وبعد ذلك يمم فلسطين، وفقد في بيت المقدس ما بقي في صدره من إيمان، ثم ولى وجهه شطر سوريا، وهو المفلس في عقائده الاجتماعية والسياسية والدينية، فوجد في البلاد من التهذيب والخنوع ما لم يرقه كثيرا، فعاد إلى العراق.
وإني لأذكر اجتماعنا الثاني سنة 1922، يوم كان في العراق حاملا لواء الوطنية وسيفها، فيخرج من «خانه» غائرا على رجال الانتداب ونسوته، ويعود موفقا إلا بالغنائم. وما الفائدة من مثل هذه الغزوات؟ وكيف، وهو البدوي المجرب، لا يحسن الانتفاع بسيفه وبندقيته؟ إنه لفاعل، وإنه لصائر من السياسيين، وإنه لصاعد في سلم السياسة إلى أعلاه.
أجل، لقد كان معروف، يوم اجتماعنا الثالث في سنة 1932 - هنيئا لمن يتاح له الاجتماع بصديقه الشاعر ولو مرة واحدة في كل عشر سنوات! - قد كان معروف عضوا في مجلس النواب ببغداد وعاد في قيافته إلى العباءة والعقال!
معروف الرصافي الأعرابي في مجلس النواب! لا يزال هذا الشرق مهد الأعاجيب. وقد سمعت صديقي معروفا يدافع عن الحكومة في قضية تتعلق بإبعاد بعض الصحافيين المتطرفين في صدقهم، فيذكر النسبية كمبدأ عام في الحياة، ويحاول أن يبين ما له من صلة بحرية الصحافة. ما أظن أن أحدا من النواب أدرك معناه، أو فهم شيئا مما قال. ولكن صوته العريض الأجش فعل فيهم فعل البيان، وما أراد منه، وهو أن المبعدين استحقوا الإبعاد جزاء ما فعلت أقلامهم ...
ولكن السياسة لا تغير ما بنفسه وبأدبه من الإرث البدوي، وأظهر ما فيه السذاجة، والصراحة، والجرأة، وعدم المبالاة. فهو يعيش ليومه مستسلما مستهترا، وقلما يكترث لما تبدو وتجن له الأيام. ولا غيرت الأيام والتجارب شيئا من طبعه هذا، فهو اليوم في ما ذكرت من سجاياه، كما كان منذ خمس وعشرين سنة.
وهو الشاعر الرقيق الشعور، على بداوة طبعه، واسع الخيال سهل الأسلوب والعبارة ، لا تعمل في بيانه، ولا اجتهاد في صناعته. وإنه في إدراكه المحاسن الشعرية، شديد الحس لما يتراجع ويتشبح من ألفاظها وأشكالها . ولكنه في الغالب يؤثر الظاهر على الخفي من الجمال البشري الطبيعي.
وهو في الوصف لما يراه، إذا ما صفا الذهن منه، وطربت النفس، بليغ العبارة، واضح البيان. أعطيك مثلين من قصيدتين له «جسر مود» و«على البسفور» قال في محاسن دجلة:
ولقد وقفت بجسر مود عشية
والبدر في أفق العلى يتلألأ
وجبين دجلة قد صفا متألقا
Page inconnue