع.
المساواة
(1) القسم الأول
واضح أن البشر متساوون إذ يتمتعون بملكاتهم المقترنة بطبيعتهم؛ إنهم متساوون حينما يؤدون وظائف الحيوان، وحينما يمارسون فهمهم. لا يستطيع ملك الصين، وعظيم المغول، وباشا تركيا أن يقول حتى لأدنى الناس منزلة: «أمنعكم من أن تهضموا، ومن أن تذهبوا إلى المرحاض، ومن أن تفكروا.» كل الحيوانات من كل نوع متساوية فيما بينها. والحيوانات بطبيعتها تتميز علينا بميزة الاستقلالية؛ إذا أبعد ثور يتودد إلى بقرة صغيرة بفعل ضربات ثور أقوى، فإنه يذهب بحثا عن وليفة أخرى في حقل آخر. يجد الديك الذي يضربه ديك آخر عزاءه في حظيرة أخرى. الأمر ليس كذلك معنا: ينفي وزير صغير بستانيا إلى ليمنوس، وينفي رئيس الوزراء الوزير الصغير إلى تينيدوس، وينفي الباشا رئيس الوزراء الصغير إلى جزيرة رودس، ويودع الانكشاريون الباشا السجن، وينتخبون آخر ينفي المسلمين الطيبين كما يشاء؛ ومع ذلك سيبقى الناس ممتنين له بشدة لو أنه قصر سلطته المقدسة على هذه الممارسة الصغيرة.
لو كان هذا العالم على ما ينبغي أن يكون عليه، ولو استطاع الإنسان أن يجد في كل مكان رزقا ميسورا، ومناخا ملائما لطبيعته، لتعذر على أحد أن يستعبد الآخر. لو كان ذلك العالم ينعم بالثمرات النافعة؛ لو أن هذا الهواء الذي ينبغي أن يسهم في حياتنا لم يعطنا أمراضا وموتا قبل الأوان؛ لو لم تكن بالإنسان حاجة إلى السكن والفراش بخلاف سكن الوعول والغزلان وفرشهم؛ لما كان لدى جنكيز خان والتيمورلنكيين خدم سوى أطفالهم الذين سيكونون حينئذ قوما شرفاء بما يكفي لمساعدتهم في شيخوختهم.
لو أن الإنسان في الحالة الطبيعية التي تتمتع بها ذوات الأربع غير المستأنسة والطيور والزواحف، لكان سعيدا مثلها، ولكانت السيطرة حينئذ وهما وعبثا لا يستحق التفكير فيه، فلم ترغب في خدم وأنت لا تحتاج إلى خدماتهم؟
لو تبادر إلى ذهن فرد ذي عقل طغياني وذراع مفتولة العضلات أن يستعبد جارا أقل منه قوة، لكان الأمر مستحيلا؛ سيكون المظلوم عند نهر الدانوب قبل أن يبدأ الظالم إجراءاته عند نهر الفولجا.
سيكون البشر متساوين جميعا بالضرورة لو كانوا بلا حاجة. الفقر المرتبط بنوعنا يخضع رجلا لآخر. ليس التفاوت هو المصيبة الحقيقية، لكنها التبعية. لا يعني الأمر كثيرا أن فلانا يدعو نفسه «صاحب السمو»، أو أن فلانا يدعو نفسه «صاحب القداسة»؛ لكن صعب أن تخدم أحدهما أو الآخر.
زرعت أسرة كبيرة تربة خصبة؛ وبالقرب منها أسرتان صغيرتان لديهما حقول لا تستجيب للكد والعرق؛ يجب على الأسرتين الفقيرتين أن تخدما الأسرة المرفهة أو تذبحاها، ما من صعوبة في ذلك. تعرض واحدة من الأسرتين الفقيرتين سواعدها على الأسرة الغنية لتحصل على الخبز؛ وتذهب الأخرى لتهاجمها، وتهزم. الأسرة الخادمة أصل الخدم والعمال؛ والأسرة المهزومة أصل العبيد.
في عالمنا التعيس، مستحيل على البشر الذين يعيشون في مجتمع ألا ينقسموا إلى طبقتين؛ إحداهما هي الغنية التي تقود، والأخرى هي الفقيرة التي تخدم ؛ وهاتان الطبقتان تنقسمان إلى ألف طبقة، وهذه الطبقات الألف تظل بينها درجات مختلفة.
حينما يؤتى بالغنائم تأتي إلينا قائلا: «أنا رجل مثلك، ولي يدان وقدمان وكبرياء مثلك تماما، لا أكثر، وعقل مشوش - أو على الأقل غير متناسق - ومتناقض مثل عقلك. أنا مواطن من سان مارينو أو من راجوسا أو من فوجيرار؛ فأعطني حصتي من الأرض. في نصف كرتنا الأرضية المعروف ما يقرب من خمسين ألف مليون فدان للزراعة، بعضها لا بأس به، وبعضها مجدب. يبلغ تعدادنا ألف مليون إنسان في هذه القارة؛ هذا معناه أن الفرد لديه خمسون فدانا؛ كن عادلا؛ أعطني فداديني الخمسين.»
سنجيب: «اذهب وخذها في أرض الكافرين أو الهوتنتوت أو السامويديين؛ توصل إلى اتفاق سلمي معهم؛ أما هنا فكل الحصص أخذت. إن كنت ترغب في الطعام والكسوة والإقامة والدفء عندنا، فاعمل لدينا كما عمل أبوك؛ اخدمنا أو سلنا وسندفع لك؛ وإلا فستضطر إلى طلب الإحسان الذي سوف يحط من طبيعتك السامية، وسيمنعك من أن تكون عدل الملوك أو حتى قساوسة الريف، طبقا لمزاعم كبريائك النبيلة.» (2) القسم الثاني
ليس كل الفقراء تعساء، ولدت الغالبية على هذه الحالة، ويمنعهم العمل المستمر من الشعور بوضعهم بأسف زائد؛ لكن حينما يشعرون بذلك يشهد المرء حينئذ الحروب، من قبيل حرب الجمهوريين ضد الشيوخ في روما، وحروب الفلاحين في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا. تنتهي هذه الحروب كافة، عاجلا أم آجلا، بخضوع الناس؛ لأن الأقوياء يملكون المال، والمال سيد كل شيء في دولة ما. أقول في دولة ما لأن الأمر ليس واحدا فيما بين الأمم؛ فالأمة الأفضل استخداما للسيف ستخضع دائما الأمة التي لديها ذهب أكثر وشجاعة أقل.
يولد الرجال جميعا ولديهم ميل عنيف بقدر وافر إلى السيطرة والثروة والمتعة، وكثير من الميل إلى الكسل؛ ومن ثم يريد كل الرجال أموالهم، وزوجات الآخرين أو بناتهم؛ ليسودوا عليها، ويخضعوها لجميع نزواتهم، من دون أن تفعل شيئا، أو أن تفعل أشياء وديعة جدا على الأقل. ترى بوضوح أنه مع تلك الميول الحادة، يستحيل على البشر أن يكونوا متساوين، كما يستحيل على واعظين أو أستاذين في اللاهوت ألا يغار أحدهما من الآخر.
لا يمكن للجنس البشري، كما هو الآن، أن يستمر إلا إن كان هناك عدد لا نهائي من البشر النافعين الذين لا يملكون شيئا على الإطلاق؛ فأكيد أن الرجل الثري لن يترك أرضه ليحرث أرضك؛ وإن كنت في حاجة لزوج من الأحذية فلن يصنعه لك سكرتير المجلس الخاص. لذلك، فالمساواة هي أكثر الأمور طبيعية وأكثرها خيالا جامحا في الوقت ذاته.
بسبب أن البشر يفرطون في كل شيء حينما يستطيعون ذلك، أصبح التفاوت مبالغا فيه. أصبح يراعى في كثير من البلاد ألا يسمح للمواطن بترك البلد التي تسببت الصدفة في أن يولد فيها؛ ومنطق هذا القانون بوضوح هو: «هذه الأرض سيئة وتدار بشكل سيئ لدرجة أننا نمنع أي فرد من أن يغادرها خوفا من أن يغادرها الجميع.» افعل شيئا أفضل، اجعل كل رعاياك يرغبون في أن يعيشوا ببلدك، والأجانب يرغبون في أن يأتوا إليها.
كل الناس لديهم الحق من أعماق قلوبهم في أن يعتقدوا بأنهم مساوون كليا للناس الآخرين. لا يعني ذلك أن طاهي الكاردينال يجب أن يأمر سيده بأن يعد له العشاء، ولكن يمكن للطاهي أن يقول: «أنا إنسان مثل سيدي، ومثله ولدت باكيا، ومثلي سيموت بالآلام نفسها والمراسم ذاتها. كلانا يؤدي وظائف الحيوان ذاتها. إن استولى الأتراك على روما، وإن أصبحت حينها كاردينالا وأصبح سيدي طاهيا فسألحقه بخدمتي.» هذا الحديث معقول وعادل، ولكن في انتظار أن يأتي عظيم الترك ليستولي على روما، على الطاهي أن يستمر في أداء واجبه وإلا فسيفسد المجتمع الإنساني كله.
أما الإنسان الذي ليس طاهيا ولم يمنح أي وظيفة في الدولة؛ أما الشخص العادي غير المرتبط بشيء لكنه يشعر بالغيظ لأنه يستقبل في كل مكان في جو من الخضوع للحماية أو الاستهانة، ويرى بوضوح كاف أن الكثير من «السادة» لا يملكون أكثر مما يملكه من المعرفة أو الذكاء أو الفضيلة، ويشعر بالملل أحيانا من الانتظار في غرف انتظارهم، فما الذي ينبغي أن يقرر فعله؟ أن ينأى بنفسه.
الكفارة
لعل أجمل بدع العصور القديمة هي الطقس الديني المهيب الذي كان يكبح الجرائم بالتحذير من العقاب عليها، وكان يهدئ من يأس المذنبين بجعلهم يكفرون عن خطاياهم بالتوبة. لا بد أن الندم يسبق التوبة بالضرورة؛ لأن الأمراض أقدم من الدواء، وكل الاحتياجات وجدت من قبل أن تلبى.
لذلك كان قبل كل العقائد دين طبيعي، أزعج قلب الإنسان حينما ارتكب بجهله أو تسرعه فعلا غير إنساني. صديق قتل صديقه في مشاجرة، أخ قتل أخاه، عاشق غيور وثائر قتل حتى المرأة التي لا يستطيع أن يحيا من دونها، أدان رئيس الأمة رجلا فاضلا ومواطنا نافعا. هؤلاء رجال أصابهم اليأس إن كان لديهم إحساس. يكدرهم ضميرهم؛ لا شيء أصدق من هذا؛ وهذه قمة التعاسة. يتبقى خياران فقط؛ إما التعويض وإما الركون إلى الجريمة. تختار النفوس الحساسة كلها الخيار الأول، بينما يختار المسوخ الثاني.
حالما أرسيت الأديان ظهرت الكفارات. كانت الطقوس المصاحبة لها مثيرة للسخرية؛ فما العلاقة بين مياه نهر الجانج والقتل؟ كيف يمكن لإنسان أن يتدارك جريمة قتل بالاغتسال؟ لحظنا بالفعل هذا الإفراط في الضلال والسخف بتخيل أن من يغسل جسده يغسل روحه، ويزيل أدران الأفعال الشريرة.
كان لمياه النيل بعد ذلك فضل مياه نهر الجانج نفسه، وأضيفت مراسم أخرى لتلك التطهيرات، أؤكد أنها كانت أفظع. كان المصريون يأخذون عنزتين، ويجرون القرعة على أي واحدة منهما يجب أن يلقوا بها محملة بخطايا المذنبين، ومنح اسم «هزازيل»، أي المكفر، للعنزة. أتساءل: ما العلاقة بين عنزة وجريمة إنسان؟
صحيح أنه منذئذ، سمح الرب بتقديس ذلك الطقس بين اليهود آبائنا، الذين أخذوا الكثير من شعائر المصريين، لكن بلا شك كانت التوبة، لا العنزة، هي التي تطهر أرواح اليهود.
يأتي جيسون، كما يقال، بعد أن قتل أخاه غير الشقيق أبسرث، بصحبة ميديا الأكثر ذنبا منه؛ لكي تحله من خطيئته سيرس، ملكة أيايا وكاهنتها التي أصبحت بعد ذلك ساحرة عظيمة. غفرت لهم سيرس خطاياهم بخنزير رضيع وكعكات مملحة. ربما يصنع ذلك أكلة جيدة نسبيا، لكن يصعب أن يدفع ثمن دم أبسرث أو يجعل من جيسون وميديا أناسا أكثر شرفا، ما لم يعلنا عن توبتهما المخلصة أثناء أكل خنزيرهما الرضيع.
كانت كفارة أوريستيس (الذي ثأر لأبيه بقتل أمه) أن يذهب ليسرق تمثالا من تتار القرم. لا بد أن التمثال كان سيئ الصنع للغاية، ولم يكن ثمة شيء يداني مثل هذه النتيجة. من وقتها فعلنا ما هو أفضل من ذلك، اخترعنا الطقوس السرية؛ ربما يحصل المذنبون فيها على كفارة ذنوبهم بتحمل محن مؤلمة، وبأن يقسموا بأنهم سيعيشون حياة جديدة. ومن هذا القسم كان يطلق على الأعضاء الجدد بين كافة الأمم اسم يتوافق مع المبتدئين، الذين بدءوا مهنة جديدة، والذين دخلوا في طريق الفضيلة.
كان المتنصرون المسيحيون يدعون «مستجدين» فقط حين يعمدون.
لا شك في أن المرء كان يغسل في تلك الطقوس السرية من أخطائه بأن يقسم فقط بأنه سيصبح فاضلا، وكان ذلك صحيحا، حتى إن الكاهن في كل الطقوس السرية الإغريقية كان يقول وهو يصرف الشعب المجتمع بالكنيسة هاتين الكلمتين المصريتين: «كوث، أومفث»؛ أي «تنبهوا، تطهروا.» وهذا دليل في الوقت نفسه على أن الطقوس السرية قد تحدرت من حيث الأصل من مصر، وأنها لم تبتدع إلا لجعل البشر أفضل.
لذا، فعل الحكماء في كل العصور ما استطاعوا؛ ليبثوا الفضيلة، وحتى لا ينحدر الضعف الإنساني إلى اليأس. لكن هناك أيضا جرائم مرعبة لدرجة أنه ما من كفارة سرية ممنوحة لها. لم يسمح لنيرون، رغم أنه كان إمبراطورا، بالاستتابة في طقوس سيريس السرية. وفي «تقرير زوسميس»، لم يستطع قسطنطين الحصول على العفو عن جرائمه؛ كان ملطخا بدماء زوجته وابنه وكل أقربائه. كان لصالح الجنس البشري أن تبقى تلك التجاوزات الخطيرة بلا كفارة، حتى لا يشجع الغفران على ارتكابها، وعلى أمل أن يوقف الرعب الشامل الأشرار في بعض الأحيان.
لدى الكاثوليك الرومان أيضا كفارات يطلق عليها: «التوبة».
طبقا لقوانين الهمج الذين دمروا الإمبراطورية الرومانية، كانت الجرائم تكفر بالمال. أطلق على ذلك: «التسوية»، و«بعشرة»، و«العشرون»، و«الثلاثون سوليدي». وكان قتل كاهن يكلف حينئذ مائتي سو، وقتل أسقف يكلف أربعمائة؛ لأن الأسقف وقتها كان يساوي كاهنين بالضبط.
وبتسوية هكذا مع البشر، كان المرء يتصالح مع الله، حينما أسس سر الاعتراف عموما. وفي النهاية، أعد البابا يوحنا الثاني والعشرون الذي حصل على المال من كل شيء تسعيرة للخطايا. «كفارة سفاح المحارم، أربعة تيروننسات للشخص العادي.» وللرجل والمرأة اللذين ارتكبا سفاح القربى يكلف الغفران ثمانية عشر تيروننسا وأربعة دوقيات وتسعة كارلينات. هذا غير عادل؛ إذا كان الشخص الواحد يدفع أربعة تيروننسات فقط؛ فالاثنان يكونان مدينين بثمانية تيروننسات فقط.
وضع اللواط وممارسة الجنس مع الحيوانات في الفئة السعرية ذاتها مع البند التحريمي الثالث والأربعين: التي تبلغ تسعين تيروننسا واثنتي عشرة دوقية وستة كارلينات ... إلخ.
من الصعب جدا أن نصدق أن ليو العاشر كان مفتقدا للفطنة بما يجعله يأمر بطبع هذه الرسوم في عام 1514م كما يدعى. لكن يجب أن نضع في اعتبارنا أنه لم تكن قد ظهرت شرارة واحدة في ذلك الزمن من الحريق الذي أشعله المصلحون فيما بعد، وأن محكمة روما كانت غافية حينئذ على سذاجة الناس، وأهملت أن تغطي ابتزازاتها ولو بأرق حجاب. ويوضح البيع العلني لصكوك الغفران الذي تبع هذا سريعا أن هذه المحكمة لم تأخذ حذرها لتخفي هذه المآسي التي اعتادت عليها أمم كثيرة، وحالما كانت تظهر الشكاوى ضد استغلالات الكنيسة، كانت المحكمة تفعل ما بوسعها كي تبطل كتاب الدعوى، لكنها لم تنجح في ذلك.
إن كانت لدي الجرأة لأصرح برأيي في تلك الرسوم، فإني أعتقد أن النسخ المختلفة لا يمكن الاعتماد عليها؛ والأسعار ليست متناسبة على الإطلاق؛ فتلك الأسعار لا تتفق مع الأسعار التي يزعمها دوبجيني، جد مدام دومانتنو في «اعترافات دوسانسي»؛ فهو يقدر ثمن العذرية بستة قروش، وزنا المحرم مع أمه أو أخته بخمسة قروش؛ هذا المبلغ يدعو إلى السخرية. أعتقد أنه كانت هناك حقا تسعيرة معينة مستقرة في مكتب التوثيق لأولئك الذين أتوا إلى روما ليحصلوا على الغفران، أو ليساوموا على الحل من خطاياهم ، ولكن ربما أضاف أعداء روما الكثير إليها ليجعلوها أقبح.
ما هو مؤكد تماما أن تلك الرسوم لم يجزها أي مجلس قط؛ وأنها كانت إساءة بالغة ابتدعها الجشعون واحترمها أولئك الذين لم تكن مصلحتهم في إلغائها. كان المشترون والبائعون راضين على السواء، وهكذا بالكاد كان يمكن أن يحتج أي شخص حتى أتت اضطرابات الإصلاح. يجب الاعتراف بأن وجود وثيقة دقيقة حول كل تلك الرسوم سيعود بنفع عظيم على تاريخ العقل البشري.
المتطرف
سنحاول أن نستخلص من لفظة «متطرف» فكرة قد تكون مفيدة.
يتجادل المرء كل يوم عما إن كان الحظ أم القيادة يقود إلى النصر في الحرب.
وفي المرض، عما إن كان للطبيعة دور أكبر من الدواء في الشفاء أو القتل.
وفي التشريع، عما إن كان من غير المفيد كثيرا الامتثال حينما يكون المرء على صواب، والاسترحام حينما يكون المرء على خطأ.
عما إن كان الأدب يؤدي إلى رفعة الأمة أم إلى انحطاطها.
عما إن كان ينبغي أو لا ينبغي أن يجعل المرء الناس يؤمنون بالخرافات والأساطير.
عما إن كان هناك أي شيء حقيقي في الميتافيزيقا والتاريخ والفلسفة الأخلاقية.
عما إن كان الذوق تعسفيا، وإن كان هناك حقا ذوق جيد وذوق سيئ ... إلخ.
لحسم كل هذه المسائل فورا، خذ مثالا من الأكثر تطرفا في كل منها؛ قارن بين الطرفين المتناقضين، وستكتشف على الفور أيهما حقيقي.
ترغب في أن تعرف ما إن كانت القيادة تستطيع أن تحسم نجاح الحرب بلا شائبة؛ انظر إلى أكثر الأمثلة تطرفا، وأكثر المواقف تناقضا التي تنتصر فيها القيادة بمفردها بلا شائبة. يجبر جيش العدو على المرور عبر ممر جبلي عميق؛ يعرف قائدك؛ يقوم بزحف اضطراري، ويستولي على المرتفعات، ويحبس العدو في الممر؛ فلا يصبح أمامهم إلا أن يموتوا أو يستسلموا. في ذلك المثال المتطرف لا يمكن للحظ أن يكون لديه أي دور في ذلك النصر؛ ومن ثم فمن الواضح أن المهارة يمكنها أن تحسم نجاح الحملة؛ ومن هذا فقط يثبت أن الحرب فن.
الآن، تخيل موقفا متقدما لكنه أقل حسما؛ النجاح ليس أكيدا إلى هذا الحد، لكنه مرجح دوما. تصل هكذا، خطوة خطوة ، إلى تكافؤ كامل بين الجيشين. ما الذي سيحسم حينئذ؟ الحظ؛ بمعنى: أي حدث لا يمكن التنبؤ به، قائد عام يقتل وهو في طريقه لتنفيذ أمر مهم، كتيبة تزعزعها شائعة كاذبة، حالة هلع، وألف حالة أخرى لا يمكن علاجها بالفطنة. لكن يبقى مع ذلك بالتأكيد أن هناك فنا؛ أي قيادة.
يجب أن يقال مثل هذا عن الطب، وعن فن إجراء العمليات على الرأس واليد لتعود الحياة لإنسان أوشك أن يفقدها.
أول إنسان أنزف شخصا يعاني من نوبة سكتة وطهر جرحه في اللحظة المناسبة؛ أول من فكر في إقحام مشرط في المثانة كي يخرج حصوة ويغلق الجرح مرة أخرى؛ أول من علم كيف يمكن أن يوقف الغنغرينا في جزء من الجسم، كانوا بلا شك أشخاصا مقدسين تقريبا، ولم يكونوا يشبهون أطباء موليير.
انزل من هذا المثال الواضح إلى تجارب أقل إدهاشا وأكثر التباسا، تشاهد الحميات، وأسقاما من كل نوع تعالج دون أن يثبت جيدا ما إن كان الذي عالجها هو الطبيعة أم الطبيب؛ ترى أمراضا لا يمكن التكهن بعواقبها؛ ينخدع عشرون طبيبا؛ والأذكى بينهم ذو العين الوثقى يخمن طبيعة المرض. لذلك هناك فن؛ والإنسان المتميز يعرف مدى دقة هذا الفن. هكذا خمن البيروني أن رجلا من البلاط قد ابتلع عظمة مدببة سببت له قرحة، وجعلته مهددا بالموت؛ وهكذا خمن بورهاف سبب المرض على أنه غير معروف مثلما لا نعرف سببا لقسوة كونت فاسينار. لذلك هناك حقا فن طب؛ ولكن في كل الفنون يوجد رجال يشبهون فيرجيل ومايفيوس.
في التشريع، خذ مثالا واضحا، يتحدث فيه القانون بوضوح؛ ورقة مصرفية حسنة الإعداد ومقبولة؛ الذين قبلوها يجب أن يحكم عليهم بدفعها في كل بلد. لذلك يوجد تشريع مفيد، مع أنه في ألف حالة أخرى يكون القضاة متعسفين، لسوء حظ الجنس البشري؛ لأن القوانين تسن بشكل سيئ.
أترغب في أن تعرف ما إن كان الأدب يفيد أمة ما؟ قارن بين هذين النموذجين المتطرفين؛ شيشرون وشخص عنيد جهول. انظر هل تسببت بليني أم أتيلا في سقوط روما .
يتساءل المرء إن كان ينبغي تشجيع الخرافة بين الناس. انظر في المقام الأول ما هو الأكثر تطرفا في هذا الشأن الكارثي، مذبحة سان بارثولوميو، ومذابح أيرلندا، والحملات الصليبية؛ وستجد الإجابة عن السؤال سريعا.
هل ثمة أي حقيقة في الميتافيزيقا؟ ضع يدك أولا على كل النقاط الأكثر إدهاشا والأكثر صدقا؛ شيء موجود إلى الأبد. كائن أبدي موجود بذاته؛ وهذا الكائن لا يمكنه أن يكون شريرا أو غير متسق. يجب على المرء أن يستسلم أمام تلك الحقائق؛ وأغلب الحقائق الباقية مطروحة للنقاش، والعقل الأعدل يكشف الحقيقة أما الآخرون فيبحثون في الظلال.
في كل الأمور كما في الألوان، تميز العين الأضعف الأسود من الأبيض؛ والعين الأصح، الأكثر تدريبا، تميز بين الظلال التي يشبه بعضها بعضا.
إزورفيدام
ما هذه «الإزورفيدام» الموجودة بمكتبة ملك فرنسا؟ إنها تعليق قديم ألفه أحد البراهمة القدماء في زمن ما قبل عصر الإسكندر على «الفيدام» القديمة التي كانت هي ذاتها أقل قدما من كتاب «الشاستا».
أقول لكم: فلنحترم كل هؤلاء الهنود القدماء؛ لقد اخترعوا لعبة الشطرنج، وذهب اليونانيون إليهم ليتعلموا علم الهندسة.
ترجم هذه «الإزورفيدام» أخيرا أحد البراهمة، مراسل لشركة الهند الفرنسية البائسة. جيء بها إلي على جبل كراباك؛ حيث كنت أتأمل الثلوج لمدة طويلة؛ وأرسلتها إلى مكتبة باريس العظيمة، فمن الأفضل وضعها هناك بدلا من أن تكون في منزلي.
هؤلاء الذين يرغبون في أن يهتدوا بها سيرون أنه بعد كثير من الثورات التي خلقها هذا الأبدي، فقد أسعد هذا الأبدي أن يشكل رجلا يدعى «أديمو»، وامرأة اسمها يتوافق مع اسم الحياة.
هل هذه الحكاية الهندية مأخوذة من الكتب اليهودية؟ هل نسخها اليهود من الهنود؟ أم يستطيع المرء أن يقول إن كلا منهم كتبها في الأصل، وإن العقول اللماعة تتلاقى؟
لم يكن متاحا لليهود أن يفكروا في أن كتابهم قد اقتبسوا أي شيء من البراهمة؛ لأنهم لم يسمعوا قط شيئا عنهم. وليس مسموحا لنا أن نفكر في آدم خلافا لليهود؛ ومن ثم أمسك لساني ولا أفكر على الإطلاق.
الإيمان
فكرنا مليا إن كان يجدر بنا أم لا يجدر بنا أن ننشر هذه المقالة التي وجدناها في كتاب قديم. وكان احترامنا لمقام القديس بطرس يكبحنا. لكننا إذ أقنعنا بعض الرجال الأتقياء بأن البابا ألكسندر السادس لا يشبه القديس بطرس في شيء، قررنا أخيرا أن نسلط الأضواء على تلك المقالة بلا تردد.
حدث في أحد الأيام أن التقى الأمير بيكو ديلا ميراندولا والبابا ألكسندر السادس في بيت البغي إميليا، بينما كانت لوكريتيا، ابنة الأب المقدس، في المخاض، ولم يكن أحد في روما يعلم ما إن كان المولود للبابا، أم لابنه دوق فالنتينويس، أم لزوج لوكريتيا، ألفونس الأرجوني، الذي فقد فحولته. بدت المحادثة في البداية شديدة المرح. يسجل الكاردينال بيمبو جزءا منها.
قال البابا: «عزيزي بيك ... من تظنه والد حفيدي؟»
أجاب بيك: «أعتقد أنه صهرك.» «إيه! كيف يمكنك أن تصدق حماقة كهذه؟» «أصدقها من خلال الإيمان.» «لكن أتعرف جيدا أن الرجل العنين لا يستطيع أن ينجب أطفالا؟»
رد بيك: «يقوم الإيمان على تصديق الأشياء لأنها مستحيلة؛ بالإضافة لذلك، يقتضي شرف بيتك ألا يكون ابن لوكريتيا ثمرة سفاح محارم. أنت تجعلني أصدق أسرارا أكثر استعصاء على الفهم. ألم يكن علي أن أقتنع بأن الحية تكلمت، وبأنه منذ ذلك الوقت لعن الناس جميعا، وأن أتان بلعام أيضا تكلمت ببلاغة منقطعة النظير، وأن أسوار أريحا سقطت على صوت الطبول؟» وسرعان ما بدأ بيكو في ابتهال بكل العجائب التي آمن بها.
سقط ألكسندر على أريكته من فرط الضحك.
قال: «أومن أنا أيضا بكل ذلك مثلك؛ لأني أعلم جيدا أنه بالإيمان وحده أستطيع أن أخلص، وأن أعمالي لن تخلصني.» «آه! أيها الأب المقدس، لست في حاجة إلى الأعمال ولا الإيمان، فهذان ينفعان الناس الفانين المساكين أمثالنا؛ أما أنت، خليفة الرب، فتستطيع أن تؤمن ثم تفعل ما تشاء. لديك مفاتيح السماء؛ وبلا شك، لن يغلق القديس بطرس الباب في وجهك. أما أنا، فأعترف بأني سأكون بحاجة إلى حماية شديدة، لو أنني، لأني لست سوى أمير مسكين، نمت مع ابنتي ، ولو أنني استخدمت الخنجر والسم مرارا كقداستكم.»
استطاع ألكسندر تقبل الدعابة، وقال للأمير ديلا ميراندولا: «لنتكلم بجدية، أخبرني، ما قيمة أن يقول المرء لله إنه مقتنع بأشياء لا يمكن أن يقتنع بها في الواقع؟ أي مسرة يمنحها هذا لله؟ في قرارة أنفسنا، نقول إن المرء الذي يؤمن بما هو مستحيل يكذب.»
رشم بيكو ديلا ميراندولا علامة صليب كبيرة، وصاح: «إيه! يا الله الآب، هل تغفر لي قداستكم، أنت لست مسيحيا.»
قال البابا: «لا، حسب إيماني.»
قال بيكو ديلا ميراندولا: «لا يدهشني هذا.»
العقول الزائفة
لدينا رجال عميان، ورجال عور، ورجال حول، ورجال لديهم طول نظر، وآخرون لديهم قصر نظر، ورجال ذوو رؤية واضحة، وآخرون ذوو بصر غائم، وآخرون كليلو البصر. كل ذلك صورة أمينة بما يكفي عن فهمنا؛ لكننا بالكاد على علم بالبصر الزائف. يصعب أن يوجد رجال يرون الديك حصانا، والمبولة منزلا على الدوام. لماذا نصادف كثيرا عقولا، بخلاف ذلك، عادلة بما يكفي، زائفة كليا في أمور مهمة؟ لماذا يؤمن هذا السيامي الذي لم يسمح لنفسه قط بأن يخدع حينما يتعلق الأمر بنقده ثلاث روبيات، إيمانا قاطعا بأساطير سامونوكودوم؟ بأي فرادة غريبة يشبه العقلاء دون كيخوته الذي كان يظن أنه يرى عمالقة بينما لم ير الآخرون إلا طواحين هواء؟ مع ذلك، يعذر دون كيخوتة أكثر مما يعذر السيامي الذي يعتقد بأن سامونوكودوم حل على الأرض مرات عدة، وأكثر مما يعذر التركي الذي أقنعوه بأن محمدا وضع نصف القمر في كمه؛ يستطيع دون كيخوته، وقد صعقته فكرة أنه يجب أن يحارب العمالقة، أن يتصور أن العملاق لا بد وأن يكون له جسد بضخامة طاحونة؛ ولكن من أي منطلق يمكن لرجل عاقل أن يشرع في إقناع نفسه بأن نصف القمر اختفى في كم، وبأن سامونوكودوم هبط من السماء ليتظاهر بلعب كرة الريشة، ويدمر غابة، ويستعرض مفاخر خفة اليد؟
يمكن لأكثر العباقرة أن يكون له حكم خاطئ فيما يتعلق بمبدأ سبق أن قبله بلا تمحيص. كان لنيوتن حكم خاطئ جدا حينما عقب على سفر الرؤيا.
كل ما يرغب فيه طغاة النفوس أن تتكون أحكام خاطئة لدى من يعلمونهم. يربي الناسك طفلا واعدا؛ فيقضي خمسة أعوام أو ستة في حشو فكره بأن الإله فو ظهر للناس في صورة فيل أبيض، ويقنع الطفل بأنه سيجلد بعد موته بخمسمائة ألف عام إن لم يؤمن بهذه الأساطير، ويضيف أنه عند نهاية العالم سيأتي عدو الإله فو ليقاتل ضد هذه الألوهية.
يدرس الطفل ويصبح أعجوبة؛ يجادل في دروس أستاذه؛ ويكتشف أن الإله فو كان قادرا فقط على تحويل نفسه لفيل أبيض لأن ذلك أجمل الحيوانات. يقول «إن ملوك سيام وبيجو شنوا حربا من أجل فيل أبيض؛ وبالتأكيد لو لم يكن فو اختبأ داخل هذا الفيل لكان من شأن هؤلاء الملوك أن يصبحوا عديمي الإحساس لدرجة أن يتقاتلوا فقط من أجل امتلاك حيوان. «سيأتي عدو فو ليتحداه في نهاية العالم؛ وسيكون عدوه قطعا خرتيتا؛ لأن الخرتيت دائما ما يقاتل الفيل.» هكذا يفكر تلميذ الناسك في سن النضج، ويصبح أحد منارات الهند؛ وكلما كان عقله أكثر حذقا كان أكثر زيفا، ويشكل فيما بعد عقولا زائفة كعقله.
يعرض المرء على كل هؤلاء المتعصبين قليلا من الهندسة، ويتعلمونها بسهولة كبيرة؛ لكن لكونهم غير معتادين على الربط بين الأشياء، فعقولهم ليست ممهدة لذلك؛ هم يدركون حقائق الهندسة، لكنهم لا يتعلمون أن يزنوا الاحتماليات؛ غرقوا في العادة؛ وسوف يفكرون في حياتهم كلها على نحو مشوه، وأنا آسف عليهم!
ثمة للأسف طرق كثيرة للمعاناة من عقل زائف: (1)
بألا تفحص صحة المبدأ، حتى حينما يستنتج المرء منه نتائج سليمة؛ وهذه الطريقة شائعة. (2)
باستخلاص استنتاجات خاطئة من مبدأ معترف بصحته. على سبيل المثال، يسأل عبد إن كان سيده في غرفته أم لا من قبل أشخاص يشتبه أنهم يريدون قتل سيده؛ إن كان أحمق بما يكفي حتى يخبرهم الحقيقة بحجة أنه على المرء ألا يكذب، فمن الواضح أنه سيستخلص نتيجة خرقاء من مبدأ صحيح تماما.
إن القاضي الذي يدين شخصا قتل من أراد اغتياله لأن قتل النفس حرام، قاض غير عادل بقدر ما كان ضيق الفكر.
قسمت حالات مشابهة عدة إلى ألف تدريج مختلف. العقل الجيد، والعقل العادل هو الذي يميز بينها؛ ينبثق من ذلك أن المرء رأى كثيرا من الأحكام الجائرة، لا لأن قلوب القضاة شريرة؛ لكن لأنهم ليسوا مستنيرين بما يكفي.
الوطن
تباهى يوما خباز أجير بحب وطنه، وكان قد درس بالكلية ولم يزل حافظا قليلا من عبارات شيشرون. وسأله ذات مرة أحد جيرانه: «ماذا تعني بوطنك؟ أهو فرنك؟ أهي القرية التي ولدت فيها ولم ترها منذ ذلك الوقت؟ أهو الشارع الذي سكن فيه أبوك وأمك اللذان قضيا نحبيهما وجعلاك تكتفي بصنع فطائر صغيرة من أجل العيش؟ أهي دار البلدية حيث لن تصبح أبدا مساعد مدير الشرطة هناك؟ أهي كنيسة سيدتنا العذراء حيث لم تستطع أبدا أن تصبح أحد الجوقة المرنمين بينما وصل رجل سخيف إلى منصب رئيس الأساقفة وأصبح دوقا يتقاضى دخلا يصل إلى عشرين ألف لويس ذهبي؟»
لم يدر الخباز الأجير بم يجيب. استنتج أحد المفكرين الذي كان يستمع إلى تلك المحادثة أن داخل الوطن، بصورة ما، دائما ما كان يوجد آلاف الناس بلا وطن.
أيها الباريسي العاشق للمتعة، الذي لم يسبق لك أن ترحل رحلة كبيرة إلا إلى دييب لتتناول السمك الطازج؛ أنت يا من لا تعلم شيئا سوى منزلك الأنيق بالمدينة، ومنزلك الريفي الجميل، ومكانك بتلك الأوبرا، بينما تظل بقية أوروبا تعاني الملل؛ يا من تتكلم بلغتك بتناغم كاف لأنك لا تعرف غيرها؛ أنت تحب ذلك كله، وتحب أيضا الفتيات اللاتي تنفق عليهن، والشمبانيا التي تأتي إليك من رانس، والأرباح التي يدفعها إليك فندق دو فيي كل ستة شهور، ثم تقول إنك تحب وطنك!
أيمكن تحت أي ظرف أن يحب المرابي وطنه بحرارة؟
والضابط والجندي اللذان لو تركا لنهبا مقراتهما الشتوية، أيشعران بحب دافئ للفلاحين الذين يقتلونهم؟
أين كان وطن دوق جويز؟ أكان في نانسي ، أم باريس، أم مدريد، أم روما؟
ما وطنكم يا كاردينالات لابالو، وديبرا، ولورين، ومازاران؟
أين كان وطن أتيلا ومئات الأبطال أمثاله؟
أود أن يخبرني أحد أين كان موطن إبراهيم؟
كان أول من كتب أن الوطن هو المكان الذي يشعر فيه المرء بالراحة هو - على ما أعتقد - يوريبيدس في مسرحيته «فايتون»؛ لكن أول إنسان غادر محل ميلاده سعيا إلى راحته في مكان آخر قالها قبله.
أين الوطن إذا؟ أليس حقلا جيدا يستطيع مالكه الذي سكن منزلا جميلا أن يقول: «هذا الحقل الذي أحرثه، وهذا المنزل الذي بنيته هما ملكي؛ أعيش فيهما محميا بالقوانين التي لا يستطيع أي طاغية أن ينتهكها. وحينما يلتقي أولئك الذين يملكون مثلي الحقول والمنازل في مصالحهم المشتركة، فلي صوتي في المجلس؛ أنا جزء من كل شيء، وجزء من المجتمع، وجزء من السلطة؛ هناك وطني»؟
حسنا إذا، أمن الأفضل لوطنك أن يكون مملكة أم جمهورية؟ ما زال السؤال مثار جدل منذ أربعة آلاف عام. اسأل الأغنياء عن إجابة، كلهم يفضلون الأرستقراطية؛ اسأل العامة، يريدون الديمقراطية، الملوك وحدهم يفضلون الملكية. كيف، إذا، يحكم العالم كله تقريبا ملوك؟ اسأل الفئران الذين اقترحوا أن يعلقوا جرسا حول عنق القط. السبب الحقيقي، كما قيل، هو أن البشر نادرا ما يستحقون حكم أنفسهم.
محزن أن يكون على المرء غالبا، ليكون وطنيا صالحا، أن يكون عدوا لبقية البشرية. يعني كونك وطنيا صالحا أن تتمنى أن تغتني مدينتك بالتجارة، وتستقوي بالسلاح. واضح أن أي دولة لا تستطيع أن تغنم إلا بخسارة غيرها، وأنها لا تستطيع أن تغزو دون أن تسبب بؤسا. هكذا حال البشر إذا، أن يعني تمني المرء العظمة لبلده تمني الضرر لجيرانه. من يتمن ألا يكون وطنه أبدا أكبر ولا أصغر، ولا أغنى ولا أفقر يكن مواطن العالم.
العلل الغائية
لو لم تصنع الساعة لتخبرنا بالوقت، لاعترفت إذا بأن العلل الغائية أوهام؛ لاعتبرت أنه من حق للناس أن يدعوني «منهي العلل»؛ أي أبله.
غير أن كل أجزاء آلة هذا العالم تبدو مصنوعا بعضها لبعض. نزع قليل من الفلاسفة إلى الاستهزاء بالعلل الغائية التي رفضها إبيقور ولوكريتيوس. لكن يبدو لي أن عليهم أن يستهزئوا بإبيقور ولوكريتيوس نفسيهما. إنهما يخبرانكم أن العين ليست مصنوعة للرؤية، لكن الإنسان انتفع منها لذلك الغرض حينما أدرك أن الأعين يمكن أن تستخدم في ذلك. طبقا لهما، فإن الفم ليس مصنوعا من أجل الحديث ولا الأكل، ولا المعدة من أجل هضم الطعام، ولا القلب من أجل استقبال الدم من الأوردة وضخه عبر الشرايين، ولا الأقدام من أجل السير، ولا الآذان لأجل السمع. يعلن هؤلاء الأشخاص، على الرغم من ذلك، أن الخياطين يصنعون لهم المعاطف ليكسوهم، والبنائين يشيدون لهم المنازل ليئووهم؛ ويتجرءون على أن ينكروا على الطبيعة، وعلى الكائن العظيم، وعلى الذكاء الكوني ما يقرون به لأقل عمالهم.
على المرء بالطبع ألا يسيء استخدام العلل الغائية؛ لحظنا أن مستر بروير يذكر بالباطل في كتابه «منظر الطبيعة» أن المد والجزر قد منحا للمحيط حتى تستطيع المراكب أن تدخل الميناء بسهولة، ولتمنع ماء البحر من التعفن.» وربما يقول بالباطل إن السيقان صنعت لترتدي الحذاء العالي الرقبة، والأنف ليرتدي النظارة.
كي يكون المرء متأكدا من الغاية الحقيقية التي تعمل من أجلها العلة، من الضروري أن يظهر ذلك التأثير في كل الأوقات وكل الأماكن. لم تكن هناك سفن طوال الوقت في كل البحار؛ ومن ثم لا يمكن للمرء أن يقول إن المحيط صنع من أجل السفن. يشعر المرء كم هو سخيف تأكيد أن الطبيعة قد عملت من كل الأزمنة لتوائم نفسها مع اختراعات فنوننا الاعتباطية التي ظهرت متأخرة جدا؛ لكنه واضح تماما أنه إن لم تكن الأنوف صنعت من أجل ارتداء النظارات فإنها صنعت من أجل الشم، وأنه كانت هناك أنوف منذ أن كان هناك ناس. بالمثل، كما لم تمنح الأيدي من أجل صانعي القفازات؛ فهي مصنوعة بوضوح من أجل كل الأغراض التي تؤديها لنا العظام السنعية وقصبة الإصبع والعضلة الدائرية لرسغ اليد.
مع ذلك فإن شيشرون الذي شكك في كل شيء لم يصبه الشك أبدا حيال العلل الغائية.
يبدو من الصعب خصوصا ألا تكون أعضاء التناسل مصممة لحفظ النوع. هذه الآلية مثيرة جدا للإعجاب، ولكن الإحساس الذي ربطته الطبيعة بها ما زال مثيرا للإعجاب بدرجة أكبر. كان على إبيقور أن يعترف بأن المتعة مقدسة؛ وأن تلك المتعة علة غائية، تخلق بها بلا انقطاع كائنات حسية لم تكن قادرة على أن تمنح أنفسها الإحساس.
كان إبيقور هذا رجلا عظيما في عصره؛ رأى ما أنكره ديكارت، وما أكده جاسندي، وما أثبته نيوتن من أنه ما من حركة بلا فراغ. رأى ضرورة أن تعمل الذرات بصفتها أجزاء مكونة للأنواع غير المتغيرة. هذه أفكار فلسفية على نحو فائق. لم يظهر شيء جدير بالاحترام أكثر من النسق الأخلاقي للإبيقوريين الحقيقيين؛ لقد أسس على إزاحة الأمور العامة المناقضة للحكمة، وعلى الصداقة التي تصبح الحياة عبئا بغيابها. أما بقية فيزياء إبيقور، فلا تبدو مقبولة بعد أكثر من مادة ديكارت الممددة. يبدو لي أن من شأنها أن توقف عيني المرء وفهمه لتدعي أنه ما من تصميم في الطبيعة؛ وإن كان هناك تصميم فثمة علة ذكية، ثمة إله.
يطرح الناس، من باب الاعتراض على ذلك، اختلالات شكل الكرة الأرضية، والبراكين، وسهول الرمال المتحركة، وبضعة جبال صغيرة محطمة وأخرى مشكلة بفعل الزلازل ... إلخ. لكن هل ينجم من حقيقة أن محاور عجلات مركبتك اشتعلت فيها النار، أن مركبتك لم تصنع بوضوح لتحملك من مكان إلى آخر؟
إن سلاسل الجبال التي تتوج نصفي الكرة الأرضية، والأنهار التي يتجاوز عددها الستمائة التي تتدفق صوب البحر من سفوح هذه الصخور؛ وكل جداول المياه التي تسيل من المنابع ذاتها، وتغذي الأنهار بعد أن تخصب الريف؛ وآلاف الينابيع التي تبدأ من المصدر ذاته وتسقي الحيوان والزرع؛ كل هذه الأشياء لا تبدو نتاج علة صدفوية نتجت عن انحراف الذرات، أكثر من شبكية العين التي تستقبل أشعة الضوء، والعدسة الكريستالية التي تعكسها، وعظام السندان في الأذن، والعظام المطرقية، والعظام الركابية، وغشاء طبلة الأذن التي تستقبل الأصوات، وممرات الدم في أوردتنا، وانقباض القلب وانبساطه، هذه الحركة البندولية للآلة التي تصنع الحياة.
الاحتيال
ذات يوم التقى الناسك بامبابيف أحد تلامذة كونفوتزي، الذي نطلق عليه كونفوشيوس، وكان هذا التلميذ يدعى أوانج، وزعم بامبابيف أن الناس في حاجة للخداع، بينما زعم أوانج أنه لا يجب على المرء أن يخدع أي شخص. وإليكم ملخص مجادلتهما:
بامبابيف :
يجب علينا أن نحاكي الكائن الأعلى الذي لا يرينا الأشياء كما هي؛ بل يجعلنا نرى الشمس في دائرة قطرها قدمان أو ثلاث أقدام، رغم أن هذا النجم أكبر بمليون مرة من الأرض؛ ويجعلنا نرى القمر والنجوم مرصوصة على الخلفية الزرقاء نفسها بينما هي في أعماق مختلفة؛ ويقضي بأن يظهر لنا برج مربع دائريا من بعيد؛ ويقضي أيضا بأن تبدو لنا النار ساخنة بينما هي لا ساخنة ولا باردة؛ وقصارى القول أنه يحيطنا بالأخطاء التي تناسب طبيعتنا.
أوانج :
ما تدعوه خطأ ليس خطأ على الإطلاق. الشمس الموضوعة حيث هي على بعد ملايين الملايين من الليات
1
وراء كوكبنا ليست هي الشمس التي نراها. نحن ندرك في الواقع، ونستطيع أن ندرك فقط الشمس المصورة في شبكية أعيننا في زاوية محددة. لم تعط لنا العيون لتحديد الأحجم والمسافات؛ فنحن في حاجة إلى وسائل مساعدة وعمليات أخرى تساعدنا في تقديرهما. (بدا بامبابيف مندهشا جدا من ذلك الافتراض، وشرح له أوانج الذي كان صبورا نظرية البصريات؛ واستسلم بامبابيف الذي كان سريع الفهم لبراهين تلميذ كونفوشيوس، ثم واصل الجدال.)
بامبابيف :
إن لم يكن الله يخدعنا عن طريق حواسنا كما أومن، فلنعترف على الأقل بأن الأطباء يخدعون الأطفال طوال الوقت من أجل مصلحتهم؛ فهم يخبرونهم بأنهم يعطونهم السكر بينما هم في الواقع يعطونهم الراوند. وربما علي، أنا الناسك، إذا، أن أخدع الناس الجهلة كالأطفال.
أوانج :
لدي ابنان؛ لم أخدعهما قط. حينما يصيبهما المرض أخبرهما أنه يوجد دواء مر للغاية، وأن عليهما التحلي بالشجاعة ليأخذاه: «سيضركما إن كان حلوا.» لم أسمح قط لأساتذتهما ومعلميهما أن يجعلاهما يخافان من الأرواح والأشباح والغيلان والمشعوذين؛ بهذه الطريقة جعلت منهما مواطنين شابين حكيمين وشجاعين .
بامبابيف :
لا يولد الناس في سعادة كأسرتك.
أوانج :
كل البشر متشابهون، أو متشابهون تقريبا؛ فالجميع يولدون بالأمزجة ذاتها. يجب ألا يفسد المرء طبائع البشر.
بامبابيف :
أعترف بأننا نعلمهم الأخطاء، لكن لصالحهم. نحن نجعلهم يؤمنون أنهم إن لم يقوموا بشراء المسامير التي باركناها، وإن لم يكفروا عن خطاياهم بمنحنا المال، فسيصبحون في حياة أخرى جياد بريد، أو كلابا، أو سحالي. هذا يرعبهم، ويصبحون شرفاء.
أوانج :
ألا ترى أنك تضلل هؤلاء الناس المساكين؟ بينهم أكثر مما تظن ممن يفكرون، ويسخرون من معجزاتك ومن خرافاتك، ويرون جيدا أنهم لن يحولوا إلى سحال ولا إلى جياد بريد. ما النتيجة؟ لديهم ما يكفي من العقل ليروا أنك تخبرهم سفاهات، وليس لديهم ما يكفي ليرتقوا بأنفسهم نحو دين نقي خال من الخرافة مثل ديننا. ستجعلهم عواطفهم يؤمنون أنه ما من دين على الإطلاق؛ لأن الشخص الوحيد الذي علمهم سخيف؛ وتصبح مذنبا بكل تلك الشرور التي ينغمسون فيها.
بامبابيف :
لا، على الإطلاق؛ لأننا لا نعلمهم سوى الأخلاق الحسنة.
أوانج :
لو علمتهم أخلاقيات فاسدة لرجموك بالحجارة. البشر مجبولون على أن يريدوا فعل الشر، لكن لا يريدون أن يوعظوا به. وما هو ضروري هنا، أنه يجب عليك ألا تخلط بين النسق الأخلاقي الحكيم والأساطير السخيفة؛ لأنك تضعف من خلال احتيالاتك التي يمكنك أن تستغني عنها الأخلاق التي أنت ملزم بتعليمها.
بامبابيف :
ماذا تقول؟ أتؤمن أنه يمكن للمرء أن يعلم الناس الحقيقة دون أن يدعمها بالأساطير؟
أوانج :
أومن بذلك بشدة، إن مثقفينا من نوعية حائكينا ونساجينا ومزارعينا نفسها. إنهم يعبدون الله الخالق المثيب المنتقم. وهم لا يلطخون عبادتهم، سواء بنظريات خرقاء أو بطقوس متكلفة؛ ونجد أن الجرائم بين رجال العلم أقل بكثير منها بين العامة. لماذا لا يجدر أن نعلم عمالنا مثلما نعلم مثقفينا؟
بامبابيف :
ستكون شديد الحماقة؛ الأمر كما لو أنك تريد أن يحظوا بالكياسة نفسها، أن يكونوا محامين؛ لا هذا ممكن، ولا هو لائق. يجب أن يمنح الخبز الأبيض للسادة، والخبز البني للخدم.
أوانج :
أقر بأنه لا ينبغي لجميع الناس أن يحظوا بالتعليم ذاته؛ لكن هناك بعض الأمور ضرورية للجميع؛ ضروري أن يكون كل الناس عادلين، وأضمن طريقة لإلهام كل الناس بالعدالة هي أن تعلمهم الدين بلا خرافة.
بامبابيف :
إنها فكرة حسنة، لكنها غير عملية. هل تعتقد أن الناس ستقنع بأن تؤمن بالله الذي يثيب ويعاقب؟ قلت لي إنه يحدث مرارا أن يثور أكثر المتبصرين بين الناس ضد أساطيري؛ سيثورون بالطريقة نفسها ضد الحقيقة. سيقولون: «من سيضمن لي أن الله يثيب ويعاقب؟ ما الدليل على ذلك؟ ما هي رسالتك؟ ما هي المعجزة التي قدمتها حتى تجعلني أصدقك؟» سيسخرون منك أكثر مما يسخرون مني.
أوانج :
هنا خطؤك. أنت تتخيل أن الناس سيتخلصون من نير فكرة أمينة محتملة مفيدة لكل شخص، فكرة تتوافق مع المنطق الإنساني؛ لأن الناس يرفضون الأشياء غير الأمينة، الخرقاء، غير المفيدة، الخطيرة، التي تجعل الحس السليم يرتجف.
الناس ميالون جدا لتصديق قضاتهم؛ عندما يعرض عليهم قضاتهم إيمانا معقولا وحسب، يعتنقونه طواعية. لا حاجة للمعجزات لنؤمن بإله عادل ينجلي في قلب الإنسان؛ إنها فكرة طبيعية وضرورية جدا حتى إنها لا تقاوم. ليس ضروريا أن تقول بالضبط كيف سيعاقب الله أو يكافئ، بل يكفي الناس فقط أن يؤمنوا بعدالته. أؤكد لك أني شاهدت بلدات بأكملها لا تكاد تملك أي عقيدة أخرى، وأنه في تلك البلدات شاهدت الفضيلة أكثر من أي مكان آخر.
بامبابيف :
احذر؛ في تلك البلدات ستجد فلاسفة سينكرون عليك كلا من الآلام والمكافآت.
أوانج :
ستقر لي بأن هؤلاء الفلاسفة سينكرون بدعك مع ذلك بشدة أكبر؛ لذلك لن تربح شيئا من ذلك. رغم أن هناك فلاسفة لا يتفقون ومبادئي، هناك أناس شرفاء مع ذلك، لكنهم ينمون فضيلتهم التي يجب أن يعتنقوها بالحب لا بالخوف. لكني، إضافة إلى ذلك، أزعم أنه ما من فيلسوف سيكون متأكدا من أن العناية الإلهية لم تدخر الآلام للأشرار والمكافآت للأخيار. إن سألوني: من أخبرك أن الله يعاقب؟ فسأسألهم: ومن أخبركم أن الله لا يعاقب. باختصار، أعتقد أن هؤلاء الفلاسفة، بدلا من أن يناقضوني، سيساعدونني. هل تود أن تصبح فيلسوفا؟
بامبابيف :
نعم أود ذلك، لكن لا تخبر النساك.
أوانج :
فلنفكر فيما هو أهم من كل ذلك، إذا أراد فيلسوف أن يكون نافعا للمجتمع الإنساني، فيجب أن يجاهر بإيمانه بإله.
هوامش
الإرادة الحرة
منذ أن بدأ البشر في التفكير، شوش الفلاسفة هذا الأمر؛ لكن اللاهوتيين جعلوه مستغلقا بالغوامض السخيفة عن النعمة. ربما كان لوك هو أول من وجد خيطا في هذه المتاهة؛ لأنه كان أول من فحص الطبيعة الإنسانية بالتحليل دون أن يكون لديه غرور الثقة بالانطلاق من مبدأ عام. تجادل البشر نحو ثلاثة آلاف عام عما إن كانت الطبيعة البشرية حرة أم لا. في «مقالة عن الفهم الإنساني»، في فصل «القوة»، يثبت لوك قبل كل شيء أن ذلك السؤال عبثي، وأنه ما من علاقة بين الحرية والإرادة مثلما لا توجد علاقة بين اللون والحركة.
ماذا تعني عبارة «أن تكون حرا»؟ تعني «أن تكون قادرا»، أو قطعا لا تعني شيئا بالتأكيد؛ لأن إرادة «أن تكون قادرا» هي في الحصيلة بسخافة القول إن الإرادة صفراء أو زرقاء، أو مستديرة أو مربعة. أن تريد يعني أن تشاء، وأن تكون حرا يعني أن تكون قادرا، فلنتأمل خطوة بخطوة هذه السلسلة مما يمر بنا من دون أن نشوش عقولنا بأي مصطلحات مدرسية أو أي مبادئ مسبقة.
يقترح عليك أن تمتطي جوادا، وحينها يتعين عليك بالمطلق أن تختار اختيارا؛ لأنه واضح تماما أنك إما ستمتطيه أم لا، فما من حل وسط. ولذا، من باب الضرورة المطلقة أنك ستشاء نعم أو لا. حتى الآن يتجلى أن الإرادة غير حرة. تريد ركوب الجواد، لماذا؟ السبب، كما سيقول امرؤ جاهل، أني أشاء هذا. هذه الإجابة بلهاء، فلا شيء يحدث أو يمكن أن يحدث دون علة، دون سبب؛ ومن ثم يوجد سبب وراء مشيئتك. ما هو؟ الفكرة السائغة لامتطاء الجواد التي تعرض نفسها في دماغك، الفكرة المهيمنة، الفكرة المحددة. لكنك ستقول: ألا أستطيع أن أقاوم فكرة تهيمن علي؟ لا، فماذا ستكون مقاومتك؟ لا شيء. تستطيع بإرادتك أن تطيع فقط فكرة تسيطر عليك بقدر أكبر.
الآن تتلقى جميع أفكارك؛ ومن هنا فأنت تتلقى مشيئتك؛ ومن ثم فأنت تشاء بالضرورة. ولذا فكلمة «حرية» لا تخص إرادتك بأي طريقة.
تسألني كيف يشكل الفكر والمشيئة بداخلنا. أجيبك بأن ليس لدي أدنى فكرة عن ذلك. لا أعلم كيف تصنع الأفكار أكثر مما أعلم كيف صنع العالم. كل ما يمكننا فعله أن نتلمس ما يمر في آلتنا العصية على الفهم.
ليست الإرادة من ثم ملكة يستطيع الفرد أن يصفها بأنها حرة. الإرادة الحرة تعبير فارغ تماما من المعنى، وما أطلق عليه المتحذلقون إرادة اللامبالاة، التي تعني الإرادة بلا سبب، وهم لا يستحق عناء تفنيده.
أين ستكون الحرية إذا؟ في قدرة المرء على فعل ما يريده. أريد أن أغادر حجرة مكتبي، الباب مفتوح، أنا حر في أن أغادر.
لكن هب أنك تقول إن كان الباب مغلقا وأنا أود البقاء في البيت، فأنا أبقى هناك بحرية. لنكن صرحاء، أنت تمارس حينئذ القدرة على البقاء التي تملكها. لديك هذه القدرة، لكن ليست لديك القدرة على الخروج.
هكذا تختزل الحرية التي كتبت عنها مجلدات كثيرة جدا إلى وصفها الدقيق: فقط القدرة على الفعل.
بأي معنى إذا يجب أن ينطق الإنسان بعبارة «الإنسان حر»؟ بالمعنى ذاته الذي ينطق به كلمات الصحة، والقوة، والسعادة. الإنسان ليس قويا دائما، ولا صحيحا دائما، ولا سعيدا دائما.
تجرده عاطفة قوية، أو عقبة قوية، من حريته، من قدرته على الفعل.
كلمة «الحرية»، «الإرادة الحرة»، هي لذلك كلمة مجردة، كلمة عامة، مثل الجمال، والصلاح، والعدالة. لا تقرر هذه المصطلحات أن كل الناس دائما جميلون وصالحون وعادلون؛ وبالمثل، فهم ليسوا دائما أحرارا.
دعنا نمضي إلى ما هو أبعد من ذلك: إن كانت هذه الحرية هي فقط القدرة على الفعل، فما هي تلك القدرة؟ إنها أثر تكوين أعضائنا وحالتها الراهنة. يشاء لايبنتس أن يحل مسألة هندسية، يعاني من نوبة سكتة، بالتأكيد ليست لديه الحرية في حل مسألته. هل يكون شاب فحل، مغرم بجنون، يحتضن خليلته الراغبة، حرا في ترويض عاطفته؟ قطعا لا. لديه القدرة على التمتع، لكن ليست لديه القدرة على الامتناع. كان لوك لذلك محقا جدا في تسمية الحرية بأنها «قدرة». متى يتسنى لذلك الشاب أن يحجم عن ذلك، على الرغم من عنف عاطفته؟ حينما تحدد فكرة أقوى على نحو مناقض نشاط جسده ونفسه.
لكن ماذا؟! سيكون لدى الحيوانات الأخرى الحرية ذاتها؛ ومن ثم القدرة ذاتها؟ لم لا؟ لديها حواس، وذاكرة، ومشاعر، وإدراكات مثلما لدينا. وهي تتصرف بتلقائية مثلما نتصرف. ولا بد أن لديها أيضا مثلنا القدرة على الفعل بفضل إدراكاتها، وبفضل حركة أعضائها.
يصيح شخص: «إن كان الأمر كذلك، فكل شيء مجرد آلة، وكل ما في الكون محكوم بقوانين أبدية.» حسنا! هل ستجد كل شيء مسخرا لمليون نزوة عمياء؟ إما أن كل شيء هو نتاج لضرورة طبيعة الأشياء، أو أن كل شيء هو أثر النظام الأبدي لسيد مطلق؛ في كلتا الحالتين نحن مجرد عجلات في آلة العالم.
طرفة جوفاء مبتذلة أن نقول إنه دون الحرية المزعومة للإرادة فإن كل الآلام والمكافآت لا جدوى منها. تعقل، وستصل إلى استنتاج مناقض تماما.
إذا أعدم قاطع طريق، فستكون لدى شريكه الذي يشاهده وهو يلفظ النفس الأخير حرية ألا يرتعب من ذلك العقاب؛ لو كانت إرادته محددة من تلقاء نفسها، فسيذهب من عند قاعدة المشنقة ليقتل على قارعة الطريق؛ أما لو ارتعدت فرائصه فستجعله يشعر برعب طاغ؛ ومن ثم سيتوقف عن السطو. تصبح عقوبة شريكه هنا مفيدة له، وتأمينا للمجتمع فقط طالما كانت إرادته غير حرة.
ليست الحرية، إذا، إلا قدرة المرء على أن يفعل ما يريد، ولا يمكن أن تكون غير ذلك. هذا ما تعلمنا إياه الفلسفة. لكن إن رأى أحد الحرية من منظور لاهوتي فهي أمر غامض لدرجة أن العين الدنيوية لا تجرؤ على التطلع إليه.
1
هوامش
اللغة الفرنسية
لم تبدأ اللغة الفرنسية في اتخاذ أي شكل حتى قبيل القرن العاشر الميلادي؛ فهي نشأت من أطلال اللغتين اللاتينية والكلتية، ممزوجة ببعض الألفاظ الجرمانية. كانت هذه اللغة الفرنسية في الأساس هي «الرومانوم روستيك»؛ أي الرومانية الريفية، وكانت اللغة الجرمانية لغة البلاط حتى زمن شارل الأصلع؛ وبقيت الجرمانية اللغة الوحيدة في ألمانيا بعد حقبة التقسيم العظيم في عام 843م. سادت اللغة الريفية الرومانية اللغة الرومانسية في غرب فرنسا؛ وما زال الناس في أرياف كل من فو، وفاليه، ووادي إنجادين، وبضعة كانتونات أخرى يحتفظون بآثار واضحة لتلك اللهجة.
في نهاية القرن العاشر تشكلت اللغة الفرنسية؛ كتب الناس بالفرنسية في بداية القرن الحادي عشر، لكن هذه الفرنسية احتفظت من الرومانية الريفية بأكثر مما احتفظت به فرنسية اليوم. «قصة حب فيلومينا» التي كتبت في القرن العاشر بالرومانية الريفية لا تختلف كثيرا في لغتها عن القوانين النورماندية. لا يزال المرء يلحظ مشتقات كلتية ولاتينية وألمانية. الكلمات التي تعرف أعضاء الجسد البشري، والأشياء التي تستخدم يوميا، ولا تتشابه في شيء مع اللاتينية والألمانية، هي كلمات من اللغة الغالية القديمة أو الكلتية، مثل كلمات: «رأس»، و«ساق»، و«طرف»، و«يذهب»، و«يتكلم»، و«ينظر»، و«يسمع»، و«يصيح»، و«يبكي»، و«حكم»، و«مجموع»، وغيرها كثير من هذا النوع. وكان أغلب كلمات الحرب من اللغة الفرانكية أو الألمانية، مثل: «زحف»، و«استراحة»، و«قائد»، و«معسكر مكشوف»، و«فارس مرتزق»، و«جندي مرتزق». الباقي كله لاتيني؛ واختصرت كل الكلمات اللاتينية طبقا لعادة شعوب الشمال وقريحتها. ومن ذلك اختصار «بالاتيوم» إلى «بالي» (قصر أو حنك)، و«لوبوس» إلى «لوب» (ذئب)، و«أغسطس» إلى «أوت»، و«جونيوس» إلى جويان (يونيو)، و«أونكتوس» إلى «وان» (دهان أو مرهم)، و«بوربورا» إلى «بوربر»، و«بريتيوم» إلى «بري» (ثمن أو جائزة) ... إلخ. وبالكاد نجد أي آثار لليونانية التي طالما كانت لغة الحديث في مارسيليا.
في القرن الثاني عشر بدأ بعض مصطلحات الفلسفة الأرسطية في دخول اللغة؛ وقبيل القرن السادس عشر استخدم المرء ألفاظا يونانية في التعبير عن كل أجزاء الجسد الإنساني وأمراضها وعلاجاتها؛ ومن ثم استخدمت كلمات «قلبي»، و«دماغي»، و«قطرة»، و«مريض الربو»، و«خراج»، و«تقيح»، وكثير من المصطلحات الأخرى. بالرغم من أن اللغة أغنت نفسها كثيرا من اليونانية، وبالرغم من أنه مع حلول عصر شارل الثامن بدأت الاستعانة بالإيطالية التي كانت بلغت كمالها وقتها؛ فإن اللغة الفرنسية لم تكن اكتسبت التناسق المنتظم بعد. ألغى فرانسوا الأول العرف القديم القاضي باستخدام اللاتينية في الترافع وإصدار الأحكام وكتابة العقود؛ وهو عرف مثل شاهدا على همجية لغة لم يكن المرء يجرؤ على استخدامها في الوثائق الرسمية، عرف ضار بالمواطنين الذين كان كثير من أمورهم ينظم بلغة لا يفهمونها. كان على المرء إذا أن يعنى باللغة الفرنسية، لكن اللغة لم تكن نبيلة ولا منتظمة. كان بناء الجملة خاضعا للهوى. انتقلت عبقرية المحادثة إلى المجاملات، وأصبحت اللغة خصبة في التعبيرات الساخرة والساذجة، وعقيمة للغاية في الألفاظ النبيلة المتناغمة. بسبب هذا يجد المرء في القواميس المسجوعة عشرين لفظا مناسبا للشعر الهزلي مقابل واحد للاستعمال الأكثر سموا؛ وهذا ما يفسر، علاوة على ذلك، لماذا لم ينجح مارو قط بأسلوب جاد، ولماذا لم يتمكن أميو من ترجمة كتابات بلوتارخ الأنيقة إلا بسذاجة.
اكتسبت اللغة الفرنسية حيوية كبيرة بفضل قلم مونتين، لكنها ظلت بلا نبل ولا تناغم. وأفسد رونسار اللغة بجلبه إلى الشعر الفرنسي التراكيب اليونانية التي استخدمها الأطباء والفلاسفة. أصلح ماليرب إخفاق رونسار نوعا ما. وأضحت اللغة أنبل وأكثر تناغما بتأسيس الأكاديمية الفرنسية، واكتسبت في النهاية، في عصر لويس الرابع عشر؛ الكمال الذي كان من الممكن نقله إلى كل أنواع التأليف.
تكمن عبقرية هذه اللغة في النظام والوضوح؛ فلكل لغة عبقريتها، وهذه العبقرية تكمن في السهولة التي تمنحها اللغة لتعبير المرء عن نفسه بدقة أكثر أو أقل، ولاستخدام الالتفاتات المألوفة من اللغات الأخرى أو رفضها. الفرنسية التي يوجد فيها تصريف أسماء، ودائما ما تكون خاضعة لأداة التذكير أو التأنيث، لا تستطيع أن تتبنى أساليب التقديم والتأخير المعروفة في اللغتين اليونانية واللاتينية؛ وتجبر الكلمات على التراتب وفقا للنظام الطبيعي للأفكار. يستطيع المرء بطريقة واحدة فقط أن يقول بالفرنسية: «بلانكوس لديه عناية بشئون قيصر.» عبر عن هذا باللاتينية - «بشئون قيصر بلانكوس عليه أن يعتني.» ويستطيع المرء أن يرتب تلك الكلمات بمائة وعشرين طريقة دون أن يضر بالمعنى ودون أن يفسد اللغة. إن الأفعال المساعدة التي تمدد الجمل وتوهنها في اللغات الحديثة، تجعل اللسان الفرنسي مع ذلك أقل تلاؤما مع الأسلوب المختصر المصقول. الأفعال الناقصة، وضمائرها، وحروفها، وافتقارها إلى أسماء الفاعل القابلة للتصريف، وأخيرا مشيتها المنتظمة، ضارة بحماسة الشعر العظيمة، التي تملك فيها مصادر أقل مما تملكه الإيطالية أو الإنجليزية، لكن هذا التقييد وهذا الالتزام يجعلانها أكثر ملاءمة للتراجيديا والكوميديا من أي لغة في أوروبا. إن الترتيب الطبيعي الذي يجبر المرء على أن يعبر به عن أفكاره وينشئ به عباراته يشيع في هذه اللغة حلاوة وسهولة تسر كل الشعوب. وأنتجت عبقرية ممزوجة مع عبقرية اللغة كتبا مكتوبة سائغة أكثر مما يمكن مشاهدته عند أي شعب آخر.
بهجة المجتمع وحريته معهودتان من زمن طويل فقط في فرنسا؛ ومن ثم اكتسبت اللغة رقة تعبير وإتقانا مليئا بالبساطة نادرا ما يوجدان في أي مكان آخر. هذا الإتقان بولغ فيه أحيانا، لكن ذوي الذوق الرفيع عرفوا دائما كيف يقللون منه إلى حدود معقولة.
اعتقد أشخاص كثيرون أن اللغة الفرنسية افتقرت منذ زمن إميو ومونتين. وبالفعل، يستطيع المرء أن يجد لدى كثير من المؤلفين تعبيرات لم تعد مستساغة، لكنها في معظمها تعبيرات استبدلت بها تعبيرات مكافئة. أثريت اللغة بعدد من التعبيرات الرفيعة والحيوية. ودون التكلم هنا عن فصاحة الأشياء، اكتسبت فصاحة الكلمات. وفي عهد لويس الرابع عشر، كما قيل، بلغت هذه الفصاحة ذروة روعتها، وصارت اللغة مضبوطة. مهما تغير الوقت والهوى، سيبقى الكتاب الكبار في القرنين السابع عشر والثامن عشر نموذجا يحتذى.
الصداقة
الصداقة زواج الروح، وهذا الزواج عرضة للطلاق. إنها عقد ضمني بين شخصين حساسين فاضلين. أقول «حساسين» لأن راهبا عاكفا يمكن أن يكون غير شرير، ويعيش دون أن يعرف ما هي الصداقة. وأقول «فاضلين» لأن الأشرار ليس لهم سوى رفاق السوء، والشهوانيين لهم شركاء في الفسق، والمتطلعين لهم هم أيضا شركاء، وللسياسيين مشايعون، ولعامة الرجال العاطلين ارتباطات، وللأمراء حواش؛ أما الفاضلون فلهم وحدهم أصدقاء. كان سيثيجوس رفيق السوء لكاتلين، وكان مايسيناس أحد حاشية أوكتافيوس، أما شيشرون فكان صديق أتيكوس.
الله
خلال حكم أركاديوس، ذهب لوجوماكوس، محاضر اللاهوت بالقسطنطينية، إلى سكيثيا، وتوقف عند سفح جبل القوقاز، في سهول زيفيريم الخصبة على حدود كولخيس. كان ذلك الرجل الطيب العجوز دوندينداك في ردهته السفلى الفسيحة بين حظيرة الخراف والمخزن الواسع. كان جاثيا بصحبة زوجته وأبنائه الخمسة، وبناته الخمس، وأقاربه وخدمه، وبعد وجبة خفيفة كانوا جميعهم ينشدون تسابيح الله. قال له لوجوماكوس: «ماذا تقول يا وثني؟»
أجابه دوندينداك: «لست وثنيا.»
قال له لوجوماكوس: «لا بد أنك وثني طالما أنك لست يونانيا. أخبرني بم كنت تغني بتلك الرطانة الهمجية السكيثية؟»
أجابه السكيثي: «كل اللغات سواء عند الله. كنا نتغنى بتسبيحاته.»
رد اللاهوتي: «هذا شيء غريب للغاية. أسرة سكيثية تصلي لله، وما علمناها!»
ولم يلبث أن دخل في حوار مع دوندينداك السكيثي؛ فقد كان يعرف القليل من اللغة السكيثية، بينما يعرف الآخر قليلا من اليونانية. وجدت المحادثة الآتية في مخطوطة محفوظة بمكتبة القسطنطينية:
لوجوماكوس :
دعنا نرى إن كنت تعرف تعاليمك أم لا. لماذا تصلي لله؟
دوندينداك :
لأنه حق أن نعبد الكائن الأعلى الذي نحصل منه على كل شيء.
لوجوماكوس :
ليس سيئا لهمجي! وماذا تطلب منه؟
دوندينداك :
أشكره على النعم التي أتمتع بها، وحتى على الأسقام التي يبتليني بها. لكني أتخذ حذري من أن أسأله شيئا؛ فهو يعلم أفضل منا ماذا نحتاج، وبالإضافة لذلك، أخشى أن أطلب منه طقسا جيدا وجاري يطلب المطر.
لوجوماكوس :
آه! ظننت أنه سيقول شيئا سخيفا. دعنا نبدأ مرة أخرى، ولنعد قليلا للخلف. أيها الهمجي، من أخبرك بوجود الله؟
دوندينداك :
الطبيعة برمتها.
لوجوماكوس :
هذا لا يكفي. ما فكرتك عن الله؟
دوندينداك :
فكرتي عن جابلي، عن سيدي الذي سوف يكافئني إن صنعت الخير، وسوف يعاقبني إن فعلت الشر.
لوجوماكوس :
هراء. هذا كله كلام فارغ! دعنا نتحدث عن الأساسيات ؛ هل الله مطلق أم محدد، له جوهر؟
دوندينداك :
لا أفهمك.
لوجوماكوس :
أحمق فظ! هل الله في مكان واحد، وراء كل مكان، أم في كل مكان؟
دوندينداك :
لا أعلم ... كما تشاء.
لوجوماكوس :
أبله. هل يمكن ألا يكون ما كان؟ هل يمكن لعصا ألا يكون لها طرفان؟ هل يرى المستقبل مستقبلا أم حاضرا؟ كيف يخلق الوجود من العدم؟ وكيف يبيد الوجود؟
دوندينداك :
لم أمحص قط تلك الأمور.
لوجوماكوس :
ما أغباه! هيا، يجب على المرء أن يتواضع، أن ينظر إلى الأشياء على نحو نسبي. أخبرني يا صديقي، هل تعتقد أن المادة يمكن أن تكون أزلية؟
دوندينداك :
وماذا يعنيني إن كانت موجودة منذ الأزل أم لم تكن؟ أنا لم أوجد منذ الأزل. إن الله هو سيدي دائما؛ أعطاني فكرة العدالة ويجب علي أن أتبعها؛ لا أود أن أكون فيلسوفا، لكني أود أن أكون رجلا.
لوجوماكوس :
هؤلاء الأغبياء متعبون! دعنا نمضي خطوة خطوة: ما الله؟
دوندينداك :
سيدي وقاضي وأبي.
لوجوماكوس :
ليس هذا ما أسألك عنه. ما طبيعته؟
دوندينداك :
أن يكون قديرا وطيبا.
لوجوماكوس :
ولكن أهو مادي أم روحي؟
دوندينداك :
من أين لي أن أعلم؟
لوجوماكوس :
ماذا! لا تعرف ما هي الروح؟
دوندينداك :
أبدا؛ بماذا سيفيدني هذا؟ هل سيجعلني أكثر عدلا؟ هل يجعلني زوجا أفضل، أبا أفضل، سيدا أفضل، مواطنا أفضل؟
لوجوماكوس :
ضروري جدا أن تعلم ماهية الروح. إنها، إنها، إنها ... سوف أخبرك لاحقا.
دوندينداك :
أخشى كثيرا أنك ستستخبرني ما هي أقل مما ستخبرني ما ليست هي. اسمح لي أن أطرح عليك سؤالا بدوري؛ شاهدت مرة أحد معابدكم، لماذا تصورون الله بلحية طويلة؟
لوجوماكوس :
هذا سؤال صعب للغاية يحتاج لتعليم تمهيدي.
دوندينداك :
قبل أن أتلقى تعليمك، لا بد أن أخبرك بما حدث لي يوما. كنت حينها انتهيت للتو من بناء حجيرة عند نهاية حديقتي؛ سمعت خلدا يجادل خنفساء. قال الخلد: «هذا بناء متقن جدا. لا بد أن خلدا قويا للغاية هو من صنع هذا العمل.» قالت الخنفساء: «أنت تمزح، بل كانت خنفساء تنضح عبقرية هي مهندسة هذا البناء.» من ذلك الوقت عزمت على ألا أجادل أبدا.
التاريخ
(1) التعريف
التاريخ هو سرد الوقائع التي نعتبرها حقيقية، بعكس الأسطورة التي هي سرد لوقائع نعتبرها زائفة.
لدينا تاريخ الآراء الذي لا يمثل بالكاد سوى مجموعة الأخطاء البشرية.
يمكن أن يكون تاريخ الفنون أكثر فروع التاريخ فائدة حينما يضم إلى معرفة اختراع الفنون وتقدمها وصف آليتها.
التاريخ الطبيعي الذي يسمى خطأ بأنه «تاريخ» جزء أساسي من الفلسفة الطبيعية. قسم تاريخ الأحداث إلى تاريخ ديني وتاريخ دنيوي. التاريخ الديني هو سلسلة من العمليات المقدسة والإعجازية حيث شاء الله مرة تلو أخرى أن يهدي الأمة اليهودية، واليوم أن نمارس إيماننا. (2) أسس التاريخ الأولى
الأسس الأولى للتاريخ كله هي سرديات الآباء للأبناء التي تنقل بعد ذلك من جيل لآخر. وتكون في أصلها في أوج القابلية للتصديق، حينما لا تصدم الحس السليم، وتفقد مع كل جيل درجة من قابليتها للتصديق. مع الوقت تنمو الأسطورة وتنمو الحقيقة بقدر أقل. وينتج من هذا أن كل أصول الشعوب منافية للعقل. هكذا حكم المصريون من قبل الآلهة قرونا عديدة؛ وبعد ذلك حكمهم أنصاف آلهة؛ وفي النهاية كان لديهم ملوك لمدة أحد عشر ألفا وثلاثمائة وأربعين عاما؛ وفي تلك الفترة الزمنية تغيرت الشمس أربع مرات من الشرق للغرب.
اعتقد الفينيقيون في زمن الإسكندر أنهم استوطنوا في بلدهم ثلاثين ألف عام؛ وأن تلك الأعوام الثلاثين ألفا كانت مليئة بالمعجزات شأنها شأن التاريخ المصري. وأنا أقر أنه من المحتمل جدا ماديا أن تكون فينيقيا قد وجدت، ليس فقط منذ ثلاثين ألف عام، ولكن منذ ثلاثين ألف مليار قرن، وأنها مرت مثل بقية العالم بثلاثين مليون دورة. لكن لا علم لنا بذلك.
يعلم المرء أي وضع عام مدهش بدرجة لا يصدقها عقل ساد في تاريخ الإغريق القديم.
أما الرومان، فعلى الرغم من أنهم كانوا جادين، فلم يحاولوا من قريب أو بعيد أن يغلفوا أحداث تاريخهم بالأساطير. هذه الأمة الحديثة للغاية، مقارنة بالشعوب الآسيوية، استمرت مدة خمسمائة عام بلا مؤرخين؛ لذلك ليس مدهشا أن رومولوس كان ابن مارس الذي كانت أمه من الرضاعة ذئبة، وزحف مع ألف رجل من قريته من روما في مواجهة خمسة وعشرين ألف مقاتل من قرية السابينيين، وأصبح إلها فيما بعد؛ وأن تاركوين القديم شق صخرة بشفرة؛ وأن كاهنة عذراء بمعبد فيستا جذبت سفينة إلى البر بحزامها ... إلخ.
لا تقل الحوليات الأولى لكل أممنا الحديثة أسطورية؛ لا بد أحيانا من تقرير بعض الأحداث العجائبية التي لا يمكن تصديقها إلا بوصفها براهين عن السذاجة الإنسانية، وهي تدخل تاريخ الآراء والحماقات؛ لكن المجال أوسع مما ينبغي. (3) عن السجلات
إذا أردنا أن نعرف بقليل من اليقين شيئا من التاريخ القديم، فليس لدينا سوى وسيلة واحدة، وهي البحث عما إن كانت هناك سجلات باقية لا جدال عليها. لدينا فقط ثلاثة سجلات مكتوبة؛ الأول هو مجموعة ضخمة من الملاحظات الفلكية التي سجلت على مدى ألف وتسعمائة عام متتالية في بابل، وأرسلها الإسكندر إلى اليونان. هذه السلسلة من الملاحظات التي تعود إلى ألفين ومائتين وأربعة وثلاثين عاما قبل عصرنا، تثبت بقوة أن البابليين قد عاشوا بصفتهم مجتمعا من البشر قبل ذلك ببضعة قرون؛ لأن الفنون ليست سوى صنيعة الزمن، والكسل الطبيعي عند الناس يتركهم لبعض آلاف الأعوام بلا معرفة أو مواهب غير إطعام أنفسهم والدفاع عنها ضد إصابات الجو، وضد ذبح بعضهم بعضا. دعنا نحكم استنادا إلى الألمان والإنجليز إبان حكم قيصر، والتتار اليوم، وثلثي أفريقيا، وجميع الشعوب التي وجدناها في أمريكا باستثناء ممالك بيرو والمكسيك وجمهورية تلاسكالا في بعض الجوانب. ولنتذكر أنه ما من أحد في هذا العالم الجديد بأكمله كان يعرف كيف يقرأ أو يكتب.
والسجل الثاني هو الكسوف المركزي للشمس الذي حسب في الصين منذ ألفين ومائة وخمسة وخمسين عاما قبل عصرنا، واعترف بصحته فلكيونا. علينا أن نقول عن الصينيين ما قلناه عن البابليين. لقد شكلوا إمبراطورية متحضرة شاسعة، ولا شك. لكن ما يجعل الصينيين في مكانة أعلى من كل شعوب الأرض ليس قوانينهم ولا عاداتهم ولا لغتهم المتداولة بينهم التي غيرتها الصفوة المتعلمة منذ ما يقرب من أربعة آلاف عام. وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الأمة، وأمة الهند، وهما أقدم الشعوب الموجودة على الأرض الآن، اللتين تملكان أوسع البلاد وأجملها، واللتين اخترعتا تقريبا كل أنواع الفنون قبل أن نتعلم أيا منها، طالما أهملتا حتى يومنا في كل تواريخ العالم المزعومة. وحينما أجرى إسباني وفرنسي إحصاء للأمم، لم يعجز أحدهما ولا الآخر في أن يدعى أن بلده هي أقدم ملكية في العالم، وأن ملكه هو الأعظم، ممنيا نفسه بأن ملكه سيعطيه منحة بمجرد أن يقرأ كتابه.
وأما السجل الثالث الأدنى كثيرا من السجلين السابقين، فيوجد ضمن منحوتات آريندل: تاريخ أثينا مدفون هناك منذ مائتين وثلاثة وستين عاما قبل عصرنا؛ لكنه لا يرجع إلا إلى سيسروب قبل ألف وثلاثمائة وتسعة عشر عاما من دفنه. هذه هي السجلات الثلاثة الوحيدة التي لا جدال عليها المتاحة لنا في تاريخ العصور القديمة.
دعنا ننتبه جيدا لتلك المنحوتات التي استعادها من اليونان اللورد آريندل. يبدأ تاريخها قبل ألف وخمسمائة واثنين وثمانين عاما من عصرنا. وذلك اليوم (1771) تاريخ 3353 عاما من العصور القديمة، ولا ترى هناك حقيقة واحدة يمكن تصنيفها بالخرافة أو المعجزة. والأمر نفسه بشأن الأوليمبيات، فلا يوجد فيها ما يقال عنه «اليونان الكاذبة». عرف اليونانيون جيدا كيف يميزون بين التاريخ والحكايات الخيالية، وبين الوقائع الحقيقية وحكايات هيرودوت. تماما كما كان يحدث في شئونهم الجادة، لم يقتبس أي من خطبائهم شيئا من خطب السوفسطائيين أو من صور الشعراء.
حدد تاريخ الاستيلاء على طروادة في هذه المنحوتات، لكن لم تذكر سهام أبولو، ولا تضحية إيفيجنيا، ولا معارك الآلهة السخيفة. يمكننا أيضا أن نجد هناك تاريخ اختراع تريبتولومي وسيريس، لكن لا تدعى سيريس إلهة. تذكر قصيدة كانت تتكلم عن خطف بروسبيرين، ولا يقال إنها ابنة جوبيتر ولا أنها إلهة، ولا أنها زوجة إله جهنم.
قدم هرقل في أساطير إلفسينا الغامضة، ولكن لم تذكر كلمة واحدة عن أعماله الاثني عشر، ولا عن مروره بأفريقيا عبر كأسه، ولا عن ألوهيته، ولا عن السمكة الكبيرة التي ابتلعته واحتفظت به في بطنها ثلاثة أيام بلياليها طبقا لرواية ليكوفرون.
أما فيما يشيع بيننا، فعلى النقيض من ذلك، يجلب لواء من السماء على يد ملاك إلى رهبان سان دينيس؛ وتأتي حمامة بقارورة زيت إلى الكنيسة في الرانس؛ وينهمك جيشان من الثعابين في معركة حامية في ألمانيا؛ ويحاصر أسقف في ماينس وتأكله الفئران، وفوق كل ذلك، أوليت عناية كبيرة لتحديد العام الذي وقعت فيه هذه المغامرات.
التاريخ كله معاصر، وليس مدهشا أنه ليس لدينا تاريخ دنيوي قديم أبعد من أربعة آلاف عام. إن دورات كوكبنا، والجهل الممتد والشامل بذلك الفن الذي ينقل الحقائق عبر الكتابة هما السبب في ذلك. كان هذا الفن شائعا بين عدد صغير جدا من الأمم المتحضرة، وكان متاحا في أيدي القليل جدا منهم. ولم يكن شيء بين الفرنسيين والألمان أندر من معرفة الكتابة. وحتى القرن الرابع عشر من عصرنا كان يصدق تقريبا على كل الأعمال بواسطة الشهود. وحدث في فرنسا، فقط تحت حكم شارل السابع في عام 1454م، أن بدأ تسجيل بعض جمارك فرنسا كتابة. وكان فن الكتابة نادرا بين الإسبان، وينتج من ذلك أن تاريخهم جاف للغاية، وغير أكيد للغاية، حتى عصر فرديناند وإيزابيلا. ويرى المرء من ذلك إلى أي مدى استطاع ذلك العدد القليل من الناس الذين يعرفون الكتابة أن يخدعوا، وكم كان سهلا أن يجعلونا نصدق أكبر السخافات.
ثمة أمم استعبدت جزءا من العالم دون أن تعرف استخدام الحروف. نعلم أن جنكيز خان غزا جزءا من آسيا في بداية القرن الثالث عشر، ولكن لم نعلم بهذا من قبله أو من قبل التتار. تاريخهم الذي دونه الصينيون وترجمه الأب جوبال يذكر أن هؤلاء التتار لم يكن لديهم فن الكتابة في ذلك الوقت.
ولا يحتمل أن هذا الفن كان مجهولا بقدر أقل عند السيثيين والأوجسكيين الذين سماهم الفرس واليونانيون بالماديين، الذين غزوا جزءا من أوروبا وآسيا قبل عهد قورش. من المؤكد تقريبا أنه في ذلك الوقت كان بالكاد من بين مائة أمة أمة أو اثنتان تستخدمان الحروف. من الممكن أنه في عالم قديم مدمر عرف الناس الكتابة والفنون الأخرى ؛ لكن في عالمنا كل هذا حديث.
ثمة سجلات من نوع آخر تساعد على الترسيخ الموغل في القدم لشعوب معينة تسبق كل العصور المعروفة وكل الكتب؛ وهذه هي عجائب العمارة مثل أهرامات مصر وقصورها التي تحدت الزمن. لم يكن هيرودوت الذي كان يعيش منذ ألفين ومائتي عام مضت، ورأى تلك الآثار، قادرا أن يعرف من الكهنة المصريين العصر الذي شيدت فيه.
من الصعب تقدير عمر أقدم الأهرامات بأقل من أربعة آلاف عام من القدم. لكن لا بد أن نضع في اعتبارنا أن جهود الملوك للتفاخر إنما حدثت على الأرجح بعد تأسيس المدن بفترة طويلة. لكن أن تبني مدنا في أرض يغمرها الماء كل عام، دعنا نلحظ دوما أنه كان من الضروري أولا رفع أراضي المدن على أكوام في هذه الأرض الموحلة، وجعلها بمنجى من الفيضان؛ كان أساسيا، قبل اتخاذ هذا المسار الضروري، وقبل الشروع في تلك الأعمال العظيمة، أن يمارس الناس التراجع خلال فيضان النيل وسط الصخور التي تشكل سلسلتين عن يمين هذا النهر وعن يساره. كان ضروريا لهذه الحشود من الناس أن تكون لديها الأدوات اللازمة للحرث وللعمارة، ومعرفة بالمسح والمعاينة، إلى جانب القوانين والشرطة. يتطلب كل ذلك بالضرورة وقتا طويلا جدا. نستطيع أن نرى عبر تلك التفاصيل الطويلة التي تواجه يوميا أهم أعمالنا وأصغرها كم هو صعب القيام بأعمال عظيمة، وأنها لا تحتاج فقط إلى عناد صلب، ولكن أيضا إلى أجيال تحركها هذه الصلابة.
ومع ذلك سواء أكان مينا أم تحوت أم خوفو أم رمسيس هو الذي شيد واحدا أو اثنين من تلك الكتل المذهلة، فلن نكون أكثر دراية بتاريخ مصر القديمة. لغة هذا الشعب مفقودة؛ ولذا لا نعرف سوى أنه قبل أقدم المؤرخين كانت هناك مادة لصنع تاريخ قديم.
الجهل
أجهل كيف جبلت، وكيف ولدت. ظللت ربع حياتي جاهلا تماما بأسباب كل ما شاهدت وسمعت وشعرت، ولم أكن سوى ببغاء ثرثرت عليه ببغاوات أخرى.
حينما نظرت حولي وبداخلي أدركت أن هناك شيئا سرمديا؛ لأن هناك كائنات توجد اليوم ، استخلصت أن هناك كائنا ضروريا وأبديا بالضرورة؛ ومن ثم فالخطوة الأولى التي خطوتها لأخرج من جهلي عبرت حدود القرون كلها.
لكن حينما حاولت أن أسير في هذه المتاهة اللانهائية المفتوحة أمامي، لم أستطع أن أجد ممرا واحدا، ولا أن أحدد بوضوح هدفا واحدا؛ ومن الوثبة التي وثبتها لأتأمل في الأبدية شعرت أني أتراجع مرة أخرى إلى هاوية جهلي.
رأيت ما سميت «مادة»، من نجم الشعرى ونجوم الطريق اللبني، بعيدا عن الشعرى كما يبعد الشعرى عنا، عند آخر ذرة يمكن أن نلحظها عبر الميكروسوكوب، وأجهل ما هي المادة.
الضوء الذي جعلني أرى كل هذه الكائنات مجهول لي؛ أستطيع بالاستعانة بمنشور أن أحلل الضوء، وأقسمه إلى سبعة حزم من الأشعة؛ لكني لا أستطيع تقسيم هذه الحزم، فأنا أجهل مم تكونت. الضوء من طبيعة المادة، طالما أنه يتحرك ويترك أثرا على الأشياء، لكنه لا يتجه صوب مركز مثل كل الأجسام؛ على العكس، هو يهرب باقتدار من المركز، بينما تتحرك جميع المواد صوب المركز. يبدو الضوء قابلا للاختراق، والمادة غير قابلة للاختراق. هل الضوء مادة؟ أليس مادة؟ بأي خصائص لا تحصى يمكن أن يزود؟ أجهل ذلك.
هل هذا الجوهر اللامع جدا، الخاطف جدا، المجهول جدا، وهل هذه الجواهر الأخرى التي تدور في رحابة الفضاء أبدية كما تبدو؟ ما عندي فكرة. هل خلقها كائن ضروري ذو ذكاء فائق من لا شيء، أم رتبها؟ هل أنشأ هذا النظام في الزمن أم قبل الزمن؟ بل ما هو هذا الزمن الذي أتكلم عنه؟ لا أستطيع تعريفه. يا إلهي! علمني كي لا أغرق في ظلام الآخرين أو ظلامي.
ما الحس؟ كيف استقبلته؟ أي صلة ما بين الهواء الذي يصدم أذني والإحساس بالصوت؟ بين هذا الجسد وبين الإحساس باللون؟ أجهل ذلك بعمق، وسأظل جاهلا بذلك.
ما الفكر؟ أين يقطن؟ كيف يشكل؟ من يمنحني الفكر أثناء نومي؟ هل أفكر بفضل إرادتي؟ لكن دوما طوال نومي، وكثيرا أثناء يقظتي، تكون لدي أفكار رغما مني. هذه الأفكار المنسية طويلا المبعدة إلى الجزء الخلفي من مخي تصدر منه بلا تدخل مني، وتقدم نفسها إلى ذاكرتي التي تبذل جهودا تافهة لتستدعيها.
لا تملك الأشياء الخارجية القوة لتشكل الأفكار بداخلي؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وأنا مقتنع كذلك بأني لست أنا الذي أمنحها لنفسي؛ لأنها تولد دون أوامري. من ينتجها إذا بداخلي؟ من أين تأتي؟ إلى أين تذهب؟ أيتها الأشباح الهاربة، أي يد خفية تخلقك وتجعلك تختفين؟
لماذا لدى الإنسان وحده من دون كل الحيوانات ذلك الهوس بالسيطرة على أخيه الإنسان؟
لماذا وكيف أمكن تقديم أكثر من تسعة وتسعين من أصل مائة مليار من البشر قربانا لذلك الجنون؟
كيف يكون التعقل منحة نفيسة لا نخسرها مقابل أي شيء في العالم، وكيف لم يجد هذا العقل إلا في جعلنا أكثر الكائنات تعاسة؟
من أين يأتي أننا إذ نحب الحقيقة بشغف نسلم دوما لأكثر الخدع جسامة؟
لماذا تظل الحياة محبوبة لأولئك الهنود الذين خدعهم البوذيون واستعبدوهم، وسحقهم أسلاف رجل تتري، وحملوا عملا فوق طاقتهم، وهم يئنون في عوز، وتجتاحهم الأمراض، وينكشفون لكل متجبر؟
من أين يأتي الشر ولماذا يوجد الشر؟
أيا ذرات اليوم! أيا رفيقاتي في الفراغ اللانهائي، المولودات مثلي لمعاناة كل شيء، وللجهل بكل شيء، أيوجد بينكم مجانين بما يكفي ليعتقدوا بأنهم يعرفون كل هذه الأمور؟ لا، لا يوجد؛ ففي قرارة قلوبكم تشعرون بتفاهتكم كما أحكم بالعدل على تفاهتي. لكنكم مكابرون بما يكفي لترغبوا في أن يعتنق الناس نظرياتكم الباطلة؛ وبينما لا تستطيعون أن تكونوا طغاة على أجسادنا، تزعمون أنكم طغاة على أرواحنا.
المزدرون
من هم المزدرون؟ إنهم من يمنحون لحية بيضاء وأقداما وأذرعا إلى كائن الكوائن، إلى الخالق العظيم؛ إلى الذكاء الأبدي الذي به يحكم العالم. لكنهم فقط مزدرون معذورون، أناس مزدرون مساكين لا يجب أن نغضب منهم.
إن قاموا حتى برسم الكائن العظيم الذي لا يحاط به علما مولودا على سحابة لا يمكنها أن تحمل شيئا؛ وإن كانوا من الحماقة بحيث يضعون الله في الغمام، أو في المطر، أو على جبل، وبحيث يحيطونه بوجوه بدينة ناضرة ذات جناحين؛ سأضحك وأعذرهم من كل قلبي.
سيغضبني الأشخاص المزدرون الذين ينسبون إلى كائن الكوائن نبوءات ومظالم منافية للعقل لو لم يكن هذا الكائن العظيم وهبني عقلا يهدئ غضبي. يكرر المتعصب السخيف لي بعد غيري أنه ليس لنا أن نحكم على ما هو معقول وعادل في الكائن العظيم؛ لأن عقله ليس كعقلنا، وعدالته ليست كعدالتنا. إيه! كيف، أيها الممسوس المجنون، تريدني أن أحكم على العدالة والعقل بخلاف معنيهما عندي؟ أتريدني أن أسير بغير قدمي، وأن أتحدث بغير فمي؟
هذا الرجل المزدري الذي يفترض أن الكائن العظيم غيور، ومتكبر، وضار، ومنتقم هو أشد خطرا. لا أريد أن أنام تحت سقف واحد مع هذا الرجل.
لكن كيف يمكن أن تعامل ذلك الرجل المزدري الذي يقول لك: «انظر فقط عبر عيني. لا تفكر؛ سأعلن لك عن إله متجبر صنعني لأكون طاغية عليك. أنا حبيبه؛ وخلال الأبدية سوف يعذب الملايين من مخلوقاته الذين يمقتهم ليبهجني. سأكون سيدك في الدنيا، وسأسخر من عذاباتك في الآخرة.»
ألا تشعر برغبة في أن تضرب هذا الأخ المزدري القاسي؟ إن كنتم مولودين لطيفين، ألن تركضوا بكل قوتكم إلى الغرب عندما يتفوه هذا الهمجي بتوهماته الوحشية في الشرق؟
جان دارك
من المناسب للقارئ أن يتعرف على التاريخ الحقيقي لجان دارك التي منحت لقب «العذراء». إن تفاصيل مغامرتها معروفة بقدر ضئيل جدا، وربما تمنح البهجة للقراء؛ وها هي:
يقول بول جوف إن هذه الفتاة استثارت شجاعة الفرنسيين، وهو يهتم كثيرا بألا نعتقد أنها ملهمة. لم يقل روبير، ولا جاجان، ولا بول إميل، ولا بوليدور فيرجيل، ولا جونيبرار، ولا فيليب البيرجاموي، ولا بابير ماسون، ولا حتى ماريانا؛ إنها مرسلة من الله؛ وحتى لو قال ماريانا اليسوعي هذا فلن يخدعني الأمر.
يقص لنا ميزري «أن أمير القوات السمائية ظهر لها.» آسف لميزري، وأطلب السماح من أمير القوات السمائية.
يفترض معظم مؤرخينا الذين ينقل بعضهم من بعض أن العذراء نطقت بنبوءات، وأن نبوءاتها تحققت بالفعل. وقيل على لسانها «إنها سوف تطرد الإنجليز خارج المملكة.» وإنهم بقوا هناك خمسة أعوام بعد موتها. يقال إنها كتبت خطابا طويلا إلى ملك إنجلترا، وأكيد أنها لم تكن تجيد القراءة ولا الكتابة؛ فمثل هذا التعليم لم يكن يقدم لخادمة في حانة، والمعلومات التي ذكرت ضدها تبين أنها لم تستطع أن تكتب اسمها.
لكن يقال أيضا إنها قد وجدت سيفا صدئا حفرت على نصله خمس زهور زنبق ذهبية؛ وإن هذا السيف كان مخبأ في كنيسة سانت كاترين دي فييربوا في الطور. هذه بالتأكيد معجزة عظيمة!
بعد أن أسرت المسكينة جان دارك من قبل الإنجليز، على الرغم من كل نبوءاتها ومعجزاتها، أصرت عند استجوابها في المقام الأول على أن سانت كاترين وسانت مارجريت قد أكرمتاها بكشوف كثيرة. يدهشني أنها لم تقل شيئا قط عن أحاديثها مع أمير القوات السمائية. ويبدو أن هاتين القديستين أحبتا الحديث على نحو أفضل من القديس ميخائيل. واعتقد قضاتها أنها مشعوذة، واعتقدت هي أنها ملهمة.
أحد الأدلة الدامغة على أن ضباط شارل السابع استغلوا العجيبة لتشجيع الجنود، في الحالة المزرية التي انحدرت إليها فرنسا، هو أن سانتري كان لديه راعيه، كما كان لدى كونت دينوا راعيته. صنع الراعي تنبؤات من جهة، والراعية تنبؤات من جهة أخرى.
لكن لسوء الحظ أن كاهنة كونت دينوا أسرت في حصار كومبييني من قبل لقيط من فيندوم. وأسر كاهن سانتري من قبل تالبوت. لم يكن تالبوت الشهم ليحرق الراعي، كان هذا التالبوت واحدا من أولئك الإنجليز الأصلاء الذين كانوا يحتقرون الخرافة، ولم يكن لديه ذلك التعصب الذي يجعله يعاقب المتعصبين.
كان هذا هو ما يبدو لي أنه كان على المؤرخين أن يلحظوه، وهو ما أهملوه.
أخذت العذراء إلى جون دي ليكسمبور، كونت ليني. حبست في حصن بوليو، ثم حصن بوريفوار، ومن هناك إلى حصن بيكاردي.
بادئ ذي بدء، يدعي بيير كوشون، أسقف بوفيه - الذي كان من أنصار ملك إنجلترا ضد ملكه الشرعي - أن العذراء مشعوذة اعتقلت على حدود أبرشيته. كان يتمني أن يحاكمها بوصفها مشعوذة، وأيد الحق الذي ادعاه بكذبة مباشرة . قبض على جان في منطقة أسقفية نويون، ولم يكن أسقف بوفيه ولا أسقف نيون بالتأكيد يملكان الحق بإدانة أي شخص، فضلا عن الحق في إعدام إحدى رعايا دوق لوريان ومحاربة في خدمة ملك فرنسا.
كان في هذا الوقت (من يصدق هذا؟) نائب أسقفي عام لديوان التفتيش بفرنسا يدعى الأخ مارتان.
1
وكان ذلك واحدا من أكثر آثار الخراب الشامل لذلك البلد التعيس هولا. ادعى الأخ مارتان أن السجينة تفوح بالهرطقة. دعا دوق بورجوندي وكونت ليني «بحكم منصبه والسلطة الممنوحة له من الكرسي البابوي، إلى تسليم جان للتحقيق المقدس.»
أسرع السوربون بتأييد الأخ مارتان، وكتب إلى دوق بورجوندي وإلى جون دي لكسمبور - «لقد استخدمتما سلطتكما النبيلة لاعتقال تلك المرأة التي تطلق على نفسها العذراء، والتي من خلالها أسيء إلى كرامة الله بما لا يقاس، وأصيب الإيمان بجرح غائر، وألحق بالكنيسة خزي شديد؛ لأنه بسبب فكرها، انبثقت الوثنية، والأخطاء، والعقيدة الفاسدة، وشرور أخرى لا تحصى في هذه المملكة ... لكن ما فعلته هذه المرأة ربما كان يهون لو لم ينتج منه ما يشجع على الإساءة المقترفة من قبلها ضد خالقنا اللطيف وإيمانه، والكنيسة المقدسة، إلى جانب أفعالها السيئة التي لا حصر لها ... ستكون إساءة لا تغتفر ضد الذات المقدسة إذا ما أفرج عن هذه المرأة.»
2
انتهى الأمر بتسليم العذراء إلى جون كوشون الذي كان الناس يسمونه الأسقف الحقير، والفرنسي الحقير، والرجل الحقير. باعها جون دي لكسمبور إلى كوشون وإلى الإنجليز لقاء عشرة آلاف ليرة، ودفعها دوق بدفور. من ثم قدم السوربون، والأسقف، والأخ مارتان التماسا جديدا إلى دوق بدفور الوصي على عرش فرنسا: «إكراما لربنا ومخلصنا يسوع المسيح، لا بد أن توضع المدعوة جان على وجه السرعة بين أيدي الكنيسة.» اقتيدت جان إلى روان. كان منصب رئيس الأساقفة وقتها شاغرا، وكان القانون الكنسي يسمح لأسقف بوفيه بأن «يعمل» في البلدة. اختار تسعة أساتذة في اللاهوت من السوربون محكمين، وخمسة وثلاثين آخرين من رؤساء الأديرة أو الرهبان معاونين له. وترأس وكيل ديوان التفتيش، مارتان، مع كوشون؛ ولأنه كان مجرد وكيل فقد شغل المرتبة الثانية.
خضعت جان لأربعة عشر استجوابا، كانت استجوابات فريدة. قالت إنها رأت سانت كاترين وسانت مارجريت في بواتييه. يسألها أستاذ اللاهوت بوبيري كيف تعرفت على القديستين، فتجيب بأنها تعرفت عليهما من طريقة انحنائهما، ويسألها بوبيري إن كانتا ثرثارتين كبيرتين، فتقول له: «اذهبوا وانظروا في السجل.» يسألها بوبيري عما إن كان القديس ميخائيل عاريا حينما رأته، فتجيبه: «أتظن أن سيدنا ليس لديه شيء ليغطيه به؟»
سيلحظ الفضولي هنا بعناية أن جان، هي ونساء متدينات أخريات من العامة، أرشدهن محتال يدعى ريشار
3
قدم معجزات، وعلم تلك الفتيات أن يقدمنها. وذات يوم، أجرى المناولة ثلاث مرات على التوالي لجان تكريما للثالوث، ثم صارت هذه هي العادة في الأمور ذات الأهمية وفي أوقات الخطر. يقال إن الفرسان كانوا يحضرون ثلاثة قداسات، ويتناولون القربان ثلاث مرات حينما يسعون خلف الثروة أو القتال في مبارزة. وهذا ما لحظه شوفالييه بايار.
كانت صانعتا المعجزات، رفيقتا جان، اللتان كانتا خاضعتين لريشار تسميان بييرون وكاترين. وأكدت بييرون أنها رأت الله يتجلى لها في هيئة إنسان، كما يظهر صديق لصديق. كان الله «مرتديا رداء أبيض طويلا ... إلخ.»
ما ذكر إلى الآن سخيف؛ والآن إليك ما هو مرعب.
يأتي أحد قضاة جان، أستاذ اللاهوت، الكاهن، المسمى نيكولا «صائد الطيور» ليأخذ اعترافها في السجن. ويسيء استخدام السر المقدس إلى حد إخفاء كاهنين وراء ستار صوفي سميك، دونا اعتراف جان دارك. هكذا استخدم القضاة انتهاك المقدسات ليصيروا قتلة. وحكم على بلهاء تعيسة سبق أن كانت لديها شجاعة كافية لتؤدي خدمات عظيمة للملك والوطن بأن يحرقها أربعة وأربعون كاهنا فرنسيا، ضحوا بها من أجل الفصيل الإنجليزي.
معروف جيدا كيف كانت لدى شخص ما الحقارة والمكر ليضع بذلة رجل بجوارها؛ ليغريها بأن ترتدي هذه البذلة مرة أخرى، وبأي همجية عبثية ادعي أن هذا التجاوز ذريعة للحكم عليها بالحرق، كما لو كانت جريمة تستحق النار أن ترتدي فتاة محاربة سروالا بدلا من تنورة. كل هذا يعتصر القلب ويجعل الحس السليم يرتعد. لا يستطيع المرء أن يتصور كيف نجرؤ، بعد كل تلك الأهوال التي لا تعد ولا تحصى التي أذنبنا بها، أن ننعت أي أمة بأنها همجية.
يقول أغلب مؤرخينا محبي ما يسمى زخارف التاريخ أكثر من حبهم الحقيقة إن جان مضت إلى التعذيب غير وجلة، لكنها، كما تشهد سجلات تلك الفترة، وكما يعلن المؤرخ فيلاريه، استقبلت إعدامها بالصرخات والدموع؛ وهو ضعف مبرر في جنسها، وربما في جنسنا، ومناسب جدا للشجاعة التي أظهرتها جان وسط أهوال الحرب؛ لأن المرء يمكن أن يكون بلا وجل في المعركة وحساسا على سقالة المشنقة.
علي أن أضيف أن أشخاصا كثيرين صدقوا بلا تمحيص أن عذراء أروليان لم تحرق في روان على الإطلاق، مع أن لدينا التقرير الرسمي لإعدامها. لقد خدعتهم الرواية التي ما زالت لدينا عن مغامرة انتحلت اسم «العذراء» وخدعت إخوة جان دارك، وبغطاء من هذا تزوجت في لورين أحد نبلاء عائلة أرمواز. روجت محتالتان أخريان نفسيهما باسم «عذراء أورليون». وادعت الثلاث أن جان لم تحرق، وأن امرأة أخرى حلت مكانها. لا يمكن إقرار هذه القصص إلا ممن يريدون أن يخدعوا.
هوامش
التقبيل
أستميح الفتيان والفتيات عذرا؛ فربما لا يجدون هنا ما يبحثون عنه. هذه المقالة للباحثين والأشخاص الجادين فقط الذين تناسبهم.
كثيرا ما نجد طلبا للتقبيل في كوميديات زمن موليير. يطلب شامبين في كوميديا «الأم كوكيت» التي ألفها كينو القبلات من لوريت؛ تقول له: «لست قانعا بعد؟ أمر مخجل حقا؛ قبلتك مرتين.» ويجيبها شامبين: «ماذا؟! أتحصين قبلاتك؟» (الفصل الأول - المشهد الأول).
اعتاد الخدم دوما أن يطلبوا القبلات من الوصيفات؛ وكان الناس يقبلون بعضهم بعضا على خشبة المسرح. عادة ما كان هذا فعلا غبيا بليدا لا يحتمل، خاصة في حالة الممثلين الدميمين الذين يصيبون المرء بالغثيان.
إذا رغب القارئ في القبلات، فليبحث عنها في مسرحية «القس فيدو»؛ هناك مقطع أغنية كامل لا يذكر فيه إلا القبلات، والعمل مؤسس فقط على قبلة منحها ميرتيللو ذات يوم لأميريللي في لعبة استغماية: «قبلة لذيذة جدا .»
يعلم الجميع فصل القبلات الذي يقول فيه جون دي لا كاسا رئيس أساقفة بينيفينتو إن الناس يستطيعون أن يقبلوا بعضهم بعضا من الرأس إلى القدم. ويشفق على ذوي الأنوف الكبيرة الذين يستطيعون بالكاد الاقتراب بعضهم من بعض؛ وينصح السيدات ذوات الأنوف الكبيرة بأن يتخذن عشاقا ذوي أنوف مفلطحة.
كانت القبلة شكلا عاديا من أشكال التحية خلال الأزمنة القديمة. يذكر بلوتارخ أن المتآمرين، قبل أن يقتلوا قيصر، قبلوا وجهه ويده وصدره. يقول تاسيتس إنه حينما عاد أجريكولا، حمو قيصر، من روما استقبله دوميتيان بقبلة باردة، ولم يقل له شيئا، وتركه مرتبكا وسط الجمع. وكان الشخص الأدنى منزلة الذي لم يكن بمقدوره أن ينجح في تحية من يفوقه منزلة بالتقبيل، يضع فمه على يده ويرسل له قبلة، يرد عليها الآخر بالطريقة نفسها إذا رغب في ذلك.
استخدمت هذه العلامة أيضا في عبادة الآلهة. يقول أيوب في سفره (الإصحاح الحادي والثلاثين)، الذي يحتمل أن يكون أقدم الأسفار المعروفة، إنه لم يعبد الشمس والقمر مثل العرب الآخرين، وإنه لم يرفع يده إلى فمه وهو يتطلع إلى النجوم.
في عالمنا الغربي لا يتبقى شيء من هذه العادة القديمة سوى المجاملة الطفولية اللطيفة التي ما زالت تعلم للأطفال في بعض المدن الصغيرة، بتقبيل الأيدي اليمنى حينما يمنحهم أحد بعض الحلوى.
كان أمرا فظيعا أن تخون بقبلة. كان هذا هو ما جعل قتلة قيصر أكثر بغضا. نعلم جميعا عن قبلات يهوذا التي صارت مضرب المثل.
لأن يوآب، أحد قادة داود، شديد الغيرة من عماسا، وهو قائد آخر، يقول له (سفر صموئيل الثاني: 20: 9): «أسالم أنت يا أخي؟ وأمسكت يد يوآب اليمنى بلحية عماسا ليقبله.» وبيده الأخرى، سل سيفه «وضربه به في الضلع الخامس، فدلق أمعاءه على الأرض.»
ربما لن نجد قبلة أخرى في الاغتيالات الأخرى المتكررة نوعا ما التي ارتكبت بين اليهود، إلا أن تكون ربما تلك القبلات التي منحتها يهوديت للقائد أليفانا قبل أن تقطع رأسه وهو نائم في فراشه، ولكن ما من إشارة إليها، والأمر هنا محتمل وحسب.
في إحدى تراجيديات شكسبير المعنونة «عطيل» نجد هذا العطيل، الذي هو رجل أسود، يمنح قبلتين لزوجته قبل أن يشنقها. ربما يبدو هذا بغيضا للغاية للشرفاء؛ لكن أنصار شكسبير يقولون إنها طبيعية على نحو رائع، وخصوصا مع رجل أسود.
حينما اغتيل جيوفاني جالياس سفورزا في كاتدرائية ميلانو في عيد القديس ستيفن، فإن الميديتشيين بكنيسة ريباراتا، والأدميرال كوليني، وأمير الأورانج، والمارشال دانكر، والإخوة ويت، وكثيرين غيرهم لم يقبلوا على الأقل.
ولا أعلم أي أمر رمزي أو مقدس اقترن بالقبلة بين القدماء؛ إذ كان المرء يقبل تماثيل الآلهة ولحاها حينما كان النحاتون يظهرونها بلحية. كان المنضمون حديثا يتبادلون القبلات في أساطير سيرس الغامضة علامة على الوفاق.
كان المسيحيون الأوائل، رجالا ونساء، يقبل بعضهم بعضا على الفم في «أغابيهم»، وكانت هذه الكلمة ترمز لعيد المحبة. كانوا يعطون بعضهم بعضا القبلة المباركة، قبلة السلام، قبلة الأخ والأخت. استمرت هذه العادة لأكثر من أربعة قرون، ومنعت في النهاية بسبب عواقبها؛ فقبلات السلام هذه، وأغابي المحبة هذه، وتسميات «الأخ» و«الأخت» هذه هي ما جلب على المسيحيين الذين كانوا معروفين قليلا اتهامات الزنا التي اتهمهم بها كهنة جوبيتر وكاهنات فيستا. ترى في كتابات بيترونيوس وغيره من المؤلفين العلمانيين أن المتحررين كانوا يطلقون على أنفسهم وصف «أخ» و«أخت». وكان من المعتقد أن الأسماء نفسها بين المسيحيين تشير إلى السمعة السيئة نفسها. كانوا شركاء أبرياء في الجريمة بنشرهم تلك الاتهامات عبر الإمبراطورية الرومانية.
في البداية كان هناك سبعة عشر مجتمعا مسيحيا مختلفا، كما كانت هناك تسعة مجتمعات مختلفة وسط اليهود، شاملة نوعي السامريين. اتهمت تلك المجتمعات التي كانت تتباهى بأنها الأكثر أرثوذكسية غيرها بأشد الفواحش شططا. مصطلح «غنوصي» الذي كان في البداية مدعاة للفخر، وكان يعني «متعلم»، و«مستنير»، و«نقي»، أصبح مصطلحا يدل على الفظاعة والازدراء، وتعييرا بالهرطقة. ادعى القديس إبيفانيوس في القرن الثالث أن الرجال والنساء اعتادوا على دغدغة بعضهم بعضا؛ وأنهم بعد ذلك كانوا يقبلون بعضهم بعضا قبلات فاحشة، وأنهم كانوا يقيسون درجة إيمانهم بقدر شهوانية قبلاتهم؛ وأن الزوج كان يقول لزوجته عندما كان يقدم لها عضوا جديدا شابا: «تبادلي الأغابي مع أخي.» ومن ثم كانوا يتممون الأغابي.
لن نجرؤ هنا أن نكرر باللسان الفرنسي العفيف
1
ما يضيفه القديس إبيفانيوس باليونانية في كتابه «ضد أنصاف الإخوة» (الكتاب الأول، الجزء الثاني). سنقول وحسب إنه ربما كان هذا القديس مخدوعا نوعا ما، وإنه سمح لنفسه أن تشتط به الحماسة، وإنه ليس كل الهراطقة فاحشين فاضحين.
إن طائفة «التقويين» برغبتها في أن تحاكي المسيحيين الأوائل، تتبادل قبلات السلام في نهاية تجمعاتها، ويدعو بعضهم بعضا «أخي، وأختي»؛ وهذا ما صرحت به لي منذ عشرين عاما سيدة تقوية بارعة الحسن والإنسانية. كانت العادة القديمة هي التقبيل على الفم؛ وحافظ التقويون بعناية عليها.
لم تكن هناك طريقة أخرى لتحية السيدات في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإنجلترا؛ كان من حق الكاردينالات أن يقبلوا الملكات على الفم، وحتى في إسبانيا. أما الأمر الفريد فأنهم لم يكن لهم الامتياز نفسه في فرنسا؛ حيث كانت لدى النساء دوما حرية أكبر مما في أي مكان آخر، ولكن «لكل بلد طقوسها»، ولا يوجد عرف من العمومية بحيث لا تقدم المناسبة والعادة استثناءات منه. كان من الفظ والمهين بالنسبة إلى امرأة محترمة حينما تستقبل أحد السادة لأول مرة ألا تقبله، بصرف النظر عن شاربيه. يقول مونتين (المجلد الثالث، الفصل الخامس): «إنها عادة مسيئة ومهينة للسيدات أن يكن مضطرات لإعارة شفاهن لأي زائر لديه ثلاثة خدام في جناحه، وإن يكن منفرا.» مع ذلك فقد كانت تلك العادة هي الأقدم في العالم.
إذا كان من الكريه لفم صغير جميل أن يلتصق بفم كبير قبيح بدافع من المجاملة، فقد كان هناك خطر عظيم فيما بين أفواه حمراء نضرة في عمر العشرين إلى الخمسة والعشرين، وهذا هو ما أدى إلى إلغاء طقس التقبيل في أسرار الأغابي. ولعل هذا هو ما تسبب في اقتصار النساء عند أهل المشرق على تقبيل آبائهن أو إخوتهن فقط؛ وهو تقليد نقله العرب إلى إسبانيا منذ زمن طويل.
ها هو الخطر، سنكتشف أن هناك عصبا من الزوج الخامس يمتد من الفم إلى القلب ومن ثم لأسفل، بمثل هذه الصنعة الرفيعة أعدت الطبيعة كل شيء! الغدد القليلة للشفاه، بنسيجها الإسفنجي، وحلماتها الناعمة، وجلدها الرقيق، الحساس؛ كل ذلك يمنحها إحساسا شهوانيا فاتنا لا يخلو من التناظر مع جزء آخر أكثر خفاء وحساسية. ربما يصعب الاحتشام أثناء قبلة مطولة مستلذة بين شخصين تقويين في الثامنة عشرة من العمر.
ومما تجدر ملاحظته أن الجنس البشري واليمام والحمام هم وحدهم من يعرفون التقبيل، ومن هنا أتت عند اللاتينيين كلمة «كولومباتيم» (مشابهة الحمام) التي لا تستطيع لغتنا ترجمتها. ما من شيء لم يسأ استعماله. القبلة التي صممتها الطبيعة للفم طالما عهرت باستخدامها مع أغشية لا يبدو أنها صنعت لهذا الغرض. يعلم المرء بالطبع ما اتهم به فرسان الهيكل.
لا نستطيع بصراحة أن نعالج هذا الموضوع الممتع لمدة أطول، مع أن موتين يقول: «ينبغي أن يتكلم المرء عن ذلك بلا خجل؛ نتكلم بالفعل بصفاقة عن «القتل» و«الجرح» و«الخيانة»، لكننا لا نجرؤ على الكلام عن ذلك الأمر إلا بأنفاس متقطعة.»
هوامش
اللغات
ما من لغة كاملة، وما من لغة تستطيع أن تعبر عن أفكارنا كلها، وعن أحاسيسنا كلها؛ فظلالها أكثر من أن تحصى ومن أن تدرك. لا أحد يستطيع أن يعبر بدقة عن الإحساس الذي يمر به. المرء مجبر، على سبيل المثال، على أن يطلق أسماء عامة من قبيل «الحب» و«الكره» على ألف حب وعلى ألف كره، يختلف كل منها عن الآخر؛ والأمر نفسه هو ما يحدث مع متعنا وآلامنا؛ ومن ثم فاللغات مثلها مثلنا ناقصة.
اخترعت اللغات كلها تباعا، وبدرجات طبقا لحاجاتنا. إنها الغريزة المشتركة بين من صنعوا القواعد الأولى للغات دون أن يفهموها. احتاج اللابيون والزنوج، مثلهم مثل اليونانيين، أن يعبروا عن الماضي والحاضر والمستقبل، وقد فعلوا ذلك؛ لكن إذ لم تكن هناك قط مجموعة من المناطقة الذين شكلوا لغة، فلم تكن أي لغة قادرة على اكتساب خطة منتظمة على نحو كامل.
كل الكلمات في كل اللغات الممكنة هي بالضرورة صور الأحاسيس. لم يكن بمقدور الناس أن يعبروا عن أي شيء سوى ما شعروا به. هكذا غدا كل شيء مجازا، في كل مكان تنار النفس، ويحترق القلب، ويهيم العقل. وفيما بين كل الشعوب، صار اللانهائي هو نفي النهائي، والوافر هو نفي المقيس. من الثابت أن حواسنا الخمس أنتجت كل اللغات مثلما أنتجت كل أفكارنا. وما يبدو أقل نقصا هو القوانين؛ تلك التي يكون أقلها تعسفا هو أفضلها. أما الأكثر اكتمالا فهي بالضرورة تلك التي تنتمي للشعوب التي هذبت الفنون والمجتمع. لذلك فلا بد أن اللغة العبرية هي واحدة من أفقر اللغات مثل أولئك الذين درجوا على التحدث بها. فأنى كان للعبريين أن يمتلكوا مصطلحات بحرية وهم الذين لم يمتلكوا قاربا واحدا قبل سليمان؟ وكيف تكون لديهم مصطلحات فلسفية بينما كانوا غارقين في ذلك الجهل العميق حتى ذلك الوقت الذي بدءوا فيه تعلم شيء خلال سبيهم إلى بابل؟ لا بد أن لغة الفينيقيين التي استمد منها العبريون رطانتهم كانت متفوقة جدا؛ لأنها كانت اللغة التي يستخدمها قوم صناعيون وتجاريون أغنياء، منتشرون في كل بقاع الأرض.
لا بد أن أقدم اللغات المعروفة كانت لغة أقدم الأمم تجمعا في مكان واحد كجسد إنساني واحد. ولا بد أيضا أنها كانت لغة شعب كان هو الأقل خضوعا للاستعباد، أو أنه إن كان خضع للاستعباد هذب غزاته. وفي هذا الصدد، من الثابت أن الصينية والعربية هما أقدم اللغات التي نتحدثها اليوم.
ما من لغة أم. كل الشعوب المتجاورة استعار بعضها من بعض، ولكن تسمية «اللغة الأم» منحت لتلك اللغات التي اشتق منها بعض التعبيرات المعروفة. اللاتينية، على سبيل المثال، هي اللغة الأم للإيطالية والإسبانية والفرنسية؛ لكنها هي ذاتها مشتقة من التوسكانية؛ والتوسكانية بدورها اشتقت من الكلتية والإغريقية.
لا بد أن أجمل اللغات هي تلك التي تكون في آن واحد أكثرها كمالا، وأكثرها جهورية، وأكثرها تنوعا في لفتاتها، وأكثرها انتظاما في تقدمها، والتي تملك أكثر الكلمات المركبة ، وتعبر بجرسها عن حركات الروح البطيئة أو المندفعة أكثر من غيرها، وتشبه الموسيقى أكثر من غيرها.
تمتلك اليونانية كل تلك الميزات، فليست لديها فجاجة اللاتينية، التي ينتهي فيها كثير من الكلمات بمقاطع «أوم» و«أوس» و«أور»، ولديها كل أبهة الإسبانية، وعذوبة الإيطالية. وتمتاز على كل اللغات الحية في العالم بالتعبير عن الموسيقى بمقاطع لفظية طويلة وقصيرة، وبعدد اللهجات وتنوعها. لذا، فعلى الرغم من التشوهات التي حلت بها كما هي اليوم في اليونان، فما زال بإمكاننا أن نعتبرها أجمل لغة في الكون.
لا يمكن أن تكون أجمل لغة هي الأوسع انتشارا والشعب الذي يتحدث بهذه اللغة مقموع، صغير العدد، وبلا تجارة مع الأمم الأخرى، وبينما تكون الأمم الأخرى هذبت من لغاتها. ولهذا كان على اليونانية أن تصبح أقل انتشارا من العربية وحتى التركية.
لا بد أن تكون اللغة الفرنسية الأكثر عمومية من بين جميع اللغات الأوروبية؛ لأنها الأكثر ملائمة للمحادثة؛ إذ اتخذت طابعها من طابع الشعب الذي يتحدث بها.
ظل الفرنسيون لما يقرب من مائة وخمسين عاما هم أفضل شعب عرف المجتمع، وأول من نبذ الحرج، وأول شعب تتحرر فيه النساء، بل حتى يحكمن، بينما كن إماء وحسب في غيرها. البناء اللغوي الدائم الاتساق في تلك اللغة، الذي لا يسمح بأي تقديم أو تأخير، هو ميزة أخرى لا تكاد تمتلكها الألسن الأخرى؛ إنها أكثر ابتكارا من غيرها، وإن كانت تفتقر إلى الوزن. إن الكمية الهائلة من الكتب المتفق على عبثيتها التي أنتجتها تلك الأمة سبب إضافي للفضل الذي اكتسبته لغتها بين كل اللغات.
لن تمنح الكتب العميقة اللغة رواجا. ستترجم، وسيتعلم الناس فلسفة نيوتن، لكنهم لن يتعلموا الإنجليزية من أجل أن يفهموها.
ما يجعل الفرنسية أكثر شيوعا بعد، هو الكمال الذي بلغته الدراما في هذه اللغة. إنها تدين برواجها لأعمال مثل: «سينا»، و«فيدر»، و«عدو البشر»، لا لفتوحات لويس الرابع عشر .
ليست الفرنسية غزيرة ولا مرنة مثل الإيطالية، ولا فخمة مثل الإسبانية، ولا حيوية بقدر الإنجليزية، إلا أنها فاقت هذه اللغات الثلاث نجاحا من الحقيقة الوحيدة أنها أكثر ملائمة للتواصل، وأن هناك كتبا مبهجة مكتوبة بالفرنسية أكثر مما يوجد في غيرها. نجحت الفرنسية مثلما نجح طهاة فرنسا لأن لها مذاقا عاما أكثر إرضاء.
الروح نفسها التي قادت الأمم الأخرى لمحاكاة الفرنسيين في أثاثهم، وفي ترتيب غرفهم، وفي الحدائق، وفي الرقص، وفي كل ما يمنح السحر، قادتهم أيضا ليتكلموا لغتهم. إن الفن الرفيع للكتاب الفرنسيين الجيدين هو بالضبط الفن الرفيع لنساء هذه الأمة اللائي يرتدين أفضل مما ترتدي نساء أوروبا الأخريات، واللائي، من دون أن يكن الأجمل، يبدون كذلك، بفضل الفن الذي يتزين به، وبفضل السحر النبيل البسيط الذي يمنحنه لأنفسهن على نحو طبيعي للغاية.
بقوة التهذيب الرفيع، نجحت هذه اللغة في إخفاء آثار همجيتها السابقة. كل شيء يمكن أن يشي بهذه الهمجية لمن ينظر عن كثب. يمكن أن يلحظ المرء أن كلمة «فان» التي تعني رقم عشرين تأتي من كلمة «فيجينتي» السابقة، وأن هذين الجيم والتاء كانا منطوقين بخشونة تتسم بها كل لغات الأمم الشمالية؛ وأن كلمة «أوجوستوس» التي تعني شهر أغسطس صارت «أوت». منذ زمن ليس بعيدا، أطلق أمير ألماني كان يعتقد أنه لا يمكن نطق كلمة «أوجست» في فرنسا بطريقة أخرى على أوجست ملك بولندا اسم الملك أوت. كل تلك الحروف التي أهملت في النطق وبقيت في الكتابة، هي ملابسنا الهمجية السابقة.
حينما لطفت السلوكيات لطفت اللغة أيضا. قبل أن يستدعي فرانسوا الأول النساء إلى بلاطه، كانت اللغة فظة مثلما كنا. وكان التحدث بالكلتية جيدا بقدر التحدث بفرنسية زمن شارل الثامن، ولويس الثاني عشر. ولم تكن الألمانية أكثر خشونة.
استغرق الأمر قرونا لنزيل ذلك الصدأ. وكان من شأن العيوب المتبقية أن تكون مفرطة لولا العناية المستمرة التي يبذلها المرء لتجنبها، كما يتجنب فارس ماهر الأحجار في الطريق. يحرص الكتاب المهرة على مقاومة التعبيرات المعيبة التي يجعلها الجهل العام في البداية رائجة، ويتبناها كتاب سيئون، ثم تمر في المجلات والمنشورات. تعني كلمة «روستبيف» في الإنجليزية «الثور المشوي»، ويقول لنا النادلون اليوم «روستبيف الضأن». تعني كلمة «رايدينج-كوت» رداء مخصصا لامتطاء صهوة جواد؛ حولها الناس إلى «ردينجوت»، ويظنها العامة كلمة قديمة من اللغة. كان من الضروري استخدام هذا التعبير مع الناس لأنه يدل على شيء يشيع استخدامه.
في أمور الفنون والحرف والأشياء الضرورية، استعبدت العامة البلاط، إن كان للمرء أن يجرؤ على قول ذلك؛ فكما هي الحال في شئون الدين، يضطر أولئك الأكثر احتقارا لعامة الشعب، إلى أن يتكلموا وأن يبدوا وكأنهم يفكرون مثلهم.
لا تعني تسمية الأشياء بالأسماء التي فرضها الناس عليها الحديث بطريقة سيئة، لكن المرء يدرك أن شعبا ما هو أكثر إبداعا بطبيعته من غيره من خلال الأسماء السليمة التي يمنحها لكل شيء.
فقط من خلال الافتقار للخيال يكيف شعب ما التعبير نفسه لمائة فكرة مختلفة. ومن العقم السخيف أننا لم نعرف كيف نعبر بطريقة مختلفة عن ذراع من البحر، وذراع قياس، وذراع مقعد. ثمة فقر في الفكر في قول «رأس» المسمار، و«رأس» الجيش.
أدى الجهل إلى تكوين عادة أخرى في كل اللغات المعاصرة. لم يعد كثير من الألفاظ يدل على ما ينبغي أن تدل عليه. كانت كلمة
Idiot
تعني «منعزل»، واليوم تعني «أحمق»؛ وكانت كلمة
epiphany
تعني «مظهر»، والآن أصبحت عيد تجلي الأقانيم الثلاثة؛ وكانت كلمة
baptize
تعني أن تغطس في الماء، أما اليوم فتشير إلى التعميد، ونقول تعمد باسم جون أو جيمس.
تضاف إلى هذه المثالب في معظم اللغات الشذوذات الهمجية. فينوس اسم فاتن، أما فينيريل فهو اسم بغيض. ومن النتائج الأخرى لشذوذ هذ اللغات التي تكونت في ظروف عشوائية في أوقات فظة، كمية الكلمات المركبة التي لم تعد توجد الصيغة البسيطة منها. إنها أطفال فقدت آباءها. لدينا، مثلا، كلمة
architects (معماريون) وليس لدينا كلمة
tects ؛ وهناك أشياء
ineffable (لا يمكن وصفها) لكن لا شيء
effable . ويكون المرء
intrepid (شجاعا) لكن لا يوجد وصف
trepid . وهناك زملاء
impudent (وقحون) وزملاء
insolent (متغطرسون)، ولكن لا وجود للصفة
pudent
ولا
solent . تحتفظ اللغات جميعا بقليل أو كثير من هذه العيوب؛ كلها أراض غير ممهدة تستطيع يد الفنان الحاذق أن تستمد منها المميزات.
وتنزلق العيوب الأخرى التي تفصح عن شخصيات الأمم إلى اللغات. في فرنسا، توجد صيحات شائعة في التعبيرات بقدر ما توجد في تصفيفات الشعر. سيفكر مريض أو طبيب عصري بأن يقول إنه كان يعاني من «مسحة» من الحمى، دلالة على أنه كان يعاني نوبة بسيطة، وسرعان ما تكون الأمة بأكملها لديها مسحات من ألم المعدة، ومسحات من الكراهية، والحب، والسخرية. يقول لكم الدعاة في منابر الوعظ إنه يجب أن تكون لديكم على الأقل مسحة من حب الله. وبعد بضعة أشهر تفسح تلك الصيحة المكان لغيرها.
ليس أشد ما يضر بنبل اللغة هو هذه الصيحة العابرة، التي سرعان ما يضجر بها الناس، ولا هفوات العصريين التي لا يسقط فيها الكتاب الجيدون، لكنه تكلف الكتاب العاديين في الحديث عن الأمور الجادة بأسلوب تحاوري. كل شيء يتآمر من أجل إفساد لغة منتشرة على نطاق واسع نوعا ما؛ الكتاب الذين يفسدون الأسلوب بالتكلف، وأولئك الذين يكتبون لبلاد أجنبية، ويمزجون دائما تقريبا التعبيرات الأجنبية بلسانهم الطبيعي، والتجار الذين يقحمون في الحوار مصطلحات أعمالهم.
كون جميع اللغات ناقصة لا يستتبع بالضرورة أن على المرء أن يغيرها. يجب على المرء أن يلتزم بالأسلوب الذي استخدمه الكتاب الجيدون في التحدث بها؛ وحينما يكون لدى المرء عدد كاف من الكتاب المقبولين، تصلح اللغة. لذلك لا يستطيع المرء أن يغير شيئا في الإيطالية والإسبانية والإنجليزية والفرنسية دون أن يفسدها؛ والسبب واضح؛ وهو أن المرء سرعان ما سيجعل الكتب التي تمد الأمم بالتعليم والمتعة غامضة.
القوانين
تعيش الخراف في هدوء تام في المجتمع، وتعد سهلة المراس للغاية؛ لأننا لا نرى الكمية الهائلة من الحيوانات التي تلتهمها الخراف. بل ويفترض تصديق أنها تلتهمها ببراءة دون أن تعرفها، مثلنا إذ نأكل الجبن الاسكتلندي. إن جمهورية القطيع تعبير صادق عن العصر الذهبي.
أما حظيرة الدجاج فهي دولة ملكية كاملة؛ من أكثر ملكية من الديك؟! إن سار مختالا وسط قومه، فليس ذلك من فراغ، وإن يقترب العدو لا يصدر الديك الأوامر لتابعيه ، ليذهبوا ويقتلوا أنفسهم فداء له بفضل معرفته الأكيدة وقوته التامة، لكنه يذهب بنفسه إلى الميدان، ويصف دجاجاته من خلفه، ويقاتل حتى الموت. إن انتصر ينشد بنفسه ترنيمة «لك الحمد». في الحياة المدنية، لا نستطيع أن نجد إنسانا شديد النبل والأمانة والنزاهة. أما هو فلديه كل الفضائل؛ إن كانت في منقاره الملكي حبة ذرة أو يرقة يقدمها إلى السيدة الأولى من بين رعاياه التي تقدم نفسها. حتى سليمان وسط حريمه لم يكن يداني ديكا في حظيرة دجاج.
إن كان حقيقيا أن النحل تحكمه وتديره ملكة يمارس كل أتباعها الحب معها، فهذه حكومة أقرب إلى الكمال.
يعد النمل الديمقراطية ممتازة؛ فالديموقراطية تسمو على كل الدول؛ لأن الجميع متساوون هناك، وكل الأعمال الفردية لصالح الجميع.
أما جمهورية القنادس فتظل أعلى من جمهورية النمل، على الأقل إن حكمنا عليها بمعيار عملها البنائي.
وأما القرود فهم أشبه بلاعبين متجولين منهم بأناس متحضرين، ولا يبدو أنهم يتجمعون معا تحت قوانين ثابتة وأساسية مثل الأنواع السالفة.
نحن أشبه بالقرود منا بأي حيوان آخر بفضل هبة المحاكاة، وطيش أفكارنا، وتقلبنا الذي لم يسمح لنا قط بأن تكون لدينا قوانين متسقة ودائمة.
حينما شكلت الطبيعة أنواعنا، ووهبتنا الغرائز، وتقديرنا الذاتي لبقائنا، ومحبة بقاء الآخرين، والحب الشائع في كل الأنواع، وتلك الهبة التي لا تفسر من الجمع بين أفكار أكثر من أفكار الحيوانات الأخرى مجتمعة؛ حينما منحتنا نصيبنا، قالت لنا: «افعلوا قدر تستطيعون.»
ما من دستور جيد في أي مدينة، والسبب في ذلك جلي؛ إذ صنعت القوانين وفقا للعصور، والمكان، والحاجة وما إلى ذلك.
وحينما تغيرت الحاجة أضحت القوانين التي بقيت سخيفة؛ لذا فالقوانين التي تمنع أكل الخنزير وشرب الخمر كانت معقولة جدا في الجزيرة العربية؛ حيث كان الخمر والخنزير ضارين، بينما كانت سخيفة في القسطنطينية.
كان القانون الذي يمنح الابن الأكبر كل إرث الأراضي مناسبا جدا في أوقات الفوضى والنهب. الابن الأكبر قائد القلعة التي سيهاجمها قطاع الطرق آجلا أم عاجلا، أما الأبناء الأصغر فهم كبار ضباطه، والفلاحون جنوده . كل هذا كان يثير الخوف من أن يغتال الابن الأصغر السيد المنحدر من الساليين، أخاه الأكبر، أو أن يدس له السم من أجل أن يحل محله ويصبح سيد المكان، لكن هذه الحالات نادرة؛ لأن الطبيعة جمعت ما لدينا من الغرائز والعواطف على نحو يجعل لدينا خوفا من اغتيال الأخ الأكبر أكثر مما لدينا من الصعود بالحسد على مكانته. لكن هذا القانون المناسب لمالكي الزنازين في زمن شيلبيريك مكروه حيثما تطرح مسألة تقاسم الأسهم في مدينة ما.
عار على الجنس البشري أن يعلم المرء أن قوانين الألعاب هي الوحيدة العادلة والواضحة والنافذة والمصونة في كل مكان. لماذا يطاع الهنود الذين منحونا قواعد لعبة الشطرنج طوعا في كل أنحاء العالم، بينما تعد المراسيم الباباوية، على سبيل المثال، اليوم مصدرا للرعب والازدراء؟ السبب هو أن مخترع لعبة الشطرنج جمع كل شيء بدقة من أجل إرضاء اللاعبين، وأن الباباوات في مراسيمهم لم تكن لديهم رؤية لشيء سوى مصلحتهم الذاتية. أمل الهنود أن يمرنوا عقول الناس بالتساوي، أن يمنحوهم المتعة؛ أما الباباوات فتمنوا أن يسلبوا عقول الناس. أيضا، بقي جوهر لعبة الشطرنج كما هو طوال خمسة آلاف عام، وهو مألوف لجميع سكان الأرض؛ أما المراسيم الباباوية فلا تعرف إلا في سبوليتو، وأورفييتو، ولوريتو؛ حيث يبغضها ويحتقرها في السر أدنى المحامين.
لكني أسعد بالاعتقاد بأن هناك قانونا طبيعيا مستقلا عن كل التقاليد الإنسانية. لا بد أن تكون ثمرة عملي لي؛ ويجب أن أكرم أبي وأمي؛ ولا يحق لي امتلاك حياة ند لي ولا يحق لند لي أن يمتلك حياتي، وهكذا. لكن حينما أفكر أن الجميع، من كدرلعومر حتى منتسل
1
قائد الخيالة، يقتلون زملاءهم وينهبونهم بإخلاص، أصاب بالفجيعة.
علمت أن ثمة قوانين بين اللصوص، وثمة قوانين للحرب. أسأل ما هي قوانين الحرب هذه؟ أعرف أنها تعني شنق ضابط شجاع استبسل وهو في وضع بائس بلا سلاح في مواجهة جيش ملكي؛ أنها تعني أيضا شنق أسير إن شنق العدو أحد أسراكم؛ أنها تعني الحرق والقتل للقرى التي لم تأت بالمؤن في اليوم المحدد طبقا لأوامر حاكم المقاطعة المبجل. أقول: «حسنا، هذه هي «روح القوانين».»
يبدو لي أن أغلب الناس تلقوا من الطبيعة ما يكفي من الحس السليم لصنع القوانين، ولكن ليس كل امرئ عادلا بما يكفي ليصنع قانونا جيدا.
هوامش
الحرية
إما أنني مخطئ بقدر كبير وإما أن لوك صائغ التعريفات عرف الحرية تعريفا جيدا جدا بأنها «قوة». أنا مخطئ مرة أخرى، أو كولينز - قاضي لندن الشهير - هو الفيلسوف الوحيد الذي محص هذه الفكرة جيدا، وكان رد كلارك عليه رد رجل لاهوتي محض. لكن من بين كل ما كتب في فرنسا عن الحرية، هذا الحوار القصير يبدو لي الأوضح:
أ :
هناك مدفعية تطلق نيرانها على مسمع منك، فهل لديك الحرية في أن تسمعها أو لا تسمعها؟
ب :
لا شك أنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من سماعها.
أ :
هل ترغب في أن يصيب هذا السلاح رأسك ورأسي زوجتك وابنتك السائرتين معك؟
ب :
عم تتحدث؟ طالما أنعم بالعقل فلا أستطيع أن أرغب في شيء كهذا. هذا مستحيل.
أ :
حسنا؛ أنت تسمع تلك النيران بالضرورة، وبالضرورة ترغب في ألا تموت أنت ولا أسرتك من جراء قذيفة مدفع وأنتم في الخارج تتجولون؛ وليست لديكم القوة سواء لكيلا تسمعوا، أو لكي تبقوا هنا؟
ب :
تماما.
أ :
لا بد أنكم سرتم ما يقرب من ثلاثين خطوة لتكونوا بمأمن من المدفع، وكانت لديك الحرية لسير هذه الخطوات القليلة معي؟
ب :
تماما مرة أخرى.
أ :
ولو كنت معاقا لما استطعت تجنب التعرض لتلك الأسلحة، ولسمعت بالضرورة قذيفة المدفع وتلقيتها؛ ولمت بالضرورة؟
ب :
صحيح تماما.
أ :
أين تكمن حريتك إذا إن لم تكن في تلك القدرة التي مارستها ذاتك على أداء ما اقتضته إرادتك من ضرورة مطلقة؟
ب :
أنت تربكني؛ ليست الحرية إذا سوى تلك القدرة على فعل ما أريد أن أفعله؟
أ :
فكر في الأمر، وانظر إن كان يمكن فهم الحرية بطريقة أخرى.
ب :
في تلك الحالة فإن كلب صيدي حر مثلما أنا حر؛ فلديه بالضرورة القدرة على أن يركض حيث يرى الأرنب، ولديه القدرة على الركض إن لم يكن يعاني آلاما في أرجله. لا شيء لدي إذا أكثر مما لدى كلبي؛ نزلت بي إلى درجة البهائم.
أ :
يا لها من سفسطة بائسة من السوفسطائيين المفلسين الذين علموك. يحزنك حقا أن تكون حرا مثل كلبك! ألا تأكل وتنام وتتكاثر مثله، بل وبالأسلوب نفسه تقريبا؟ هل تريد لحاسة الشم أن تكون بغير أنفك؟ لماذا ترغب في حرية غير التي يحظى بها كلبك؟
ب :
لكن لدي روحا تعقل كثيرا، ولا يكاد كلبي يعقل على الإطلاق. لديه فقط تقريبا أفكار بسيطة، بينما لدي ألف فكرة ميتافيزيقية.
أ :
حسنا، أنت حر أكثر منه بألف مرة؛ أي أن لديك قوة تفكير أكثر مما لديه بألف مرة؛ لكنك لا تفكر بطريقة غير التي يفكر بها.
ب :
ماذا! ألست حرا في أن أتمنى ما أتمنى؟
أ :
ماذا تعني بذلك؟
ب :
أعني ما يعنيه الجميع. ألا يكرر المرء كل يوم أن الأماني حرة؟
أ :
المثل ليس حجة. عبر عن نفسك بمزيد من الوضوح.
ب :
أعني أني حر في أن أتمنى كما يحلو لي.
أ :
بعد إذنك، هذا لا يعني شيئا. ألا ترى أنه سخيف أن تقول أتمنى ما أتمنى؟ أنت تتمنى بالضرورة، نتيجة للأفكار التي قدمت نفسها لك. هل ترغب في أن تتزوج؟ نعم أم لا؟
ب :
ولكن ماذا إن أخبرتك أني لا أريد هذا أو ذاك؟
أ :
حينها ستكون إجابتك كمن يقول: «بعض الناس يصدقون أن الكاردينال مازارين قد مات، والآخرون يصدقون أنه حي، ولكني لا أصدق هذا أو ذاك.»
ب :
حسنا ... أريد أن أتزوج.
أ :
آه. هذه إجابة. لماذا تريد أن تتزوج؟
ب :
لأني أحب فتاة جميلة، حلوة، شابة مهذبة، غنية بقدر معقول، وتجيد الغناء، ووالداها أمينان؛ لأني أيضا أوهم نفسي بأنني محبوب منها وأني موضع ترحاب من أهلها.
أ :
هذا سبب. ترى أنك لا تستطيع أن تتمنى بلا سبب. أعلن لك أنك حر في أن تتزوج؛ أي أنك تملك القوة لكي توقع العقد، ويكون لديك مراسم عرسك، وتنام مع زوجتك.
ب :
ما معنى هذا؟ لا أستطيع أن أرغب في شيء دون سبب؟ وماذا سيكون ذلك المثل الآخر: إرادتي هي سببي؛ أرغب لأني أرغب؟
أ :
هذا هراء يا صديقي العزيز؛ أن يكون بداخلك أثر بلا سبب.
ب :
ماذا تقول؟ حينما ألعب لعبة زوج أم فرد أيكون لدى السبب في اختيار الفرد بدلا من الزوج؟
أ :
بلا شك.
ب :
وما ذلك السبب لو تكرمت؟
أ :
السبب هو أن فكرة الفرد، لا الفكرة المعاكسة، تقدم نفسها إلى عقلك. سيكون مضحكا لو كانت هناك حالات رغبت فيها لأنه كان هناك سبب للتمني، وأن هناك حالات رغبت فيها دون أي سبب! حينما ترغب في الزواج، تشعر بوضوح بالسبب المهيمن؛ ولا تشعر به حينما تراهن على الزوج والفرد؛ لكن مع ذلك فلا بد من وجود سبب.
ب :
لكني، أكرر، ألا أكون حرا حينئذ؟
أ :
إرادتك ليست حرة، ولكن أفعالك حرة. أنت حر في الفعل حينما تملك القدرة على الفعل.
ب :
لكن كل الكتب التي قرأتها عن حرية عدم الاكتراث ...
أ :
ماذا تعني بحرية عدم الاكتراث؟
ب :
أعني بها حرية البصق يمينا أم يسارا، النوم على الجانب الأيمن أو الأيسر، سير هذه المسافة أو تلك.
أ :
الحرية التي ستكون لديك عندئذ ستكون حرية كوميدية حقا! سيكون الله قد منحك هبة رفيعة. ستكون شيئا تفخر به حقا! أي جدوى لك من قدرة مورست فقط في مثل هذه المناسبات العبثية؟ الحقيقة أنه من السخيف أن تفترض أن الإرادة هي أن ترغب في البصق على اليمين. ليست فقط عبثية تلك الإرادة في أن ترغب، لكن أكيد أيضا أن بضعة ظروف تافهة تلزمك بهذه التصرفات التي تدعوها عدم الاكتراث. لست حرا في هذه الأفعال أكثر مما أنت حر في غيرها. لكني أكرر أنك حر في كل الأوقات وفي كل الأماكن طالما أنك تفعل ما ترغب في أن تفعله.
ب :
أظن أنك محق. سأفكر في الأمر.
1
هوامش
المكتبة
من الخير الكامن في مكتبة ضخمة أنها ترعب هؤلاء الذين ينظرون إليها. مائتا ألف مجلد تثني من تحدثه نفسه بالنشر، لكن من سوء الحظ أنه قد يقول لنفسه في الوقت نفسه: «لا يقرأ الناس كل تلك الكتب، وربما يقرءون كتابي.» يقارن نفسه بقطرة ماء تشكو من كونها ضائعة في المحيط ومتجاهلة. أشفقت عليها روح حارسة، وجعلتها تبتلع من إحدى المحارات؛ أصبحت أجمل اللآلئ في الشرق، وكانت هي درة عرش عظيم المغول. هؤلاء الذين لا يعدون أن يكونوا جامعين ومقلدين ومعلقين ومقسمي عبارات ونقادا مرابين، باختصار، هؤلاء الذين لا تشفق عليهم روح حارسة، سيبقون دوما محض قطرات ماء.
يعمل رجلنا في عليته من هذا المنطلق على أمل أن يصير لؤلؤة.
صحيح أن في هذا القدر الهائل من الكتب يوجد ما يقرب من مائة وتسعة وتسعين ألف كتاب لن يقرأ أبدا من البداية إلى النهاية على الأقل، لكن ربما يحتاج المرء لأن يعود إلى بعضها مرة في العمر. ميزة عظيمة لمن يرغب في أن يتعلم أن يجد في متناول يده في قصر الملك المجلد والصفحة التي يبحث عنها دون أن يضطر للانتظار دقيقة واحدة. إنها واحدة من أعظم المؤسسات. ما من نفقة أجل ولا أنفع من ذلك.
مكتبة ملك فرنسا العامة هي المثلى في العالم، ويرجع ذلك إلى عدد المجلدات وندرتها، بقدر أقل مما يرجع إلى السهولة واللطف اللذين يعير بهما أمناء المكتبة الكتب لجميع الدارسين. هذه المكتبة أثمن معالم فرنسا بلا نزاع.
لا يجب أن تخيفنا هذه الوفرة المدهشة من الكتب. ذكرنا بالفعل أن باريس تحتوي على ما يقرب من سبعمائة ألف إنسان، وأنه لا يمكن للمرء أن يعيش معهم جميعا، وأن المرء يختار ثلاثة أو أربعة فقط من الأصدقاء؛ لهذا يجب على المرء ألا يشكو من كثرة الكتب أكثر مما يشكو من كثرة المواطنين.
يكون الإنسان الذي يود أن يتعلم قليلا عن وجوده، وليس لديه وقت ليضيعه، حائرا تماما. يتمنى أن يقرأ في الوقت نفسه أعمال هوبز واسبينوزا وأعمال بايل الذي كتب ضدهما، ولايبنتس الذي جادل بايل، وكلارك الذي جادل لايبنتس، ومالبرانش الذي اختلف معهم جميعا، ولوك الذي رحل حالما دحض أعمال مالبرانش، وستيلنجفليت الذي اعتقد أنه هزم لوك، وكدورث الذي يظن نفسه فوقهم لأنه لم يفهمه أحد. سيموت المرء من الشيخوخة ولما يقلب صفحات الجزء المائة من الأعمال الرومانسية الميتافيزيقية.
يسر المرء كثيرا أن يمتلك أقدم الكتب مثلما يتحرى امرؤ أقدم الأوسمة. هذا ما يصنع عظمة المكتبة. أقدم الكتب في العالم هي «الملوك» للصينيين، و«شاستاباد» للبراهمة، ومنهما أطلعنا السيد هولويل على نصوص رائعة، وما تبقى من كتابات زرادشت القديمة، وشذرات من سانشونياثون حفظها لنا يوسابيوس، وتحمل ملامح أبعد العصور القديمة. لا أتكلم عن «الأسفار الخمسة» التي يستطيع المرء أن يقول إنها فوق كل الكتب السالفة.
ما زالت لدينا صلاة أورفيوس الحقيقي التي تلاها الكاهن في الأساطير اليونانية القديمة: «سر في درب العدالة. اعبد السيد الوحيد للكون. هو واحد. هو واحد بنفسه. كل الموجودات تدين له بوجودها؛ وهو يفعل فيهم وبهم. يرى كل شيء ولم تره قط أعين فانية.»
يعطيه القديس كليمندس السكندري - أعظم آباء الكنيسة ثقافة، أو بالأحرى الدارس الوحيد للعصور القديمة الدنيوية - دوما تقريبا اسم أورفيوس الثراسي، وأورفيوس اللاهوتي ليميزه من هؤلاء الذين كتبوا بعده تحت نفس الاسم.
لم يعد لدينا أي شيء سواء من موسيوس أو لينوس. ومن شأن بضع نصوص من أعمال هذين السابقين لهوميروس أن تكون زينة لأي مكتبة.
أسس أوغسطس مكتبة تسمى «بالاتين». رأسها تمثال أبولو. وزينها الإمبراطور بتماثيل نصفية لأفضل الكتاب. شاهد المرء في روما تسعة وعشرين مكتبة عامة عظيمة. والآن ثمة أكثر من أربعة آلاف مكتبة مهمة في أوروبا. اختر منها ما يناسبك، وحاول ألا تمل.
حدود العقل البشري
سأل شخص نيوتن ذات يوم لماذا مشى حينما أراد ذلك، وكيف تحركت ذراعه ويده انصياعا لإرادته. أجاب ببسالة بأنه ليست لديه فكرة. قال محاوره: «لكن على الأقل أنت يا من تفهم جيدا جاذبية الكواكب ستخبرني لماذا قد تتحرك الكواكب في اتجاه ما، لا في آخر!» وأعلن مرة أخرى أنه ليست لديه فكرة.
هؤلاء الذين درسوا أن المحيط كان مالحا خشية من أن يصبح عفنا، وأن المد والجزر صنعا لجلب سفننا إلى الميناء (الأب بلوش في كتاب «منظر الطبيعة») أصابهم الخزي بعض الشيء حينما رد عليهم بأن للبحر المتوسط موانئ وليس به مد. سقط موشينبروك نفسه في ذلك السهو.
هل استطاع أي شخص قط أن يخبرنا بدقة كيف يحول غصن على نيران الموقد إلى كربون محترق، وبأية آلية يشتعل الجير بالماء العذب؟
هل يفهم المبدأ الأول لحركة قلوب الحيوانات فهما سليما؟ هل يعلم أحد بوضوح كيف يحدث التكاثر؟ هل خمن أحد ما الذي يمنحنا الإحساس والأفكار والذاكرة؟ نحن لا نفهم جوهر المادة بأي قدر أكثر من فهم الأطفال الذين يلمسون سطحها.
من سيعلمنا بأي آلية تنمو مرة أخرى حبوب القمح التي نرميها على الأرض لتنتج سيقانا محملة بسنابل القمح، وكيف تنتج التربة نفسها تفاحة في أعلى تلك الشجرة، وكستناءة في الشجرة المجاورة؟ قال كثير من المعلمين: «ما الذي لا أعلمه؟» واعتاد مونتين أن يقول: «ما الذي أعلمه؟»
أيها الزميل الحاد بقسوة، المعلم كثير الكلام، المنظر الفضولي، يا من تبحث عن حدود عقلك؛ إنها عند طرف أنفك.
الجرائم المحلية
لو جبت العالم كله فستجد أن السرقة والقتل والزنا والافتراء تعد جرائم يدينها المجتمع ويكبحها؛ لكن هل ينبغي أن ما هو جائز في إنجلترا، ومدان في إيطاليا، يعاقب عليه في إيطاليا بوصفه اعتداء على البشرية كلها؟ هذا ما أسميه جريمة محلية. ألا يستلزم ذلك الفعل الجرمي فقط في نطاق بعض الجبال، أو ما بين نهرين، من القضاة تساهلا أكثر مما تستلزمه تلك الاعتداءات المروعة في البلاد كافة؟ ألا ينبغي للقاضي أن يقول لنفسه: «لا يجب علي أن أجرؤ على المعاقبة في راجوزا على ما لا أعاقب عليه في لوريتو؟» ألا يجب لهذا الاعتبار أن يلين ما في قلبه من تصلب يسهل كثيرا تقلصه عبر البقاء الطويل في منصبه؟
أنت تعرف مهرجانات «الكيرميس» في بلاد الفلاندرز، وقد بلغت في القرون الأخيرة درجة من الفظاظة ربما تصيب من يراها بالغثيان إن لم يكن معتادا على هذه المشاهد. هكذا كان الاحتفال بالكريسماس في بعض البلدان. في البداية كان يظهر شاب نصف عار، بجناحين على ظهره، ويبدأ بتلاوة صلاة «السلام عليك يا مريم» لفتاة شابة تجيبه بصلاة «فليكن»، يقبلها الملاك على الفم. بعد ذلك، يصيح صبي داخل ديك كرتوني كبير، ويحاكي صياح الديك، مغنيا أنشودة «رزقنا بصبي»؛ ويخور ثور بأنشودة «يوبي» «فلتعش» التي تنطق «أوبي»؛ ويبدأ الماعز في الثغاء مغنيا «بيت لحم»؛ وينهق حمار بأنشودة «هيهانوس» دلالة على «إياموس» «فلنمض». ويختم الاستعراض موكب طويل يتقدمه أربعة حمقى بحلي وجلاجل. بقيت حتى اليوم آثار من هذه الطقوس الشعبية التي قد يعدها الناس الأكثر تعليما انتهاكات. يسب سويسري عكر المزاج، لعله كان أثمل من اللذين أديا دوري الثور والحمار، المؤديين في لوفان. وتسدد اللكمات؛ ويريد الناس شنق السويسري الذي يهرب بصعوبة.
تورط الرجل نفسه في مشاجرة عنيفة في لاهاي بهولندا بسبب انحيازه لرجل بارنيفيلدي ضد رجل جوماريستي متهور. أودع السجن في أمستردام لأنه قال إن الكهنة هم بلاء الإنسانية وأصل كل مصائبنا. قال: «ماذا؟!» «إذا آمن المرء بأن الأعمال الحسنة تساعد على الخلاص، فسيجد المرء نفسه في زنزانة، وإذا سخر من ديك وحمار فهو يخاطر بأن يشنق.» توضح هذه المغامرة تماما، على سخريتها، أن المرء يمكن أن يكون مستهجنا في بقعة أو اثنتين من نصف كرتنا الأرضية، ويكون بريئا تماما في بقية العالم.
الحب
كثيرة هي أنواع الحب، إلى حد أنك لا تعرف إلى من تتوجه ليعرفه لك. يمنح اسم «الحب» بجرأة لنزوة تستمر بضعة أيام، عاطفة بلا احترام، تصنعات المتودد إلى النساء، عادة جامدة، خيال رومانسي، شهوة يعقبها تقزز سريع؛ يمنح الناس هذا الاسم لعدد كبير من الأوهام.
إن أراد الفلاسفة سبر أغوار تلك المسألة الفلسفية المجردة، دعهم يتأملون على مأدبة أفلاطون، حيث يتحاور سقراط المحب الجليل لألسيبياديز وأجاثون معهما عن ميتافيزيقات الحب.
يتحدث لوكريتيوس عنه بصفته فيلسوفا طبيعيا بقدر أكبر. ويتبع فيرجيل خطى لوكريتيس في كتابه «الحب واحد للجميع».
إنه مادة الطبيعة التي زخرفتها الطبيعة. هل تريد فكرة عن الحب؟ انظر إلى العصافير في حديقتك، انظر إلى حماماتك، انظر إلى الثور الذي يحضرونه لبقرة، انظر إلى ذلك الجواد المختال الذي يصطحبه اثنان من سائسي خيلك إلى الفرس الهادئة التي تنتظره، تنحي ذيلها لترحب به، انظر كيف تلمع عيناها، أنصت إلى الصهيل، انظر إلى الاختيال، القفز، والأذنين المرهفتين، والفم الذي ينفتح مع ارتعاشات بسيطة، وفتحتي الأنف المنتفختين، والنفس اللاهث، والعرف الذي يعلو ويطفو، والحركة المندفعة التي يلقي بها بنفسه على الجسم الذي قدرته له الطبيعة. لكن لا تغر منه، وفكر في مزايا البشر؛ فبالحب يعوضون عن كل المميزات التي حبت بها الطبيعة الحيوانات؛ من قوة وجمال ورشاقة وسرعة.
هناك حيوانات لا تجد لذة في التملك؛ القشريات محرومة من تلك المتعة، تلقي الأنثى بملايين البيوض في الطين، ويأتي الذكر ليمر عليها ويخصبها بمائه دون أن يفكر في الأنثى صاحبة هذا البيض.
معظم الحيوانات التي تتزاوج تتذوق المتعة بحاسة واحدة فقط، وبمجرد إشباع الشهوة يطفأ كل شيء. ما من حيوان سواك يعرف ما هو التقبيل؛ فجسدك كله حساس، وشفتاك على وجه الخصوص تتمتعان بحسية لا تكل، وهذه المتعة لا تخص أي جنس آخر إلا جنسك البشري. تستطيع أن تسلم نفسك للحب في أي وقت، أما الحيوانات فليس لديها سوى أوقات محددة. إذا تأملت في جوانب التفوق هذه ستوافق كونت روتشستر في قوله: «في بلد من الملحدين يجعل الحب الإله يعبد.»
ولأن الناس لديهم موهبة تحسين كل ما تمنحه لهم الطبيعة، فقد حسنوا الحب. النظافة وعناية المرء بذاته، بجعل الجلد أنعم، تزيدان من متعة الملامسة. واهتمام المرء بصحته يجعل أعضاء الشهوة أكثر حسا. كل العواطف الأخرى التي تتداخل مع عاطفة الحب، تماما مثل المعادن التي تختلط بالذهب؛ الصداقة، والاهتمام، ومد يد العون، وكذلك ملكات العقل والجسد هي بعد كل ذلك أواصر إضافية.
علاوة على ذلك فإن حب الذات يوثق كل هذه الأواصر؛ فالمرء يصفق لذاته على اختياره ، وتشكل مجموعة أوهام زينة المبنى الذي أرست الطبيعة أساساته.
هذا ما تسمو به على الحيوانات. ولكن إذا كنت تذوق متعا كثيرة جدا غير معروفة لها، فكم من التعاسات أيضا لا تدري بها البهائم! المرعب لك هو أن الطبيعة سممت متع الحب ومصادر الحياة في أكثر من ثلاثة أرباع الأرض، بمرض مفزع يصاب به الإنسان وحده، ويصيب أعضاء التكاثر فقط.
ليس حقيقا أن هذا الداء كما في أمراض أخرى كثيرة هو نتيجة لإفراطنا. ولم يكن الفجور هو الذي أتى به إلى العالم. فلم يصب به فرين، وليس، ووفلورا وميسالينا وأشباههم، ولكنه نشأ في بعض الجزر حيث كان الناس يعيشون في براءة، ومن هناك انتشر في كل أنحاء العالم القديم.
إن استطاع شخص اتهام الطبيعة باحتقار عملها، أو تناقضها مع خططها، أو فعلها عكس تصاميمها، فهذا يكمن في البلاء المقيت الذي ملأ الأرض رعبا وقذارة. هل هذا هو أفضل العوالم الممكنة؟ ماذا؟! لو أن قيصر وأنطونيو وأكتافيوس لم يصابوا قط بهذا المرض، أفلم يكن من المحتمل حينها ألا يتسبب في موت فرانسوا الأول؟ يقول الناس: «لا. كل ما يعمل يعمل للخير.» أود لو أصدق ذلك، ولكن الأمر سيكون محزنا لأولئك الذين أهداهم رابليه كتابه.
تناقش فلاسفة العشق كثيرا بخصوص مسألة ما إن كان من الممكن فعلا لإلواز أن تظل على حبها حقا لأبيلار حينما كان راهبا وخصيا. تسببت إحدى هاتين الصفتين بضرر كبير للأخرى.
لكن، تصالح مع نفسك يا أبيلار، فأنت كنت محبوبا. فجذر الشجرة المقطوعة ما زال يحتفظ ببقية من عصارته، والخيال يعين القلب. يمكن للمرء أن يظل سعيدا على المائدة مع توقفه عن الأكل. أهو الحب؟ أهي مجرد ذكرى؟ أهي الصداقة؟ كل ذلك يتكون من شيء لا يوصف. هو إحساس غامض يشبه العواطف الرائعة التي استعادها الموتى في الحقول الإليزيانية؟ قاد الأبطال الذين اشتهروا في حياتهم في سباقات العربات التي تجرها الخيول ؛ عربات وهمية حينما ماتوا. عاشت إلواز معك على أوهام وتعويضات. كانت تقبلك أحيانا، وبمتعة أكبر من التي كانت تشعر بها وهي تقسم في دير الباراكليت أنها لن تستمر في حبك؛ ومن ثم أصبحت قبلاتها أثمن بقدر ما كانت أذنب. يصعب أن تظل المرأة رهينة عاطفة لخصي؛ ولكنها يمكن أن تبقي على عاطفتها لحبيبها الذي صار خصيا، بشرط أن يظل محبوبا.
ليس الأمر هكذا، أيتها النساء، بالنسبة إلى محب شاخ في الخدمة؛ فالملامح الخارجية لا تبقى؛ التجاعيد تخوف، والحواجب البيضاء تصدم، والأسنان المفقودة تبعث على الاشمئزاز، والأوهان تبعث على النفور. كل ما يمكن فعله حينها هو التحلي بفضيلة التحول إلى ممرضة، وأن تسامح ما أحبته. يشبه الأمر دفن رجل ميت.
الترف
ألقى الناس خطبا ضد الترف طوال ألفي عام، شعرا ونثرا، وسعد به الناس دوما.
ما الذي لم يذكره الناس عن الرومان الأوائل حينما نهب أولئك اللصوص المحاصيل وسلبوها؛ حينما دمروا، من أجل توسيع قريتهم الفقيرة، قرى الفولسيك والسامنيت الفقيرة؟ كانوا نزيهين وفضلاء! لم يكونوا بعد قادرين على سرقة الذهب أو الفضة أو الأحجار الكريمة؛ لأنه لم يكن يوجد أي منها في البلدات الصغيرة التي نهبوها. لم تكن أحراجها ولا مستنقعاتها تنتج طيور الذيال ولا طيور الحجل، وامتدح الناس اعتدالهم.
حينما نهبوا كل شيء بالتدريج، وسرقوا كل شيء من أقصى الخليج الأدرياتيكي حتى الفرات، وحينما كان لديهم من الذكاء ما يكفي ليستمتعوا بثمار ما نهبوه؛ وحينما بدءوا في تهذيب الفنون، وحينما ذاقوا كل المتع، وحينما خبا تذوقهم لها، توقفوا عن تذوقها كما يقال لكي يكونوا أناسا حكماء وشرفاء.
كل تلك الخطب تختزل في إثبات أن السارق يجب ألا يتناول أبدا العشاء الذي أخذه، أو ألا يرتدي المعطف الذي سرقه، أو ألا يزين نفسه بالخاتم الذي سلبه. يجب عليه أن يلقي بكل ذلك في النهر - كما يقول الناس - كي يعيش نزيها. قل بالأحرى إنه كان يجب ألا يسرق. اشجب اللصوص حينما ينهبون؛ لكن لا تعاملهم على أنهم بلا إحساس حينما يستمتعون. بأمانة ، حينما اغتنى عدد كبير من البحارة الإنجليز عند الاستيلاء على بوندشيرى وهافانا، هل كانوا مخطئين إذ استمتعوا بعد ذلك في لندن ثمنا لما واجهوه من متاعب في أعماق آسيا وأمريكا؟
يود الخطباء لو يدفن المرء الثروة التي كدسها بقوة السلاح، وبالزراعة، وبالتجارة، وبالصناعة. يستشهدون بلاسيديمون؛ لماذا لا يستشهدون أيضا بجمهورية سان مارينو؟ ما النفع الذي عاد على اليونان من إسبرطة؟ هل نعمت بوجود ديموثينيس، وسوفوكليس، وأبيليس، وفيدياس في أي وقت؟ أنتج ترف أثينا رجالا عظماء في كل مناحي الحياة؛ بينما كان لإسبرطة قادة قليلون، وأقل عددا مما في بقية المدن. لكن كم هو جميل أن تبقى جمهورية صغيرة مثل لاسيديمون على فقرها!
1
يصل المرء إلى الموت بالافتقار إلى كل شيء، وكذلك بالاستمتاع بما يجعل الحياة ممتعة. يعيش الهمجي الكندي، ويبلغ الشيخوخة مثله مثل المواطن الإنجليزي الذي يقدر دخله بخمسين ألف جنيه، ولكن من ذا الذي سيقارن أرض الإيروكواس بإنجلترا؟
فلتسن جمهورية راجوزا وإقليم تسوج قوانين لتنظيم النفقات؛ فهم على حق لأن الفقير لا يجب عليه أن ينفق بدرجة أكبر من إمكاناته، ولكني قرأت في مكان ما:
اعلم أن الترف يثري الدولة الكبيرة، حتى لو كان يدمر الدولة الصغيرة.
2
إن كنت تفهم الترف على أنه الإفراط، فالجميع يعرفون أن الإفراط بأي شكل قاتل، سواء أكان إفراطا في الزهد أم في النهم، في الاقتصاد كما في الكرم. لا أعلم كيف حدث أنه في قريتي؛ حيث الأرض جحودة، والضرائب ثقيلة، وحظر تصدير الحبوب التي زرعها المرء لا يطاق، يصعب أن تجد مع ذلك زارعا ليس لديه معطف من قماش جيد، أو لا ينتعل جيدا، أو لا يتغذى جيدا. إن كدح ذلك الفلاح في حقله مرتديا معطفه الجيد من الكتان الأبيض، وشعره مصفف بشكل جميل، فهذا رفاهية زائدة عن الحد بالتأكيد، بل يعتبر شيئا غير ملائم بالمرة، ولكن أن يذهب أحد بورجوازيي باريس أو لندن إلى المسرح مرتديا زي فلاح، فسيعد هذا أشد التقتير سخفا وفظاظة.
حينما اخترعت المقصات، التي لا ترجع بالتأكيد إلى أقدم العصور القديمة، ما الذي لم يقله الناس ضد أول من قلموا أظافرهم، ومن قصوا جزءا من الشعر المنسدل على أنوفهم؟ عاملهم الناس قطعا وكأنهم متأنقون مبذرون اشتروا أداة تافهة بسعر مرتفع كي يفسدوا صنعة الخالق. يا لها من خطيئة رهيبة أن نقلم الأظافر التي جعلها الله تنمو على أطراف أصابعنا! كانت تطاولا على الألوهية! ازداد الأمر سوءا حينما ابتكرت القمصان والجوارب. يعرف المرء بأي غضب انتقد المستشارون الذين هرموا ولم يرتدوا هذه الأشياء قط القضاة الشبان الذين أدمنوا هذا الترف المدمر.
3
هوامش
تأمل عام عن الإنسان
يستلزم عشرين عاما إخراج الإنسان من الحالة النباتية التي يكون فيها داخل رحم أمه، ومن الحالة الحيوانية الصرفة التي تشكل معظم طفولته المبكرة، إلى الحالة التي يبزغ فيها النضج العقلي للشخص. واحتاج الإنسان ثلاثين قرنا كي يتعلم القليل عن بنيته، وربما يستغرق زمنا لا نهائيا لتعلم شيء عن روحه. أما قتله فيحتاج لحظة واحدة.
الرجل ذو القناع الحديدي
مؤلف «قرن لويس الرابع عشر»
1
هو أول من تكلم عن الرجل ذي القناع الحديدي في تاريخ موثق. والسبب هو أنه كان يعلم جيدا تلك الحكاية التي تدهش القرن الحالي، وستدهش الأجيال القادمة، وهي حقيقية مع الأسف. توهم بشأن تاريخ وفاة ذلك المجهول الفريد في نحسه. كان تاريخ تأبينه في كاتدرائية سان بول في الثالث من مارس عام 1703م، وليس عام 1704م (ملحوظة: طبقا لشهادة كتبها سان فوا، كان التاريخ 20 نوفمبر 1703م).
سجن في البداية في بينيرولو قبل سجنه على جزر سانت مارجريت، ثم في الباستيل، وكان دائما تحت حراسة الرجل نفسه، سانت مارس، الذي رآه وهو يموت. نقل الأب جريفيه اليسوعي إلى العامة يوميات الباستيل التي تشهد على هذه التواريخ. حصل على هذه اليوميات بلا صعوبة؛ لأنه شغل منصبا دقيقا بصفته الأب الذي يستمع إلى اعترافات سجناء الباستيل.
الرجل ذو القناع الحديدي لغز يود كل شخص أن يحله. يقول بعض الناس إنه كان دوق بوفور؛ لكن دوق بوفور قتل بأيدي الأتراك في دفاعه عن كانديا عام 1669م، بينما كان الرجل ذو القناع الحديدي في بينيرول في عام 1662م. بالإضافة لذلك، كيف تمكن أحد من اعتقال دوق بيفور وهو محاط بجيشه؟ وكيف تسنى لأحد أن ينقله إلى فرنسا دون أن يعلم أحد شيئا عن الأمر؟ ولماذا كان يجب سجنه، ولماذا هذا القناع؟
فكر آخرون في كونت فرماندوا، الابن غير الشرعي للويس الرابع عشر الذي مات أمام الجميع بمرض الجدري عام 1683م، مع الجيش، ودفن في بلدة آراس.
بعد ذلك اعتقد أن دوق مونموث الذي قطع رأسه الملك جيمس الثاني علانية في لندن عام 1685م كان هو الرجل ذا القناع الحديدي. كان ضروريا أن تعود إليه الحياة، وأن يغير ترتيب الأزمان، ويضع عام 1662م مكان عام 1685م. أما الملك جيمس الذي لم يعف عن أحد قط، واستحق بذلك كل بلاياه؛ فكان يجب عليه أن يعفو عن دوق مونموث، وأن يتسبب في موت رجل يشبهه تماما بدلا منه. كان من الضروري إيجاد ذلك الشبيه الذي يتصف بالطيبة لدرجة أن تقطع رأسه علانية من أجل إنقاذ دوق مونموث. كان من الضروري أيضا لإنجلترا كلها أن تسيء الفهم؛ ولجيمس حينئذ أن يرسل أخلص توسلاته إلى لويس الرابع عشر كي يكون أهلا لأن يعمل بصفته حارسه وسجانه؛ ومن ثم بعد أن أدى لويس الرابع عشر تلك الخدمة الصغيرة للملك جيمس، فلن يفشل في بذل الاهتمام ذاته للملك وليام والملكة آن اللذين كانا في حرب معه، وأن يكون حفظ بعناية، برعاية هذين العاهلين، منزلة السجان التي كانت له، وسبق أن شرفه بها الملك جيمس.
أما وقد تبددت كل هذه الأوهام، فيبقى أن نعلم من هو ذلك السجين الذي كان مقنعا دائما، وكم كان عمره وقت وفاته، وبأي اسم دفن. واضح أنه إن لم يكن مسموحا له بالمرور في ساحة الباستيل، وإن لم يكن مسموحا له التحدث لطبيبه إلا إن كان مرتديا قناعا؛ فذلك خوفا من أن يدرك في ملامحه تشابه مدهش أكثر مما ينبغي. ربما كان له أن يظهر لسانه، لكن ليس وجهه أبدا. أما عن عمره فقد قال هو بنفسه لصيدلي الباستيل قبل أيام من موته إنه يعتقد أنه قارب الستين. وكرر لي مؤخرا ذلك أكثر من مرة السيد مارسولان، جراح ماريشال ريشيليو، ثم دوق أورليون، الوصي على العرش، وصهر ذلك الصيدلي.
في النهاية، لماذا منحه اسما إيطاليا؟ كان طوال الوقت يدعى مارشيالي! من يكتب هذه المقالة يعرف أكثر عن الأمر، ربما أكثر من الأب جريفت، ولن يقول المزيد. (1) ملحوظة الناشر
2
مدهش أن نرى كثيرا من الدارسين وكثيرا من الكتاب الأذكياء الفطنين يعذبون أنفسهم بمحاولة تخمين من هو الرجل الشهير الذي كان يرتدي قناعا حديديا، دون أن تخطر على بالهم أكثر الأفكار بساطة وطبيعية. بمجرد إعلان الحقيقة، وفق ما صرح بها السيد فولتير، مع ملابساتها؛ أي وجود سجين فريد من نوعه، ووضعها في مصاف أكثر الحقائق التاريخية الموثقة، لا يبدو فقط أنه لا شيء أسهل من تخيل من يكون، ولكن يصبح من الصعب أيضا أن يكون ثمة رأيان حول الأمر. لا بد أن كاتب هذه المقالة كان من شأنه أن يصرح برأيه قبل الآن، لو أنه لم يعتقد أن هذه الفكرة تبادرت بالفعل إلى أذهان كثيرين غيره، ولو لم يكن مقتنعا بأن ما سيتبادر إلى ذهن كل من يقرأ الحكاية لا يستحق، من وجهة نظره، إعلانه وكأنه اكتشاف.
ومع ذلك، فلما تباينت الآراء حول هذا الأمر منذ زمن مضى، ولما وصل إلى أيدي الجماهير مؤخرا خطاب يدعى فيه أنه تم إثبات أن هذا السجين الشهير كان سكرتير دوق مانتوفا (وهو ما لا يمكن التوفيق بينه وبين علامات الإجلال الكبير التي أبداها السيد سانت مارس نحو سجينه)، اعتبر المؤلف أن من واجبه أن يفصح، على الأقل، عما كان رأيه في الموضوع طوال أعوام عديدة. ربما يضع هذا التخمين حدا لكل الأبحاث الأخرى، ما لم يفش السر من جانب أولئك الذين ربما كانوا حراسه، بطريقة تزيل كل الشكوك.
لن يسلي نفسه بدحض أولئك الذين تخيلوا أن هذا السجين يمكن أن يكون كونت فرمانديوس ، أو دوق بوفور، أو دوق مونموث. دحض صاحب هذا الرأي الأخير؛ المؤلف، العالم، وافر الحكمة، آراء الآخرين بمهارة، لكنه بنى رأيه فقط من حيث الأساس على استحالة العثور في أوروبا على أمير آخر كان من المهم للغاية ألا يعرف أمر اعتقاله. يبدو أن السيد سان فوا على حق إن كان يقصد التحدث فقط عن الأمراء الذين كان وجودهم معروفا؛ ولكن لماذا لم يفكر أحد في افتراض أن الرجل ذا القناع الحديدي ربما كان أميرا غير معروف، نشأ في السر، وكان من المهم الحفاظ على سرية وجوده؟
لم يكن دوق مونموث أميرا ذا شأن عال بالنسبة إلى فرنسا، ولا يدرك المرء حتى ما الذي يضفي قوة - على الأقل بعد موت هذا الدوق وموت جيمس الثاني - على إخفاء أمر احتجازه إن كان هو حقا الرجل ذا القناع الحديدي؟ من الصعب جدا أن يبدي السيد لوفوا والسيد سان مارس لدوق مونموث هذا الاحترام العميق الذي أكد السيد فولتير أنهما أبدياه للرجل ذي القناع الحديدي.
يستنتج المؤلف من الطريقة التي حكى بها السيد فولتير الوقائع أن هذا المؤرخ الشهير مقتنع مثله بالاشتباه الذي يسعى كما يقول لإعلانه. لكن لا يصعب تخمين أن السيد فولتير، بصفته فرنسيا، لم يرغب، كما يضيف، في أن يعلن بصراحة عنه، وخصوصا أنه قال ما يكفي عن حل هذا اللغز. ويواصل القول: ها هو كما أراه.
كان الرجل ذو القناع الحديدي بلا شك أخا، وأخا أكبر للويس الرابع عشر، وكان لأمه ذلك الذوق في الكتان الرفيع الذي يبرزه السيد فولتير. عبر قراءة مذكرات هذا الوقت التي تذكر هذه الحكاية عن الملكة، التي تستدعي هذا الذوق نفسه لدى الرجل ذي القناع الحديدي، لا يبقى لدي شك في أنه كان ابنها، وهي حقيقة أقنعتني بها كل الملابسات الأخرى بالفعل.
معروف أن لويس الثالث عشر لم يعش مع الملكة طويلا، وأن ميلاد لويس الرابع عشر كان عائدا فقط لصدفة سعيدة دبرت بمهارة. صدفة أجبرت لويس تماما على أن ينام في الفراش ذاته مع الملكة. هكذا جرى الأمر كما أظن.
ربما ظنت الملكة أنها مسئولة عن أن لويس الثالث عشر لم يرزق بوريث. وكان من شأن مولد الرجل ذي القناع الحديدي أن يصحح هذا الخطأ. أما الكاردينال الذي ائتمنته على سرها فكان من شأنه أن يعرف، لأكثر من سبب، كيف يمكن أن يستفيد من السر، سيفكر في الاستفادة من هذا الحدث لصالحه الشخصي ولصالح الدولة؛ وإذ اقتنع هكذا أن بإمكان الملكة أن تمنح الملك أطفالا، دبرت على أثر هذا الخطة التي أتاحت نوم الملك مع الملكة في فراش واحد. ولكن كلا من الملكة والكاردينال اللذين كانا مقتنعين بوجوب إخفاء وجود الرجل ذي القناع الحديدي عن لويس الثالث عشر، سيربيانه في السر. سيكون هذا السر سرا حتى على لويس الرابع عشر حتى موت الكاردينال مازارين.
لكن هذا الملك، إذ علم فيما بعد بأن لديه أخا، بل أخا أكبر منه لم يكن باستطاعة أمه أن تنكره، وربما كان يحمل أيضا الملامح التي تشي بأصله، وإذ فكر مليا في أن هذا الطفل المولود في ظل الزواج لم يكن ممكنا إعلان أنه غير شرعي دون فضيحة مدوية غير لائقة ومريعة بعد موت لويس الثالث عشر، حكم بأنه ليس بإمكانه استخدام وسيلة أحكم ولا أعدل من التي استعملها من أجل تأكيد هدوئه الذاتي وسلام الدولة، وهي وسيلة أعفته من ارتكاب فظاعة كان من شأن السياسة أن تقدمها على أنها ضرورة لملك أقل ضميرا وشهامة من لويس الرابع عشر.
ويكمل مؤلفنا: «يبدو لي أنه كلما ازداد المرء معرفة عن تاريخ تلك الأزمنة، ازداد ذعرا من هذه الملابسات المجتمعة التي تؤيد هذا الافتراض.»
هوامش
الزواج
التقيت مصادفة بمفكر قال: «شجع رعاياك على الزواج سريعا كلما أمكن، وأعفهم من الضرائب في العام الأول، ولتوزع الضريبة المفروضة عليهم على العزاب من العمر نفسه.
كلما ازداد عدد المتزوجين لديك قلت الجريمة. انظر إلى تلك البيانات المريعة في سجلات الجريمة لديك، وستجد أن مئات العزاب شنقوا أو سحلوا مقابل رب أسرة واحد.
يجعل الزواج الإنسان أكثر حكمة وفضيلة. حينما يهم رب الأسرة بارتكاب جريمة، تمنعه زوجته التي يجعلها دمها الأقل حمية من دمه أكثر رقة وعاطفة وأكثر تخوفا من السرقة والقتل، وأكثر جبنا وتدينا.
لا يريد رب الأسرة أن تحمر وجنتاه خجلا أمام أطفاله؛ فهو يخشى أن يترك لهم ميراثا من الخزي.
زوج جنودك ولن يفروا بعد ذلك. حينما يكونون مرتبطين بعائلاتهم سيكونون أيضا مرتبطين بوطنهم. الجندي الأعزب ليس سوى أفاق في أغلب الأحوال؛ لا فرق عنده إن كان يخدم ملك نابولي أو ملك المغرب.»
كان المحاربون الرومان متزوجين، وقاتلوا من أجل زوجاتهم وأطفالهم، واستعبدوا زوجات الشعوب الأخرى وأطفالهم.
قال لي سياسي إيطالي عظيم في شبابي، كان إلى جانب ذلك ملما إلماما جيدا باللغات الشرقية، وهو شيء نادر جدا بين سياسيينا: «بني العزيز، تذكر أن اليهود لم يكن لديهم قط سوى قانون واحد جيد، ألا وهو رعبهم من العذرية.» لو أن هذا الجنس القليل العدد من الوسطاء المؤمنين بالخرافات لم يعتبر الزواج القانون الأول للإنسان، ولو كانت لديهم أديرة للراهبات، لزالوا بلا رجعة.
السيد
(1) القسم الأول
قال أرداسان أوجلي، غلام سلطان الترك العظيم: «أنا سيئ الحظ لأني ولدت! ليتني كنت تابعا للسلطان العظيم فقط، لكني خاضع لرئيس الجواري والقبجي باشا؛ وحينما أتسلم أجري علي أن أنحني لأحد موظفي الدفتردار، الذي يقتطع نصفه. قبل أن أبلغ السابعة من عمري ختنت رغما مني في احتفال، وتسبب هذا في مرضي لمدة أسبوعين. الدرويش الذي يصلي من أجلنا هو سيدي؛ والإمام أيضا سيدي بدرجة أكبر من الدرويش؛ والملا سيدي بدرجة أكبر من الإمام؛ والقاضي سيد آخر؛ والقاضي عسكر أيضا سيد بقدر أعلى؛ والمفتي سيد أكثر منهم جميعا. بكلمة واحدة من كاهيا الصدر الأعظم (رئيس خدمه) يمكن أن يلقوا بي في القناة؛ والصدر الأعظم أخيرا يمكن أن يأمر بعصر رقبتي كما يشاء، دون أن يبدي أحد أي ملاحظة.
كم من الأسياد أيها الإله العظيم! حتى لو كان لدي كثير من الأجساد وكثير من الأرواح بقدر الواجبات التي يجب أن أقوم بها، لما قدرت على الاعتناء بكل شيء. يا الله! لو أنك جعلتني بومة ناعقة! لعشت حرا في كوتي، ولتناولت الفئران في طمأنينة بلا أسياد أو عبيد. هذا بالتأكيد المصير الحقيقي للإنسان، فلم يكن له أسياد إلا منذ أن ضلل. لم يخلق إنسان ليخدم إنسانا آخر على الدوام. لو كانت الأمور كما يجب أن تكون لكان من الممكن لكل واحد أن يساعد أخاه بدافع من الكرم. لكان على المبصر أن يرشد الأعمى، وعلى النشيط أن يكون عكازا للقعيد. كان يمكن أن يكون العالم جنة محمد، ولكنه الجحيم الذي يقع تحت الصراط الحاد تماما.»
هكذا تكلم أرداسان أوجلي بعد أن تلقى حزام الركاب من أحد أسياده.
بعد أعوام قليلة أصبح أرداسان أوجلي باشا يحمل ثلاث شارات. كون ثروة طائلة، وآمن بقوة أن كل الرجال، باستثناء عظيم الترك والصدر الأعظم، قد ولدوا ليخدموه، وأن النساء ولدن ليمنحنه المتعة حسب نزواته. (2) القسم الثاني
كيف أمكن لإنسان أن يصبح سيد إنسان آخر؟ بأي نوع من السحر المبهم استطاع أن يصبح سيد أناس آخرين كثيرين؟ كتب كثير من المجلدات النافعة بشأن هذه الظاهرة، لكني أفضل إحدى الأساطير الهندية؛ لأنها قصيرة، ولأن الأساطير قد قالت كل شيء.
كان لأديمو، أبي الهنود جميعا، ابنان وابنتان من زوجته بروكريتي. كان الابن الأكبر عملاقا، والأصغر أحدب ضئيلا، وكانت الابنتان جميلتين. حالما وعى العملاق بقوته نام مع الأختين وجعل الأحدب الضئيل يخدمه. كانت إحدى شقيقتيه طاهيته، والأخرى بستانيته. وحينما كان العملاق يريد أن ينام كان يشرع بتقييد أخيه الأحدب الضئيل بالسلاسل في شجرة؛ وحينما هرب الأخ أمسك به في أربع خطوات واسعة، وضربه عشرين ضربة بوتر رجل ثور.
أصبح الأحدب خانعا، بل أفضل خانع في العالم. ولما كان العملاق راضيا بأن يراه ينجز واجباته خاضعا، سمح له أن ينام مع إحدى الشقيقتين التي أخذ هو ينفر منها. لم يكن الأطفال الذين أتوا من هذا الزواج حدبا بالمرة؛ لكن كانت لهم هيئات مشوهة للغاية. تربوا على خوف الله والعملاق. تلقوا تعليما ممتازا ؛ تعلموا أن عمهم الأكبر كان عملاقا بالحق الإلهي، وأنه يستطيع أن يفعل بأسرته ما يشاء؛ وإن كانت له ابنة أخ أو ابنة أخت، أو حتى ابنتها، فهي له وحده بلا شك، وأنه لا يمكن لأحد أن ينام معها حتى يمل هو منها.
بعد أن مات العملاق، اعتقد ابنه الذي لم يكن يدانيه في القوة ولا في الضخامة أنه كان مع ذلك عملاقا مثل أبيه بالحق الإلهي. طالب الجميع بالعمل من أجله، والنوم مع كل النساء. تحالفت العائلة كلها ضده، وضرب حتى الموت، وتحول الآخرون إلى جمهورية.
على النقيض من ذلك، يدعي السياميون أن العائلة كانت جمهورية في البداية، وأن العملاق لم يأت إلا بعد مرور أعوام ونزاعات كثيرة. ولكن كل مؤلفي بيناريس وسيام يتفقون على أن الجنس البشري عاش قرونا لا حصر لها قبل أن يكون لديه ذكاء سن القوانين، ويثبتون ذلك بدليل قاطع، وهو أنه حتى اليوم؛ إذ يتفاخر كل شخص بذكائه، لم توجد طريقة للتوصل إلى قوانين جيدة مقبولة.
يظل بالفعل سؤالا عسيرا على الحل في الهند ما إن كانت الجمهوريات أسست قبل الملكيات أم بعدها، وما إن كانت الفوضى بدت أكثر هولا للجنس البشري من الاستبداد. لا أعرف ماذا حدث بالترتيب الزمني، ولكن فيما يخص الطبيعة، يجب أن نتفق على أن كل الناس قد ولدوا متساوين وأن العنف والمهارة قد صنعا الأسياد الأولين، وتكفلت القوانين بصنع الآخرين.
الأدباء
في عصورنا الهمجية، حينما لم تكن شعوب الفرانك والجرمان والبريطون واللومبارد والمستعربون الإسبان تعرف القراءة والكتابة، كانت هناك مدارس نظامية، وجامعات تتكون بالكامل تقريبا من الكهنة الذين - إذ لم يكونوا يعرفون شيئا سوى رطانتهم - علموا هذه الرطانة لأولئك الذين كانوا يرغبون في تعلمها. ولم تظهر الأكاديميات إلا بعد مدة طويلة، واحتقرت حماقة المدارس، لكنها لم تكن تجرؤ دائما على أن تتصدى لها؛ لأن هناك من الحماقات ما يحترم شرط أن تكون مهتمة بأشياء محترمة.
الأدباء الذين أدوا أعظم الخدمات للقليل من الكائنات المفكرة المنتشرة في أنحاء العالم، هم الكتاب المنعزلون، والدارسون الحقيقيون المنكبون على دراساتهم، الذين لم يجادلوا على مقاعد الجامعات، ولم يتفوهوا بأنصاف الحقائق في الأكاديميات. وقد اضطهدوا جميعا تقريبا؛ فجنسنا البائس مجبول على أن يقذف دائما بالحجارة أولئك الذين يسيرون في الطريق المطروق أولئك الذين يبشرون بطريق جديد.
يقول مونتيسكيو إن السكيثيين كانوا يفقئون أعين عبيدهم حتى يكونوا أقل تشتتا وهم يخضون زبدتهم. هذه هي تماما الطريقة التي يعمل بها التفتيش، وفي الأرض التي يحكم فيها الطاغوت يكون الجميع تقريبا عميانا. في إنجلترا، كان للناس عينان لأكثر من مائتي عام؛ والفرنسيون يبدءون في فتح عين واحدة. لكن أحيانا ما يوجد أناس في السلطة لا يريدون أن يكون للناس ولو حتى هذه العين الواحدة المفتوحة.
أولئك البائسون الذين هم في السلطة يشبهون الدكتور بالوراد في الكوميديا الإيطالية، الذي لا يريد أن يخدمه أحد إلا هارلكوين الأبله، ويخشى أن يكون لديه خادم حاذق أكثر مما ينبغي.
ألف بعض القصائد الغنائية في مديح سيدي سوبربوس فادوس، وبعض القصائد الغزلية من أجل عشيقته، واكتب إهداء على كتاب في الجغرافيا لبوابه، تستقبل استقبالا حسنا. نور البشرية تعدم.
أجبر ديكارت على أن يغادر بلده، واتهم جاسندي زورا، وأمضى أرنولد أيامه في المنفى. يعامل كل فيلسوف كما كان الأنبياء وسط اليهود.
من ذا الذي يصدق أنه في القرن الثامن عشر كان الفيلسوف يجر أمام المحاكم العلمانية، ويعامل على أنه مزدر بالمقدسات من قبل محاكم الحجج؛ لقوله إن الناس لا يستطيعون ممارسة الفنون إن لم تكن لديهم أيد؟ لا ينتابني يأس من أنه قريبا، سيحكم فورا على أول شخص يملك الجرأة ليقول إن الناس لا يستطيعون أن يفكروا ما لم تكن لديهم رءوس، بالتجديف. سيقول له خريج شاب: «لأن النفس روح خالصة، والرأس مادة وحسب؛ ولأن الرب يقدر على وضع الروح في الكعب كما يضعها في الدماغ؛ لذا، فإني أدينك بصفتك مزدريا الرب.»
ربما لا تكون أعظم بلية يبتلى بها الأديب، هي غيرة أقرانه، أو كونه ضحية عصبة، أو كونه محتقرا من رجال السلطة، ولكن أن يحاكمه الحمقى. أحيانا ما يتمادى الحمقى، وخصوصا حينما يضاف التعصب إلى القصور، وإلى القصور روح الانتقام. والمصيبة الكبيرة الأخرى التي يبتلى بها الأديب هي أنه عادة ما يكون مستقلا. يشتري البورجوازي لنفسه موقعا صغيرا، وهناك يسانده زملاؤه، وإذا عانى إجحافا يجد من يدافع عنه في الحال. أما الأديب فلا ينجد؛ فهو يشبه سمكة طائرة، إن ارتفعت قليلا تلتهمها الطيور، وإن غاصت تأكلها الأسماك.
كل شخص عام يبجل الشر، ولكنه يثاب شرفا وذهبا.
التحول، التناسخ
أليس طبيعيا جدا أن تجعل كل التحولات العالمية الناس في الشرق، حيث جرى تخيل كل شيء، يعتقدون أن أرواحنا انتقلت من جسد لآخر؟ تتحول ذرة لا تكاد تدرك إلى دودة، وتصبح هذه الدودة فراشة، وتحول حبة بلوط نفسها إلى شجرة بلوط، والبيضة إلى طائر، والماء يصبح سحابا ورعدا، والخشب نارا ورمادا. قصارى القول أن كل شيء في الطبيعة يبدو محولا. وسرعان ما أرجع الناس إلى الأرواح التي اعتبروها أشباحا خفيفة ما رأوه في الأجساد الأكبر حجما. ربما تكون فكرة التناسخ هي أكثر المعتقدات قدما في الكون الذي نعرفه، ولا تزال تسيطر على أجزاء كبيرة من الهند والصين.
ملتون، عن لومه على الانتحال
اتهم بعض الناس ملتون بأنه استقى قصيدته من «نفي آدم» لجروتيوس، ومن «ساركوتيس» لماسينيوس اليسوعي، وهما اللتان طبعتا في عامي 1654م و1661م قبل أن يقدم ملتون ملحمته «الفردوس المفقود» بمدة طويلة.
أما عن جروتيوس، فكان معروفا جيدا في إنجلترا أن ملتون أدخل في قصيدته الإنجليزية الملحمية قليلا من الأبيات اللاتينية من تراجيديا «آدم». لا يكون المرء منتحلا على الإطلاق إذا أثرى لغته بمحاسن لغة أجنبية. لم يتهم أحد يوريبيدس بالانتحال بسبب محاكاته الكتاب الثاني من الإلياذة في مقطع أغنية جماعية في «إفيجينيا»، بل على العكس دان الناس له بالعرفان لمحاكاته التي اعتبروها وفاء مزجى إلى هوميروس على المسرح الأثيني.
لم يعان فيرجيل أبدا من اللوم جراء محاكاته في ملحمته «الإنياذة» مائة بيت كتبها الشعراء الإغريقيون الأوائل.
ارتفع سقف الاتهام ضد ملتون قليلا؛ ظن أحد الاسكتلنديين، المسمى ويل لودر، الذي كان شديد الوفاء لذكرى تشارلز الأول الذي شتمه ملتون بأشد ما تكون العداوة، أنه جدير بالإساءة إلى ذكرى شاتم الملك هذا. زعم أن ملتون كان مذنبا باحتيال مخز بسلب تشارلز الأول المجد الحزين النابع من كونه مؤلف «إيكون بازيليكا»، وهو كتاب طالما كان عزيزا على الملكيين، ويقال إن تشارلز الأول ألفه في محبسه ليواسي به نفسه في محنته المؤسفة.
من ثم أراد لودر في عام 1752م تقريبا أن يبدأ بإثبات أن ملتون كان مجرد منتحل، قبل أن يثبت أنه سبق وتصرف كمزور يسيء إلى ذكرى أشد الملوك تعاسة. حصل على بعض الطبعات من قصيدة «ساركوتيس». وبدا واضحا أن ملتون قد حاكى بعض مقاطعها، كما حاكى جروتيوس وتاسو.
لكن لودر لم يكتف بذلك؛ إذ فتش عن ترجمة لاتينية سيئة لملحمة «الفردوس المفقود» للشاعر الإنجليزي، وبضم بضعة أبيات من هذه الترجمة إلى أبيات كتبها ماسينيوس، ظن بذلك أنه جعل الاتهام أقسى، وعار ملتون أكمل. وفي هذا كان مخدوعا بشدة. كشف احتياله؛ أراد أن يجعل من ملتون مزورا، ولكنه هو الذي اتهم بالتزوير. لم يفحص أحد قصيدة ماسينيوس التي لم يكن موجودا منها في ذلك الوقت سوى نسخ قليلة في أوروبا، ولم تعد إنجلترا التي اقتنعت بكاملها بخدعة لودر الضعيفة، تسأل عنها. واضطر صاحب الاتهام مذهولا إلى أن يتبرأ من مناورته، ويعتذر عنها.
بعد ذلك طبعت نسخة جديدة من عمل ماسينيوس في عام 1757م. ودهش جمهور الأدب بالعدد الكبير من الأبيات الرائعة الجمال التي زينت بها «ساركوتيس». لم تكن في الحقيقة سوى تشدق طويل بمذاهب سقوط الإنسان. لكن الاستهلال، والابتهال، ووصف جنة عدن، وتصوير حواء، وتصوير الشيطان، كل ذلك كان هو نفسه تماما في عمل ملتون. الأكثر من ذلك أن الموضوع كان هو نفسه، والحبكة هي نفسها، والفاجعة هي نفسها. إن رغب الشيطان - في عمل ملتون - أن ينتقم من الإنسان بسبب الأذى الذي ألحقه الله به، فلديه الخطة نفسها الموجودة في عمل ماسينيوس اليسوعي، وأعلنها في بعض الأبيات الشعرية التي ربما تكون جديرة بقرن أوغسطس («ساركوتيس» الجزء الأول، 271 وما بعدها).
يجد المرء في عملي ماسينيوس وملتون القليل من الحوادث، والاستطرادات التافهة، المتشابهة تماما؛ فكلاهما يتحدث عن أحشويروش الذي غطى البحر بسفنه، وكلاهما يتحدث بالنبرة ذاتها عن برج بابل، كلاهما يعطي الأوصاف نفسها للترف والكبرياء والجشع والشراهة.
كان أكثر ما أقنع عموم القراء بانتحال ملتون هو التشابه الكامل بين بداية القصيدتين. لم يكن هناك شك لدى كثير من الأجانب بعد قراءتهم للاستهلال أن بقية قصيدة ملتون مأخوذة من ماسينيوس، وهو خطأ كبير جدا من السهل إدراكه.
لا أعتقد أن الشاعر الإنجليزي حاكى أكثر من مائتي بيت من أبيات يسوعي كولونيا، وأجرؤ على القول إنه حاكى فقط ما كان يستحق أن يحاكى. هذه الأبيات الشعرية المائتان بارعة الجمال، وكذلك أبيات ملتون، وباستثناء هذه الأبيات المائتين فإن قصيدة ماسينيوس كلها لا تساوي شيئا على الإطلاق.
أخذ موليير مشهدين كاملين من كوميديا «المتفلسف الألعوبة» السخيفة لسيرانو دي برجراك. وقال بينما كان يمزح مع أصدقائه: «هذان المشهدان جيدان، ينتسبان إليه شرعا؛ أنا أسترد ملكيتي.» بعد ذلك، كان من شأن أي شخص يتعامل مع مؤلف «طرطوف» و«عدو الإنسان» على أنه منتحل أن يلقى استهجانا كبيرا.
أكيد أن ملتون في قصيدته «الفردوس المفقود» طار بأجنحته في محاكاته، ولا بد من الاتفاق على أنه إن كان استعار الكثير من السمات من جروتيوس ومن يسوعي كولونيا، فقد ذابت في وفرة الأشياء الأصيلة التي تخصه. في إنجلترا، يعد ملتون شاعرا عظيما للغاية على الدوام.
صحيح أنه كان ينبغي عليه أن يقر بأنه ترجم مائتي بيت من أبيات اليسوعي، ولكن في عصره، وفي مجلس تشارلز الثاني، لم يزعج الناس أنفسهم باليسوعي ولا بملتون ولا «الفردوس المفقود»، ولا «الفردوس المسترد»، فكل تلك الأشياء كانت إما موضعا للسخرية أو غير معروفة.
المحمديون
أقولها لكم مرة أخرى: أيها الحمقى المتخفلون عقليا الذين جعلكم بعض الجهلة الآخرين تصدقون أن الدين المحمدي شهواني وحسي، ما من كلمة صدق في ذلك؛ وإنما خدعتم في هذا الشأن كما خدعتم في كثير غيره.
أيها الكهنة والرهبان والقساوسة، لو فرض قانون عليكم بألا تأكلوا أو تشربوا شيئا من الرابعة صباحا حتى العاشرة مساء أثناء شهر يوليو إذ يهل الصوم الكبير في هذه الفترة، ولو أنكم منعتم من المقامرة خشية اللعنة، ولو حرمت عليكم الخمر تحت التهديد نفسه، ولو كان عليكم أن تحجوا في الصحراء المحرقة، ولو فرض عليكم أن تعطوا على الأقل اثنين ونصفا بالمائة من دخلكم للفقراء، ولو اعتدتم على الاستمتاع بثماني عشرة امرأة وخفض العدد فجأة إلى أربع؛ فهل ستجرءون على أن تدعوا تلك الديانة حسية؟
يتمتع المسيحيون اللاتينيون بميزات كثيرة جدا على المسلمين، ولا أعني فيما يخص الحرب، ولكن فيما يخص العقائد. كون أن المسيحيين اليونانيين هزموهم هزائم كبيرة مؤخرا من عام 1769م حتى عام 1773م، لا يبرر إطلاق العنان لانتقادات ظالمة للإسلام.
حاولوا استرداد كل ما اغتصبه منكم المحمديون، لكن الأسهل أن تفتروا عليهم.
أكره الافتراء جدا إلى حد أنني لا أريد حتى أن ألصق الغباء بالأتراك، مع أني أبغضهم لأنهم طغاة على النساء، وأعداء للفنون.
لا أعرف لماذا يصر مؤرخ الإمبراطورية الدنيا (البيزنطية) على أن محمدا يتكلم في قرآنه عن رحلته إلى السماء. محمد لم يذكر كلمة واحدة عن ذلك، وقد أثبتنا ذلك.
على المرء أن يقاتل باستمرار، وحينما يفند المرء خطأ يوجد دوما من يرتكبه ثانية.
الجبل
إنها أسطورة قديمة جدا، عالمية جدا، تلك التي تخبرنا عن ذلك الجبل الذي بعد إصابة كل أهل الريف بالهلع من صياحه من آلام المخاض، سخر منه كل الحاضرين بعد أن أتى إلى العالم بفأر وحسب. لم يكن الناس الموجودون في المشهد فلاسفة. أولئك الذين سخروا منه كان يجب أن يعجبوا به؛ كان أمرا رائعا أن يلد الجبل فأرا، كما أن يلد الفأر جبلا. كم من المدهش أن تلد صخرة فأرا صغيرا، ولم ير العالم قبل ذلك شيئا شبيها بتلك الأعجوبة. لم يستطع أي كوكب في العالم أن يمنح الوجود لذبابة، والموقف الذي يضحك فيه العامة يعجب به الفيلسوف، ويضحك عندما يفتح السوقة أعينهم الكبيرة البلهاء في دهشة.
العري
لماذا يجب على المرء أن يحبس رجلا أو امرأة يسيران عاريين تماما في الشارع؟ ولماذا لا يصدم أحد من التماثيل العارية تماما ومن لوحات السيدة العذراء ويسوع التي ربما ترى في بعض الكنائس؟
ربما يكون السبب هو أن الجنس البشري عاش طويلا دون أن يستتر بملابس.
كان البشر الذين لم تكن لديهم معرفة باللباس موجودين في أكثر من جزيرة وفي القارة الأمريكية. أخفى الأكثر تمدنا أعضاء التكاثر ببعض أوراق الشجر، والسمار المحبوك، والريش.
من أين يأتي هذا الشكل من الاحتشام؟ أهي غريزة من أجل إشعال الرغبات بحجب ما يمنحنا كشفه متعة؟
هل حقا أنه كان بين الأمم الأكثر تحضرا إلى حد ما، مثل اليهود أو أنصاف اليهود، طوائف كاملة لم تكن تعبد الله إلا بالتجرد من كل ثيابها؟ من هذه الأمثلة الآدميون والأبيليون كما يقال. كانوا يجتمعون عرايا تماما لينشدوا بحمد الله. هكذا يقول القديس إبيفانيوس والقديس أوغسطين. صحيح أنهما لم يكونا معاصرين وكانا بعيدين للغاية عن بلاد تلك الشعوب، ولكن يبدو أن هذا الجنون ممكن. ليس حتى أغرب ولا أكثر جنونا من مائة حالة أخرى من الجنون كانت منتشرة في العالم، الواحدة تلو الأخرى.
قلنا في مواضع أخرى إنه حتى المحمديون اليوم لديهم قديسون مجانين ويسيرون عراة كالقرود. من الممكن جدا أن بعض المتعصبين اعتقدوا أنه كان أفضل أن يقدموا أنفسهم إلى الإله في تلك الهيئة التي خلقهم عليها، من أن يكونوا في التنكر الذي اخترعه الإنسان. من الممكن أن يكونوا أظهروا كل شيء بدافع من التقوى. هناك القليل جدا من الأشخاص الأسوياء من كلا الجنسين الذين ربما ألهمهم العري بالزهد أو حتى التقزز بدلا من أن يزيد الرغبة.
يقال خصوصا إن الأبيليين نبذوا الزواج. إن كان هناك فتيان لطفاء وفتيات جميلات بينهم، فقد كانوا، على الأقل، يشبهون القديس أدهيلمي والمبارك روبرت دابريسيل اللذين ناما مع أجمل الأشخاص، في أن ذلك لم يزدهم إلا عفة.
لكني أقر بأنه ربما كان مضحكا للغاية أن ترى مائة هيلين وباريس يتغنون بأناشيد دينية ويمنح كل منهم الآخر قبلة السلام، ويتمون الأغابي.
كل ذلك يبين أنه ما من غرابة ولا تطرف ولا خرافة لم تخطر على بال البشر. ما أسعد اليوم الذي لا تفسد فيه تلك الخرافات المجتمع وتصنع منه مسرحا للفوضى والكراهية والغضب! أفضل، ولا شك، أن نصلي لله عراة بالكامل من أن نلطخ معابده والأماكن العامة بالدم البشري.
القانون الطبيعي
ب :
ما القانون الطبيعي؟
أ :
الغريزة التي تجعلنا نشعر بالعدالة.
ب :
ما الذي تسميه عادلا وغير عادل؟
أ :
ما يبدو هكذا للكون بأسره.
ب :
الكون مؤلف من رءوس كثيرة. يقولون إن السرقات كانت تقابل بالثناء في مملكة لاسيديمون، بينما كان يحكم على مرتكبيها في أثينا بالعمل في المناجم.
أ :
إساءة استخدام للكلمات، جدل لفظي، تورية. لم يكن من الممكن ارتكاب السرقة في إسبرطة بينما كان كل شيء مشاعا. ما تطلق عليه «سرقة» كان عقابا على الجشع.
ب :
كان محظورا في روما أن يتزوج المرء شقيقته. وكان ذلك جائزا بين المصريين والأثينيين وحتى اليهود، أن يتزوج المرء أخته من ناحية الأب. أستشهد مع الأسف بذلك الشعب اليهودي القليل البائس الذي لا يجب اتخاذه قاعدة لأي أحد بالتأكيد، والذي - بعيدا عن الدين - لم يكن سوى جنس من الجهلاء وقطاع الطرق المتعصبين. لكن، مع ذلك، طبقا لكتبهم، مذكور أن ثامار الشابة، قبل أن تغتصب من أخيها أمنون، تقول له: «لا، يا أخي ... لا تعمل هذه القباحة ... والآن كلم الملك؛ لأنه لا يمنعني منك.» (سفر صموئيل الثاني، الإصحاح 13: 12، 13).
أ :
القانون العرفي كله، والعادات الاعتباطية، والصيحات العابرة؛ يبقى ما هو أساسي دائما. أرني بلدا واحدا كان يبجل فيه سلب ثمرة جهدي، وخلف الوعد، والكذب من أجل الإيذاء، والافتراء، والاغتيال، والتسميم، وجحود المحسنين، وضرب الأب والأم وهما يقدمان لك الطعام.
ب :
هل نسيت أن جان-جاك، أحد آباء الكنيسة الحديثة، قال إن «أول شخص جرؤ على أن يسيج قطعة أرض ويزرعها» كان عدوا «للجنس البشري»، وكان يجب أن يعدم، وأن «ثمار الأرض للجميع، وأن الأرض ليست ملكا لأحد»؟ ألم نفحص بالفعل هذا الطرح المحبب المفيد جدا للمجتمع (الجدل حول المساواة - الجزء الثاني)؟
أ :
من هذا الجان-جاك؟ قطعا ليس يوحنا المعمدان، ولا يوحنا الإنجيلي، ولا يعقوب الكبير ولا الصغير.
1
لا بد أنهم بعض الهونيين الظرفاء الذين كتبوا تلك السفاهات المقيتة، أو أنهم بعض الضفادع العجفاء المهرجين البائسين الذين أرادوا أن يسخروا من كل ما يعتبره العالم بأسره غاية الجد؛ لأنه كان عليه، بدلا من أن يذهب ليتلف أرض جاره الحكيم الكادح، أن يحاكيه وحسب. ولو اقتدى كل رب أسرة بهذا النموذج لرأينا قرية جميلة جدا تشكلت. يبدو لي مؤلف هذا النص حيوانا غير اجتماعي للغاية.
ب :
تعتقد، إذا، أنه بالانتهاك والسلب كان الرجل الطيب الذي أحاط حديقته وحظيرة دجاجه بسياج من النباتات يسلك باحترام نحو مقتضيات القانون الطبيعي؟
أ :
نعم، نعم، مرة أخرى، هناك قانون طبيعي، وهو لا ينص على إلحاق الأذى بالآخرين ولا على الابتهاج بذلك.
ب :
أعتقد أن الإنسان يحب أن يلحق الأذى بالآخرين لمصلحته فقط، لكن كثيرين من الناس مدفوعون للبحث عن مصالحهم الخاصة عبر مصائب الآخرين؛ فالانتقام عاطفة عنيفة للغاية، وهناك أمثلة كارثية لذلك. والطموح، وهو أكثر خطرا، أغرق العالم بالكثير من الدماء لدرجة أني حين أعيد تلك الصورة المرعبة أمام عيني أجد ما يدفعني لأقر بأن الإنسان شرير للغاية. عبثا حملت بقلبي فكرة العدالة والظلم؛ فأتيلا الذي نال حظوة سان ليو، وفوقاس الذي تملقه سان جريجوري بأقصى درجات الخسة جبنا، والإسكندر السادس الذي لطخ نفسه بكثير من جرائم سفاح المحارم، والقتل، والتسميم، والذي عقد معه لويس الثاني عشر المدعو «الطيب» أكثر الأحلاف معرة ووثوقا؛ وكرومويل الذي ينشد الكاردينال مازارين حمايته، والذي من أجله طرد من فرنسا ورثة تشارلز الأول وأبناء عمومة لويس الرابع عشر ... إلخ، إلخ. والمئات من أمثال هؤلاء يجعلون أفكاري تتشتت، ولا أعرف بعد أين أنا.
أ :
حسنا، هل تستطيع العواصف أن توقف متعتنا بشمس اليوم الجميلة؟ هل استطاع الزلزال الذي دمر نصف مدينة لشبونة أن يمنعك من أن تسافر بحرا إلى مدريد بسهولة كبيرة؟ إن كان أتيلا قاطع طريق، والكاردينال مازارين وغدا، أما من أمراء ووزراء مخلصون ؟ ألم يلحظ أحد من قبل أنه في حرب عام 1701م كان مجلس لويس الرابع عشر مكونا من أفضل الرجال؟ من أمثلة هؤلاء الرجال دوق بيفيليرز، ومركيز تورسي، ومارشال فيلار، وأخيرا شاميار الذي رحل لعجزه لا لنقص أمانته. ألم تكن فكرة العدالة موجودة دائما؟ على هذه الفكرة تؤسس القوانين كافة. أطلق اليونانيون على هذه القوانين: «بنات السماء»، التي لا تعني سوى بنات الطبيعة. أما من قوانين في بلدك؟
ب :
نعم، بعضها جيد والآخر سيئ.
أ :
من أين - إن لم تكن في القانون الطبيعي - خرجت بالفكرة التي تدور بخلد كل امرئ صحيح العقل؟ إما أنك حصلت عليها من هناك، أو لم تحصل عليها من أي مكان آخر.
ب :
أنت على حق، هناك قانون طبيعي، ولكن مع ذلك الأكثر طبيعية أن ينساه كثير من الناس.
أ :
طبيعي أيضا أن تكون أعور، أحدب، كسيحا، مشوها، عليلا. لكن المرء يفضل الأسوياء الأصحاء.
ب :
لماذا هناك كثيرون من ذوي العين الواحدة والعقول المشوهة؟
أ :
الزم الصمت! واذهب إلى مقالة «القوة».
هوامش
الطبيعة
حوار بين الفيلسوف والطبيعة
الفيلسوف :
من أنت أيتها الطبيعة؟ أعيش فيك، ظللت أبحث عنك خمسين عاما، ولم أجدك بعد.
الطبيعة :
وجه إلي قدماء المصريين، الذين يقال إنهم عاشوا ما يقرب من ألف ومائتي عام، اللوم نفسه؛ سموني إيزيس، ووضعوا غطاء عظيما على رأسي، وقالوا إنه لا يمكن لأحد أن يرفعه.
الفيلسوف :
هذا ما يجعلني أتوجه إليك بحديثي، كنت قادرا على قياس بعض من عوالمك، ومعرفة طرقها، وتحديد قوانين الحركة، لكني لم أكن قادرا على معرفة من أنت.
هل أنت نشطة دوما؟ هل أنت سلبية دائما؟ هل رتبت عناصرك نفسها كما يطفو الماء على الرمل، والزيت على الماء، والهواء على الزيت. ألديك عقل يوجه كل عملياتك مثلما يحل الإلهام بالمجالس حالما تجتمع ، وإن كان أعضاؤها جهلاء أحيانا؟ أتوسل إليك أن تخبريني بحل لغزك.
الطبيعة :
أنا كل شيء عظيم، ولا أعرف المزيد عن ذلك، لست عالمة رياضيات، وكل شيء مرتب في عالمي طبقا للقوانين الرياضية، خمن لو استطعت كيف حدث كل هذا؟
الفيلسوف :
بالتأكيد، طالما أن كلك العظيم لا يعرف الرياضيات، وطالما أن كل قوانينك تتأسس على علم الهندسة بالقدر الأعظم، فلا بد من وجود عالم هندسة خالد يوجهك، ذكاء خارق يشرف على عملياتك.
الطبيعة :
أنت محق؛ أنا الماء والأرض والنار والغلاف الجوي، والمعدن، والفلز، والحجر، والنبات، والحيوان. أشعر بالفعل أن بي ذكاء، لديك ذكاء ولكنك لا تراه، لا أستطيع أنا أيضا رؤية ذكائي. أشعر بهذه القوة الخفية، ولا أستطيع أن أعرفها. لماذا ينبغي أن تريد أنت يا من لست سوى جزء مني أن تعرف ما لا أعرفه؟
الفيلسوف :
نحن فضوليون، أريد أن أعرف كيف تبدين مجدة في حيواناتك ونباتاتك وأنت شديدة البلادة في جبالك وصحاريك وبحارك؟
الطبيعة :
هل تريدني أن أخبرك الحقيقة يا طفلي المسكين؟ لقد منحوني اسما لا يناسبني على الإطلاق، اسمي «الطبيعة»، لكني لست سوى فن.
الفيلسوف :
هذه الكلمة تقلب كل أفكاري، ماذا؟! الطبيعة ليست سوى فن؟
الطبيعة :
نعم بلا شك، ألا تعلم أنه ثمة فن أبدي في تلك البحار والجبال التي تراها شديدة البلادة؟ ألا تعلم أن كل تلك المياه تنجذب نحو مركز الأرض وترتفع فقط طبقا لقوانين غير قابلة للتغيير، وأن تلك الجبال التي تتوج الأرض هي خزانات هائلة للثلوج الأبدية التي تنتج استمرار تلك الينابيع والبحيرات والأنهار، التي من دونها تهلك كافة أنواعي الحيوانية وأنواعي النباتية؟ وأما عما يسمى مملكتي الحيوانية، ومملكتي النباتية، ومملكتي المعدنية، فأنت هنا ترى ثلاثا فقط؛ فلتعلم أن لدي ملايين الممالك. لكنك لو تتأمل فقط تكوين حشرة، أو كوز ذرة، أو الذهب أو النحاس، فسيبدو كل شيء من عجائب الفن.
الفيلسوف :
صحيح، كلما أفكر في الأمر أجد أنك لست سوى فن كائن عظيم لا أعرفه هو الأكثر اقتدارا ودأبا، يخفي نفسه ويجعلك تظهرين . كل المفكرين منذ طاليس، وربما قبله بوقت طويل، لعبوا معك لعبة الاستخفاء. قالوا: «أنت لي» ولم يكن لديهم شيء. كلنا نشبه أكسيون الذي اعتقد أنه يقبل جونو، وكان كل ما في حوزته سحابة.
الطبيعة :
طالما أني كل ذلك، فكيف يمكن لكائن هو مثلك جزء ضئيل للغاية مني أن يأسرني؟ اقنعوا، أيتها الذرات أطفالي، برؤية بضع ذرات تحيط بكم، بشرب بضع قطرات من لبني، بالتغذي على ثديي لحظات قليلة، وبالموت دون معرفة أمك ومربيتك.
الفيلسوف :
أمي العزيزة، أخبريني شيئا عن سبب وجودك، عن سبب وجود أي شيء؟
الطبيعة :
سأجيبك كما قد أجبت لقرون كثيرة جدا كل من استجوبوني عن المبادئ الأولى: «لا أعرف شيئا عنها.»
الفيلسوف :
ألا يكون العدم أفضل من كثرة الموجودات التي خلقت كي تتلاشى باستمرار؟ هذه الكثرة من الحيوانات التي تولد وتتكاثر من أجل أن تفترس غيرها وتفترس، هذه الكثرة من الكائنات الحساسة التي خلقت لكثير جدا من الأحاسيس الموجعة، وتلك الكثرة الأخرى من العقول التي نادرا ما تستمع للعقل، أي خير في كل ذلك أيتها الطبيعة؟
الطبيعة :
آه، اذهب واسأل من جبلني.
ضروري
عثمان :
ألا تقول إن كل شيء ضروري؟
سليم :
إن لم يكن كل شيء ضروريا سيترتب على ذلك أن الله صنع أشياء غير مفيدة.
عثمان :
هذا يعني أنه كان ضروريا للطبيعة المقدسة أن تصنع كل ما قد صنعته؟
سليم :
أعتقد ذلك، أو على الأقل أظن ذلك. هناك أناس يعتقدون غير ذلك، لا أفهمهم. ربما هم على حق، لكني أخشى الجدالات بشأن ذلك الموضوع.
عثمان :
هناك ضرورة أخرى تجعلني أريد التحدث معك.
سليم :
ماذا؟! من أي وجه يكون ضروريا لرجل أمين أن يعيش؟ أمن البلية التي سينحدر إليها المرء حينما يفتقر للضروري؟
عثمان :
لا، لأن ما هو ضروري لشخص ما ليس ضروريا لشخص آخر. ضروري لهندي أن يكون لديه أرز، ولإنجليزي أن يكون لديه لحم. والفرو ضروري لامرئ روسي، والقماش الخفيف لأفريقي. هذا الرجل يعتقد أن دستة من الجياد التي تجر العربات ضرورية له، وذلك الرجل يكتفي بزوج من الأحذية، وثالث يسير حافيا بمرح. أود أن أحدثك عما هو ضروري للبشر كافة.
سليم :
يبدو لي أن الله قد منح كل ما هو ضروري لهذا الجنس؛ عينين للرؤية، وقدمين للسير، وفما للأكل، ومريئا للبلع، ومعدة للهضم، ودماغا للتفكير، وأعضاء لإنجاب خلق من نوعه.
عثمان :
كيف يتأتى إذا أن يولد أناس من دون أحد تلك الأعضاء الضرورية؟
سليم :
هذا بسبب أن القوانين العامة للطبيعة تسببت في بعض الحوادث التي أدت لولادة مسوخ، ولكن، عموما، الإنسان مزود بكل شيء ضروري له كي يعيش في المجتمع.
عثمان :
هل هناك أفكار شائعة بين البشر تساعد على جعلهم يعيشون في مجتمع؟
سليم :
نعم؛ سافرت مع بول لوكاس، وأينما ذهبت رأيت أن الناس يحترمون آباءهم وأمهاتهم، وأن الناس يعتقدون بأنهم ملزمون باحترام وعودهم، وأنهم يشفقون على الأبرياء المقهورين، ويكرهون الاضطهاد، ويعتبرون أن حرية الفكر قاعدة من قواعد الطبيعة، وأن أعداء هذه الحرية هم أعداء للجنس البشري. أولئك الذين يفكرون بشكل مختلف يبدون لي مخلوقات سيئة التنظيم، مسوخا مثل أولئك الذين ولدوا بلا أعين أو أيد.
عثمان :
هل هذه أشياء ضرورية في كل الأزمنة والأمكنة؟
سليم :
نعم، لو لم تكن لما كانت ضرورية للجنس البشري.
عثمان :
ذلك يعني أن اعتقادا جديدا ليس ضروريا لهذا الجنس، يستطيع البشر أن يعيشوا جيدا في المجتمع، وأن يؤدوا واجبهم نحو الله، قبل أن يؤمنوا بأن محمدا التقى الملاك جبريل مرارا.
سليم :
لا شيء أوضح من ذلك، فسيكون الأمر سخيفا أن نعتقد أن الإنسان لم يكن يستطيع أن يؤدي واجبه نحو الله قبل أن يأتي محمد إلى العالم. لم يكن ضروريا على الإطلاق للجنس البشري أن يؤمن بالقرآن؛ فالعالم كان يسير قبل محمد بمدة طويلة، كما يسير اليوم تماما. لو كانت المحمدية ضرورية لهذا العالم لوجدت في كل الأماكن. الله الذي أعطانا جميعا عينين لنرى الشمس، من شأنه أن يمنحنا جميعا الذكاء لنرى حقيقة الدين الإسلامي. إنما تشبه هذه الطائفة إذا القوانين الإيجابية التي تتغير طبقا للمكان والزمان، كالأزياء ، كآراء الفلاسفة الطبيعيين التي يتبع أحدها الآخر.
يتعذر أن تكون الطائفة المسلمة ضرورية جوهريا للجنس البشري.
عثمان :
لكن بما أنها توجد، فالله سمح لها؟
سليم :
نعم، كما يسمح للعالم بأن يمتلئ بالحماقة والخطأ والكارثة ، وهذا لا يعني القول بأن البشر قد خلقوا جميعا ليكونوا حمقى ومجرمين. هو يسمح بأن يؤكل بعض الناس من قبل الثعابين، لكن لا يمكن للمرء أن يقول إن الله خلق الإنسان لتأكله الثعابين.
عثمان :
ماذا تعني حينما تقول إن «الله يسمح»؟ هل يمكن لشيء أن يحدث دون أمره؟ يسمح، ويشاء، ويفعل، أليست الشيء نفسه بالنسبة إليه؟
سليم :
هو يسمح بالجريمة، ولكنه لا يرتكبها.
عثمان :
ارتكاب جريمة هو تصرف ضد العدل الإلهي، هو عصيان الله. حسنا، لا يمكن لله أن يعصي نفسه؛ فهو لا يمكنه أن يرتكب جريمة، ولكنه خلق الإنسان بطريقة قد تسمح له بارتكاب كثير من الجرائم، أنى ذلك؟
سليم :
هناك أناس يعرفون، لكني لا أعرف، كل ما أعرفه هو أن القرآن سخيف، وإن كان من المحتمل أحيانا أن تكون به أشياء جيدة. لم يكن القرآن قطعا ضروريا للبشر. أتمسك بذلك: أرى بوضوح ما هو زائف، وأعرف قليلا جدا ما هو حقيقي.
عثمان :
ظننت أنك سوف توجهني، ولكنك لا تعلمني شيئا.
سليم :
أليس أمرا عظيما أن تعرف الناس الذين يخدعونك، والأخطاء الجسيمة والخطيرة التي يروجونها لك؟
عثمان :
علي أن أشكو الطبيب الذي أراني كل الأعشاب الضارة، ولم يرني عشبا واحدا مفيدا.
سليم :
لست طبيبا، ولست مريضا، لكن يبدو لي أني سأعطيك وصفة جيدة جدا إن قلت لك: «لا تضع ثقتك في كل اختلاقات الدجالين، واعبد الله، وكن رجلا أمينا، وآمن أن اثنين واثنين تساوي أربعة.»
المستجدات الجديدة
يبدو أن أولى كلمات قصيدة «االتحولات» لأوفيد «يلزمني عقلي بالتحدث عن الأشكال التي تحولت إلى أجسام جديدة» هي شعار الجنس البشري. لا أحد يسحره المشهد المحبب للشمس وهي تشرق، أو بالأحرى يبدو أنها تشرق كل يوم. يهرع الجميع ليروا أصغر النيازك التي تظهر لوهلة في هذا التراكم من الأبخرة، الذي يدعى السماء، الذي يحيط بالأرض.
لا يثقل بائع كتب جائل على نفسه بكتاب لفرجيل ولا لهوراس، ولكن بكتاب جديد، حتى إن كان كريها. ينتحي بك جانبا، قائلا: «سيدي، أتريد بعض الكتب من هولندا؟»
منذ بداية العالم والنساء يشكين من التقلب المنسوبة إليهن وميلهن إلى ما هو جديد، والذي تكون جدته هي ميزته الوحيدة غالبا. كثير من السيدات - يجب الاعتراف بذلك على الرغم من الاحترام اللانهائي الذي نكنه لهن - عاملن الرجال بالطريقة التي يشكون هن أنفسهن من أنهن عوملن بها، وقصة جيوكوندا أقدم كثيرا من قصة أريوستو.
ربما يكون هذا التذوق الكوني للجدة هو إحدى منن الطبيعة. يصرخ الناس فينا: «اقنعوا بما لديكم ولا تشتهوا شيئا خارج ملككم، واكبحوا فضولكم، وروضوا قلقكم الفكري.» هذه حكم جيدة للغاية، ولكن لو كنا اتبعناها دائما لبقينا نتناول جوز البلوط، وننام في العراء، ولما كان لدينا كورنيل وراسين وموليير وبوسان ولبرون ولموان وبيجال.
الفيلسوف
الفيلسوف هو محب الحكمة، أو بتعبير آخر: محب الحقيقة. لدى كل الفلاسفة تلك الشخصية المزدوجة: ما من أحد في العصور القديمة لم يمنح البشرية أمثلة عن الفضيلة ودروسا عن الحقائق الأخلاقية. وجميعهم دبروا أن ينخدعوا بشأن الفلسفة الطبيعية، ولكن الفلسفة الطبيعية ضئيلة الأهمية لإدارة الحياة، لدرجة أن الفلاسفة لم تكن بهم حاجة إليها. استغرق المرء قرونا ليتعلم جزءا من قوانين الطبيعة. وكان يوم واحد كافيا لرجل حكيم ليتعلم واجبات الإنسان.
الفيلسوف ليس متحمسا؛ فهو لا يحسب نفسه نبيا، ولا يقول إنه ملهم من الآلهة؛ لذلك لن أضع بين مصاف الفلاسفة زرادشت القديم أو هرمس أو أورفيوس القديم أو أيا من المشرعين الذين تباهت بهم أمم كلدو وفارس وسوريا ومصر واليونان. أولئك الذين لقبوا أنفسهم بأنهم أبناء الآلهة كانوا آباء الدجل، وإن كانوا استخدموا الكذب من أجل تعليم الحقائق؛ فهم لم يكونوا جديرين بتعليمها. لم يكونوا فلاسفة، ولكنهم كانوا في أفضل الأحوال كذابين حصيفين جدا.
لماذا يتحتم علينا، وربما يكون هذا مخجلا للشعوب الغربية، الذهاب إلى الشرق الأقصى لنجد رجلا حكيما، بسيطا، غير متفاخر، خاليا من الدجل، علم الناس أن يعيشوا بسعادة قبل عصرنا الهمجي بستمائة عام، في وقت كان فيه الشمال بأكمله يجهل استخدام الحروف، وبينما كان اليونانيون يكادون يشرعون في تمييز أنفسهم بحكمتهم؟
هذا الحكيم هو كونفوشيوس، الذي لكونه مشرعا لم يرد أبدا أن يخدع الناس. أي قاعدة للسلوك أكثر جمالا منحت منذ زمنه في العالم كله؟
احكم دولة كما تحكم أسرة؛ فالمرء يمكنه فقط أن يحكم أسرته جيدا بأن يكون المثل.
ينبغي أن تكون الفضيلة عامة لكل من الفلاح والملك.
خذوا على عاتقكم منع الجرائم لتخففوا عن عاتقكم المعاقبة عليها.
تحت حكم الملكين الصالحين يو وشو كان الصينيون بحالة طيبة، وتحت حكم الملكين السيئين كيي وشي كانوا أشرارا.
افعل بالآخرين كما تفعل بنفسك.
أحبب كل الناس؛ لكن ائلف الناس المخلصين. انس الإساءات، وإياك أن تنسى الأفضال.
رأيت أناسا عاجزين عن الدراسة، ولم أر أبدا أنهم عاجزون عن فعل الفضيلة.
لنعترف أنه ما من مشرع قد أعلن حقائق أكثر نفعا للجنس البشري.
قامت مجموعة كبيرة من الفلاسفة الإغريق منذئذ بتعليم فلسفة أخلاقية خالصة بالقدر نفسه. لو أنهم اقتصروا على نظرياتهم الفارغة للفلسفة الطبيعية، لكانت أسماؤهم مقترنة اليوم بالسخرية فقط. وإذا كانوا لا يزالون محترمين، فهذا لأنهم كانوا عادلين، وعلموا الناس أن يكونوا كذلك.
لا يمكن للمرء أن يقرأ نصوصا معينة من أعمال أفلاطون، وكذلك على نحو ملحوظ الافتتاحية المثيرة للإعجاب لقوانين زاليكوس، من دون أن يشعر في قلبه بحب الأفعال المشرفة الكريمة. لدى الرومان شيشرون، الذي ربما يساوي وحده كل فلاسفة اليونان، ومن بعده أتي أناس أكثر جدارة بالاحترام بعد، ولكن ييأس المرء تقريبا من محاكاتهم: إبيكتيتوس في موضوع العبودية، والأنطونيون والجوليانيون فيما يخص العروش.
أي مواطن منا كان بإمكانه أن يحرم نفسه مثل جوليان وأنتونينوس وماركوس أورليوس من كل مظاهر الترف بحياتنا الرخوة المخنثة؟ من كان بإمكانه أن ينام على الأرض مثلما فعلوا؟ من كان يمكن أن يفرض على نفسه الاقتصاد في الإنفاق مثلما فعلوا؟ من كان بإمكانه أن يمشي حافي القدمين حاسر الرأس في مقدمة الجيوش معرضا تارة لحرارة الشمس وتارة للصقيع؟ من كان بإمكانه أن يتحكم في عواطفه مثلما فعلوا؟ بيننا رجال أتقياء، ولكن أين الحكماء؟ أين الأنفس الحازمة العادلة المتسامحة؟
طالما كان في فرنسا فلاسفة بحكم الدراسة، وجميعهم اضطهدوا باستثناء مونتين. وفي اعتقادي إن أقصى درجات الشر في طبيعتنا هي أن ترغب في اضطهاد أولئك الفلاسفة الحقيقيين الذين أرادوا إصلاحها.
أفهم تماما أن يذبح متعصبو طائفة ما متحمسي طائفة أخرى، أن يكره الفرنسيسكان الدومينيكان، وأن يدبر فنان سيئ المكائد ليدمر فنانا يتفوق عليه، ولكن أن يهدد شارون الحكيم بفقد حياته، وأن يغتال المثقف الكريم راموس، وأن يجبر ديكارت على الفرار إلى هولندا ليهرب من غضب الجهلاء، وأن يجبر جاسندي على الانسحاب مرارا إلى ديني بعيدا عن افتراءات باريس؛ فكل ذلك يلحق العار الأبدي بالأمة.
القوة، القدرة الكلية
أفترض أن من يقرأ تلك المقالة مقتنع بأن هذا العالم شكل بذكاء، وأن قليلا من الفلك والتشريح يكفي لإثارة الإعجاب بهذا الذكاء الكوني الفائق.
هل يمكن أن يعرف بنفسه إن كان ذلك الذكاء كلي القدرة، أي قويا بلا حد؟ هل لديه أدنى فكرة عن اللانهائي حتى يفهم ما القوة اللانهائية؟
يقول الفيلسوف المؤرخ الشهير ديفيد هيوم في: «العناية الإلهية الخاصة»: إن ثقل عشر أوقيات يرفع في الميزان بفعل ثقل آخر؛ لذا فإن ذلك الثقل الآخر أكبر من عشر أوقيات، ولكن لا أحد يستطيع أن يستخلص سببا لماذا يجب أن يزن مائة أوقية؟»
بطريقة مماثلة يمكن للمرء أن يقول: يمكنك التعرف على ذكاء فائق، قوي بدرجة تكفي أن يشكلك ويحفظك لمدة محدودة ويكافئك ويعاقبك. لكن هل تعرف ما يكفي عن هذه القوة لتبرهن أنها يمكنها أن تفعل المزيد بعد؟
كيف يمكنك أن تثبت بفكرك أن هذا الكائن الأعظم يمكنه أن يفعل أكثر مما فعله؟
حياة الحيوانات كافة قصيرة. هل كان يستطيع أن يجعلها أطول؟
كل الحيوانات فريسة بعضها لبعض، وكل شيء مولود كي يفترس. هل كان بإمكانه أن يخلق ولا يهلك؟
أنت لا تعلم ما الطبيعة؛ لذا لا يمكنك أن تعرف ما إن كانت الطبيعة لم تجبره على أن يفعل الأشياء التي فعلها.
هذا العالم ميدان واسع فقط للتدمير والذبح. إما أن الكائن الأعظم كان قادرا على أن يجعل من هذا الكون مسكنا أبديا للسعادة لكل المخلوقات الحساسة، وإما أنه لم يكن قادرا. إن كان قادرا ولم يفعل ذلك فأخشى أني ربما أعتبره خبيثا. لكن إن لم يكن قادرا، فلن أخشى من النظر إليه على أنه قوة عظيمة جدا طوقتها الطبيعة في حدودها.
سواء أكانت قوته متناهية أم لا فهذا لا يعنيك؛ إنها مسألة لا فرق فيها للرعية بين أن يكون لسيده خمسمائة فرسخ من الأراضي أم خمسة آلاف، فلن يزيده هذا ولن ينقصه ذلك خضوعا.
أي شيء أكبر إساءة لذلك الكائن الأعظم الذي لا يوصف: أن نقول إنه «خلق بشرا بؤساء دون أن يكون قادرا على الاستغناء عنهم، أم إنه خلقهم لأجل مسرته؟»
كثير من الطوائف تصوره على أنه قاس؛ وآخرون؛ خشية أن يعترفوا بأنه إله شرير، تجرءوا على إنكار وجوده. أليس أفضل أن نقول إنه ربما أن ضرورة طبيعته وضرورة الأشياء حتمتا كل شيء؟
العالم مسرح للمرض المعنوي والمادي، والإنسان واع بذلك مع الأسف، وعبارة «كل شيء خير» لشافتسبري وبولينجبروك والبابا ليست سوى تناقض فكاهي، نكتة رديئة.
أما مبدآ زرادشت وماني - اللذين درسهما بايل بعناية - فهما نكتة أسخف؛ فهما، كما لوحظ بالفعل، يشبهان طبيبي موليير؛ يقول أحدهما للآخر: «امنحني ما يثير غثياني، وسأمنحك ما يجعلك تنزف.» المانوية سخيفة؛ ولذلك كان لها مؤيدون كثيرون جدا.
أعترف أني لم أستنر بكل ما قاله بايل بشأن المانوية والبولسيانية؛ هذه مسألة خلافية، وكنت سأفضل فلسفة محضة. لماذا نناقش أسرارنا جنبا إلى جنب مع أسرار زرادشت؟ حالما تجرؤ على التفكر في أسرارنا التي لا تحتاج إلا إلى الإيمان، لا التعقل، تفتح على نفسك أبواب الهاوية.
ما من علاقة بين تفاهات لاهوتنا المدرسي وتفاهات التأملات الزرداشتية.
لماذا نناقش الخطيئة الأصلية مع ما تحدث عنه زرادشت؟ لم تكن هناك قط تساؤلات بشأنها إلا في زمن القديس أوغسطين، لم يسمع بها زرادشت ولا أي مشرع آخر في العصور القديمة.
إن كنت ستتجادل مع زرادشت فلنضع كل الأقفال على العهدين القديم والجديد اللذين لم يعرفهما، ويجب على المرء أن يقدسهما دون أن يرغب في تفسيرهما.
ما الذي كان ينبغي أن أقوله لزرادشت؟ لا يمكن لعقلي أن يعترف بإلهين يتصارعان؛ فهذا يصلح فقط لقصيدة تتعارك فيها مينرفا مع مارس. إن عقلي الضعيف أكثر قنوعا ورضا بكائن عظيم واحد، كان من شأن جوهره أن يصنع - وصنع - كل ما سمحت به الطبيعة له، من قنوعه ورضاه بكائنين عظيمين أحدهما يفسد أعمال الآخر. إن مبدأ الشر أهرمان لديك لم يكن قادرا على خرق قانون واحد من القوانين الفلكية والفيزيائية لمبدأ الخير أورموزد، وكل شيء يتقدم في السماء بأقصى درجة ممكنة من النظام. لماذا كان ضروريا أن تكون لدى أهرمان الشرير السيطرة على ذلك الكوكب الضئيل من العالم؟
لو كنت أنا أهرمان، لهاجمت أورموزد في عقر داره ذي الشموس والنجوم الكثر. لم أكن لأكتفي بشن الحرب عليه في قرية صغيرة.
هناك الكثير من الشر في هذه القرية، ولكن من أين عرفت أن ذلك الشر ليس حتميا؟
أنت مجبر على الاعتراف بذكاء منشور على الكون، ولكن: (1)
هل تعرف، مثلا، إن كانت تلك القوة تملك التنبؤ بالمستقبل؟ ادعيت هذا ألف مرة، ولكنك لم تكن قادرا قط على إثباته أو فهمه. لا يمكنك أن تعلم كيف يمكن لأي كائن مهما يكن أن يرى ما ليس كائنا. حسنا، المستقبل ليس كائنا؛ ولذا لا يستطيع أي كائن أن يراه. نزلت إلى القول إنه يتنبأ به؛ ولكن التنبؤ مجرد حدس. هذا هو رأي طائفة السوسينيوسيين.
حسنا، إن الإله الذي يحدس - كما تقول - ربما يخطئ. في نظريتك هو بالتأكيد مخطئ؛ لأنه لو كان تنبأ بأن عدوه سيفسد كل أعماله الدنيوية لما كان أوجدها، ولم يكن ليهيئ نفسه لخزي الانهزام باستمرار. (2)
ألا أسدي إليه تكريما أكبر بكثير بقولي إنه صنع كل شيء طبقا لضرورة طبيعته مما تفعل أنت له بالإعلاء من قدر عدو يشوه جميع أعماله في هذا العالم ويلوثها ويحطمها؟ (3)
ليس معنى أن تكون لديك فكرة غير قيمة عن الله أن تقول إنه بعد أن شكل آلاف الملايين من العوالم التي لا يسكنها الموت والشر، كان من الضروري أن يقطن الشر والموت في هذا العالم. (4)
ليس ازدراء لله أن تقول إنه لم يستطع أن يخلق الإنسان دون أن يمنحه احترام الذات؛ لأن هذا الاحترام للذات لم يستطع أن يقوده دون أن يضلله دائما تقريبا؛ وأن عواطفه ضرورية، ولكنها كارثية؛ وأن التكاثر لا يمكن أن يحدث دون رغبة؛ وأن الرغبة لا يمكن أن تحفز الإنسان دون مشاجرات؛ وأن تلك المشاجرات تجلب الحروب بالضرورة في طريقها ... إلخ. (5)
حينما يرى جزءا من توليفات ممالك الحيوان والنبات المعادن، وهذا الكون مخرما في كل مكان كالغربال، تهرب منه نفثات كثيرة للغاية في مجموعات كبيرة، فأي الفلاسفة ستكون لديه الجرأة الكافية، وأي الأساتذة سيكون أحمق بما يكفي ليرى بوضوح أن الطبيعة كان بإمكانها منع تأثيرات البراكين، وشدائد الغلاف الجوي، وعنف الرياح، والأوبئة، وكل الكوارث المدمرة؟ (6)
لا بد أن يكون المرء مقتدرا جدا، وقويا جدا، ومجتهدا جدا حتى يكون قد خلق أسودا يمكنها التهام الثيران، وخلق بشرا يمكنهم أن يخترعوا أسلحة تقتل بضربة واحدة، ليس فقط الثيران والأسود، لكن أيضا بعضهم بأيدي بعض. على المرء أن يكون قويا جدا كي يكون قد تتسبب في وجود العناكب، التي تغزل شباكا لتصطاد الذباب؛ ولكن هذا لا يشكل القدرة الكلية أو القوة اللانهائية. (7)
لو كان الكائن الأعظم لا نهائي القدرة فما من سبب يفسر لماذا لم يكن ينبغي أن يجعل كل الحيوانات الحساسة لا نهائية السعادة. لم يفعل ذلك؛ ولذا لم يكن قادرا. (8)
لقد ضلت كل طوائف الفلاسفة أخلاقيا وماديا. لم يبق إلا الإقرار بأن الله تصرف على النحو الأفضل ولم يكن قادرا على التصرف بطريقة أفضل. (9)
هذه الضرورة تسوي كل الصعاب وتنهي كل المجادلات. ليست لدينا الجسارة لنقول: «كل شيء خير.» لكننا نقول: «كل شيء أقل ما يمكن سوءا.» (10)
لماذا يموت طفل في رحم أمه في أحيان كثيرة؟ لماذا يبقى آخر، كان من سوء حظه أن يولد، ويتعذب طوال عمره ، ويقضى عليه بموت مرعب؟
لماذا فسد مصدر الحياة في كل أرجاء العالم منذ اكتشاف أمريكا؟ ولماذا يقضي مرض الجدري على ثمن الجنس البشري منذ القرن السابع من عصرنا؟ ولماذا تكون المثانة طوال الوقت عرضة لتكوين الحصوات؟ ولماذا الطاعون والحرب والمجاعة والتفتيش؟ تلفت في كل اتجاه ولن تجد حلا آخر سوى أن كل شيء كان ضروريا.
أتحدث هنا إلى الفلاسفة فقط، لا إلى اللاهوتيين. نحن نعلم جيدا أن الإيمان هو الخيط في المتاهة. نعلم أن سقوط آدم وحواء، والخطيئة الأصلية، والقوة الهائلة الممنوحة للشيطان، والتفضيل الذي أنعم به الكائن الأعظم على الشعب اليهودي، والاستغناء بالمعمودية عن الختان، كل ذلك يشكل الإجابات التي تفسر كل شيء. لقد تجادلنا فقط ضد زرادشت لا ضد جامعة قلنبرية التي نخضع لها في مقالاتنا.
الصلوات
لا نعرف أي دين بلا صلوات، فحتى اليهود لديهم بعضها، رغم أنه لم يكن لديهم أي صيغة عامة حتى ذلك الوقت الذي كانوا يرتلون فيه مدائحهم في معابدهم، وهو ما حدث في فترة متأخرة جدا.
كان البشر كلهم، في رغباتهم ومخاوفهم، يطلبون مساعدة الإله. وبعض الفلاسفة الأكثر احتراما للكائن الأعلى، والأقل انحدارا إلى الضعف البشر، بصرف النظر عن الصلاة، لم يرغبوا إلا في التسليم. هو حقا ما يبدو أنه يليق بما بين الخلق والخالق. لكن الفلسفة لم توجد لكي تحكم العالم؛ إنها تعلو فوق العامة، وتتحدث بلغة لا يفهمها الجمهور، وكأنك تقترح على بائعات السمك أن يدرسن القطوع المخروطية.
لا أعتقد أن أحدا حتى بين الفلاسفة، باستثناء ماكسيموس الصوري، عالج هذا الأمر. وهذه خلاصة أفكار ماكسيموس:
منذ الأزل والأبدي لديه نواياه. إذا توافقت الصلاة مع رغباته الثابتة، فمن العبث أن نطلب منه ما قرر فعله. وإذا صلى أحد له لكي يفعل عكس ما قرره، فهذه صلاة له ليكون ضعيفا، عابثا، غير متسق مع ذاته. ويعني الإيمان بذلك السخرية منه. إما أن تطلب منه شيئا عادلا، وفي هذه الحالة لا بد من أن يفعله، وسيحدث الشيء من دون أن تصلي إليه من أجله، بل إن التضرع إليه يعني أنك لا تثق به؛ وإما أن يكون الشيء ظالما، وفي هذه الحالة أنت تسيء إليه. أنت جدير أو غير جدير بالنعمة التي تلتمسها. فإن كنت جديرا فهو يعلم ذلك أفضل منك، وإن كنت غير جدير فأنت ترتكب جرما أكبر بطلب ما لا تستحق.
بإيجاز، نحن نصلي لله فقط لأننا جعلناه - حسب تصورنا - نعامله وكأنه باشا، وكأنه سلطان يمكن للمرء أن يستفزه أو يسترضيه.
باختصار، كل الأمم تصلي لله، وكل الحكماء يسلمون أنفسهم له ويطيعونه.
فلنصل مع الناس، ونسلم أنفسنا مع الحكماء.
خلاصة الفلسفة القديمة
قضيت ما يقرب من أربعين عاما من حجي في ركنين أو ثلاثة من أركان المعمورة باحثا عن حجر الفلاسفة الذي يدعى الحقيقة. استشرت كل خبراء العالم القديم: إبيقور وأوغسطين، وأفلاطون ومالبرانش، وظللت في فقري. ربما يكون في آنية كل هؤلاء الفلاسفة أوقية أو اثنتان من الذهب، لكن البقية كلها راسب، طين جاف لا يمكن أن يولد منه شيء.
يبدو لي أن الإغريق، أساتذتنا، كتبوا ليستعرضوا ذكاءهم بقدر أكثر بكثير مما استخدموا ذكاءهم من أجل التعلم. لا أرى كاتبا واحدا من العصور القديمة كان لديه نسق متماسك، نسق واضح ومنهجي يتقدم من نتيجة لأخرى.
حينما أردت أن أقارن وأؤلف بين نظريات أفلاطون، معلم الإسكندر وفيثاغورس والشرقيين، هاكم تقريبا ما استطعت أن أجمعه:
الصدفة كلمة خالية من المعنى؛ فما من شيء يوجد بلا سبب، العالم مرتب طبقا لقوانين رياضية؛ لذلك فهو مرتب من قبل ذكاء.
ليس كائنا ذكيا مثلما أنا ذكي من أدار تكوين هذا العالم؛ لأنني لا أستطيع أن أخلق سوسة؛ لذا فإن هذا العالم هو عمل ذكاء فائق على نحو غير عادي.
هل يوجد بالضرورة هذا الكائن الذي يملك الذكاء والقوة بهذه الدرجة العالية؟ لا بد أن هذا صحيح؛ لأن الكائن إما أنه منح الوجود من غيره، أو من طبيعته هو. لو أن الكائن منح الوجود من غيره، وهو ما يصعب تخيله، فيجب أن ألجأ إلى ذلك الآخر، وسيكون ذلك الآخر هو المؤلف الأول. أينما توجهت علي أن أعترف بمؤلف أول قادر وذكي، وهو كذلك بالضرورة بحكم طبيعته.
هل خلق هذا المؤلف الأشياء من العدم؟ لا يمكن تخيل ذلك؛ فأن تخلق شيئا من العدم يعني أنك تحول لا شيء إلى شيء. لا يجدر بي أن أعترف بخلق كهذا إن لم أجد أسبابا لا تدحض تجبرني على الإقرار بما لا يستطيع ذكائي أن يدركه أبدا.
كل ما يوجد يبدو أنه يوجد بالضرورة، طالما أنه يوجد، فإن كان لدينا سبب اليوم لوجود الأشياء فقد كان هناك سبب بالأمس، وكان هناك سبب دوما، ولا بد أن هذا السبب كان له دائما أثره الذي لولاه لأصبح سببا بلا جدوى خلال الأبدية.
لكن كيف تكون الأشياء وجدت دوما وهي بجلاء تحت يد المؤلف الأول؟ لا بد أن تلك القوة إذا كانت تعمل على الدوام بطريقة أنه ما من شمس دون ضوء، نفسها تقريبا، وكذلك ما من حركة دون كائن ينتقل من نقطة داخل المكان إلى نقطة أخرى.
لذلك هناك كائن مقتدر وذكي، فعل دائما، ولو أن هذا الكائن لم يفعل أبدا، فبماذا يكون وجوده أفاده؟
كل الأشياء إذا تعد انبثاقات أبدية من ذلك المؤلف الأول.
لكن كيف يمكن أن نتخيل أن الحجر والطين هما انبثاقات من الكائن الأبدي القدير الذكي؟
أحد احتمالين، إما أن مادة هذا الحجر وهذا الطين توجد بنفسها بالضرورة، وإما أنها توجد بالضرورة عبر هذا الخالق الأول؛ ما من طريق ثالث.
ومن ثم، هناك اختياران فقط أمامنا، فإما أن نقر بأن المادة أبدية بذاتها، أو بأنها حادثة منذ الأزل من ذلك الكائن الأبدي الذكي القدير.
لكن، سواء أكانت موجودة بطبيعتها هي، أم منبثقة من الكائن المنتج، فهي موجودة منذ الأزل؛ لأنها توجد، وما من سبب يفسر لم لم يكن من الواجب وجودها من قبل.
إن كانت المادة ضرورية من الأزل، فمن المستحيل إذا والمتناقض إذا ألا تكون موجودة. لكن ما يستطيع الإنسان أن يؤكده أنه من المستحيل وأنه من المتناقض أن هذه الحصاة وتلك الذبابة ليس لهما وجود؟ المرء مجبر، على الرغم من ذلك، على أن يتغلب على هذه الصعوبة التي تدهش المخيلة أكثر مما تناقض مبادئ العقل.
في الحقيقة، حالما تتخيل أن كل شيء قد انبثق من الكائن الأعلى والذكي، وأن ما من شيء قد انبثق من الكائن بلا سبب، وأن هذا الكائن موجود طوال الوقت، وأنه لا بد وأنه ظل فاعلا طوال الوقت، وأنه من ثم كل الأشياء قد نبعت منذ الأزل من رحم وجوده، فلا يجب عليك أن ترفض أن تؤمن بالمادة التي شكلت منها تلك الحصاة والذبابة، وهما خلق منذ الأزل، أكثر مما ترفض أن تتخيل الضوء على أنه انبثاق أزلي من ذلك الكائن كلي القدرة.
طالما أنني كائن لي امتداد وفكر فامتدادي وفكري إذا هما إنتاجان ضروريان من هذا الكائن. واضح لي أني لا يمكنني أن أمنح نفسي أيا من الامتداد والفكر. تلقيتهما كليهما إذا من هذا الكائن الضروري.
هل يمكن أن يمنحني ما ليس لديه؟ لدي الذكاء وأعيش في مكان؛ لذلك فهو ذكي موجود في مكان.
لا يعني القول إن هذا الكائن الأبدي؛ هذا الإله الكلي القدرة، ملأ الكون طوال الوقت بالضرورة بمخلوقاته، حرمانه من حريته؛ لكن العكس؛ لأن الحرية ليست سوى القدرة على الفعل؛ فعل الله على الدوام بأقصى قدرته؛ ومن ثم استفاد دوما من كمال حريته.
ربما تكون الحرية التي يطلق عليها «حرية عدم الاكتراث» بلا فكرة، سخفا؛ لأنها ستكون تقريرا بلا تفكير؛ أثرا بلا سبب. لذلك فلا يمكن أن يكون لدى الله هذه الحرية المزعومة التي هي تناقض لفظي. لقد تصرف دوما، من ثم، من خلال هذه الضرورة ذاتها التي تشكل وجوده.
مستحيل إذا أن يكون العالم بلا إله، ومستحيل أن يكون الله بلا عالم.
هذا العالم مليء بالموجودات التي يخلف بعضها بعضا؛ لذلك فقد ظل الله يخلق موجودات يخلف بعضها بعضا.
هذه التأكيدات التمهيدية هي أساس الفلسفة الشرقية القديمة وفلسفة الإغريق. يجب على المرء أن يستثني ديموقريطس وإبيقور اللذين قاومت فلسفتهما المادية تلك العقائد. ولكن لنلحظ أن الإبيقوريين عولوا على فلسفة طبيعية خاطئة تماما، وأن النظرية الميتافيزيقية لكل الفلاسفة الآخرين تبقى ملائمة لكل نظريات الفلسفة الطبيعية. إن الطبيعة بأكملها، باستثناء الخواء، تناقض إبيقور، وما من ظاهرة واحدة تناقض الفلسفة التي شرحتها للتو. حسنا، أليست الفلسفة التي تتوافق مع كل ما يمر في الطبيعة، والتي ترضي أكثر العقول حرصا، أسمى من كل النظريات الأخرى التي لم يوح بها؟
بعد تأكيدات الفلاسفة القدماء التي حاولت أن أوفق بينها بقدر ما أمكنني، ما الذي يتبقى لنا؟ فوضى من الشكوك والأوهام. لا أعتقد أنه كان هناك فيلسوف لديه نسق لم يقر في نهاية حياته بأنه ضيع عمره. يجب الاعتراف أن مخترعي الفنون الميكانيكية كانوا أكثر فائدة للبشرية من مخترعي القياسات المنطقية؛ فالرجل الذي اخترع المكوك يتفوق بشدة على ذلك الذي تصور الأفكار الفطرية.
التحيزات
التحيز هو رأي بلا حكم. هكذا يلهم الناس أطفالهم في العالم بأجمعه بكل تلك الآراء التي يرغبون فيها قبل أن يستطيع الأطفال أن يحكموا.
هناك بعض التحيزات العامة الضرورية التي تصنع الفضيلة حقا. يعلم الأطفال في جميع البلدان أن يعرفوا الله المثيب المعاقب، وأن يحترموا وأن يحبوا أباهم وأمهم، وأن ينظروا إلى السرقة على أنها جريمة، والكذب الأناني على أنه رذيلة قبل أن يمكنهم أن يخمنوا ماهية الرذيلة والفضيلة.
هناك إذا، بعض التحيزات الجيدة جدا، وهي تلك التي يصدق عليها العقل حينما يفكر المرء.
ليست العاطفة تحيزا بسيطا؛ إنها شيء أشد قوة. لا تحب الأم ابنها لأنها لقنت أنها يجب أن تحبه، إنها تحبه رغما منها تماما. ليس من قبيل التحيز أنك تهرع لنجدة طفل مجهول يوشك على السقوط في هاوية، أو على أن يأكله وحش.
لكن من قبيل التحيز أنك ستحترم رجلا مرتديا ثيابا معينة، يمشي برزانة ، ويتحدث كذلك. لقنك والداك أنك يجب أن تنحني أمام هذا الرجل، أنت تحترمه قبل أن تعلم ما إن كان يستحق احترامك، وتكبر عمرا ومعرفة، وتفهم أن هذا الرجل دجال غارق في كبريائه وأنانيته ومكره ؛ تحتقر ما كنت تبجله، ويتنازل التحيز للحكم. من قبيل التحيز صدقت تلك الأساطير التي كانوا يقصونها عليك في المهد؛ فقد تلقنت أن التيتان شنوا حربا على الآلهة، وأن فينوس كانت عاشقة لأدونيس، ولما بلغت الثانية عشرة قبلت تلك الأساطير على أنها حقائق، وحينما بلغت العشرين نظرت إليها على أنها استعارات بارعة.
دعنا نفحص باختصار أنواعا مختلفة من التحيزات لنرتب أمورنا، ربما سنكون مثل أولئك الذين أدركوا أنهم احتسبوا مكاسب وهمية في زمن نظريات جون لو. (1) تحيزات الحواس
أليس غريبا أن تخدعنا أعيننا دائما حتى وإن كان لدينا نظر ثاقب، وأن آذاننا على العكس من ذلك لا تخدعنا؟ دع أذنك المطلعة جيدا تسمع ذلك: «أنت جميل. أحبك.» واضح تماما أن شخصا ما لم يقل: «أكرهك. أنت قبيح.» لكنك ترى مرآة ناعمة، ثم يتضح لك أنك مخطئ؛ إذ ترى أنها ذات سطح غير مستو تماما. ترى الشمس وكأن قطرها قدمان تقريبا، ويثبت أنها أكبر بمليون مرة من الأرض.
يبدو أن الله وضع الحقيقة في أذنيك، والخطأ في عينيك، لكن ادرس البصريات وسترى أن الله لم يخدعك، وأنه يتعذر على الأجسام أن تبدو لك بطريقة غير التي تراها بها في الوضع الحالي للأشياء. (2) التحيزات المادية
تشرق الشمس، وكذلك القمر، والأرض ساكنة؛ هذه تحيزات فيزيائية طبيعية. لكن أن الاستاكوزا جيدة للدم لأنها تكون حمراء حينما تطهى؛ وأن ثعابين الماء تعالج الشلل لأنها تتلوى؛ وأن القمر يؤثر في أسقامنا لأن أحدا ما لحظ يوما ما أن رجلا مريضا زادت حماه خلال انحسار القمر؛ فهذه الأفكار وآلاف غيرها هي أخطاء الدجالين القدماء الذين حكموا بلا منطق، وحينما انخدعوا، خدعوا غيرهم. (3) التحيزات التاريخية
طالما صدقت غالبية الحكايات التاريخية بلا تمحيص، وهذا التصديق تحيز. يروي فابيوس بيكتور أنه قبل ولادته بقرون كثيرة، بينما كانت كاهنة بلدة ألبا ذاهبة لتجلب بعض الماء بدلوها، اغتصبت، وأنها ولدت رومولوس وريموس، وأنهما أرضعتهما ذئبة ... إلخ. آمن الرومان بتلك الأسطورة، ولم يفحصوا ما إن كانت في ذلك الوقت كاهنات في لاتيوم، وما إن كان من المحتمل أن تغادر ابنة الملك ديرها مع دلوها، وما إن كان من المحتمل أن ترضع ذئبة طفلين بدلا من أن تفترسهما؛ وهكذا رسخ التحيز نفسه.
يكتب راهب أن كلوفيس، وهو في خطر عظيم في معركة تولبياك، أقسم أن يصير مسيحيا إن نجا. لكن هل من الطبيعي أن يخاطب المرء إلها غريبا في مناسبة كتلك؟ ألا يفعل الدين الذي ولد عليه المرء فعله بأقصى قوته؟ أي مسيحي ذلك الذي لن يخاطب العذراء المقدسة وهو في معركة ضد الأتراك، لا محمد؟ يضاف لذلك أن حمامة قد جلبت القارورة المقدسة بمنقارها لتمسح كلوفيس بالزيت، وأن ملاكا جلب شعار الأوريفيليم ليقوده. صدق التحيز كل القصص الصغيرة من هذه الشاكلة. أولئك الذين يفهمون الطبيعة البشرية يعرفون جيدا أن كلوفيس الغاصب ورولون (أو رول) الغاصب تحولا إلى المسيحية من أجل أن يحكما المسيحيين بمزيد من الاطمئنان، تماما كما تحول الأتراك الغاصبون إلى الإسلام من أجل أن يحكموا المسلمين بمزيد من الاطمئنان. (4) التحيزات الدينية
لو أن مربيتك أخبرتك أن سيريس تحكم على المحاصيل، أو أن فيستنو وإكساكا تجسدا في هيئة رجال أكثر من مرة، أو أن سامونوكودوم نزل ليقطع غابة، أو أن أودين ينتظرك في كهفه بالقرب من جتلاند، أو أن محمدا أو أحدا آخر قام برحلة في السماء، وإن أتى في النهاية معلمك ليسوق إلى عقلك ما طبعته مربيتك داخله فستحتفظ بذلك طوال العمر. إن رغب حكمك أن يعارض تلك التحيزات، فسيصرخ جيرانك، وعلى رأسهم زوجات جيرانك: «ملعون مزدر» ويطردونك؛ وسيتهمك درويشك - خشية أن يرى دخله يتناقص - أمام القاضي، وسيحكم القاضي بخوزقتك لو استطاع؛ لأنه يحب أن يسود على حمقى، ويعتقد أن الحمقى يطيعون بشكل أفضل من الآخرين، وسيستمر ذلك حتى يبدأ جيرانك والدرويش والقاضي يفهمون أن الحماقة لا تجدي ، وأن الاضطهاد مقيت.
النادر
النادر في الفلسفة الطبيعية هو نقيض الكثيف، وهو في الفلسفة الأخلاقية نقيض الشائع.
هذا التنوع الأخير في النادر هو ما يثير الإعجاب. لا يعجب المرء أبدا بما هو شائع، يستمتع به المرء فقط.
ربما يظن شخص شاذ نفسه فوق الفانين البائسين حينما يمتلك في مكتبه وساما لا يصلح لشيء، أو كتابا نادرا لم يملك أحد الشجاعة لقراءته، أو نقشا قديما من آلبرخت دورر سيئ التصميم وسيئ الطباعة. ويختال إن كان يملك في حديقته شجرة مقزمة من أمريكا. هذا الشاذ ليس لديه ذوق، لديه غرور وحسب. لقد سمع أحدهم يقول إن الجميل نادر، ولكن عليه أن يعرف أنه ليس كل نادر جميلا.
الجمال نادر في كل أعمال الطبيعة، وفي كل أعمال الفن.
مهما قيل من أشياء سيئة عن النساء، أؤكد أنه أندر أن تجد نساء مكتملات الجمال من أن تجد نساء طيبات الإحساس.
ستلتقي في البلد عشرة آلاف امرأة متعلقات بمنازلهن، مجتهدات، رزينات، يرضعن أطفالهن، ويرعينهم، ويعلمنهم؛ وستجد بالكاد واحدة يمكن أن تشاهدها على مسارح باريس أو لندن أو نابولي أو في الحدائق العامة، وينظر إليها على أنها مثال الجمال.
بالمثل، في أعمال الفن، لديك عشرة آلاف من أعمال التلطيخ والخربشة، مقابل كل تحفة فنية واحدة.
لو كان كل شيء جميلا وطيبا، فمن الواضح أن المرء لم يكن ليعجب بأي شيء بعد؛ بل سيستمتع. لكن هل يجد المرء السرور في الاستمتاع؟ هذه مسألة كبيرة.
لماذا حظيت تلك المقاطع الجميلة في مسرحيات «السيد»، و«الهوراتيون»، و«سينا» بذلك النجاح المذهل؟ لأنه في الليل العميق الذي كان الناس يغرقون فيه، رأوا فجأة ضوءا لم يتوقعوه يلتمع؛ لأن هذا الجمال كان أندر شيء في العالم.
كانت بساتين فرساي مثالا فذا للجمال في العالم كما كانت فريدة حينئذ مقاطع كورني، وكنيسة القديس بطرس في روما.
لكن لنفترض أن كل كنائس أوروبا كانت مساوية لكنيسة القديس بطرس، وأن كل التماثيل كانت فينوس دي ميديتشي، وأن كل التراجيديات كانت جميلة كتراجيدية راسين «يفجيني »، وأن كل الأعمال الشعرية كتبت بشكل جيد مثل «الفن الشعري» لبوالو، وأن كل الكوميديات كانت جيدة مثل «طرطوف»، وهكذا في كل مجال؛ فهل كنت ستشعر حينئذ أثناء الاستمتاع بتحف فنية تصبح عادية بقدر السرور ذاته الذي جعلتك تتذوقه حينما كانت نادرة؟ أقول بجرأة: «لا!» وأعتقد أن المدرسة القديمة، التي كانت نادرا ما كانت على حق، كانت على حق في قولها إن «العادة لا تصنع شغفا.»
لكن هل سيكون الأمر هكذا يا قارئي العزيز مع أعمال الطبيعة؟ هل ستشمئز إن كانت كل العذارى جميلات مثل هيلين. وأنتن أيتها السيدات، هل سيحدث الأمر نفسه معكن إن كان كل الرجال مثل باريس؟ دعونا نفترض أن كل الخمور ممتازة، فهل ستشعرون برغبة أقل في الشرب؟ إن كانت كل طيور الحجل والتدرج والفراخ الصغيرة شائعة طوال الوقت، فهل كانت الشهية ستقل؟ أقول بجرأة مرة أخرى: «لا!» على الرغم من بدهيات المدارس «العادة لا تصنع شغفا.» والسبب كما تعلمونه، أن كل المسرات التي تمنحنا إياها الطبيعة هي دائما حاجات متكررة، ومتع ضرورية، وأن مسرات الفنون ليست ضرورية. ليس ضروريا لإنسان أن تكون لديه بساتين تندفع فيها المياه إلى أعلى من مائة قدم، من فم وجه رخامي، وأن يترك هذه البساتين ليذهب لمشاهدة تراجيديا راقية. لكن الجنسين كل منهما ضروري للآخر. المائدة والفراش ضرورتان، ولن تصيبك عادة الانتقال بين هذين العرشين أبدا بالاشمئزاز.
منذ أعوام قليلة مضت بباريس، شعر الناس بالإعجاب بالكركدن. لو كان في مقاطعة واحدة عشرة آلاف كركدن، لطاردها الرجال فقط من أجل أن يقتلوها. لكن لو كان هناك مائة ألف امرأة جميلة فسيركض الرجال دائما خلفهن، من أجل أن ... يعظمونهن.
العقل
حينما كانت فرنسا كلها مشغوفة بمنهج لو، وكان لو مراقبا عاما (وزير مالية)، أتى إليه في حضرة مجلس عظيم رجل كان دائما على حق، كان العقل في صفه طوال الوقت. قال للو:
سيدي، أنت أكبر مجنون، وأكبر أحمق، وأكبر محتال ظهر بيننا، ويعني هذا الكثير، وهكذا سأثبته. لقد تخيلت أن ثروة دولة ما يمكن أن تزيد عشرة أضعاف بورقة، ولكن طالما أن هذه الورقة لا يمكن أن تمثل إلا النقود الممثلة للثروة الحقيقية، إنتاج الأرض والصناعة، كان يجب عليك أن تبدأ بمنحنا ما هو أكثر بعشرة أضعاف ، من الحبوب والخمر والقماش والكتان، وغيرها. هذا لا يكفي، فلا بد من أن تكون متأكدا من السوق. لكنك تطبع أموالا أكثر بعشرة أضعاف مما لدينا من الفضة والسلع، فأنت أكثر بعشرة أضعاف تطرفا أو سخفا أو احتيالا، من كل المراقبين الذين سبقوك. بهذه الطريقة أثبت رأيي.
لم يكد يبدأ في إثبات وجهة نظره حتى اقتادوه إلى سجن سان لازار.
ولما خرج من سان لازار، حيث درس بقدر أكثر وقوى فكره، ذهب إلى روما، وطلب مقابلة عامة مع البابا، بشرط ألا يقاطع أثناء حديثه، وتحدث إلى البابا وفق هذا الشرط:
أيها الأب المقدس، أنت عدو للمسيح، وهكذا سأثبت لقداستكم ذلك. إني أطلق كلمة عدو المسيح على أي شخص يفعل نقيض ما فعله المسيح وما أمر به. كان المسيح فقيرا بينما أنت شديد الثراء. كان يدفع الضريبة وأنت تنتزع الضريبة. خضع للقوى التي كانت موجودة، وأنت صرت قوة. سار على قدميه، وأنت تذهب إلى قلعة جاندلفو في عربة فاخرة. أكل ما أعطي له عن طيب خاطر، وأنت تريدنا أن نأكل السمك أيام الجمعة والسبت، ونحن نعيش بعيدا عن البحر والنهر. منع سمعان بطرس من استخدام السيف، وأنت تملك الكثير من السيوف في خدمتك ... إلخ، إلخ، إلخ. لكل ذلك، بهذا المعنى، قداستكم عدو للمسيح. وبأي معنى آخر أحتفظ لكم بتبجيل عظيم، وأطلب منكم السماح عند الموت.
حبسوا صاحبنا في قلعة سان أنجلو.
ولما خرج من قلعة سان أنجلو، أسرع إلى فينيسيا، وطلب التحدث إلى قاضي القضاة. قال:
لا بد أن سيادتكم طائش العقل لتمارس طقس زواج البحر كل عام، فأولا: يتزوج المرء من الشخص نفسه مرة واحدة فقط. وثانيا: يشبه زواجك زواج هارلكوين الذي كان نصف زواج؛ إذ كان يرى أنه لا ينقصه سوى موافقة العروس. ثالثا: من أخبرك أنه يوما ما لن تعلن القوى البحرية الأخرى بأنك غير قادر على إتمام الزواج؟
تحدث، ثم حبسوه في برج سان مارك.
ولما خرج من برج سان مارك، ذهب إلى القسطنطينية، وقابل المفتي، وتحدث معه كالآتي:
على الرغم من أن لديانتك بعض الإيجابيات مثل عبادة الكائن العظيم، وضرورة أن تكون عادلا وكريما، فهي، بخلاف ذلك، ليست سوى إعادة طرح لليهودية، ومجموعة مملة من الحكايات الخرافية. لو كان الملاك الرئيس جبريل أحضر أوراق القرآن إلى محمد من كوكب ما، لشاهدت الجزيرة العربية كلها جبريل وهو يهبط، ولكن لم يره أحد؛ ومن ثم ما كان محمد إلا محتالا سافرا خدع الحمقى.
لم يكد ينطق بتلك الكلمات حتى قتل على الخازوق. ومع ذلك فقد كان دائما على حق، وكان العقل دائما في جانبه.
الدين
كنت أتأمل الليلة الماضية، كنت مستغرقا تماما في تأمل الطبيعة، وشعرت بالإعجاب بالاتساع والتتابع والتناغم الذي تتسم به هذه الكواكب اللانهائية التي لا يعرف السوقة كيف يعجبون بها.
لكني أعجبت أكثر من ذلك بالذكاء الذي يوجه هذه القوى الشاسعة، وقلت لنفسي: «لا بد أن يكون المرء أعمى كي لا ينبهر بهذه الأعجوبة، لا بد أن يكون المرء غبيا حتى لا يتعرف على مؤلفها، لا بد أن يكون المرء مجنونا حتى لا يعبده، أي واجب من العبادة ينبغي أن أقدمه له؟ ألا يجب أن يكون ذلك الواجب واحدا في كل الفضاء، طالما أن القوة الفائقة نفسها تحكم بالتساوي في الفضاء كله؟ ألا يجب على كائن مفكر يسكن في كوكب في مجرة الطريق اللبني أن يقدم له التبجيل نفسه الذي يقدمه الكائن المفكر في كوكبنا الصغير هذا الذي نوجد فيه؟ الضوء موحد لكوكب الشعرى ولنا؛ ويجب أن تكون الفلسفة الأخلاقية موحدة. لو أن كائنا حساسا ومفكرا في الشعرى ولد من أب حنون، وأم مشغولة بإسعاده، فهو يدين لهما بالحب والعناية نفسها التي ندين بها لوالدينا. ولو أن أحدا في مجرة الطريق اللبني يرى قعيدا محتاجا، وكان باستطاعته أن يريحه ولم يفعل ذلك ، فهو مذنب تجاه الأكوان كلها. للقلب واجبات واحدة في كل مكان: على درجات عرش الله، إن كان له عرش، وفي عمق الجحيم إن كان هو جحيما.»
كنت غارقا في هذه الأفكار حينما هبط لي أحد أولئك الجن الذين يملئون الفراغات بين الكواكب. تعرفت على هذا المخلوق الأثيري الذي سبق أن ظهر لي في مناسبة أخرى ليعلمني كيف كانت أحكام الله مختلفة عن أحكامنا، وكيف أن الفعل الخير مفضل على الجدل.
نقلني إلى صحراء مغطاة كلها بأكوام من العظام، وبين أكوام الموتى هذه كانت هناك مماش من الأشجار دائمة الاخضرار، وفي نهاية كل ممشى كان رجل طويل ذو طلعة جليلة ينظر إلى تلك البقايا البائسة بشفقة.
قلت: «وا حسرتاه! يا ملاكي الرئيس، إلى أين أحضرتني؟»
أجاب: «إلى القفر.» «ومن هؤلاء الآباء الذين أراهم حزانى وساكنين في نهاية هذه المماشي الخضراء؟ يبدو وكأنهم ينتحبون على ذلك الجمع الذي لا يحصى من الموتى؟»
أجاب الجني من بين السماوات: «ستعرف أيها المخلوق الإنساني البائس. ولكن بادئ ذي بدء يجب عليك أن تنتحب.»
بدأ بالكومة الأولى، وقال: «هؤلاء هم الثلاثة والعشرون ألف يهودي الذين رقصوا أمام عجل، مع الأربعة والعشرين ألفا الذين أبيدوا بينما كانوا يضطجعون مع النساء الميديات. عدد أولئك المهلكين بسبب مثل هذه الأخطاء والمعاصي يصل تقريبا إلى ثلاثمائة ألف.
وفي المماشي الأخرى عظام المسيحيين الذين ذبح بعضهم بعضا بسبب خلافات ميتافيزيقية. وهم مقسمون على بضعة أكوام؛ كل منها من أربعة قرون. كان يمكن لواحدة منها أن تصعد إلى السماء، فوجب تقسيمهم.»
صرخت: «ماذا؟! عامل الإخوة إخوتهم هكذا، ومن بليتي أني أنتمي إلى أولئك الإخوة!»
قالت الروح: «هنا الاثنا عشر مليون أمريكي الذين قتلوا على أرضهم الأم لأنهم لم يعمدوا.» «يا إلهي! لم لم تترك هذه العظام المريعة تجف في نصف الكرة الأرضية الذي ولدت فيه أجسادهم؟ وأين أسلموا لميتات مختلفة عديدة؟ لماذا تجمعون هنا كل تلك الآثار البشعة الشاهدة على الهمجية والتعصب؟» «لنعلمك.»
قلت للجني: «طالما أنك تريد أن تعلمني، أخبرني إن كانت هناك أمم أخرى غير المسيحيين واليهود تحول دينها وغيرتها على نحو بائس إلى تعصب، وأوحيا بفظاعات مريعة كثيرة.»
قال: «نعم. تلطخ المحمديون بالأفعال اللاإنسانية نفسها، ولكن نادرا، وحينما كان أحد يطلب منهم الأمان ، ويعطيهم الجزية، كانوا يسامحون. أما عن الأمم الأخرى، فلم تكن هناك أمة واحدة منذ نشوء العالم شنت حربا دينية على نحو خالص قط. اتبعني الآن.» تبعته.
خلف تلك الأكوام من الموتى بمسافة قليلة وجدنا أكواما أخرى. كانت مؤلفة من أكياس من الذهب والفضة، ولكل منها علامته: ثروة الهراطقة المذبوحين في القرن الثامن عشر، والسابع عشر، والسادس عشر. وهكذا بالعودة إلى الماضي: ذهب الأمريكيين المذبوحين وفضتهم ... إلخ، إلخ. وكانت كل هذه الأكوام تعلوها صلبان، وتيجان، وصولجانات، وتيجان ثلاثية مرصعة بأحجار كريمة. «ما هذا يا جنيي؟ كان من أجل الحصول على هذه الثروات أن كوم هؤلاء الأموات؟» «نعم يا بني.»
انتحبت. وذهبت بأساي الذي استحققته لأقاد إلى نهاية المماشي الخضراء؛ فقادني هناك.
قال: «تأمل؛ أبطال الإنسانية الذين كانوا محسني العالم، وكانوا كلهم متحدين في أن يطردوا من العالم، بقدر ما استطاعوا، العنف والسلب. اسألهم.»
ركضت صوب أول من كان في المجموعة. كان لديه تاج على رأسه، ومبخرة صغيرة في يده؛ فسألته بتواضع عن اسمه، فقال لي: «أنا نيوما بومبيليوس، نشأت قاطع طريق، وكان لدي قطاع طرق أقودهم. علمتهم الفضيلة وعبادة الله، ومن بعدي نسوا كليهما مرارا. حرمت وجود أي صورة في المعابد؛ لأن الإله الذي يدير الطبيعة لا يمكن تمثيله. خلال حكمي، لم يخض الرومان حروبا ولا تمردات، ولم يفعل ديني إلا الخير. أتت كل الشعوب المجاورة لتكريمي في جنازتي، ولم يحدث ذلك لأحد سواي.»
قبلت يده وذهبت إلى الثاني، كان عجوزا لطيفا يناهز عمره مائة عام، مرتديا رداء أبيض. وضع إصبعه الوسطى على فمه، وباليد الأخرى رمى بعض الحبوب خلفه. عرفت فيثاغورث، أكد لي أنه لم تكن له ورك ذهبية قط، ولم يكن طاهيا قط، ولكنه حكم الكروتونيين بقدر ما حكم نيوما الرومان من العدالة في الزمن نفسه تقريبا، وأن هذه العدالة كانت أندر الأمور وجودا في العالم وأشدها ضرورية. وعرفت أن الفيثاغوريين كانوا يفحصون ضمائرهم مرتين في اليوم. يا لهم من أمناء! ما أبعدنا عنهم! ولكننا نحن الذين لم نكن سوى سفاحين على مدى ثلاثة عشر قرنا، نقول إن هؤلاء الرجال الحكماء كانوا مغرورين!
من أجل أن أبعث السرور في فيثاغورس لم أقل شيئا، وانتقلت إلى زرادشت الذي كان منغمسا في التركيز في النار السماوية في بؤرة مرآة مقعرة، وسط حفرة ذات مائة باب، تقود جميعها إلى الحكمة. (تسمى وصايا زرادشت أبوابا، وعددها مائة). وقرأت فوق الباب الرئيس تلك الكلمات التي تعد خلاصة الفلسفة الأخلاقية كلها، وتختصر كل نزاعات المهتمين بالقضايا الأخلاقية: «حينما تكون على شك إن كان الفعل صالحا أم طالحا أحجم عنه.»
قلت لجنيي: «أكيد أن الهمجيين الذين ضحوا بكل هؤلاء الضحايا لم يقرءوا تلك الكلمات قط.»
بعد ذلك شاهدنا زاليوكوس وطاليس وأنيكسماندرس وكل الحكماء الذين نشدوا الحقيقية ومارسوا الفضيلة.
وحينما وصلنا إلى سقراط، عرفته سريعا جدا من أنفه المفلطحة. قلت له: «حسنا، أنت إذا هنا من بين خاصة القدير! كل سكان أوروبا باستثناء الأتراك وتتار القرم الذين لا يعرفون شيئا، ينطقون اسمك بإجلال. هذا الاسم العظيم مبجل ومحبوب لدرجة أن الناس أرادوا أن يعرفوا أسماء مضطهديك. ميليتيوس وأنيتوس معروفان بسببك، مثلما أن رفايلاك معروف بسبب هنري الرابع، لكني أعرف فقط اسم أنيتوس هذا. لا أعلم بالضبط من كان ذلك الوغد الذي افترى عليك، ونجح في أن يحكم عليك بتجرع السم.»
أجاب سقراط: «منذ مغامرتي لم أفكر قط في ذلك الرجل، أما وقد ذكرتني به فأنا أشعر بكثير من الشفقة تجاهه. كان كاهنا شريرا يدير عملا في الخفاء، مهنة شائنة السمعة بيننا. أرسل طفليه إلى مدرستي، عيرهما التلاميذ الآخرون بأن والدهما كان دباغا، وأجبرا على الرحيل. لم يسترح الأب الغاضب حتى أثار جميع الكهنة وجميع السوفسطائيين ضدي. أقنعوا مجلس الخمسمائة بأني رفيق مزدر بالآلهة، لا يؤمن بأن القمر وعطارد والمريخ آلهة. بالفعل، اعتدت أن أفكر، كما أفكر الآن، أن هناك إلها واحد فقط، سيد الطبيعة بأكملها. سلمني القضاة إلى مسمم الجمهورية؛ فاختصر من حياتي أياما قليلة. مت في سلام في عمر السبعين، ومنذ ذلك الوقت أمضي حياة سعيدة وسط كل هؤلاء العظماء الذين تراهم، وأنا أقلهم.»
بعد الاستمتاع بفترة من الحديث مع سقراط، تقدمت مع مرشدي إلى داخل بستان قائم فوق الأجمات، حيث بدا أن كل حكماء العصور القديمة يرقدون في سلام.
رأيت رجلا ذا سيماء بسيطة ومهذبة، بدا لي أنه في عمر الخامسة والثلاثين تقريبا. ألقى من بعيد نظرات عطوفة على تلك الأكوام من العظام المبيضة التي كان علي أن أعبرها لأصل إلى مقر الحكماء. أصابتني الدهشة من رؤية قدميه متورمتين داميتين، ويديه مثلهما، وجنبه مطعونا، وضلوعه مسلوخة بقطوع سياط؛ فقلت له: «إلهي! يستحيل أن يكون رجل عادل حكيم بهذه الهيئة؟ شاهدت للتو امرأ عومل بكراهية شديدة، لكن ما من مقارنة بين تعذيبه وتعذيبك. سممه الكهنة الأشرار والقضاة الأشرار؛ أبسبب الكهنة والقضاة قتلت بهذه الوحشية؟
أجاب بأدب جم: «نعم.» «ومن كانوا هؤلاء الوحوش؟» «المنافقين.» «آه! هذا يفسر كل شيء. يمكنني أن أفهم بهذه الكلمة المفردة أنه لا بد أنهم حكموا عليك بالموت. هل أثبت لهم كما فعل سقراط أن القمر لم يكن إلها وأن المريخ لم يكن إلها؟» «لا. لم تكن المسألة بخصوص هذه الكواكب. لم يكن مواطني يعلمون أصلا ما يعنيه كوكب. كانوا جميعا جهالا صرفا. كانت خرافاتهم مختلفة بعض الشيء عن خرافات الإغريق.» «أردت أن تعلمهم دينا جديدا إذا؟» «لا على الإطلاق. إنما قلت لهم: «أحبوا الله بكل قلوبكم، وأقاربكم كأنفسكم؛ لأن هذا هو كل ما على الإنسان أن يفعله. احكم ما إن كانت تلك الوصية ليست قديمة قدم الكون نفسه؛ احكم ما إن كنت أتيتهم بدين جديد. لم أتوقف عن إخبارهم بأني لم آت لأنقض القانون، ولكن لأكمله. لقد راعيت كل شعائرهم، واختتنت كما كانوا كلهم، وتعمدت كما يفعل أشدهم غيرة، ومثلهم، قدمت القربان، واحترمت الفصح كما فعلوا، آكلا وأنا واقف لحم حمل مطبوخا بالخس. وذهبت أنا وأصدقائي للصلاة بالهيكل، بل إن أصدقائي واظبوا على هذا الهيكل بعد مماتي. باختصار نفذت كل قوانينهم بلا استثناء واحد.» «ماذا! لم يستطع البؤساء حتى أن يتهموك بالحياد عن قوانينهم؟» «نعم، بلا شك.» «لماذا إذا وضعوك في الحالة التي أراك فيها الآن؟» «ماذا تتوقع مني أن أقول! كانوا شديدي الكبر والأنانية؛ لقد رأوا أني عرفتهم، وعرفوا أني أجعل المواطنين على دراية بهم، وكانوا هم الأقوى. أودوا بحياتي، ودائما ما سيفعل أناس على شاكلتهم مثل فعلهم إن استطاعوا إزاء أي شخص يعاملهم بعدل أكثر مما يطيقونه.» «ولكن ألم تقل شيئا أو تفعل شيئا يمكن أن يتخذونه ذريعة؟» «مع الأشرار كل شيء يمكن أن يتخذ ذريعة.» «ألم تقل مرة إنك لم تأت لترسل سلاما ولكن سيفا؟» «إنه خطأ الناسخ. قلت لهم إني أرسلت السلام لا سيفا. لم أكتب شيئا قط، يمكن أن يكون ما كتبته غير من غير نية شريرة.» «لذا لم تسهم بأي طريقة بأحاديثك التي أسيئت كتابتها وأسيء تفسيرها في هذه الأكوام المريعة من العظام التي شاهدتها في طريقي وأنا قادم لاستشارتك؟» «بالهول فقط رأيت أولئك الذين جعلوا أنفسهم مذنبين بهذه المقاتل.» «وتلك الآثار للقوة والثروة، للكبر والجشع، هذه الكنوز، وهذه الزينة، وهذه العلامات على الفخامة التي رأيتها مكومة في الطريق بينما كنت أبحث عن الحكمة، هل أتت من عندك؟» «محال، عشت أنا وشعبي في فقر ومذلة، كانت عظمتي في الفضيلة وحدها.»
كنت على وشك أن أتوسل إليه أن يكون طيبا معي ويخبرني من هو بالضبط. حذرني مرشدي من أن أفعل شيئا من هذا القبيل. أخبرني أني لم أخلق لأفهم مثل تلك الأسرار السامية. كل ما فعلته أني ناشدته ليخبرني علام تشتمل الديانة الحقيقية. «ألم أخبرك بالفعل؟ أحب الرب، وأحبب قريبك كنفسك.» «ماذا؟! إن أحب المرء الله يمكنه أن يأكل اللحم يوم الجمعة؟» «أكلت دوما ما قدم إلي، وكنت أفقر من أن أمنح أحدا طعاما.» «مع حب الله والتمسك بالعدالة، ألا ينبغي على المرء أن يكون حذرا نوعا ما من أن يأتمن شخصا مجهولا على كل مجازفاته؟» «كان هذا دأبي دائما.» «ألا يمكنني أن أستغني بفعل الخير عن الحج إلى سانتياجو كومبوستيلا؟» «لم أزر أبدا ذلك البلد.» «هل من الضروري لي أن أحبس نفسي في مأوى مع حمقى؟» «أما أنا، فتنقلت في رحلات قليلة من بلدة إلى بلدة.» «أهو ضروري لي أن أنحاز إلى أي من الكنيسة اليونانية أو اللاتينية؟» «حينما كنت في الدنيا لم أفرق قط بين اليهودي والسامري.» «حسنا، إذا كان الأمر كذلك فسأتخذك معلمي الوحيد.» وحينئذ، صنع لي برأسه إيماءة ملأتني بالتعزية. اختفت الرؤيا وبقي معي وعي واضح.
الطائفة
(1) القسم الأول
كل طائفة، أيا ما كان مجالها، هي مساحة للشك والخطأ. السكوتي، والتومي، والواقعي، والاسمي، والمعمداني، والكالفيني، والموليني، والجانسيني، كلها أسماء مستعارة.
ما من طوائف في الهندسة؛ فلا يمكن للمرء أن يتحدث عن إقليدي أو أرشيميدي.
حينما تكون الحقيقة بينة، يستحيل أن تنشأ أحزاب وفصائل. لم يحدث قط نزاع من قبيل ما إن كان هناك ضوء في الظهيرة أم لا.
منذ أن أصبح علم الفلك الذي يحدد مسار حركة النجوم، وعودة الكسوف والخسوف، معروفا، لم يعد ثمة نزاع بين الفلكيين.
لا يقول المرء في إنجلترا: «أنا من أتباع نيوتن، أو لوك، أو هالي.» لم؟ أولئك الذين قرءوا ليس بوسعهم رفض الإذعان للحقائق التي تعلموها من هؤلاء العظماء الثلاثة. كلما يزداد توقير نيوتن تقل تسمية الناس لأنفسهم بأنهم نيوتنيون؛ فهذه الكلمة تفترض أنه هناك مناهضون لنيوتن في إنجلترا. ربما لا يزال لدينا قليل من الديكارتيين في فرنسا؛ وهذا فقط لأن نسق ديكارت هو نسيج من الأخطاء والتخيلات السخيفة.
الأمر كذلك مع العدد الصغير من حقائق الواقع التي رسخت. كون سجلات برج لندن جمعها على نحو موثق رايمر، لا يجعل هناك رايمريين؛ لأنه لا يخطر ببال أحد أن ينازع هذه المجموعة. لا يجد فيها المرء متناقضات ولا سخافات ولا حتى عجائب. لا شيء ينغص العقل؛ ومن ثم ما من شيء يناضل الطائفيون للحفاظ عليه أو لإحباطه بحجج سخيفة. يتفق الجميع، لذلك، على أن سجلات رايمر تستحق التصديق.
أنت محمدي؛ ولذلك هناك أناس ليسوا كذلك، ولذلك فمن المحتمل تماما أن تكون مخطئا.
ترى ما كان يمكن أن يكون هو الدين الحق لو لم توجد المسيحية؟ الدين الذي لم تكن لتوجد فيه طوائف؛ الدين الذي تكون فيه جميع العقول بالضرورة في حالة توافق.
حسنا، ما هي العقيدة التي تتفق عليها جميع العقول؟ عبادة الله والاستقامة. كل فلاسفة العالم الذين كان لديهم دين قالوا على الدوام: «هناك إله، ويجب على المرء أن يكون عادلا.» هناك إذا دين كوني مؤسس في كل العصور، وفي كل البشر.
النقطة التي يتفقون فيها جميعا حقيقية لذلك، والنظريات التي يختلفون من خلالها خاطئة لذلك.
يقول أحد البراهمة لي: «طائفتي هي الفضلى.» ولكن يا صديقي، إذا كانت طائفتك جيدة، فهي ضرورية؛ لأنها لو لم تكن ضرورية على نحو مطلق، لأعلنت لي أنها كانت بلا فائدة. وإن كانت ضرورية على نحو مطلق، فهي للبشر كافة؛ فكيف إذا يمكن ألا يكون لدى البشر كافة ما هو ضروري على نحو مطلق لهم؟ كيف يمكن أن يسخروا منك ومن براهمانيتك؟
حينما يقول زرادشت وهرمس وأورفيوس ومينوس وكل العظماء: «فلنعبد الله، ولنكن عادلين» فلا أحد يسخر من ذلك، لكن الجميع يعترضون على من يدعي أن الإنسان لا يمكنه أن يرضي الله ما لم يكن ممسكا بذيل بقرة حينما يموت، ومن يريد من المرء أن يختن، ومن يقدس التماسيح والبصل، ومن يربط الخلاص الأبدي بعظام الموتى التي يضعها تحت قميصه، أو بالغفران الكلي الذي يشتريه المرء من روما باثنين ونصف سو.
من أين تأتي تلك المنافسة في الاعتراض والسخرية من أحد أطراف العالم إلى الطرف الآخر؟ واضح أن الأشياء التي يسخر منها الجميع ليست حقيقة جلية جدا. ماذا يمكننا أن نقول عن أحد معاوني سيجان، الذي أهدى بيترونيوس كتابا فخما بعنوان: «حقائق النبوءات العرافية: مثبتة بالوقائع»؟
يثبت هذا المعاون لك في البداية أنه كان من الضروري أن يرسل الله على الأرض عرافات عدة، واحدة تلو الأخرى؛ لأنه لم تكن بيده وسائل أخرى لتعليم البشر. ويثبت أن الله تحدث إلى هاته العرافات؛ لأن كلمة «عرافة» تعني «مستشارة الله»، وكان عليهن أن يعشن طويلا ؛ لأن أقل شيء هو أن يحظى الأشخاص الذين يكلمهم الله بهذا الامتياز. كان عددهن اثنتي عشرة؛ فهذا العدد مقدس. وتنبأن قطعا بكل الأحداث في العالم؛ لأن تاركوينيوس سوبربوس اشترى ثلاثة من كتبهن من امرأة عجوز بمائة كراون. يضيف المعاون: «أي رفيق شكاك ذلك الذي يجرؤ على إنكار كل تلك الحقائق البينة التي حدثت في ركن أمام العالم كله؟ من ذا الذي يمكنه أن ينكر تحقق نبوءاتهن؟ ألم يستشهد فرجيل نفسه بنبوءات العرافات؟ إن لم تكن لدينا النماذج الأولى من كتب العرافات المكتوبة في وقت لم يكن الناس يعرفون فيه كيف يقرءون أو يكتبون، أليست عندنا نسخ أصيلة؟ على الإنسان الجاحد أن يصمت أمام تلك الحقائق.» هكذا تحدث هوتيفيللوس إلى سيجان. لقد أمل في أن يحصل على منصب المتنبئ الذي كان من شأنه أن يستحق بسببه دخلا يصل إلى خمسين ألف فرنك، ولم يحصل على شيء.
1
يقول أحد المتعصبين: «ما تعلمنيه طائفتي غامض، أعترف بذلك. وبسبب ذلك الغموض، يجب تصديقه؛ لأن الطائفة نفسها تقول إنه مليء بالغوامض. إن طائفتي متطرفة؛ لذا فهي مقدسة؛ فكيف إذا اعتنق كثير من الناس ما يبدو أنه مجنون للغاية إن لم يكن مقدسا؟» هذا بالضبط مثل القرآن الذي يقول السنيون إن له وجه ملاك وخطم حيوان، فلا تجعلوا خطم الحيوان يصدمكم، واعبدوا وجه الملاك. هكذا يقول هذا الزميل البليد. لكن متعصبا من طائفة أخرى يرد: «إنك أنت الحيوان، وأنا الملاك.»
حسنا، من ذا الذي سيحكم في الأمر؟ من ذا الذي سيختار بين هذين المتعصبين؟ الرجل المنطقي النزيه الذي تعلم بمعرفة لا تكمن في الكلمات، الإنسان البريء من التحيز، المحب للحقيقة والعدالة. وباختصار، إنه الإنسان الذي ليس حيوانا أحمق، ولا يظن نفسه الملاك. (2) القسم الثاني
كلمتا «طائفة» و«خطأ» مترادفتان. أنت مشاء وأنا أفلاطوني؛ ولذلك كلانا مخطئ؛ لأنك تناهض أفلاطون فقط لأن خيالاته استفزتك، ولأني ناء عن أرسطو فقط لأنه يبدو لي لا يعرف عما يتحدث. لو أن أحدهما أو الآخر أثبت الحقيقة لما بقيت هناك طائفة . يماثل إعلان امرئ أنه مناصر لرأي امرئ أو آخر، الانحياز إلى أطراف في حرب أهلية. ما من طوائف في الرياضيات، ولا في التجارب الفيزيائية. من يدرس العلاقات بين مخروط ومجال لا ينتم إلى طائفة أرشميدس، ومن ير أن مربع جيب الزاوية اليمني في المثلث مساو لمربع جيب الزاويتين الأخريين لا ينتم إلى طائفة الفيثاغوريين.
حينما تقول إن الدم يدور والهواء كثيف وأشعة الشمس حزم ضوئية من سبعة أطياف قابلة للانكسار فأنت لا تكون من طائفة هارفي، ولا طائفة توريتشيللي، ولا طائفة نيوتن، وإنما تتفق مع حقيقة أثبتوها، وسيبقى الكون كله مع رأيك هذا.
هذه طبيعة الحقيقة؛ إنها لكل الأزمان ولكل البشر، وما عليها إلا أن تعرض نفسها حتى نتعرف عليها، ولا يمكن للمرء أن يجادل ضدها. ويشير الجدال الطويل إلى أن «كلا الفريقين مخطئ.»
هوامش
تقدير الذات
يقول نيكول في عمله «مقال في الأخلاق» المكتوب بعد ألفين أو ثلاثة آلاف مجلد عن الأخلاق («أطروحة حول الإحسان» الفصل الثاني) إنه «باستخدام العجلات والمشانق التي يقيمها الناس بالاشتراك بينهم تقهر الأفكار والتصورات الطاغية لتقدير كل فرد لذاته.»
لن أفحص ما إن كانت لدى الناس مشانق مشتركة، وما إن لديهم مروجا وأحراجا مشتركة، ولديهم أموال مشتركة، وما إن كان أحد يكبح الأفكار بالعجلات، ولكن يبدو لي غريبا جدا أن يفهم نيكول سرقات الطريق العام والاغتيال على أنهما تقدير للذات. على المرء أن يميز بين الاختلافات الطفيفة على نحو أفضل قليلا. الرجل الذي قال إن نيرون تسبب في قتل والدته من خلال تقدير الذات، وإن كارتوش كان لديه تقدير أكبر للذات، لم يكن من شأنه أن يعبر عن نفسه تعبيرا صحيحا جدا. تقدير الذات ليس شرا، ولكنه عاطفة طبيعية في كل البشر، وهي أقرب كثيرا إلى الغرور منها إلى الجريمة .
طلب متسول بأحياء مدريد صدقة بأسلوب مهذب؛ يقول أحد المارة له: «ألا تخجل من ممارسة هذا الطلب الشائن بينما أنت قادر على العمل؟»
أجابه المتسول: «سيدي، أنا أطلب نقودا، لا نصيحة.» واستدار على كعبيه بزهو قشتالي كامل.
كان هذا السيد متسولا فخورا، جرحت خيلاؤه بشيء تافه. طلب الإحسان من باب الحب لنفسه، ولم يستطع التسامح مع التوبيخ من باب حب أكبر لنفسه.
التقى أحد المبشرين المسافرين في الهند ناسكا موثقا بالسلاسل، عاريا كقرد، راقدا على بطنه، يخضع للجلد على خطايا مواطنيه، الهنود، الذين منحوه قروشا قليلة.
قال أحد المتفرجين: «يا لنكران الذات!»
أجاب الناسك: «نكران ذات! اعلم أني قد خضعت للجلد في هذا العالم لأرده في عالم آخر، حينما ستكونون خيولا وأنا فارسا.»
أولئك الذين قالوا إن حب ذواتنا هو أساس كل آرائنا وكل أفعالنا كانوا لذلك على حق تماما في الهند وإسبانيا وكل المسكونة. وكما أن المرء لا يكتب ليثبت للبشر أن لديهم وجوها، فليس من الضروري أن نثبت لهم أن لديهم تقديرا للذات. إن تقدير الذات هو أداة حديثنا، وهو يمثل أداة خلود الأنواع، إنه ضروري، وعزيز علينا، ويمنحنا السرور، ويجب أن يكون خفيا.
النفس
(1) القسم الأول
هذا مصطلح غامض مبهم، يعبر عن مبدأ مجهول لآثار معروفة نحسها فينا. تتماثل كلمة «نفس» مع كلمة «أنيما» اللاتينية، ومع كلمة «نوما» الإغريقية، ومع المصطلح الذي استخدمته كل الأمم لتعبر عما لم تفهمه أفضل مما نفهمه بأي حال.
وهي تدل في المعني الصحيح والحرفي للاتينية واللغات المشتقة من اللاتينية على «ذلك الذي يتحرك». هكذا تكلم الناس عن نفس البشر، والحيوانات، وأحيانا النباتات؛ ليشيروا إلى أساس نموها وحياتها. لم يكن لدى البشر أبدا سوى فكرة مرتبكة عن هذه الكلمة وهم ينطقونها، كما يحدث حينما يقال في سفر التكوين: «وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حية.» وكما يقال إن «نفس الحيوانات في الدم»؛ وكما يقال «لا تقتلوا نفسي»، وما إلى ذلك.
هكذا اعتبرت النفس أصل الحياة وسببها، بل الحياة ذاتها. ولهذا تصورت كل الأمم المعروفة طويلا أن كل شيء كان يموت مع الجسد. إذا استطاع المرء أن يستخلص أي شيء في فوضى التواريخ القديمة، فسيبدو أن المصريين، على الأقل، كانوا أول من ميزوا بين الذكاء والنفس، وقد تعلم اليونانيون منهم التمييز بين عقلهم،
νοῦς ، ونفسهم،
πνεῦμα ، وروحهم،
σкιά . واتبع اللاتينيون النموذج نفسه؛ إذ ميزوا بين العقل والنفس. وفي النهاية، أصبحنا نحن أيضا نميز بين نفسنا وفهمنا. ولكن، هل هذا الذي هو أساس حياتنا مختلف عن ذلك الذي هو أساس أفكارنا؟ أهو الكائن نفسه؟ وهل يشبه هذا الذي يوجهنا ويمنحنا الإحساس والذاكرة ذلك الذي هو في الحيوانات سبب الهضم، وسبب أحاسيسها، وذاكرتها؟
ها هو الموضوع الأبدي لجدالات البشر. وأقول موضوع أبدي؛ لأنه ليس لدي أي فكرة أولى يمكن أن نبدأ منها في هذا التمحيص، ولا يسعنا إلا أن نظل إلى الأبد في متاهة الشك والتخمين الواهي.
ليس لدينا أصغر درجة يمكن أن نضع القدم عليها لكي نصل إلى أدنى معرفة لما يجعلنا أحياء، وما يجعلنا نفكر. وأنى لنا أن نعرف؟ كان ينبغي علينا أن نرى الحياة والفكر وهما يدخلان جسدا. هل يعرف أب كيف أنتج ابنه؟ هل تعرف أم كيف حبلت به؟ هل استطاع إنسان قط التكهن كيف يفعل، وكيف يستيقظ وكيف ينام؟ هل يعرف أي إنسان كيف تطيع أطرافه إرادته؟ هل اكتشف أي إنسان بأي فن تميز الأفكار في دماغه وتنبثق منها وفق أمره؟ إنها آلات ذاتية الحركة هشة، تحركها اليد الخفية التي توجهنا على مسرح العالم، فمن منا كان قادرا على اكتشاف الخيط الذي يوجهنا؟
نحن نجرؤ على التساؤل عما إن كانت النفس «روحا» أم «مادة»، وما إن كانت تنشأ من العدم في وقت ميلادنا، وما إن كانت بعد أن تنفخ الحياة فينا ليوم واحد على الأرض تعيش بعدنا إلى الأبد. هذه الأسئلة تبدو سامية؛ فما هي؟ أسئلة بشر عميان يسألون عميانا آخرين: «ما هو النور؟»
حينما نرغب في تعلم شيء بالتقريب عن قطعة من المعدن ، نضعها في بوتقة على النار. لكن هل لدينا بوتقة نستطيع أن نضع فيها النفس؟ يقول امرؤ: «النفس هي الروح.» لكن ما هي الروح؟ قطعا، لا أحد يعرف. إنها كلمة خالية من المعنى لدرجة أن المرء يضطر إلى أن يقول إن الروح ليست كذا، بدلا من أن يقول إن الروح هي كذا. يقول آخر: «النفس مادة»، لكن ما هي المادة؟ إنما نعلم بعض تجلياتها وبعض خصائصها، ولا يبدو أن أيا من هذه الخصائص أو من هذه التجليات له أدنى صلة بالفكر.
تقول: «إن الفكر شيء متمايز عن المادة»، ولكن ما دليلك على ذلك؟ هل لأن المادة قابلة للتجزئة وقابلة للتشكل، والفكر ليس كذلك؟ ولكن من أخبرك أن المبادئ الأولى للمادة كانت قابلة للتجزئة ومتشكلة؟ محتمل جدا أنها لم تكن كذلك، تذكر طوائف كاملة من الفلاسفة أن عناصر المادة لم يكن لها أبدا شكل أو امتداد. تصيح بنبرة المنتصر قائلا إن «الفكر ليس خشبا ولا حجرا ولا رملا أو معدنا؛ لذا فالفكر لا ينتمي إلى المادة.» أيها المفكرون الضعاف الطائشون! إن الجاذبية ليست خشبا ولا رملا ولا معدنا ولا صخرا؛ والحركة والنمو والحياة ليست هذه الأشياء أيضا، ومع ذلك فالحياة والنمو والحركة والجاذبية تعد مادة. والقول بأن الله لا يمكنه أن يجعل المادة تفكر يعني قول أكثر أسخف الأشياء وقاحة، الذي لم يجرؤ أحد قط على التفوه به في أفضل مدارس العته. لسنا متأكدين من أن الله خلق المادة هكذا، نحن متأكدون فقط من أنه يستطيع ذلك. ولكن ما المهم في كل ما قيل، وكل ما سيقال عن النفس؟ ما أهمية أن يطلق عليها طاقة أو جوهرا أو وهجا أو أثيرا؟ أنها ظلت كونية، أو غير مخلوقة، أو عابرة ... إلخ؟
في تلك المسائل المتعذر بلوغها على العقل، ما أهمية روايات خيالاتنا المرتابة هذه؟ ماذا يهم أن آباء القرون الأربعة الأولى اعتقدوا أن النفس جسدية؟ ماذا يهم أن ترتليانوس - بتناقضه المعهود - قرر أنها جسدية، ومشكلة، وبسيطة في الوقت نفسه؟ لدينا ألف سبب لنجهل ذلك، وما من سبب واحد يمكنه أن يمنحنا بصيصا من الاحتمالية.
كيف يمكن، إذا، أن نكون بهذه الجرأة لنجزم بماهية النفس؟ نعرف قطعا أننا نوجد، وأننا نشعر، وأننا نفكر. لكن هل نود الذهاب خطوة أبعد من ذلك؟ نسقط في هاوية مبهمة، وفي هذه الهاوية ما زلنا متهورين بجنون لنتنازع حول ما إن كانت تلك النفس التي ليس لدينا أدنى فكرة عنها خلقت قبلنا أم معنا، وما إن كانت تفنى أم إنها خالدة!
إن بند «النفس» وكل البنود ذات الطبيعة الميتافيزيقية يجب أن يبدأ بخضوع مخلص لعقائد الكنيسة التي لا جدال فيها. الوحي أكثر جدارة في ذلك بلا شك من الفلسفة بأكملها. النظريات تدرب العقل؛ لكن الإيمان يضيئه ويرشده.
ألا نتفوه كثيرا بكلمات ليست لدينا عنها سوى فكرة مرتبكة، أو حتى ليست لدينا فكرة عنها على الإطلاق؟ أليست كلمة النفس مثالا لذلك؟ حينما يعطل صمام المنفاخ الذي يستخدمونه لتغذية النيران، وحينما يخرج الهواء المحبوس في المنفاخ من منفذ آخر غير متوقع في هذا الصمام، بحيث لا يظل مضغوطا أمام الذراعين، ولا يدفع بقوة نحو الموقد الذي يجب أن يشعله، يقول الخدم الفرنسيون: «فاضت نفس المنفاخ». هم لا يعلمون عنها أكثر من ذلك، ولا يمكن أن يشغلهم هذا السؤال.
يقول البستاني: «نفس النباتات»، ويعتني بها جيدا دون أن يعرف ماذا يقصد بهذا المصطلح.
يضبط صانع الكمان وضع «روح الكمان» ويسحبه إلى الأمام أو إلى الخلف من تحت الفرسة في بطن الآلة؛ قطعة ضئيلة من الخشب، إن نقصت أو زادت، تمنح الآلة أو تسلبها كل روحها الهارمونية.
لدينا الكثير من الصناعات التي يمنح فيها العاملون صفة «النفس» أو «الروح» لآلاتهم. لم يسمع أبدا أحد منهم يتجادل حول معنى تلك الكلمة، ولكن ليس الأمر كذلك مع الفلاسفة.
بالنسبة إلينا، تشير كلمة «نفس» إلى كل ما يتحرك. أطلق أجدادنا الكلتيوين على روحهم كلمة
seel
التي أخذت منها الكلمة الإنجليزية
soul
والألمانية
seel . ولم يتعارك التيوتونيون والبريطونيون القدماء في جامعاتهم حول هذا التعبير.
ميز اليونانيون بين ثلاثة أنواع من النفس؛ أولا: سايك،
ψυχή ، وهي التي تشير إلى النفس الحساسة، نفس الأحاسيس؛ ولهذا كان لدى «الحب» ابن أفروديت الكثير من العاطفة تجاه «النفس»؛ ولهذا أحبته النفس بقوة. ثانيا: نوما،
πνεῦμα ، وهي النفس الذي يمنح الحياة والحركة للآلة كلها، وهي التي ترجمت إلى سبريتوس، أو روح، وهي كلمة مبهمة أعطيت ألف معنى مختلف. ثالثا: نوس،
νοῦς ، وتعني الذكاء.
كان لدينا إذا ثلاث أنفس، دون أن يكون لدينا أدنى فكرة عن أي منها. يقر القديس توما الأكويني (مجموعة أعمال القديس توما. طبعة ليون، 1738م) بتلك النفوس الثلاث بصفته مشاء، ويميز بين كل من هذه النفوس في ثلاثة أجزاء. السايك في الصدر، والنوما موزعة في أنحاء الجسد كله، والنوس في الرأس.
كان هناك أساس في فوضى الأفكار، مع ذلك. لحظ البشر أنه أثناء شعورهم بعواطف الحب والكره والغضب والخوف تحفز أعضاؤهم الداخلية على الحركة. الكبد والقلب محل للعواطف. وإذا فكر المرء بعمق فإنه يشعر بالكد في أعضاء الرأس؛ لذا فالنفس المفكرة كانت في الرأس. وبلا تنفس ما من نمو ولا حياة؛ لذا فالنفس الحيوية موجودة في الصدر الذي يستقبل نفس الهواء.
حينما كان الناس يرون في أحلامهم أقاربهم الموتى أو أصدقاءهم، كان عليهم أن يتساءلوا عما ظهر لهم. لم يكن الجسد الذي تلف في محرقة جنائزية أو الذي ابتلعه البحر وأكلته الأسماك. لكنه كان شيئا آخر؛ ولذلك اعتقدوا - بسبب رؤيتهم إياه - أن الميت تكلم، وأن الحالم وجه إليه الأسئلة. أكان السايك أم النوما أم النوس هو من اتصل بالمرء في الحلم؟ تخيل امرؤ شبحا، شكلا هوائيا. كانت سكيا،
σкlά ، كانت ديمون،
δαίμων ، شبحا من الظل، نفسا صغيرة من الهواء والنار، لا محدودة جدا، تجولت في مكان لا أعرفه.
في النهاية، حينما أراد المرء أن يمعن النظر في الأمر، أصبح ثابتا أن هذه النفس جسدية، وأن العالم القديم كله لم تكن لديه أي فكرة أخرى. أخيرا، جاء أفلاطون الذي جعل هذه النفس سامية لدرجة أنه من المشكوك فيه أنه لم يفصلها تماما عن المادة، ولكن ذلك صنع مشكلة لم تحل أبدا حتى أتى الإيمان لتنويرنا.
عبثا يقتبس الماديون من بعض آباء الكنيسة الذين لم يعبروا عن أنفسهم بدقة. يقول القديس إيريناؤس (المجلد الخامس، الفصلان السادس والسابع) إن النفس هي فقط نفس الحياة، وإنها غير مادية فقط بمقارنتها مع الجسد الفاني، وإنها تحفظ هيئة الإنسان حتى يمكن التعرف عليه.
وعبثا يعبر ترتليانوس عن أفكاره قائلا: «إن جسدية النفس تشرق ساطعة في الإنجيل» («عن النفس»، الفصل السابع)؛ لأنه لو لم يكن للنفس جسم، لما كانت لصورة النفس صورة الجسد.
عبثا يسجل رؤيا المرأة المقدسة التي رأت نفسا مشرقة للغاية بلون الهواء.
وعبثا يقول تاتين في عجالة («خطاب إلى الإغريق»، 23 تقريبا): إن نفس الإنسان مكونة من أجزاء كثيرة.»
وعبثا يقتبس من القديس هيلاريوس (في تفسير سانت هيلاريوس للقديس متى): «ما من شيء مخلوق ليس ماديا، سواء في السماء أو على الأرض، أو بين ما هو مرئي أو ما ليس مرئيا، فكل شيء مكون من عناصر، والأنفس سواء أكانت تسكن الأجساد أم تنبعث منها، لها دائما جوهر مادي.»
عبثا يقول القديس أمبروز في القرن السادس («عن إبراهيم» المجلد الثاني، الفصل الثامن): «لا نعرف إلا المادة، باستثناء الثالوث المقدس وحده.»
قررت هيئة الكنيسة بأكملها أن النفس غير مادية. ووقع هؤلاء القديسون في خطأ كان شائعا في ذلك الوقت؛ فقد كانوا بشرا، ولكنهم لم يخطئوا أخلاقيا لأن هذا معلن بوضوح في الأناجيل.
لدينا لذلك حاجة واضحة لقرار من الكنيسة التي لا تخطئ، بشأن هذه الأمور في الفلسفة، فليست لدينا من تلقاء أنفسنا بالفعل أي فكرة كافية عما يدعى «روحا خالصة» وما يدعى «مادة». الروح الخالصة تعبير لا يعطينا أي فكرة، ونحن نعرف المادة فقط ببضع ظواهر. لكننا نعرفها بشكل ضئيل حتى إننا ندعوها «جوهرا». حسنا، إن كلمة جوهر تعني «ما هو تحت»، ولكن ما هو تحت سيبقى خفيا دائما عنا. ما هو تحت هو سر الخالق، وسر الخالق هذا في كل مكان. نحن لا نعلم كيف نستقبل الحياة، ولا كيف نمنحها، ولا كيف ننمو، ولا كيف نهضم، ولا كيف ننام، ولا كيف نفكر، ولا كيف نشعر.
إن الصعوبة الهائلة تكمن في أن نفهم كيف يمكن أن يملك كائن، أيا ما يكن، أفكارا. (2) القسم الثاني
اتبع مؤلف مقالة النفس في «الموسوعة » جاكلوت بدقة، لكن جاكلوت لا يعلمنا شيئا؛ إنه يعارض أيضا لوك لأن لوك المتواضع قال (المجلد الخامس، الفصل الثالث، الفقرة السادسة): «ربما لن يكون بإمكاننا أبدا أن نعرف ما إن كان أي موجود مادي محض يفكر أم لا؛ لأنه يستحيل علينا، بتأملات أفكارنا بلا وحي، أن نكتشف ما إن كان القدير لم يمنح بعض أنظمة المادة، المنظمة بدقة، قدرة على الإدراك والتفكير، أو شيئا آخر ملحقا ومثبتا بالمادة، شديد التنظيم؛ جوهرا مفكرا غير مادي. وأنه، فيما يتعلق بأفكارنا، ليس أبعد كثيرا عن فهمنا أن ندرك أن الله يستطيع إن شاء أن يزيد على المادة ملكة التفكير، من أنه ينبغي أن يضيف إليها جوهرا آخر ذا قدرة على التفكير؛ ولأننا لا نعرف أين يتكون التفكير، ولا لأي نوع من الجواهر شاء القدير أن يمنح تلك القوة التي لا يمكنها أن تكون في أي مخلوق إلا بمحض مشيئة الخالق ورضاه الطيبين. فأنا لا أرى أي تناقض في أن الكائن المفكر الأزلي من شأنه إن شاء أن يمنح لأنظمة معينة من المادة المجردة من الإحساس المخلوقة، ويضع معها كيفما يراه مناسبا، درجات من الإحساس والإدراك والفكر.»
كانت هذه كلمات رجل متعمق متدين متواضع.
نعرف بالطبع عن تلك النزاعات التي وجب خوضها ثمنا لهذا الرأي الذي بدا جريئا، لكنه لم يكن في الحقيقة سوى نتيجة لاقتناعه بالقدرة الكلية لله وبضعف الإنسان. لم يقل إن المادة تفكر، لكنه قال إننا لا نملك ما يكفي من المعرفة لنثبت أنه يستحيل على الله أن يضيف عطية الفكر للمخلوق المجهول الذي يدعى «المادة»، بعد منحها عطية الجاذبية وعطية الحركة، وكلاهما غامض بالمثل.
يقينا، لم يكن لوك الوحيد الذي طرح هذا الرأي؛ فقد كان ذلك رأي كل الحضارات القديمة التي أكدت، فيما يتعلق بالنفس بوصفها مادة غير محددة للغاية، أن المادة، بناء على ذلك، يمكن أن تشعر وتفكر.
وكان رأي جاسندي، كما يمكن أن نراه في اعتراضاته على ديكارت، يقضي بما يلي: «صحيح أنك تعرف ما تفكر فيه، لكنك تجهل من أي نوع من الجواهر أنت يا من تفكر. لذا، على الرغم من أن عملية التفكير معروفة لك، فمبدأ وجودك محجوب عنك، وأنت لا تعرف ما هي طبيعة هذا الجوهر، وهذه إحدى العمليات التي يجدر أن تفكر بها. أنت تشبه رجلا أعمى يشعر بحرارة الشمس يعتقد أن لديه فكرة واضحة محددة عن الأجرام السماوية؛ لأنه لو سئل ما هي الشمس لتمكن من الرد بأنها شيء يشع حرارة ... إلخ، وهكذا.»
يكرر جاسندي نفسه في كتابه «الفلسفة الإبيقورية» مرارا أنه ما من دليل رياضي على الطبيعة الروحية الخالصة للنفس.
يقول ديكارت في إحدى خطاباته إلى الأميرة إليزابيث البالاتينية: «أعترف أنه بالمنطق الطبيعي وحده يمكننا أن نقوم بكثير من التخمينات حول النفس ونمتلئ بالآمال، ولكن ما من يقين.» وفي تلك العبارة يعارض ديكارت في رسائله ما يقدمه في أعماله، وهو تناقض مألوف مع الأسف.
قصارى القول أننا رأينا كيف أنه بينما كان جميع آباء الكنيسة في القرون الأولى يؤمنون بأن النفس خالدة؛ فقد آمنوا في الوقت ذاته بأنها مادية. لقد اعتقدوا أنه سهل على الله أن يحفظ كما يخلق. قالوا: «خلق الله النفس مفكرة، وسوف يحفظها مفكرة.»
أثبت مالبرانش على نحو جيد للغاية أننا ليست لدينا أي فكرة عن أنفسنا، وأن الأشياء غير قادرة عن منحنا الأفكار؛ ومن ذلك يستنتج أننا نرى كل شيء في الله. يماثل هذا في الحصيلة جعل الله مؤلف كل أفكارنا، فبأي شيء يمكننا أن نرى فيه لو لم تكن لدينا أدوات للرؤية؟ وهذه الأدوات لا يحفظها ولا يوجهها إلا هو. هذه النظرية متاهة: يقودك أحد مساراتها إلى اسبينوزا، وآخر إلى الرواقية، وآخر إلى الفوضى.
حينما يملك امرؤ حجة جيدة عن الروح والمادة، ينتهي المرء دائما بالافتقار للتفاهم مع الآخرين. ما من فيلسوف كان قادرا بقوته على أن يرفع هذا الحجاب الذي بسطته الطبيعة فوق كل المبادئ الأولى للأشياء. يجادل البشر، وتعمل الطبيعة. (3) القسم الثالث
عن نفس الحيوانات وعن بعض الأفكار التافهة
قبل تلك النظرية الغريبة التي تفترض أن الحيوانات محض آلات بلا إحساس، لم يفكر البشر أبدا أن الوحوش لديها نفس غير مادية. لم يجازف أحد لدرجة أن يقول إن محارة تملك نفسا روحية. اتفق الجميع في سلام على أن الحيوانات تلقت من الله الشعور والذاكرة والأفكار، لكن ما من روح خالصة. لم يسئ أحد استخدام هبة المنطق إلى حد القول إن الطبيعة منحت الحيوانات كل أعضاء الشعور حتى لا تشعر بأي شيء. لم يقل أحد إنها تصرخ حينما تجرح، وتطير حينما تطارد، من دون أن تشعر بألم أو خوف.
في ذلك الوقت لم ينكر الناس القدرة الكلية لله. كان قادرا أن يمنح المادة المتعضية للحيوانات السرور والألم والتذكر وتوليفة من بضع أفكار. كان قادرا أن يمنح لكثير منها، مثل القرد والفيل وكلب الصيد، موهبة إتقان الفنون التي تعلموها، ولم يكن فقط قادرا على منح آكلات اللحوم كلها تقريبا موهبة القتال على نحو أفضل في الأعمار المتقدمة المحنكة مما في سن الشباب المبالغ في الثقة، لم يكن فقط قادرا على أن يفعل هذه الأشياء، ولكنه فعلها، والكون يشهد بذلك.
أكد بيريرا وديكارت أن الكون كان مخطئا، وأن الله كان محتالا؛ فقد منح الحيوانات كل أدوات الحياة والإحساس؛ لتبقى في الوقت ذاته بلا حياة أو إحساس، حقا! لكني لا أعرف أي فلاسفة مزعومين هؤلاء الذين اندفعوا، من أجل الرد على وهم ديكارت، في الوهم المقابل؛ فقد ادعوا تلك الروح الخالصة للضفادع والحشرات.
بين هذين الجنونين، الجنون الرافض لإحساس أعضاء الإحساس، والآخر الذي يسكن روحا خالصة في بقة، فكر شخص ما في طريق وسيط. كان ذلك هو الغريزة. وما الغريزة؟ عجبا! هي صيغة هيئة جوهرية، إنها هيئة بلاستيكية. إنها لا أعرف ماذا! إنها غريزة. سأساند رأيك طالما أنك ستسمي معظم الأشياء «لا أعرف ماذا »، طالما أن فلسفتك تبدأ وتنتهي بعبارة «لا أعرف ماذا»، سأقتبس لك من بريور في قصيدته عن تفاهة العالم.
إن مؤلف مقالة «النفس» في «الموسوعة» يشرح فكرته كالآتي: «أصور نفس الحيوانات وكأنها جوهر غير مادي وذكي ، ولكن من أي نوع؟ يبدو لي أنها يجب أن تكون مبدأ نشطا لديه حواس ... وهذا فقط ما لديها. لو تفكرنا في طبيعة نفس الحيوانات فهي تمدنا بقاعدة يمكن أن تقودنا لأن نفكر في أن روحانيتها ستنقذها من الفناء.»
لا أعلم كيف يصور امرؤ جوهرا غير مادي. أن تصور شيئا يعني أن تصنع صورة له، وحتى الآن لم يكن أحد قادرا على رسم الروح. فيما يتعلق بكلمة «أصور»، أريد من الكاتب أن يفهم عبارة «أنا أدرك»؛ وإذ أتحدث عن نفسي أعترف بأنني لا أدركها. وأعترف بقدر أقل بأن نفسا روحانية يمكن إفناؤها لأني لا أدرك الخلق ولا العدم؛ لأني لم أحضر قط مجلس الله؛ ولأني لا أعلم شيئا على الإطلاق عن مبادئ الأشياء.
إن أردت أن أثبت أن النفس كائن حقيقي، يمنعني شخص ما بإخباري بأنها ملكة. إن زعمت أنها ملكة وأن لدي ملكة التفكير، يقال لي إنني مخطئ؛ وإن الله، السيد الأبدي للطبيعة كلها، يفعل كل شيء بداخلي، ويوجه جميع أفعالي وأفكاري، وإنني إن كنت أنتجت أفكاري، فيجدر بي أن أعرف الفكر الذي سيكون بداخلي في الدقيقة القادمة؛ وهو ما لا أعرفه مطلقا؛ وإنني محض إنسان أوتوماتيكي محمل ببعض الأفكار والأحاسيس، تابع بالضرورة، وبين يدي الكائن الأسمى أكثر إذعانا له بلا حدود من الطين للخزاف.
أعترف بجهلي، وأعترف بأن أربعة آلاف مجلد من الميتافيزيقا لن تعلمنا شيئا عن ماهية أنفسنا.
قال فيلسوف أرثوذكسي لفيلسوف هرطقي: «كيف كنت قادرا على أن تصل إلى تلك النقطة التي تتخيل فيها أن النفس فانية بطبيعتها، وأنها أبدية فقط بمشيئة الله الخالصة؟» «بخبرتي.» «كيف! هل أنت ميت؟» «نعم، مرارا. عانيت كثيرا من الصرع في شبابي، ويمكنني أن أؤكد لك أني كنت ميتا تماما لبضع ساعات. لا إحساس، ولا ذاكرة حتى للدقيقة التي سقطت فيها مريضا. الشيء نفسه يحدث لي كل ليلة تقريبا. لا أشعر أبدا باللحظة المحددة التي أذهب فيها لأنام؛ نومي بلا أحلام تماما. لا يمكنني أن أتخيل بالحدس كم مكثت نائما. أكون ميتا عادة ست ساعات من الأربع والعشرين ساعة كل اليوم. هذا ربع حياتي.»
أكد الأرثوذكسي حينئذ أنه دائما ما فكر أثناء نومه، دون أن يعرف شيئا عن الأمر. أجابه الهرطقي: «أومن عن طريق الوحي أني يجب أن أفكر دائما في الحياة الأخرى، ولكني أؤكد لك أني نادرا ما أفكر في ذلك.»
لم يكن الأرثوذكسي على خطأ في زعمه خلود النفس؛ لأن الإيمان والمنطق يثبتان هذه الحقيقة، ولكن ربما كان على خطأ في تأكيده أن الإنسان النائم دائما ما يفكر.
أقر لوك بصراحة بأنه لم يفكر دائما بينما وهو نائم. وقال فيلسوف آخر: «الفكر خصيصة للإنسان، لكنه ليس جوهره.»
دعنا نترك لكل إنسان الحرية والعزاء في البحث عن نفسه، وفقدان نفسه وسط أفكاره.
جيد مع ذلك أن نعلم أنه في عام 1730م عانى أحد الفلاسفة
1
بشدة من الاضطهاد؛ لاعترافه - مع لوك - بأن فهمه لم يكن يمارس في كل لحظة في اليوم والليلة. تماما كما أنه لم يكن يستخدم ذراعيه وقدميه في كل اللحظات. لم يضطهده جهل المحكمة وحسب، ولكن أرخي العنان للنفوذ الحقود لقلة ممن يدعون أدباء ضده. وما أنتج في إنجلترا قليلا من الخلافات الفلسفية، أنتج في فرنسا أخس الأعمال الوحشية؛ فقد عانى رجل فرنسي بسبب لوك.
دائما ما كان في وحل أدبنا أكثر من واحد من هؤلاء الوضيعين الذين باعوا أقلامهم، وتآمروا حتى ضد المحسنين إليهم. ربما تبدو هذه الملحوظة بعيدة نوعا ما عن موضوع «النفس»؛ لكن هل يجب على المرء أن يفوت فرصة إرعاب أولئك الذين يجعلون أنفسهم غير مستحقين للقب رجال الأدب، الذين يعهرون بما لديهم من عقل وضمير قليلين من أجل مصلحة ذاتية وضيعة، وسياسة متعصبة، ويخونون أصدقاءهم ليتملقوا الحمقى، وينفثون في الخفاء السم الذي يرغب الأقوياء والأشرار في أن يتجرعه المواطنون النافعون؟
باختصار، بينما نعبد الله بكل نفوسنا، دعونا نعترف دوما بجهلنا العميق بالنفس؛ تلك الملكة من الشعور والتفكير التي نملكها من خيره الذي لا ينفد. دعونا نقر بأن منطقنا الضعيف لا يمكنه أن يسلب الوحي والإيمان شيئا، ولا أن يزيدهما شيئا. دعونا نستنتج بإيجاز أن علينا أن نستخدم هذا الذكاء الذي لا نعرف طبيعته، من أجل إتمام العلوم التي تعد موضوع «الموسوعة»، تماما كصانعي الساعات الذين يستخدمون الزنبركات في الساعات دون يعرفوا ما هو الزنبرك. (4) القسم الرابع
عن النفس وعن معرفتنا القليلة
بناء على بينة معارفنا المكتسبة، جرؤنا على أن نتساءل عما إن كانت النفس خلقت قبلنا؛ وما إن كانت تأتي من العدم إلى جسدنا؛ وفي أي عمر سكنت بين المصران الأعور والمستقيم؛ وما إن كانت أتت بالأفكار معها أم استقبلتها هناك؛ وما هي تلك الأفكار؛ وما إن كان جوهرها بعد أن أحيتنا في بضع دقائق سيعيش من بعدنا إلى الأبد دون تدخل الله نفسه؛ وبما أنها روح، وبما أن الله روح، فهل هما من طبيعة متشابهة؛ هذه الأسئلة تبدو سامية، فما هي؟ هي أسئلة العميان عن النور.
ماذا علمنا الفلاسفة القدماء والمحدثون كافة؟ طفل أكثر حكمة منهم، فهو لا يفكر في الأشياء التي لا يمكنه أن يشكل عنها أي مفهوم.
ستقول إنه محزن لفضولنا الذي لا يمكن إشباعه، ولظمئنا الذي لا يكل للسعادة أن نكون جهلة بأنفسنا هكذا! أوافق، وثمة أمور أكثر محزنة، لكني سأجيبك بالآتي:
لك حتف إنسان، ورغبات إله (أوفيد، «التحولات،» 2: 56).
مرة أخرى يبدو أن طبيعة كل مبدأ للأشياء هي سر الخالق. كيف يمكن للهواء أن يحمل الصوت؟ كيف تخلق الحيوانات؟ كيف تطيع أطرافنا دوما إراداتنا؟ أي يد تضع الأفكار في ذاكرتنا، وتحفظها هناك وكأنها في سجل، وتسحبها أحيانا حينما نريدها، وأحيانا رغما منا؟ طبيعتنا، وطبيعة الكون، وطبيعة أقل نبتة، كل شيء بالنسبة إلينا غارق في هوة مظلمة.
الإنسان كائن يفعل، ويشعر، ويفكر. هذا كل ما نعرفه عنه، ولم تعط لنا معرفة ما يجعلنا نشعر ونفكر، أو ما يجعلنا نفعل، أو ما يجعلنا نوجد. إن ملكة الفعل مبهمة بالنسبة إلينا تماما كما هي ملكة التفكير. صعوبة إدراك كيف تكون لجسد من الطين مشاعر وأفكار هي أقل من صعوبة إدراك كيف تكون لأي كائن ، أيا ما يكن، أفكار ومشاعر.
لدينا في جانب نفس أرشميدس، وفي الجانب الآخر نفس أحمق؛ أهما من الطبيعة نفسها؟ إن كان جوهرهما هو أن تفكرا، فهما تفكران دائما، وباستقلال عن الجسد الذي لا يمكنه الفعل من دونهما. إن كانتا تفكران بطبيعتهما، فهل يمكن لنوع النفس التي لا يمكنها حل مسألة جمع حسابية أن يماثل تلك التي قاست السماء؟ لو كانت أعضاء الجسد هي التي جعلت أرشميدس يفكر، فلماذا لا يفكر على الإطلاق هذا الأحمق الأشد من أرشميدس بنية، والأكثر نشاطا، والذي يؤدي كل وظائفه على نحو أفضل؟ تقول إن ذلك لأن دماغه ليس جيدا كدماغه. ولكنك تفترض افتراضا؛ فأنت لا تعلم على الإطلاق. لم تكتشف فروق بين الأدمغة السليمة التي شرحت. من المحتمل جدا حتى أن يكون مخيخ الأحمق أفضل حالا من مخيخ أرشميدس الذي سبق أن اشتغل بقدر مذهل، وربما بلي وتغضن.
لذا دعنا نلخص ما استنتجناه بالفعل، أننا جاهلون بكل المبادئ الأولى. وفيما يتعلق بالجهلة الذين يفخرون أنفسهم بناء على معرفتهم فهم أدنى كثيرا من القرود.
والآن، أيها المتجادلون الغاضبون المتنازعون، قدموا مرافعاتكم بعضكم ضد بعض. اعرضوا إهاناتكم، انطقوا بجملكم. أنتم يا من لا تعلمون كلمة واحدة عن الأمر. (5) القسم الخامس
عن مفارقة واربيرتون عن خلود النفس
ألف واربيرتون، أسقف جلوسيستر ومحرر أعمال شكسبير وشارحها، مستفيدا من الحرية الإنجليزية، ومستغلا عادة رمي الخصوم بالإهانات، أربعة مجلدات؛ ليثبت أن خلود النفس لم يذكر قط في الأسفار الخمسة، وليستنتج من البرهان نفسه أن رسالة موسى مقدسة. هذا ملخص كتابه الذي يقدمه هو نفسه في الصفحتين السابعة والثامنة من المجلد الأول: (1) «الاعتقاد بحياة أخرى وبمكافآت وعقوبات بعد الموت ضروري لكل المجتمعات المدنية. (2)
اتفق الجنس البشري بأكمله (وهذا ما يخطئ فيه)، وخصوصا أمم العصور القديمة الأكثر حكمة والأكثر ثقافة، في الإيمان بهذا الاعتقاد وتعليمه. (3)
لا يمكن العثور عليها في أي جزء من شريعة موسى. ومن ثم، فشريعة موسى ذات أصل إلهي. وهذا ما سأثبته بهذين القياسين المنطقيين:
القياس الأول:
كل دين، وكل مجتمع لا يتخذ من الإيمان بخلود النفس أساسا له، لا يمكن الحفاظ عليه إلا بعناية إلهية غير عادية؛ الدين اليهودي لم يتخذ من الإيمان بخلود النفس أساسا؛ لذا فالدين اليهودي حفظ بعناية إلهية فائقة.
القياس الثاني:
كل المشرعين القدماء قالوا إن دينا لا يعلم خلود النفس لا يمكن أن يحفظ إلا بعناية إلهية فائقة. أسس موسى دينا لا يعتمد على خلود النفس؛ ومن ثم آمن موسى بأن دينه محفوظ بعناية إلهية غير عادية.»
ما هو غير عادي بقدر أكبر بكثير هو زعم واربيرتون الذي كتبه بحروف كبيرة في بداية كتابه. كثيرا ما انتقد بسبب طيشه المتطرف وإيمانه السيئ اللذين يجرؤ بهما على القول إن المشرعين القدماء كافة آمنوا بأن الدين الذي لا يؤسس على العقوبات والمكافآت بعد الموت لا يمكن أن يحفظ إلا بعناية إلهية غير عادية، ولم يقل أحدهم ذلك قط. لم يكلف نفسه حتى عناء أن يعطي مثالا لذلك في كتابه الضخم المحشو بعدد هائل من الاقتباسات الغريبة جميعها عن موضوعه. لقد دفن نفسه تحت كومة من المؤلفين اليونانيين واللاتينيين، القدماء والمحدثين؛ خوفا من أن يكشف أحد حقيقته على الجانب الآخر من كومة هائلة من الأظرف. وحينما سبر النقد الغور أخيرا بعث من بين كل هؤلاء الموتى ليحمل كل خصومه بالإهانات.
صحيح أنه قرب نهاية المجلد الرابع، وبعد أن مضى عبر مائة متاهة، وقاتل ضد جميع من التقاهم على الطريق، يصل أخيرا إلى سؤاله العظيم الذي تركه هناك. ويلقي كل اللوم على سفر أيوب الذي يمر بين الدارسين وكأنه كتاب عربي، ويحاول أن يثبت أن أيوب لم يؤمن بخلود النفس. بعد ذلك يشرح بطريقته كل نصوص الكتب المقدسة التي حاول الناس باستخدامها مناهضة هذا الرأي.
كل ما يمكن للمرء أن يقوله عن ذلك هو أنه إن كان مصيبا، فلم يكن ينبغي لأسقف أن يكون مصيبا بهذه الطريقة. كان يجب عليه أن يشعر أنه ربما يستمد المرء استدلالات خطيرة؛ لكن كل شيء في هذا العالم هو فوضى من التناقض . هذا الرجل الذي أصبح متهما ومضطهدا، لم يرشم أسقفا بوكالة من رعاية الدولة إلا حالما فرغ من كتابة هذا الكتاب.
لو كان في سالامانكا، أو قلمرية، أو روما لأجبر على التراجع وطلب العفو. أما في إنجلترا، فقد أصبح نبيلا في منطقة يبلغ دخلها مائة ألف ليرة. كان ذلك كافيا ليعدل مناهجه. (6) القسم السادس
عن الحاجة إلى الوحي
أعظم فائدة ندين بها للعهد الجديد هي أنه كشف لنا عن خلود النفس؛ لذلك كان من العبث أن يحاول هذا الأخ واربيرتون إخفاء هذه الحقيقة المهمة بزعمه المستمر خلال استخدامه موسى في نقل أفكاره أن «اليهود القدماء لم يعرفوا شيئا عن هذه العقيدة المهمة، وأن الصدوقيين لم يقروا بها في وقت سيدنا يسوع.»
وهو يؤول بطريقته الكلمات الحقيقية التي وضعت في فم يسوع المسيح: «أما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل: أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب؟ ليس الله إله أموات بل إله أحياء.» (متى 22: 31، 32). إنه يعطي لعبرة الرجل الغني الشرير معنى مناقضا لكل تعاليم الكنيسة. وفند رأيه شيرلوك، أسقف لندن، وعشرون عالما آخر. بل إن الفلاسفة الإنجليز لاموه على فضيحة أسقف أنجليكاني أعلن عن رأي مناقض لرأي الكنيسة الأنجليكانية. وبعد ذلك يقرر هذا الرجل أن يعامل هؤلاء الأشخاص على أنهم مزدرون بالمقدسات، مثل شخصية أرلكوين في كوميديا «لص البيوت» الذي يرى بعد أن رمى الأثاث من النافذة رجلا يحمل بعضا منه؛ فيصرخ بكل قوته: «أوقفوا اللص!»
على المرء أن يبارك الكشف عن خلود النفس، والمثوبات والعقوبات بعد الموت، وغير ذلك مما ظلت فلسفة الجنس البشري العقيمة مرتابة بشأنه. لم يؤمن قيصر العظيم بشيء من ذلك على الإطلاق، وقد عبر عن موقفه بوضوح في مجلس شيوخ مكتمل، حينما أعلن، لكي يمنع إعدام كاتالينا، أن الموت يترك الإنسان بلا إحساس، وأن كل شيء يموت معه، ولم ينتقد أي شخص هذا الرأي.
انقسمت الإمبراطورية الرومانية بين طائفتين رئيستين؛ الإبيقورية التي أكدت أن الإله غير مجد للعالم، وأن النفس تفنى مع الجسد. والرواقية التي تعاملت مع النفس على أنها جزء من الإله يلتحم بعد الموت بأصله، بذلك الشيء العظيم التي انبثقت منه. ولذلك، فسواء أآمن المرء بأن النفس فانية أم بأن النفس خالدة، اتفقت الطائفتان كلتاهما في السخرية من الآلام والعقوبات بعد الموت.
ما زالت لدينا آثار كثيرة من إيمان الرومان هذا. وبفضل هذا الرأي المحفور بعمق في قلوب كثير من المواطنين الرومان البسطاء، قتلوا أنفسهم بلا أدنى تردد، ولم ينتظروا أن يسلمهم طاغية إلى معدميهم.
حتى أكثر الرجال فضيلة، وأولئك الأكثر اقتناعا بوجود الله، لم يأملوا في ثواب ولم يخافوا من عقاب. كليمندس، الذي أصبح فيما بعد بابا وقديسا بدأ بنفسه في الشك فيما قاله المسيحيون الأوائل عن الحياة الأخرى، واستشار القديس بطرس في قيسارية. نحن لا نصدق أن القديس كليمندس كتب التاريخ الذي ينسب إليه، ولكن ذلك التاريخ يدلل على الحاجة التي كانت لدى الجنس البشري إلى وحي محدد. كل ما يمكن أن يفاجئنا هو أن عقيدة قمعية ومفيدة هكذا تركت فريسة لكثير من الجرائم المروعة أناسا لديهم القليل من الوقت ليعيشوه، ويرون أنفسهم محصورين بين نوعين من الخلود. (7) القسم السابع
نفوس الحمقى والمسوخ
يولد طفل مشوه معاقا ذهنيا تماما، لا يملك أفكارا، ويعيش بلا أفكار. رأينا نماذج شبيهة بذلك. كيف ينبغي تعريف هذا الحيوان؟ قال الأطباء إنه شيء ما بين الإنسان والبهيمة. وقال آخرون إن لديه نفسا حساسة، لكنها ليست نفسا مفكرة. إنه يأكل، ويشرب، وينام، ويستيقظ، ولديه حواس، لكنه لا يفكر.
أثمة حياة أخرى لهذا المخلوق أم لا؟ طرح السؤال ولم يجب أحد عنه إجابة وافية.
يقول بعض المفكرين إن هذا المخلوق لابد أن لديه نفسا؛ لأن أباه وأمه كانت لديهما نفسان. لكن بذلك المنطق يمكن للمرء أن يثبت أنه لو أنه أتي إلى العالم بلا أنف فسيعتبر الناس أن له أنفا لأن أباه وأمه لديهما أنفان.
قد تلد امرأة طفلا بلا ذقن، وجبهته متقلصة داكنة بعض الشيء، وأنفه نحيل مدبب، وعيناه مستديرتان، ولا يختلف عن طائر سنونو، إلا أن باقي جسده يشبه أجسادنا. يعمده الوالدان، وبأكثرية الأصوات، يعد إنسانا ذا نفس خالدة. لكن إن كان لدى ذلك المخلوق الضئيل السخيف أظافر مدببة، وفم مثل المنقار، فسيعلنون أنه مسخ، ولا تكون له نفس، ولا يعمد.
معروف جيدا أنه في لندن عام 1726م كانت هناك امرأة تلد أرنبا كل أسبوع. لم توجد صعوبة كبيرة في رفض تعميد هذا الطفل على الرغم من الجنون الذي انتشر كالوباء في لندن لثلاثة أسابيع بسبب تصديق أن تلك المرأة الفقيرة المحتالة كانت تلد أرانب برية. أقسم الجراح الذي كان يعتني بها، وكان يدعى القديس أندريه، أنه ما من شيء أصدق من ذلك، وصدقه الناس. لكن ما السبب الذي جعل السذج ينكرون على أطفال تلك المرأة أن تكون لهم أنفس؟ كانت لديها نفس؛ ومن ثم ينبغي أن يكون أطفالها مزودين بأنفس هم أيضا. سواء أكانت لديهم أذرع أم براثن حيوانات، وسواء أولدوا بخطم أم بوجه، أفلا يمكن للكائن الأعظم أن يهب منحة الفكر والإحساس لكائن ضئيل لا أعرف ما هو، ولدته امرأة على هيئة أرنب كما يمنحها لكائن ضئيل لا أعرف ما هو، على هيئة إنسان؟ هل يمكن للنفس التي كانت مستعدة أن تستقر داخل جنين تلك المرأة أن تعود إلى الفضاء مرة أخرى؟
يدون لوك ملحوظة ذائعة، عن المسوخ، مفادها أنه لا يجب على المرء أن يعزو الخلود إلى المظاهر الخارجية لجسد ما، وأن الشكل ليس له علاقة بذلك. ويقول إن هذا الخلود لا يتعلق بشكل وجهه أو صدره أكثر مما يتعلق بطريقة تهذيب لحيته أو قصة معطفه.
يسأل لوك: ما هو بالضبط مقياس التشوه الذي تعرف من خلاله ما إن كانت للطفل نفس أم لا؟ ما هي الدرجة المحددة التي لا بد معها من الإعلان أنه مسخ محروم من النفس؟
لكن المرء يسأل عما هو أبعد من ذلك: ما الذي تكونه نفس ليس لديها إلا أفكار رائعة؟ هناك بعض من لا تفارقهم أبدا الأفكار الرائعة. أيستحقون أم لا يستحقون؟ وما العمل مع روحهم النقية ؟
ماذا يمكن أن يظن المرء في طفل برأسين وبلا تشوه عدا ذلك؟ يقول بعض المفكرين إن لديه نفسين لأن لديه غدتين صنوبريتين، وجسما ثفنيا، ومركزين عصبيين. يرد آخرون بأنه لا يمكن للمرء أن تكون له نفسان بينما يكون له صدر واحد وسرة واحدة.
2
باختصار، طرح كثير من الأسئلة عن هذه النفس الإنسانية الضعيفة، وإن كان ضروريا أن نجيب عنها جميعا، فسيسبب لها هذا الفحص من الشخص صاحب هذه النفس ضجرا لا يطاق. وقد يحدث لها ما حدث لكاردينال بولينياك في مجمع الأحبار الكاثوليك؛ فبعد أن تعب مدبر أعماله من أنه لم يقدر قط على جعله يسوي حساباته، خاض الرحلة من روما، وأتى إلى النافذة الصغيرة لحجرته المثقلة بحزمة هائلة من الأوراق. ظل يقرأ لما يقرب من ساعتين، وفي النهاية، وبعد أن رأى أنه لم يعد يأتيه رد منه، نظر إلى الأمام. كان الكاردينال قد رحل قبل ساعتين. سترحل نفوسنا قبل أن نتوصل إلى الحقيقة، ولكن فلنكن أمناء أمام الله مهما يكن جهلنا، نحن ومدبرو أعمالنا.
هوامش
الدول والحكومات
درست مؤخرا مداخل جميع الحكومات ومخارجها بدقة. أخبرني إذا يا من سافرت، في أي دولة وتحت أي نوع من الحكومات كنت تفضل أن تولد؟ إخال أن سيدا مالكا للأراضي عظيما في فرنسا لم يكن ليزعجه أن يولد في ألمانيا، فسيصبح سيدا بدلا من أن يكون خاضعا. وسيكون نبيل من فرنسا مسرورا بأن تكون لديه امتيازات النبالة الإنجليزية، وسيصبح مشرعا. أما المحامي والمصرفي، فسيكون أفضل حالا في فرنسا مما يكون في أي مكان آخر.
ولكن أي دولة يمكن أن يختارها إنسان حكيم حر، إنسان ذو ثروة معقولة، وبلا تحيزات.
عاد أحد أعضاء حكومة بونديشيري، وهو رجل مثقف، إلى أوروبا بطريق البر بصحبة براهمي أكثر ثقافة من البراهمة العاديين. سأله المستشار: «ماذا رأيك في حكومة عظيم المغول؟»
أجاب البرهمي: «أعتقد أنها مقيتة. كيف تتوقع أن تكون دولة يحكمها التتار تماما؟ أمراؤنا وولاتنا وأثرياؤنا راضون جدا، ولكن المواطنين راضون بالكاد؛ وملايين المواطنين بعض الشيء.»
جال المستشار والبراهمي بفكريهما في آسيا العليا كلها. قال البراهمي: «ألحظ أنه ما من جمهورية واحدة في كل ذلك الجزء الواسع من العالم.»
قال المستشار: «كانت فيما مضى جمهورية صور، لكنها لم تستمر طويلا، وكانت هناك واحدة أخرى في اتجاه مقاطعة البتراء العربية عند ركن صغير يدعى فلسطين، إن كان يمكن للمرء أن يضفي شرف اسم الجمهورية على عصابة من اللصوص والمرابين الذين حكمهم قضاة أحيانا، وسلالة من الملوك أحيانا، وكبار الكهنة في أحيان أخرى، ويصبحون عبيدا سبع مرات أو ثمانيا، وفي المدى البعيد يطردون من الأرض التي سبق أن اغتصبوها.»
قال البراهمي: «إخال أنه لا بد أن توجد جمهوريات قليلة للغاية على الأرض. نادرا ما يكون الناس جديرين بحكم أنفسهم. ينبغي أن تقتصر هذه السعادة على شعوب قليلة يخفون أنفسهم في الجزر أو بين الجبال؛ مثل الأرانب التي تنأى بنفسها عن الوحوش آكلة اللحم، ولكن على المدى الطويل يكتشفون ويفترسون.»
حينما وصل المسافران إلى آسيا الصغرى، قال المستشار للبراهمي: «هل كنت ستصدق أن جمهورية شكلت في أحد أركان إيطاليا استمرت أكثر من خمسمائة سنة، وبسطت نفوذها على آسيا الصغرى وآسيا وأفريقيا واليونان وبلاد الغال وإسبانيا وكل إيطاليا؟»
قال البراهمي: «ولكنها سرعان ما أصبحت ملكية بعد ذلك.»
قال الآخر: «أنت على صواب، ولكن هذه الملكية سقطت، وفي كل يوم نؤلف أطروحات جميلة من أجل إيجاد سبب اضمحلالها وانهيارها.»
قال الهندي: «تتحملون قسطا كبيرا من المتاعب. سقطت هذه الإمبراطورية لأنها وجدت، فكل شيء يجب أن يسقط، وكم أرغب في حدوث ذلك لإمبراطورية عظيم المغول.»
قال الأوروبي: «بالمناسبة، هل ترى أنه ينبغي أن يكون ثمة شرف أكبر في الدول الاستبدادية، وفضيلة أكثر في الدول الجمهورية؟»
قال الهندي بعد توضيح ما نقصده بالشرف له إن الشرف ضروري بقدر أكبر في الجمهورية، وإن المرء بحاجة إلى مزيد من الفضيلة في الدول الملكية، وعلل ذلك بقوله: «لأن الإنسان الذي يطالب بأن ينتخبه الناس لن ينتخب إن كان فاقدا للشرف؛ بينما يمكنه في البلاط أن يكتسب مكانة طبقا لرغبة الأمير العظيم، فمن أجل أن ينجح في أن يصبح أحد رجال الحاشية ينبغي ألا يكون لديه شرف أو شخصية. أما عن الفضيلة، فيجب على المرء أن يكون فاضلا بقدر هائل حتى يجرؤ على قول الحقيقة. وأكثر ما يكون الرجل الفاضل على راحته في الجمهورية؛ فليس لديه من يداهنه.»
قال الرجل القادم من أوروبا: «هل تعتقد أن القوانين والأديان صنعت للمناخات، تماما كما يرتدي المرء الفرو في موسكو، والملابس الرقيقة في دلهي؟»
أجاب البراهمي: «بلا شك. كل القوانين التي تخص الأشياء المادية تسن طبقا لخط الطول الذي يعيش فيه المرء. يحتاج الألماني زوجة واحدة فقط، والفارسي في حاجة لثلاث زوجات أو أربع.
شعائر الدين من الطبيعة نفسها. كيف يمكنني، لو كنت مسيحيا، أن أقيم قداسا في بلدي حيث لا يوجد خبز ولا خمر؟ أما عن العقائد، فهذه مسألة أخرى، فلا علاقة للمناخ بها. ألم تبدأ ديانتك في آسيا، ومنها طردت؟ ألا توجد تلك الديانة بالقرب من بحر البلطيق؛ حيث لم تكن معروفة؟»
سأل المستشار: «في أي دولة وتحت أي نوع من الحكم تفضل أن تعيش؟»
أجاب رفيقه: «أي مكان، ولكن حيث أعيش بالمعنى الحقيقي للكلمة. التقيت كثيرا من السياميين والتونكينيين والفارسيين والترك، الذين قالوا مثل ذلك.»
ألح الأوروبي: «لكن، مرة أخرى، أي دولة ستختار؟»
أجاب البراهمي: «الدولة التي يطاع فيها القانون وحده.»
قال المستشار: «تلك إجابة قديمة.»
قال البراهمي: «لا يعيبها ذلك.»
سأل المستشار: «أين تلك الدولة؟»
أجاب البراهمي: «يجب أن نبحث عنها.»
الخرافة
مثل المؤمن بالخرافات للمحتال مثل العبد للطاغية. الأكثر من ذلك أن المؤمن بالخرافات يحكمه التعصب، ويصبح متعصبا. أصابت الخرافة التي ولدت في الوثنية واعتنقتها اليهودية، الكنيسة المسيحية منذ العصور الأولى. آمن كل آباء الكنيسة بلا استثناء بقوة السحر . أدانت الكنيسة السحر دائما، لكنها آمنت به دوما. ولم تحرم الكنيسة السحرة بوصفهم مجانين أخطئوا، ولكن بوصفهم أناسا كانوا على اتصال حقيقي مع الشيطان.
اليوم يعتقد نصف أوروبا أن النصف الآخر طالما آمن بالخرافات، وما زال يؤمن بها. يعتبر البروتستانت التذكارات المقدسة، وصكوك الغفران، وإماتة الجسد، والصلوات للموتى، والماء المقدس، وتقريبا كل شعائر الكنيسة الرومانية خبلا خرافيا. تكمن الخرافة، وفق رأيهم، في افتراض أن الممارسات عديمة الجدوى ممارسات ضرورية. ويوجد بين الكاثوليك الرومان بعض من هم أكثر استنارة من أسلافهم، وهم الذين تخلوا عن كثير من تلك العادات التي كانت تعد مقدسة فيما مضى. وهم يدافعون عن أنفسهم ضد الآخرين الذين حافظوا عليها بالقول: «إنهم لا مبالون، ولا يمكن أن يكون اللامبالي وحسب شريرا.»
من الصعب أن نحدد حدودا للخرافة. يمكن لفرنسي مسافر إلى إيطاليا أن يجد أن كل شيء خرافي وبالكاد يكون مخطئا. يزعم رئيس أساقفة كانتربري أن كبير أساقفة باريس يؤمن بالخرافات، ويلقي المشيخيون باللوم نفسه على نيافة رئيس أساقفة كانتربري، ويعاملون بدورهم بوصفهم مؤمنين بالخرافات من قبل الكويكرز الذين يعتبرون هم أكثر الناس إيمانا بالخرافة في نظر المسيحيين الآخرين.
لذلك، لا يتفق أحد في المجتمعات المسيحية على ماهية الخرافة. الطائفة التي تبدو أقل تعرضا لهجوم ذلك المرض الذي يصيب الذكاء هي تلك الطائفة التي يكون لديها أقل الشعائر، لكن إن كانت ما زالت مرتبطة بقوة بإيمان مناف للعقل عن طريق شعائر قليلة، فهذا الإيمان المنافي للعقل يعادل وحده كل الممارسات الخرافية التي رصدت من زمن سيمون الساحر حتى الأب جوفريدي.
واضح، إذا، أن أساسيات الدين عند إحدى الطوائف هي ما تعتبرها طائفة أخرى خرافة.
يتهم المسلمون المجتمعات المسيحية كافة بذلك، وهم أنفسهم متهمون. من ذا الذي سيفصل في تلك المسألة الخطيرة؟ هل سيكون العقل؟ لكن كل طائفة تدعي أن العقل في صفها. ولذلك فالقوة سوف تفصل بينما ينتظرون الوقت الذي سيستطيع فيه العقل أن يخترق عددا كبيرا من العقول لكي ينزع سلاح القوة.
إلى أي حد تسمح سياسة الدولة بتدمير الخرافة؟ هذا سؤال شائك للغاية. إنه يشبه التساؤل إلى أي درجة يجب على الطبيب أن يبدأ بفتح جراحي لشخص لديه استسقاء ربما يموت أثناء تلك العملية. إنها مسألة تعتمد على رؤية الطبيب.
هل يمكن أن يوجد بشر أحرار من كل التحيزات الخرافية؟ هذا يعني التساؤل عما إن كان من الممكن أن توجد أمة من الفلاسفة. يقال إنه ما من خرافة عند قضاة الصين. من المرجح ألا يتبقى أي منها لدى القضاة في قليل من بلدات أوروبا.
من ثم، سيحد القضاة من خطورة خرافات الناس. نموذج القضاة هذا لن يجعل الغوغاء مستنيرين، ولكن الأشخاص البارزين في الطبقات الوسطى سوف يكبحون جماح الغوغاء. ربما لا يوجد شغب واحد، سخط ديني واحد لم يسبق أن لطخت فيه الطبقات الوسطى؛ لأن هذه الطبقات الوسطى كانت حينئذ هي الغوغاء، لكن العقل والوقت سوف يغيرانها، وستلطف سلوكياتهم، التي هذبت، أولئك السكان الأدنى والأكثر همجية، ولدينا أمثلة قوية لهذا في أكثر من دولة. باختصار، كلما قلت الخرافة قل التعصب، وكلما قل التعصب قلت التعاسة.
الدموع
الدموع هي لغة الأسى الصامتة. ولكن لماذا؟ ما العلاقة بين فكرة حزينة وبين ذلك السائل المالح الشفاف الذي يرشح عبر غدة صغيرة في الزاوية الخارجية من العين، ويرطب الملتحمة والنقاط الدمعية الصغيرة، ومنها ينحدر داخل الأنف والفم عبر خزانة يطلق عليها الخزانة الدمعية وقنواتها؟
لماذا تكون استثارة الدموع بفعل الحزن أسهل كثيرا لدى النساء والأطفال الذين تكون أعضاؤهم جزءا من شبكة هشة رقيقة، منها لدى الرجال الناضجين ذوي النسيج الأقوى؟
هل شاءت الطبيعة أن تولد فينا الشفقة لرؤية تلك الدموع التي ترققنا، وتقودنا لمساعدة أولئك الذين يسكبونها؟ المرأة التي تنحدر من جنس همجي مجبولة على مساعدة طفل يبكي مثلما تفعل امرأة من الحاشية، وربما بقدر أكثر؛ لأن لديها ملهيات ورغبات أقل.
لكل شيء في الجسم الحيواني غرض بلا شك؛ فللعيون تلك العلاقة الواضحة، المؤكدة والمحببة بأشعة الضوء. هذه الآلية مقدسة حتى إنها تغريني باعتبار الوقاحة التي تنكر العلل الغائية لبنية أعيننا هذيانا من الحمى المستعرة.
لا يبدو أن لاستخدام الدموع هدفا محددا ومدهشا هكذا، لكن سوف يكون جميلا أن تجعلها الطبيعة تنهمر لتبعث فينا الرحمة.
من النساء من يتهمن بأنهن يبكين متى يرغبن. لا تدهشني على الإطلاق موهبتهن. فيمكن لمخيلة حية حساسة رقيقة أن تثبت نفسها على هدف ما؛ على ذكرى ما حزينة، وتصورها بألوان آسرة، لدرجة أنها تعتصر الدموع منها. هذا ما يحدث للكثير من الممثلين والممثلات، خاصة على خشبة المسرح.
النساء اللاتي يحاكينهن في بيوتهن يضفن إلى هذه الموهبة القليل من الاحتيال بالتظاهر بأنهن يبكين على أزواجهن بينما هن في الحقيقة يبكين على عشاقهن، دموعهن حقيقية ولكن الغرض منها زائف.
قد يسأل أحدهم: ولماذا قد يبكي الرجل على المسرح عند تمثيل هذه الأحداث والجرائم وهو من شاهد أكثر الأحداث وحشية بعين جافة، بل وارتكب جرائم بدم بارد؟ هذا لأنه لا يراها بالعينين نفسيهما، ولكن يراها بأعين المؤلف والممثل. لم يعد الرجل نفسه. كان قبل ذلك همجيا مهتاجا بعواطف غاضبة حينما شاهد امرأة بريئة قتيلة، وحينما لطخ نفسه بدم صديقه. كانت روحه مملوءة باضطراب عاصف، وها هي هادئة، فارغة، تعود إليها الطبيعة؛ فيذرف دموعا نقية. وهذه هي الميزة الحقيقية، هذا هو النفع العظيم للمسارح. هناك قد أنجز ما لم يكن من الممكن إنجازه أبدا بالخطب الباردة التي يلقيها الخطيب، وتجعل الجمهور كله يشعر بالملل لساعة من الزمن.
ربما ذرف الدمع ديفيد المشرع الذي تسبب في مقتل كالاس البريء على العجلة وشاهده بلا عاطفة، لو شاهد جريمته في تراجيديا مكتوبة بحنكة وممثلة جيدا.
لهذا السبب قال البابا لكيتو في افتتاحية مسرحية أديسون: «لم يعد الطغاة يحتفظون بطبعهم الهمجي، وتعجب أعداء الفضيلة كيف بكوا.»
الموحد
الموحد شخص شديد الإيمان بوجود كائن أسمى، طيب بقدر ما هو مقتدر، خلق كل الكائنات بامتداد ونمو وإحساس وتأمل، وهو يحفظ أنواعهم، ويعاقب على الجرائم بلا قسوة، ويكافئ على الأفعال البارة بعطف.
لا يعلم الموحد كيف يعاقب الله وكيف يحمي وكيف يعفو؛ لأنه ليس من التهور بحيث يقحم نفسه في محاولة اكتشاف كيف يفعل الرب، لكنه يعلم أن الرب يفعل، وأنه عادل. أما الصعوبات المثارة ضد العناية الإلهية فلا تهز إيمانه؛ لأنها مجرد صعوبات كبيرة، وليست أدلة. يخضع لهذه العناية الإلهية، على الرغم من أنه لا يدرك من هذه العناية إلا تأثيرات قليلة وعلامات قليلة؛ وإذ يحكم على الأشياء التي لا يراها بالأشياء التي يراها، يعتبر أن تلك العناية الإلهية تبلغ كل الأماكن والأزمان.
وإذ تصالح وفق هذا المبدأ مع بقية الكون، فهو لا يتبع أيا من الطوائف التي تناقض كل واحدة منها الأخرى. دينه هو الأقدم والأوسع انتشارا؛ لأن عبادة الله البسيطة سبقت كل نظريات العالم. إنه يتكلم بلغة يستطيع فهمها كل الأقوام، بينما لا يستطيعون هم أن يفهم بعضهم بعضا. لديه إخوة، من بكين إلى كايين، يعتبرهم جميعا حكماء كإخوته. يؤمن بأن الدين لا يشتمل على آراء لميتافيزيقي غامض، ولا على مظهر سطحي، لكن على العبادة والعدل. في فعل الخير خدمته، وفي خضوعه لله عقيدته. يصيح المحمدي فيه: «احذر إن لم تحج إلى مكة!» ويذكره الآخر: «الويل لك إن لم تسافر إلى نوتردام دي لوريت!» أما هو فيضحك من مكة ولوريت، لكنه ينجد المحتاج، ويدافع عن المضطهد.
التسامح
ما التسامح؟ إنه نتاج الإنسانية. نحن جميعا مخلوقون من الضعف والخطأ، فليعذر كل منا حماقة الآخر. هذا هو القانون الأول للطبيعة.
واضح أن الفرد الذي يضطهد أخاه الإنسان، لأنه ليس من رأيه، هو وحش. يمكننا قول ذلك بلا صعوبة، لكن الحكومة! لكن القضاة! لكن الأمراء! كيف يعاملون أولئك الذين يتعبدون بعبادة مختلفة عن عباداتهم؟ إذا كانوا غرباء أقوياء فمن المؤكد أن الأمير سوف يتحالف معهم. سيتحالف فرانسوا الأول، المسيحي للغاية، مع المسلمين ضد شارل الخامس الكاثوليكي للغاية. سيعطي فرانسوا الأول المال للوثريي ألمانيا ليدعمهم في تمردهم ضد الإمبراطور؛ لكن، طبقا للعادة، سوف يبدأ بحرق اللوثريين في وطنه. لأسباب سياسية يدفع لهم في ساكسونيا، ولأسباب سياسية يحرقهم في باريس. ولكن ماذا سيحدث؟ هل تصنع الاضطهادات مرتدين ؟ سرعان ما ستمتلئ فرنسا بأعداد جديدة من البروتستانت. في البداية، سيستسلمون للشنق، ولكن بعد ذلك سيشنقون هم بدورهم. ستكون هناك حروب أهلية، وستأتي مذبحة سان بارثولوميو، وسيصبح هذا الركن من العالم أسوأ من أي جحيم سمع عنه القدماء أو المحدثون.
أيها المجانين، يا من لم تقدروا قط على عبادة الله الذي خلقكم! أيها المجرمون الذين لم تقدروا أبدا على الاهتداء بقدوة أتباع شرائع نوح، ولا بالصينيين المستنيرين، ولا البارسيين وكل الحكماء! أيها الوحوش الذين تحتاجون إلى الخرافات كما تحتاج حواصل الغربان للجيف! أخبرتم بهذا بالفعل ولا شيء آخر لأخبركم به؛ إن كان لديكم ديانتان في بلادكم فستذبح كل منهما الأخرى، وإن كان لديكم ثلاثون دينا فسيسكنون في سلام. انظروا إلى عظيم الترك، يحكم الزرادشتيين، والبانيانيين، والمسيحيين اليونانيين، والنساطرة، والروم. وأول من يحاول أن يثير الفتن يخوزق، ويصمت الجميع.
من بين كل الديانات، المسيحية بلا شك هي الديانة التي يجب أن تلهم البشر بالتسامح أكثر من غيرها، مع أنه حتى الآن، ظل المسيحيون أكثر البشر افتقارا للتسامح. انقسمت الكنيسة المسيحية في مهدها، وانقسمت حتى أثناء الاضطهادات التي استمرت أحيانا تحت حكم الأباطرة الأوائل. وكثيرا ما كان الشهيد يعد منشقا من قبل إخوته، وحتى طائفة المسيحيين الكاربوكراتيين انتهت تحت سيف منفذي الإعدام الرومان، وحرم أعضاؤها كنسيا من قبل المسيحية الإبيونية، التي كانت محرومة في نظر السابليين.
هذا النزاع المرعب الذي امتد قرونا كثيرة هو درس مذهل نتعلم منه أنه يجب أن يسامح كل منا أخطاء الآخر. إن النزاع هو المرض الكبير للبشرية، والتسامح هو علاجه الوحيد.
ما من إنسان يختلف مع تلك الحقيقة سواء أكان يتأمل بانتباه في دراسته، أم يفحص الحقيقة بهدوء مع أصدقائه. لماذا، إذا، يبرز الناس الذين يقرون في السر بالتسامح والشفقة والعدل، هم أنفسهم على الملأ بهذا الغضب الشديد ضد هذه الفضائل؟ لماذا؟ لأن مصلحتهم الخاصة هي إلههم؛ ولذلك يضحون بكل شيء لهذا الوحش الذي يعبدونه؟
لدي كرامة وقوة مؤسستان على الجهل والسذاجة؛ أسير على رءوس البشر الذين يخرون ساجدين عند قدمي؛ وإن قاموا وتطلعوا إلى وجهي، فسأضيع. يجب أن أوثقهم إلى الأرض بالسلاسل الحديدية.
هكذا فكر الرجال الذين جعلتهم قرون من التعصب أقوياء. لديهم رجال أقوياء آخرون أدنى منهم، وهؤلاء أيضا لديهم رجال أقوياء آخرون تحت سلطتهم، واغتنوا جميعا من نهب الفقراء، وسمنوا من دمائهم، وسخروا من غبائهم. جميعهم يمقتون التسامح؛ لأن المتحزبين الذين اغتنوا على حساب العامة يخافون من تقديم حساباتهم، ولأن الطغاة يرتجفون من كلمة الحرية. وبعد ذلك، وليتوجوا كل شيء، يستأجرون المتعصبين الذين يصرخون بأعلى أصواتهم: «احترموا سخافات سيدي، وارتعشوا، وادفعوا وأغلقوا أفواهكم.»
هكذا عومل جزء كبير من العالم لفترة طويلة، ولكن اليوم، إذ تصنع طوائف كثيرة توازن قوى فأي طريق يفترض اتباعه معها؟ كل طائفة، كما يعلم المرء، تشكل مصدرا للخطأ، فلا توجد طوائف من علماء الهندسة أو الجبر أو الحساب؛ لأن كل افتراضات الهندسة والجبر والحساب صحيحة. في كل علم آخر، ربما يضل المرء. أي عالم لاهوت أكويني أو سكوتي يمكن أن يجرؤ على أن يقول بجدية إنه متأكد من قضيته؟
إن كان مسموحا لنا أن نتفكر بطريقة متسقة في المسائل الدينية، فمن الواضح أنه يجب علينا جميعا أن نكون يهودا؛ لأن يسوع المسيح - مخلصنا - ولد يهوديا، وعاش يهوديا، ومات يهوديا، وقال بوضوح إنه كان يتمم، ويحقق الديانة اليهودية. لكنه واضح مع ذلك أننا يجب أن نكون متسامحين فيما بينا؛ لأننا جميعا ضعفاء، غير متوافقين مع أنفسنا، وعرضة للتقلبات والأخطاء. هل يمكن لخيزرانة أسقطتها الريح في الوحل أن تقول لمثيلتها التي سقطت في الاتجاه المقابل: «ازحفي كما أزحف، أيتها الحقيرة، وإلا سأقدم التماسا لكي تنتزعي من الجذور وتحرقي!»
الحق
«فقال له بيلاطس: «أفأنت إذا ملك؟» أجاب يسوع: «أنت تقول إني ملك. لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق. كل من هو من الحق يسمع صوتي.»
قال له بيلاطس: «ما هو الحق؟» ولما قال هذا خرج أيضا ... إلخ (يوحنا 18: 37).
من المحزن للجنس البشري أن بيلاطس قد خرج دون أن ينتظر الإجابة، فينبغي أن نعلم ما هو الحق. كان لدى بيلاطس قليل جدا من الفضول. يقول المتهم المسوق أمامه عن نفسه إنه ملك، أو إنه سيصبح ملكا، ولا يسأل بيلاطس كيف يمكن أن يكون هذا. إنه القاضي الأعظم باسم قيصر، وله سلطة تقرير الحياة أو الموت. كان واجبه أن يستخرج معنى تلك الكلمات. كان عليه أن يقول: «أخبرني ماذا تفهم من كونك ملكا. كيف ولدت لتصبح ملكا ولتشهد للحق؟ يقال إن الحق لا يصل إلى آذان الملوك إلا بصعوبة. أنا قاض، ودائما ما واجهت مشكلة كبيرة في العثور عليه. بينما أعداؤك يعوون ضدك بلا حق، قدم لي أي معلومات بهذا الشأن، ستسدي إلي أعظم خدمة أسديت إلى قاض، فأنا أفضل كثيرا أن أتعلم كيف أعترف بالحق من أن أنضم إلى متذمري اليهود الذين يطالبون بشنقك.»
أكيد أننا لن نتجرأ على التماس ما كان من شأن مؤلف الحق كله أن يستطيع الرد به على بيلاطس.
هل كان من شأنه أن يقول: «إن الحق كلمة مجردة يستخدمها أغلب الناس بلا مبالاة في كتبهم وأحكامهم، من أجل الباطل والزور؟» كان من شأن هذا التعريف أن يكون ملائما على نحو رائع لكل صناع النظريات. وبالمثل، كلمة «الحكمة» التي عادة ما تطلق على الحماقة بينما يطلقون كلمة «حصيف» على شيء لا معنى له.
من ناحية إنسانية، دعونا نعرف كلمة الحق بينما ننتظر تعريفا أفضل، بأنها «تقرير الوقائع كما هي.»
أفترض أنه لو منح المرء بيلاطس ستة أشهر فقط ليعلمه حقائق المنطق، لأجرى بالقطع هذا القياس الحاسم. يجب ألا ينتزع المرء حياة إنسان لمجرد أنه وعظ بخلق طيب. حسنا، الرجل المتهم وعظ على مرأى أعدائه بخلق ممتاز. إذا يجب ألا يعاقب بالموت.
ربما كان يجب عليه أن يستنتج هذه الحجة الإضافية.
واجبي أن أفرق هذا الجمع المشاغب من المحرضين الذين يطالبون بموت إنسان، بلا سبب معقول، وبلا شكل قانوني. حسنا، ذلك موقف اليهود في هذه الحالة. إذا، يجب أن أطردهم وأفرق جمعهم.
نفترض أن بيلاطس كان يعرف علم الحساب؛ ولذلك فلن نتكلم عن تلك الصيغ من الحق.
أما عن الحقائق الحسابية، فأعتقد أنه كان يجب على الأقل قضاء ثلاثة أعوام قبل أن يتعلم علما أعلى كالهندسة. حقائق الفيزياء، مصحوبة بحقائق الهندسة تلك، من شأنها أن تستلزم أكثر من أربعة أعوام. ونقضي ستة أعوام في دراسة اللاهوت في المعتاد، لكنني أطلب اثني عشر عاما لبيلاطس؛ لأنه وثني، ولن تكون ستة أعوام أكثر مما ينبغي لاجتثاث كل أخطائه القديمة، وستة أعوام أخرى لجعله مهيئا ليتسلم قلنسوة حامل الدكتوراه.
لو كان لبيلاطس عقل متوازن جيدا، لطلبت له عامين فقط لأعلمه الحقيقة الميتافيزيقية، ولأن الحقيقة الميتافيزيقية مرتبطة بالضرورة بالحقيقة الأخلاقية، فسيرضيني أنه كان من شأنه في أقل من تسعة أعوام أن يصبح عالما حقيقيا ورجلا أمينا تماما.
كان علي أن أقول لبيلاطس حينئذ: إن الحقائق التاريخية مجرد احتمالات. لو أنك قاتلت في معركة فيليبي، فذلك - من وجهة نظرك - حقيقة تعرفها بالحدس والإدراك. ولكن، من وجهة نظرنا، نحن الذين نقطن بالقرب من الصحراء السورية، هي مجرد أمر محتمل جدا، نعرفه بالشائعات. كم يلزم من الشائعات لتشكيل اقتناع مساو لاقتناع رجل يمكنه - وقد شهد الشيء - أن يبتهج بأن لديه نوعا من اليقين؟
ذلك الذي سمع الشيء يخبر به من اثني عشر ألفا من شهود العيان، لديه فقط اثنا عشر ألف احتمال تساوي احتمالية قوية واحدة، ولا تساوي اليقين.
ولو عرفت الشيء من واحد فقط من هؤلاء الشهود فأنت لا تعرف شيئا. سيجب عليك حينها أن تكون شكاكا. وإن كان الشاهد ميتا فستكون أكثر شكا بعد؛ لأنك لا تستطيع أن تستنير. وإن كان من شهود عدة موتى فأنت في البلوى نفسها. وإن كان من أولئك الذين تحدث إليهم الشهود فسيزداد شكك أكثر وأكثر.
من جيل إلى جيل، يزداد الشك، وينقص الاحتمال، وعما قريب سيقل الاحتمال إلى الصفر.
الطغيان
يطلق اسم الطاغية على ذلك الحاكم الذي لا يعرف قوانين سوى قوانين نزوته، ويستولي على ممتلكات رعاياه، ثم يجندهم ليذهبوا ليستولوا على ممتلكات جيرانه. لا وجود لهؤلاء الطغاة في أوروبا.
يميز المرء بين طغيان إنسان واحد وطغيان الجمع. قد يكون طغيان الجمع هو طغيان كيان انتهك حقوق كيانات أخرى، ومارس الاستبداد لصالح القوانين التي أفسدت بسببه. لا وجود أيضا لطغاة من هذا النوع في أوروبا.
تحت أي نوع من الطغيان تفضل أن تعيش؟ لا أحد منهما؛ لكن إن كان علي أن أختار، فسأكره طغيان إنسان واحد أقل مما أكره طغيان جماعة. ستظل للمستبد دائما لحظاته الخيرة، أما جماعة الطغاة فلن تكون لديهم أبدا لحظات طيبة. إذا ألحق بي طاغية ظلما فيمكنني أن أسترضيه عبر خليلته، أو الأب الذي يعترف له، أو خادمه؛ لكن جماعة من الطغاة الخطرين لا تكون منفتحة لكل الإغواءات. حتى حينما لا تكون ظالمة، تكون قاسية على الأقل، ولا تجود بالنعم.
إن كان لدي مستبد واحد فقط، فأنا بمأمن منه بالوقوف قبالة حائط حينما أراه يمر بالقرب مني، أو بالانحناء، أو بلمس الأرض بجبهتي، طبقا لعادات البلد؛ ولكن إن كانت هناك جماعة من مائة مستبد فأنا مهدد بتكرار هذه المراسم مائة مرة في اليوم، وهو أمر مزعج للغاية على المدى الطويل إن لم تكن ركبتا المرء مرنتين. إن كانت لدي مزرعة بجوار أحد سادتنا فسأسحق؛ وإن احتججت ضد قريب من أقارب أحد سادتنا، فسأهلك. ما العمل؟ أخشى أنه في هذا العالم، يختزل المرء ليكون إما مطرقة وإما سندانا؛ ومحظوظ من ينجو من هذين البديلين!
الفضيلة
(1) القسم الأول
يقال إن ماركوس بروتوس قبل أن يقتل نفسه صاح بتلك الكلمات: «أيتها الفضيلة! ظننتك شيئا مهما، لكنك محض سراب خاو!»
كنت على حق يا بروتوس إن كنت اعتبرت الفضيلة أن تكون على رأس طغمة، وأن تقتل ولي نعمتك. لكن لو أنك اعتبرت أن الفضيلة تتألف فقط من فعل الخير لهؤلاء الذين يعتمدون عليك، لما سميتها سرابا، ولما قتلت نفسك من فرط اليأس.
يقول حثالة علم اللاهوت هذا: أنا فاضل جدا لأن لدي الفضائل الأساسية الأربع، والثلاث المقدسة. يسأله رجل أمين: «ما الفضائل الأساسية؟» فيجيب الآخر : «القوة، والحكمة، والزهد، والعدل.»
الرجل الأمين : «إن كنت عادلا فقد قلت كل شيء، فقوتك وحكمتك وزهدك صفات مفيدة. إن كانت لديك تلك الصفات، فذلك أفضل كثيرا لك، ولكن إن كنت عادلا فهذا أفضل كثيرا للآخرين. لكن لا يكفي أن تكون عادلا، فعليك أن تفعل الخير؛ هذا ما هو أساسي حقا. أما فضائلك المقدسة فأيها؟
الحثالة : «الإيمان، والأمل، والإحسان.»
الرجل الأمين : «هل الإيمان فضيلة؟ إما أن يبدو لك ما تؤمن به حقيقيا، وفي هذه الحالة فما من قيمة للإيمان؛ وإما أنه يبدو لك زائفا، وحينئذ سيكون من المستحيل عليك أن تؤمن.
الأمل لا يمكن أن يكون فضيلة إلا إذا اعتبرنا الخوف كذلك. يخاف المرء ويأمل طبقا لما يتلقاه من وعد أو وعيد. أما عن الإحسان، أفهو ما فهمه اليونانيون والرومانيون عن الإنسانية، وحب الجار؟ هذا الحب لا يساوي شيئا إن لم يكن فعالا؛ ولذا ففعل الخير هو الفضيلة الحقيقية الوحيدة.»
الحثالة :
سيكون المرء أحمق! حقا، يفترض أن أحمل نفسي قدرا من العذاب لكي أخدم الإنسانية، ولا أحصل على عائد! كل عمل يستحق أجرا. لا أنوي أن أفعل أقل الأفعال أمانة ما لم أكن واثقا في الجنة.
الرجل الأمين :
آه، سيدي! يعني هذا أنك إن لم تكن ترجو الجنة، وإن لم تكن تخاف الجحيم، فلن تفعل مطلقا أي فعل صالح. صدقني، سيدي، هناك شيئان جديران بالحب لذاتيهما: الله والفضيلة.
الحثالة :
أرى سيدي أنك تلميذ ل «فينيلون».
الرجل الأمين :
نعم يا سيدي.
الحثالة :
سأبلغ عنك المحكمة الكنسية في ميو.
الرجل الأمين :
اذهب، بلغ! (2) القسم الثاني
ما الفضيلة؟ الإحسان للمخلوق الأخ. أيمكنني أن أطلق اسم الفضيلة على أشياء أخرى بخلاف تلك التي تفعل الخير لي؟ أنا فقير وأنت كريم. أنا في خطر، وأنت تساعدني. أنا مخدوع وأنت تخبرني الحق. أنا مهمل وأنت تواسيني. أنا جاهل وأنت تعلمني. بلا صعوبة أدعوك فاضلا، لكن ماذا سيصير أمر الفضائل الأساسية والمقدسة؟ سيبقى بعضها في المدارس.
ماذا يعنيني أن تكون زاهدا؟ أنت تتبع نظاما صحيا وسوف تتحسن صحتك ، وأنا سعيد لسماع ذلك. لديك الإيمان والأمل وأنا ما زلت سعيدا. سيجلبان لك الحياة الأبدية. فضائلك الدينية هي عطايا سماوية، وفضائلك الأساسية صفات ممتازة تستطيع أن ترشدك، لكنها ليست فضائل بالنسبة إلى إخوانك. يفعل الحكيم الخير لنفسه ، لكن الفاضل يفعل الخير للإنسانية. كان القديس بولس على حق حينما قال إن الإحسان يسود على الإيمان والأمل.
لكن هل ينبغي الإقرار بأن تلك الأمور النافعة لإخوان المرء هي وحدها الفضائل؟ أنى لي أن أقر بأي أمور أخرى؟ نحن نعيش في مجتمع. يمكن للمعتكف أن يكون حكيما، ورعا، أن يكتسي بالوبر، أن يكون قديسا، لكني لن أدعوه فاضلا حتى يفعل بعض أفعال الفضيلة التي يستفيد منها الآخرون. ما دام وحيدا، فهو لا يفعل الخير ولا يفعل الشر، ومن وجهة نظرنا فهو لا شيء. إن كان القديس برونو جلب السلام للعائلات، وسد العوز، فهو فاضل. وإن كان صام، وصلى في عزلة، فهو قديس. الفضيلة بين الناس هي تبادل للحنان؛ ومن لم يسهم في هذا التبادل فلا يحسب. لو أن هذا القديس كان في العالم، لفعل الخير، ولا شك، لكن ما دام أنه ليس في العالم، فسيكون العالم محقا في رفض منحه لقب الفاضل. سيكون هذا الرجل خيرا لنفسه لا لنا.
لكنك تقول لي إن كان هذا الزاهد شرها سكيرا غارقا بنفسه في الموبقات السرية، فهو فاسد؛ ومن ثم فهو فاضل إن كانت لديه الصفات المناقضة لذلك. هذا ما لا أستطيع أن أوافق عليه. سيكون أخا كريها إن كانت لديه تلك الأخطاء التي ذكرتها، لكنه ليس فاسدا شريرا مستحقا للعقاب فيما يخص المجتمع الذي لا تضيره هذه الشوائن. يجب أن نضع في الاعتبار أنه إن كان له أن يعود إلى المجتمع فسوف يتسبب في أذى هناك، وأنه سيكون فاسدا جدا، بل إن احتمال أن يكون إنسانا شريرا، أكبر من التيقن من أن الزاهد الآخر الورع العفيف سيكون إنسانا فاضلا؛ ففي المجتمع تتزايد الأخطاء، وتتقلص الخصال الحميدة.
يثار اعتراض أقوى؛ ذلك أن نيرون والبابا ألكسندر السادس ووحوشا أخرى من هذه الفصيلة جادوا ببعض الحنان. أجيب بصلابة إنهم حينئذ كانوا فضلاء.
تقول ثلة من اللاهوتيين إن الإمبراطور المقدس أنطونيوس لم يكن فاضلا؛ وإنه كان رواقيا عنيدا، وإذ لم يكن يتفق مع القادة، كان يرغب بدلا من ذلك أن يكون هو محل تقديرهم؛ وإنه عزا لنفسه الخير الذي فعله للبشرية؛ وإنه كان طوال حياته عادلا كادحا محسنا بالادعاء، وإنه لم يفعل سوى خداع الناس بفضائله.» سأقول متعجبا: «يا إلهي! امنحنا دائما محتالين مثله!»
لماذا؟
لماذا لا يكاد المرء أبدا يفعل عشر الخير الذي يمكن أن يفعله؟
لماذا تصلي البنات في نصف أوروبا إلى الله باللاتينية التي لا يفهمنها؟
لماذا لم يكن هناك نزاع ديني قط في العصور القديمة؟ ولماذا لم يكن هناك قط أناس مميزون باسم طائفة؟ لم يطلق على المصريين الإيزيسيين أو الأوزوريسيين؛ ولم تحظ شعوب سورية باسم السيبليانيين. كانت لدى الكيريتانيين عبادة خاصة لجوبيتر ولم يطلق عليهم قط اسم الجوبيتريين. كان اللاتينيون القدماء أيضا مرتبطين بقوة بزحل، ولكن لم توجد قط قرية في لاتينوم (إيطاليا القديمة) تسمى الزحلية، بل على العكس، بعد أن اتخذ تلاميذ إله الحقيقة لقب معلمهم، وسموا أنفسهم «الممسوحين» مثله، أعلنوا في أسرع وقت ممكن حربا أبدية على كل البشر غير الممسوحين، ثم شنوا حربا فيما بينهم طوال 14 قرنا، متخذين أسماء: الأريوسيين، والمانويين، والدوناتيين، والهوسيين، والمعمدانيين، واللوثريين، والكالفينيين. ومؤخرا، لم يكن لدى الجانسنيين والمولينيين خزي أشد من أنهم لم يكونوا قادرين على أن يذبحوا بعضهم بعضا في معركة دموية. من أين أتى كل ذلك؟
لماذا العدد الكبير من الناس الأبرياء المجتهدين الذين يحرثون الأرض كل يوم من أيام السنة، التي ربما تأكل أنت من ثمارها، يزدرى بهم، ويذمون، ويقمعون، ويسرقون؟ ولماذا الرجل عديم الفائدة الشرير جدا غالبا، الذي يعيش فقط بفضل عملهم، وهو غني فقط من خلال فقرهم، هو على العكس محل احترام وتكريم واعتبار؟
لماذا، مع أن ثمار الأرض ضرورية لبقاء البشر والحيوانات، يرى المرء مع ذلك أنه في كثير من الأعوام وكثير جدا من البلاد يوجد افتقار كامل لهذه الثمار.
لماذا يغطى نصف أفريقيا وأمريكا بالسموم؟
لماذا لا توجد أرض لا تكون فيها الحشرات أكثر كثيرا من البشر؟
لماذا يشكل إفراز ضارب إلى البياض كريه الرائحة كائنا ذا عظام ورغبات وأفكار قاسية؟ ولماذا تضطهد تلك المخلوقات بعضها البعض طوال الوقت؟
لماذا يبقى شر كثير، مع العلم أننا نرى أن كل شيء خلقه إله يتفق جميع موحديه على تسميته «الطيب»؟
لماذا، ما دمنا نشكو بلا توقف من أمراضنا، نمضي كل وقتنا في زيادتها.
لماذا، ونحن بائسون للغاية، تخيلنا أن عدم الوجود شر كبير، بينما هو واضح أنه لم يكن شرا ألا نوجد، قبل أن نولد؟
لماذا وكيف يكون لدى المرء أحلام أثناء النوم إن لم تكن للمرء نفس؟ وكيف يتأتى أن هذه الأحلام هي دوما مفككة للغاية، ومتطرفة للغاية إن كان لدى المرء نفس؟
لماذا تتحرك النجوم من الغرب إلى الشرق، لا من الشرق إلى الغرب؟
لماذا نوجد؟ ولماذا يوجد أي شيء؟
Page inconnue