وهاكم الآن قصة الشراع المطوي. بينما كنت أكتب الفصل السابق، اجتمع الملازم يني بالملازم راسم سردست، أحد رفقائه في الحجاز. والملازم سردست بدأ حياته العسكرية في المدفعية التركية. وكان من المستبسلين في الثورة العربية، ومن أخلص المخلصين للسدة الهاشمية، وكان أحد أربعة من ضباط العرب منحتهم الحكومة البريطانية رتبة
DSO ، لاستبسالهم في محاربة الأتراك في الحجاز وشرق الأردن. أما الآخرون فهم نوري السعيد وجعفر العسكري ومولود مخلص، ودخل الشام مع العرب الفاتحين، وهلل مع المهللين، وكان من المحزونين، وراح بعد ذلك يداوي جروحه في تجارة السيارات ببغداد.
وكان الملازم سردست قادما من العراق يوم اجتمع به الملازم يني، فأخبره بما يشغل قلم الأمين، فرفع يديه إلى السماء مستعيذا بالله، وقال: يجب أن نزوره حالا وننذره.
وفي اليوم التالي، شرف الفريكة الملازمان الكريمان، فرحبت - على المفاجأة - بهما. كنت لا أزال أذكر الملازم سردست، وقد اجتمعت به في جدة يوم كان ياورا للأمير «زيد»، وأذكر ما هو أهم من ذلك. كان عرش «الحسين» في تلك الأيام قائما على صخر رملي، في بحرة من التزلف والمداجاة، وما كان بين الأصوات التي كنت أسمعها هناك غير بضعة أصوات للصدق والحرية، منها صوت سردست عندما كان يستدرج للحديث، وصوت يني المسموع العالي على الدوام. وما تغير الاثنان. لا التجارة أطلقت لسان الأول، ولا الزواج عقل لسان الثاني. ولكن الملازم سردست - وهو صاحب الرأي في المشروع الحاضر - باشر الحديث، فقال: يجب عليك، يا أستاذ، أن تزور بغداد مرة أخرى قبل أن تكتب كتاباتك. فإذا عولت على مذكراتك ومعلوماتك منذ عشر سنين تخطئ والله، ويجيء الكتاب ناقصا؛ فقد تجددت أشياء، وتغيرت وتطورت أشياء كثيرة، لا يجوز أن تكون جاهلها. يجب عليك أن تقف في عملك إذن، وتسافر غدا معي. سنعود في الطيارة، خمس ساعات في الجو، لا غير.
فقال الملازم يني بشيء من الحماسة: «سأسافر معك، وحياة سميرة. ماذا؟ أتسافر وحدك؟ مستحيل! فمن يا ترى يساعدك في عملك؟ ومن يعتني بشئونك، ومن يوقظك في الصباح؟ ومن ذا الذي يحافظ على صحتك وسلامتك - وكيسك؟ لا، وحياة سميرة، لا تسافر وحدك. رجلي ورجلك سواء. نعم، إني مستعد للسفر غدا.»
اقتنعت وما تحمست. فللأسفار في هذه الأيام - إن كان في البلاد العربية أو الأوروبية - أنظمة وآداب لا بد من مراعاتها والعمل بها. فكيف أهبط على بغداد فجأة من الجو؟ وكيف أسافر إلى العراق دون أن أكتب إلى جلالة الملك مستأذنا؟
كتبت إلى الملك فيصل - رحمه الله - فجاءني منه ذلك الجواب الجميل،
1
وهو ينذرني فيه أنه سيأسرني في بلاده التي دعاها تلطفا بلادي.
وكنت بعد أيام أعد حقائبي للسفر، وكان الشيخ قسطنطين يسعى لإتمام الشكليات الرسمية التي تتعلق بالجوازات وغيرها من المزعجات. وقد فضلت أن أظل قريبا من الأرض هذه المرة، فلا يفوتني شيء مما جد أو تغير حتى في طريق الصحراء. •••
Page inconnue