مواكب الماضي
الحقائق ...
الزيارة الأولى
الزيارة الثانية
شارع المستنصر
مغزى اللبنة
آثار العباسيين
الآثار التترية
المقامان الأعظم والأشرف
كنج عثمان والباز الأشهب
في مقبرة الكرخ
الصوفي الأكبر
المرأة المجهولة
غزوات الأثريين
خطبة بين كربتين
ضعف المعارضة
قوة المعارضة
عثرات التعليم الوطني
مبارزة في علم التعليم
في واحات الشعر
الصولجان والرمح والعصا
مواكب الماضي
الحقائق ...
الزيارة الأولى
الزيارة الثانية
شارع المستنصر
مغزى اللبنة
آثار العباسيين
الآثار التترية
المقامان الأعظم والأشرف
كنج عثمان والباز الأشهب
في مقبرة الكرخ
الصوفي الأكبر
المرأة المجهولة
غزوات الأثريين
خطبة بين كربتين
ضعف المعارضة
قوة المعارضة
عثرات التعليم الوطني
مبارزة في علم التعليم
في واحات الشعر
الصولجان والرمح والعصا
قلب العراق رحلات وتاريخ
قلب العراق رحلات وتاريخ
تأليف
أمين الريحاني
مواكب الماضي
وكان الكهان في معبد عنليل بأور ونبور يؤلهون ملوك سومر، الدولة الأولى في وادي الرافدين.
وما الذي صنع أولئك الملوك والكهان لخير السواد من الناس؟
وسرجون الأول - ملك أكاد - اكتسح السومريين، وفتح بلادهم، ومد ملكه جنوبا إلى الخليج، وشمالا إلى الجبال.
وما الذي قام به سرجون وخلفاؤه لخير السواد من الناس؟
ومن الجبال في الشرق والشمال انحدر بجيشه كدور ناخنتا، ملك عيلام، فغزا بلاد سرجون واكتسحها، وحمل تماثيل آلهتها الكلدانيين إلى أشمونا عاصمة عيلام.
وما الذي صنع كدور هذا، وما الذي شاد خلفاؤه العيلاميون لخير السواد من الناس؟
مدينة القصور والمعابد
للملوك والكهان
والجهل والفقر والعبودية
للسواد من الناس
وكان كهان عشتروت بنينوى، وكهان مردوخ ببابل، يتعاطون السحر والشعوذة، ويملئون بطونهم من ضحايا الهيكل، بينما ملوك بابل وآشور يحتربون ويتطاحنون من أجل السيادة والمجد.
السيادة والمجد للكهان وللملوك، والسحر والنير للسواد من الناس.
وحمورابي أول المشترعين، وآشور بنيبال أول المحبين للعلم والعلماء.
واحتان في البادية، مصباحان في الليل الدامس.
وسنحاريب الفاتح، ونبوخذ نصر المصلح.
ناهب فينيقية.
من جبال الشمال تدفق الثتيون، ومن جبال الشرق انحدر إكزارس يقود جنوده الماديين، ومن السهول في الجنوب سارع جيش بابل إلى نجدة جيش مادي، وقد حالف النهران المحاصرين - طغى الفرات، وطغى دجلة طغيان الجيوش الفاتحة - وصاحوا كلهم قائلين: لتسقط نينوى! سقطت نينوى، وبعد ست وثمانين سنة سقطت بابل.
دول تدول، ومجد بعد مجد يحول، مجد سومر وعيلام، ومجد بابل وآشور، ثم ينتقل صولجان الملك من يد الساميين في وادي الفرات إلى يد الآريين من الملوك.
وما الذي صنع الآريون من أجل السواد من الناس؟ أفي سبيل المجد تشيد الدول أم في سبيل الإنسان؟ إنهم لظلامون، الساميون والآريون جميعا. إنهم النهابون الفاسقون. شيدوا المعابد والقصور، وسخروا لها العباد. ألهوا أنفسهم، وكانوا قساة عتاة، وكانوا عبيدا للشهوات. •••
ومن مهد الثقافة الغربية جاء تلميذ أرسطو، الشاب العجيب إسكندر المقدوني. اجتاز البحر إلى الشاطئ الآسيوي. قاد ألوفه الثلاثين، وكان ظافرا في كل مكان. هزم الفرس في واقعة الغرانيق وفتح فينيقيا، واستولى على مصر، وتعقب الملك دارا إلى بلاد الرافدين، فأدركه قرب أربيل، وكانت الواقعة الفاصلة بين الشرق والغرب (331ق.م).
في أربيل أبدل نير من حديد مصقول بنير من حديد عتيق. راح الفرس وجاء الإغريق.
كان الإسكندر فاتحا باسم العلم والنور.
كان الإسكندر مصابا بداء الصرع. غزا الشرق باسم الآلهة، وعاد منه ناقما على الأرض والسماء.
ولكنه في بابل كان مجددا.
شاء الإسكندر أن «يأغرق» العالم، فكانت بابل النهاية لصرعة - لسكرة - مفجعة، وكانت النهاية لحلم ذهبي.
قد تحقق قسم من ذلك الحلم، فبدت بعد الإسكندر دلائل التآخي بين الشرق والغرب.
بدت ثم ردت، فقد تغلب البرثيون التورانيون على السلوقيين الإغريق يوم كان ذاك التآخي في ازدهاره الأول، فقضوا عليه.
زرعت بذوره في أرض طيبة في الشرق الأدنى.
فجاءت رومة بجيوشها تدوسه وتسحقه سحقا. وما كانت رومة ممن يحلمون الأحلام.
ومع ذلك فقد كان للرومان فضل يذكر في الرقي والعمران.
عمروا المعابد لآلهتهم، وعبدوا الطرق لجيوشهم. وكانت الآلهة، مثل الجيوش، تستولي على الشعوب والأمم باسم رومة، ومن أجل رومة، بل من أجل القياصرة في رومة.
مدنية المعابد والطرقات هي خير من مدينة القصور والمعابد. القصور للملوك، والطرقات للملوك والصعاليك.
ولكن السواد من الناس في عهد الرومان كان كالسواد في عهد بابل وآشور - عبيدا للكهان والملوك، وحطبا للحروب.
وما أفلح الرومان في وادي الرافدين. بعد مائتي سنة من الإغارات والحروب سلمت رومة إلى سلوقية. وما خلا الجو لسلوقية طويلا. عاد الفرس إلى العراق فاستولوا عليه، واستمرت فيه الدولة الساسانية أربعمائة سنة.
والنزاع بين الشرق والغرب، ذلك النزاع الذي كاد ينتهي بعد واقعة أربيل، تجدد بشكل ديني بين المسيحية والوثنية.
وما الذي أثمر جدال أرباب الدين، المتنطعين والمتعصبين، لخير السواد من الناس، بل لخير الناس جميعا؟ •••
وفي ظلمات الجاهلية، في سماء الحجاز، سطع نور النبوءة، نور دين جديد. ومشى المؤمنون مكبرين، وسلاحهم الإسلام وكلمة التوحيد، فاجتازوا البوادي إلى الأرض الخضراء يرومون الفتح لله، والخلاص للناس. فحملوا على الروم في سوريا، وعلى الفرس في العراق. فكسروا جند هرقل في اليرموك وبددوا جنود فارس في القادسية، وبعد عشر سنوات من وفاة النبي رفعت أعلام العرب فوق قصور فارس، وفوق حصون دولة الروم.
هي نار النزاع بين الشرق والغرب تزداد اضطراما. وهي كذلك أول شعلة من نزاع يجدد بين الساميين والآريين، بين العرب والعجم.
ولكن الإسلام دين التوحيد، ودين العدل والإخاء والمساواة.
المساواة والإخاء في الحروب بين السنة والشيعة! والمساواة والإخاء في الحروب بين التتار والترك والمغول والعرب!
إنما الحكام المسلمون - وخصوصا العرب منهم - يفوقون سواهم في العدل والإنصاف، بل في كرم الأخلاق والمبرات؛ فقد كانوا على الإجمال أكثر حلما وعدلا من أكثر ملوك الفرنجة.
يصح هذا في الخلفاء الراشدين، وفي بعض الخلفاء الأمويين والعباسيين. أما الدولة العباسية في العراق فما كانت، على الإجمال، المثل الأعلى في العروبة، ولا كانت المثل الأعلى في الإسلام. أول خلفائها «السفاح» وآخرهم العاجز المستعصم بالله.
وهرون الرشيد؟
شخصية باهرة اجتمعت فيها الأضداد؛ فقد كان هارون ورعا تقيا، وخليعا أنانيا. وكان كثير المبرات والشواذات، عادلا يوما، ويوما ظالما. تارة حريصا على أبهة الملك، وطورا يرمي بها إلى الصيادين ... ولا أذكر بنكبة البرامكة ...
والمأمون، ما تقول بالمأمون؟
المأمون، غفر الله ذنبه في أخيه، هو مثل حمورابي في آشور.
المأمون نجم العباسيين الساطع، ونورهم اللامع على الدوام.
جسر الملك فيصل على دجلة (تصوير الدورادو).
وجاء هولاكو بجيشه الجرار صائلا فاتحا.
هولاكو من كبار القواد المسلمين الذين وقف الإسلام على شفاههم، وما دخل إلى قلوبهم. فهو الذي اكتسح بغداد ودمرها، وأعمل السيف بأهلها.
الدجلة عند بغداد (تصوير الدورادو).
وحكم التتار في العراق نحو مائتين وخمسين سنة، وعاد الفرس فنزعوا السيادة منهم، ثم جاء الترك، بعد ربع قرن، فنزعوا السيادة من يد الفرس واستولوا على البلاد، وظلوا سادتها أربعمائة سنة.
أربعمائة سنة مظلمة، يبدو إلى جانبها العهد التاتاري عهدا سعيدا! •••
وفي العقد الثاني من هذا القرن العشرين جاءت الجيوش من الغرب، رجال زرق العيون، متحدرون من ألفريد الكبير السكسوني ووليوم الفاتح النورمندي، وبمساعدة العرب انتصروا على الترك لكنهم حاولوا الحلول محلهم. •••
وبنضال دءوب، عنيف حينا وسلمي حينا آخر، انتصرت الإرادة القومية وقام العراق الحديث مملكة حرة متطلعة نحو المجد.
الحقائق ...
جئت بغداد من أفق كان في قديم الزمان كثير الأنوار والألوان. جئتها وفي القلب أثر عميق مما لا يزال من تلك البهجة في كتب التاريخ والشعر. بل جئتها من عالم الأحلام المدبجة حواشيه بالذهب والأرجوان. وبكلمة أخرى لقد جئت بغداد من عالم «ألف ليلة وليلة». فهل يعجب إذن لخيبتي، وهل يستغرب غمي؟
بيد أن تباين الحقيقة والخيال هو في يومنا هذا كما كان في الماضي. ولكن الزمان يلبس الأشياء ثوبا من التقليد والتقديس، ويرفعها في عيون الناس إلى منزلة الوحي المنزل. يحق لنا إذن - ونحن في هذا الزمان نعرض للبحث حتى الوحي المنزل - أن نبحث وننتقد ما يجيئنا به التاريخ قبل أن نقبله مصدقين معجبين، أو نرفضه مستنكرين.
وليس هذا بالأمر السهل. من ذا الذي يستطيع أن يجيب مثلا على هذا السؤال: أين تنتهي الحقيقة في عهد العباسيين الذهبي، وأين يبدأ الخيال؟ وما هي الحقيقة في عصر هرون الرشيد؟ وما هي الحقيقة في بغداد الرشيد؟ هل ننكر ما جاء بخصوصها في «ألف ليلة وليلة» وفي التواريخ كثير مما في تلك الحكايات؟ لا شك أن بغداد كانت كدمشق أو كالقاهرة، أو كانت تفوقهما في عمرانها وبهجتها. ولا شك أن الرشيد كان يفتخر بها، ويفاجئها من حين إلى حين بطرائفه وغرائبه. ولا شك أن الصيادين كانوا ينعسون بل ينامون على شاطئ دجلة، وهم يرمون بشباكهم للأسماك. إني أصدق كل ذلك؛ لأنه الحقيقة بعينها حتى في هذا الزمان. فهناك بغداد تزين البلاد، وهناك مليك مثل الرشيد من صميم العرب، وله مثل ذلك العباسي رغبة بالتنكر فرارا من أبهة الملك، وحبا باستطلاع أخبار الرعية. وهناك كذلك الشعراء والصيادون.
أما تلك الصلة الأخوية، الرشيدية، «الألفليلية»، بين الملك والصياد فإنك لا تجدها. قد يكون الملك ديمقراطيا، وقد يكون الصياد فيلسوفا سقراطيا. ولكنهما يسيران كل في سبيله، في خط مستقيم أو معوج، ولا يلتقي الخطان حتى يجيء صاحب «أعذبه أكذبه» أو صاحب الحكايات الشهرزادية، فيرى ذات يوم ظل الملك قريبا من ظل الصياد، فيلفق القصة، يؤلف الأسطورة، التي يتذبذب فيها الخطان - الظلان - ويدنو الواحد من الآخر، ثم يتلامسان، ثم يلتفان ويشتبكان، ويتلونان بألوان قوس قزح، ويتكونان أشكالا فنية، رومنطيقية، «ألفليلية» تبهر الأبصار، وتسحر ألباب الصغار والكبار. •••
لست أنكر سحر الآيات، وأعاجيب الحياة، حتى في هذا الزمان. فالصياد البغدادي موجود كما قلت، والملك كذلك من حقائق الوجود. ولا يستغرب إذا أمعن الصياد في الأحلام، وود أن يكون ملكا من ملوك الزمان. ولا يستغرب إذا اشتهى الملك في بعض الأحايين، أن يكون من الصيادين. وقد تتحقق رغبة الاثنين، فيهتف الشعراء قائلين: لا حقيقة ثابتة غير حقيقتنا. الحقيقة الشعرية فوق كل الحقائق.
وإني أسأل سؤالا آخر: كم كان حظ عامة الناس من تلك المدينة العباسية الباهرة؟ هل كان يتمتع الصياد والملاح والإسكاف والفلاح بشيء من تلك النعمة التي كانت تبسط أجنحتها الذهبية في البلاط وفي قصور البرامكة؟ وفي كل مكان قريب من ظلال القصور الملكية والأميرية؟ هل كان للسواد من الناس بعض ما للخاصة من الثروة والثقافة والسعادة؟ هل عم بغداد ذلك الزهو والسرور، وذلك الترف والتأنق في العيش ، وذلك المجد والعز والتذوق؟
لا يلزم أن نعود إلى التاريخ لنجيب على هذا السؤال. فإن لدينا في الحاضر الدليل والبرهان. إن في شرقنا اليوم - في المدن التي لا تزال شرقية، أو لم تمس بغير القليل من مدنية الغرب في العمران - إن فيها من ظلمات الأسواق ومقاذرها، ومن ازدحام الحياة وموبقاتها، ومن النتانة والعفونة والأمراض، ما لا تجده في المدن الأوروبية إلا محصورا في بعض أحيائها التي تدعى
Slums . وأما الفرق بين المدينة الغربية والمدينة الشرقية، فهو أن مثل هذا الحي في الأولى جزء صغير منها، وهو في الثانية الجزء الأكبر.
وهذا الجزء الأكبر هو المدينة. أما الدور والقصور، وإن كانت في قلبها، فليست هي منها. وفي الدور والقصور المرافق والأثاث والأعلاق، وفي غيرها الفقر والأمراض والأقذار، والقناعة والاستسلام بين الأقذار. هناك أقلية تستمتع بخيرات الأرض وبطيبات الحياة، وهنا السواد من الناس وهم قانعون بالنعيم المنتظر، وبما تعدهم به الكتب المنزلة.
وبما أن السواد من الناس يعيشون محرومين في الدنيا تراهم شغفين أكثر من سواهم بالقصص والأساطير التي تمثل النعيم المنشود.
حقيقة النعيم، أو بعض حقيقته، للأمراء والأغنياء، وحديث عنه - حكاية أو أسطورة أو قصيدة - للسواد من الناس. ومع أن السينما تغزو اليوم بلاد القصاص، فيتهافت العرب عليها ليروا ويسمعوا شهرزاد هذا الزمان - الشاشة البيضاء وما وراءها - فإن القصاص لا يزال مالكا سعيدا. وله عرشه في القهاوي.
وهذا الشغف بالحكايات والآيات والمعجزات، هذا التعظيم للخيال، هذا التقديس للمحال، لا يزال في الشرقي من الخلال البارزة. فهو يقنع بظل الحقيقة، ويقبل متورعا محبورا ما يحاك من الظلال كما لو كان حقائق دينية، ثم يعلل النفس بلحم تلك الحقيقة ودمها، بجسمها المادي. كذلك كان الشرقي، ولا يزال على الإجمال كذلك.
وقد شحذت هذه الخلة المخيلة منه، فأصبحت بعامل الوراثة شقيقة العواطف في السيطرة على نفسه - في عقائده وأحكامه، وفي آرائه وأهوائه. ولا عجب إذا خضعت كلها للخيال، واعتصمت بالمحال. فمن يستمتعون بطيبات الحياة لا يضيعون الوقت في أحاديثها. ومن يحرمونها يسترسلون في الأحلام التي تزينها المخيلة وتذهبها الأهواء. فتتمثل أمامهم؛ إذ يسمعون القصاص أو يجلسون اليوم أمام الشاشة البيضاء، صورا مستغربة، خلابة.
ومن هذه الصور صورة بغداد في عهد العباسيين الأول. وحسب اللبيب الإشارة إلى ما يولده الشغف بالخيال، والتلذذ بالمحال، من حب المبالغة والغلو، حتى في النظر إلى حقائق التاريخ، وحقائق الحياة اليومية. فالمؤرخ من هذا القبيل شاعر، والشاعر مؤرخ، والقصاص مؤرخ وشاعر معا. بل هم ثلاثة أقانيم لشخص واحد عجيب.
وكلهم مجمعون على ما كان من عظمة بغداد ومدينتها، فقد كان فيها، كما يقول المؤرخون، عشرة آلاف حمام، وثلاثون ألف مسجد! فإذا كان عدد سكان المدينة مليوني نفس، كما جاء في التواريخ، يكون لكل مائتي شخص حمام، ولكل ستة وستين مسجد واحد. والمئتان يقيمون في ثلاثين بيتا، والستة والستون في عشرة بيوت. فهل يعقل أن يكون لكل ثلاثين بيتا حمام عمومي، ولكل عشرة بيوت مسجد؟ •••
العربي يرى ولا يعد. وهو في التقدير، إذا كان ما يراه كثير العدد، يعول على الخيال دون العقل. وهاك المثل. إذا دخل أعرابي إلى بغداد اليوم من الجهة الغربية يرى في ناحية الكرخ، عند الجسر، إلى الجانبين، عددا من المقاهي، ثم يرى صفين آخرين في ناحية الرصافة؛ كذلك عند الجسر، بينه وبين شارع الرشيد. وإذا ما مشى في شارع الرشيد إلى جامع مرجان، يرى بين كل مائة متر وأخرى جماعات من الناس يدخنون الأراكيل ويلعبون الطاولة والدومينو. فإذا سئل بعد ذلك ماذا رأى في بغداد؟ يقول: المقاهي المقاهي في كل مكان. فيحدث عنه من يسمعه ويقول: ليس في بغداد غير المقاهي. فيحدث الثالث ويصفها بالمئات. فإذا سمعه المؤرخ يجزم بالمئات، وقد يتجاوزها إلى الألف أو الألفين. ولكن الشاعر يفضل عليها لفظة الألوف؛ لأنها في الشعر أعذب من مائة، وأبلغ من ألف. وعندما يسمع القصاص الشاعر، ويطفق يلفق الحكايات، فحدث عن مقاهي بغداد ولا حرج.
كذلك تجيئنا الإحصاءات وقد بلغت عشرة آلاف من الحمامات، وثلاثين ألفا من المساجد، وعشرات الألوف من المقاهي. وليس في بغداد اليوم ما يتجاوز الأربعمائة مقهى، أكثرها في الشارع الجديد، شارع الرشيد. وليس فيها من الجوامع أكثر من خمسين، أضف إليها حوالي ضعفيه من المساجد.
ويلي من الأرقام! فسينبري لي غدا أحد أرباب التاريخ الحديث المحققين المدققين ويوبخني قائلا: إن في بغداد خمسة وخمسين جامعا وأربعمائة وعشرة مقاه. فينبري له محقق مدقق آخر ويقول: المقاهي هي ثلاثمائة وتسعون عدا، والجوامع تسعة وأربعون. وتحتدم بعد ذلك المناقشة، فيخرج من أحد المقاهي جاحظها ليعدها، ويتبرع أحد الأئمة أو المؤذنين بإحصاء الجوامع والمساجد!
وعندئذ يتبين أننا كلنا في خطأ معيب. وإن كان الفرق، صاعدا أو نازلا، لا يتجاوز العشرة أو العشرين. بيد أن ذلك في علم التاريخ ارتقاء يذكر. والفضل فيه لمن وجه السؤال ذات يوم إلى أحد الصيادين الذي كان يسقف السمك على شاطئ النهر، تحت المقهى، بالقرب من جسر مود، إلى جانب الكرخ. سألته: وهل تعرف كم ببغداد من المقاهي؟ فأجاب: بقدر ما في دجلة من السمك. فقلت: وكم تظن عددها في طرف هذا الشارع؟ فقال: كله قهاو، ولا يحصيها إلا الله!
فرحت أعدها - أحصيها - فإذا هي، من تمثال الملك فيصل إلى الجسر، تسعة مقاه لا غير.
ويلي من الأرقام! فقد يتعطل الفونوغراف في أحد هذه المقاهي، فيولي «أبناء الدومينو والشيشة» وجوههم شطر مقهى آخر، فونوغرافه عامر، وألحانه صياحة - كردية تركية مصرية - فيضطر صاحب المقهى المعطل فونوغرافه أن يقفل بابه، ويودع أصحابه. أو قد يجيء كردي بفونوغراف جديد، وينصبه تحت النخيل، ويضع حوله طاولتين وديوانين من الخشب العادي المسوس، فيزداد عدد هذه المقاهي أو ينقص، قبل أن يصدر هذا الكتاب، مقهى أو اثنين. •••
أعوذ بالخيال من الأرقام. وأعيذك، أيها القارئ العزيز منها. تعال إذن نعتصم بالخيال الشعري. وعندي منه الآن ما لا ينكره العقل، ولا ينفر منه التاريخ.
هاك دجلة، وهاك القفة فيه. تلك القفة التي صنعت بعد الطوفان في مرفأ أور الكلدانيين. وهي اليوم، كما كانت في زمن العباسيين على الأقل، تصنع من الخوص، وتطلى بالقار داخلا وخارجا. فلو عاد إلى هذا الوجود أحد نواتي بغداد القديمة لكان يهلل للقفة، وبحمد الله أنها لا تزال على شكلها الأول، وأن ألف سنة لم تغير شيئا فيها. وقد يكون النوتي البغدادي الذي يحرك مجذافها اليوم من سلالة صياد الرشيد، وقد يكون الجد كذلك لسلالة مقبلة من الصيادين تستمر ألف سنة أخرى. فيجيء رحالة القرن الحادي والثلاثين، ويقف فوق دجلة على جسر معلق من حديد، فيرى القفة، ويعثر بعد ذلك على نسخة من هذا الكتاب، فيستشهد مؤلفه على ألف سنة في الأقل من عمرها.
بائعة اللبن «أم اللبن» (تصوير الدورادو).
وما هذا كل ما في القفة! فبينا صاحبها يجذف من حين إلى حين؛ ليحفظ خط سيرها في مجرى النهر، يبدو لك كنز آخر من الكنوز التي لا تمسها يد الفناء، ولا تعبث بها يد التغيير. هناك، على وجه دجلة، في صباح يوم شمسه كريمة، ترى اللؤلؤ في نقط الماء التي تتساقط من المجذاف، وهو يرتفع فوق الموجة، وترى حول الموجة، وهو يغطس فيها، ذوب اللجين وقد تخلله الذهب الوهاج.
فلو عاد إلى هذا الوجود شاعر من شعراء نينوى، أو غادة من عيد بابل، أو كاهن من كهان أور لهلل - لهللوا كلهم - لهذه الشمس الشارقة، المقيمة على عهدها، الثابتة في خيرها، الناثرة على دجلة، حتى حول مجذاف «القفاف» لؤلؤ الذكريات، وذهب الآمال، الذكريات والآمال التي تنعشنا اليوم وتحيينا، كما أنعشت وأحيت أهل أور، وأبناء نينوى وبابل.
وفي هذه الأرض المنبسطة أرض العراق تجيء الشمس في الشروق والغروب لطيفة النور؛ ناعمة الوهج، لا تحمل الكنانة، كما يصورها الشعراء، لتطارد النجوم، وترمي بسهامها القباب والأبراج.
هي شمس الأم تحضن الأرض في الصباح، وتتغلغل حبا وحنينا في قلب العراق وأبنائه.
هي شمس الفنان، تلمس اللازورد في قباب الجوامع، فيستحيل ياقوتا أصفر، وتكسو المآذن البيضاء بحلل من الدمقس المعصفر.
هي شمس المحسن الأعظم، تسير فوق السطوح المسورة، ولا تكشف سرها، وتقف فوق الجفون النائمة، فتبشرها بعودة الحياة.
ساعة في الصباح من السحر المبرور.
ساعة من نعيم الحرارة والنور.
الزيارة الأولى
يقول المؤرخون الثقات: إن بغداد بابلية الأصل، فقد أسسها نبوخذ نصر في المكان الذي دارت فيه رحى الحرب بينه وبين أعدائه؛ تذكارا لانتصاره عليهم، وأسماها بعل داد؛ أي مدينة البعل. ومما يثبت ذلك، ما اكتشفه العالم الإنكليزي السر هنري رولنسون سنة 1848 في الجانب الغربي، فقد اكتشف في الكوخ بقية حصن مبني بالآجر المحفور عليه اسم «نبوخذ نصر» وفتوحاته. وكانت بعل داد لا تزال قائمة، إلا أنها مشرفة على الخراب يوم فتح العرب العراق وجعلوا الكوفة عاصمة البلاد. وظلت الكوفة العاصمة إلى بداءة العهد العباسي، فعقد النية الخليفة المنصور، الذي كان يكره تلك المدينة وأهلها، على بناء عاصمة جديدة، فساح في وادي دجلة شمالا يبحث عن مكان يسره، فآثر السهل المجاور لبعل داد، المقابل لما هو اليوم البلاط الملكي في الجانب الشرقي، فبنيت فيه المدينة المدورة. وقد دعيت بالزوراء؛ «لأن أبوابها الداخلة جعلت مزورة «مائلة» عن الخارجة»، ولكن لمادة زور من المعاني غير المأنوسة، ما تلاعب به أعداء المنصور غمزا ولمزا عليه، فحمله ذلك على إسمائها باسم آخر؛ ولكي يبرهن لهم مروءته وحلمه، وأنه مسالم على الدوام، أطلق على العاصمة الجديدة الاسم الذي كان يعرف به وادي دجلة وهو دار السلام. •••
في الربع الأخير من القرن السادس للهجرة، رحل الأديب الأندلسي ابن جبير رحلته في البلاد العربية، فوصل بغداد سنة تسع وسبعين وخمسمائة (1184م) وكان لما شاهد من المدينة المشهورة من المحزونين. فجع في ما حمله إليها من الشوق والحب والأمل. ولا عجب. فكان قد ولى مجد العباسيين، وذهبت صولة آل بويه، وأشرف عهد السلاجقة في فساده على الزوال، وأمست دار السلام مهدا للفتن، ونهبا للتتر الفاتحين.
بغداد دار الأنس والسرور «قد ذهب أكثر رسمها»، كما جاء في كتاب ابن جبير:
ولم يبق منها غير شهير اسمها.
وهي بالإضافة لما كانت عليه كالطلل الدارس، والأثر الطامس. «وما رأى ذلك الرحالة الأندلسي من حسن فيها يستوقف البصر غير دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها كالمرآة الصقيلة.»
تالله، كيف تتشابه المرئيات في القرنين الثاني عشر والعشرين ؟ وكيف تتماثل التأثيرات؟ تأثيرات السائح العربي الأندلسي، والسائح العربي اللبناني. أفما تغير شيء ببغداد منذ أيام ابن جبير؟!
بلى، قد تغيرت أشياء، بل تغيرت المدينة جميعها. وذلك في سنة 1258م؛ أي بعد أربع وسبعين سنة من رحلة ابن جبير، يوم جاء هولاكو حفيد جنكيزخان يغزو بغداد، فاكتسحها وبعد ذلك دمرها.
وعندما أعيد بناؤها كان الناس لا يزالون في ظل النكبة، فما همهم في البناء الأصول الهندسية أو المحاسن العمرانية، ولا كانوا يحفلون بغير اللازم للمأوى والسلامة. بعثت بغداد وما حسنت حالها، إلا بعد ثمانين سنة أخرى؛ أي في أول عهد الدولة التترية الثانية، التي أسسها (1339م) حسن الجلائري.
ثم نكبت بغداد نكبة أخرى في أواخر القرن الرابع عشر، لما زحف تيمورلنك بجيشه عليها، ففتحها وأعمل فيها بعد اكتساحها السيف والنار. فأعيد بعد ذلك للمرة الثالثة بناء ما هدم وتهدم منها.
ومنذ ذاك الحين إلى يوم احتل العثمانيون العراق (1535م)، دالت في هذه البلاد دولتان من التركمان، دولة الخروف الأسود، ودولة الخروف الأبيض. وقد أخذت كل منهما اسمها من الصورة المنقوشة على علمها، لكن ما كان من الخروف الوديع في ذلك الملك التركماني غير الاسم والرسم، وكان للاثنتين في التاريخ آثار بربرية دموية، ثم جاء من بلاد فارس (1509م) الصفوي الكبير إسماعيل، فقضى على «الخروف الأبيض» الذي كان قد ابتلع «الخروف الأسود»، وجدد لفارس عهدا في العراق قصيرا، استمر سبعا وعشرين سنة لا غير، فجاء الترك العثمانيون (1535م) يخرجون الصفويين من العراق وكان لهم ذلك. فما استطاع أولئك الفرس المتحضرون المثقفون أن يعيدوا إلى بغداد خلال عشرين سنة، شيئا من ذلك العمران وذلك الرونق الذي كان لها في الزمن العباسي الأول. فغدت، وقد توالت عليها الفتوحات، وتعددت النكبات، كما كانت يوم رآها ابن جبير «كالطلل الدارس والأثر الطامس.»
وهل دامت كذلك في عهد العثمانيين؟ ألم تهدم مرة أخرى خلال الأربعمائة سنة وتشيد في فترة من الخير والهناء تشييدا حسنا شائقا، كما لو كان سيدها المنصور أو الرشيد؟ يقول العارفون من العراقيين اليوم: إن بغداد كانت على جانب عظيم من العمران، لما حسن الترك في عمرانها الخارجي والداخلي. ولكن الوباء - الطاعون - فتك بأهلها منذ مائة ونيف من السنين، فحالفه دجلة في طغيانه، وكان الاثنان أشد عليها، وأفعل بها، من غزوات هولاكو وتيمورلنك، فقد كان الوباء يذهب بخمسة عشر ألف نفس كل أسبوع، والذين نجوا منه ذهبوا ضحية دجلة، الذي طغى على المدينة فغدا القسم الأكبر منها تحت المياه الجارفة. •••
بعد النكبة الرابعة - وهي الأخيرة إن شاء الله - تهافتت الشعوب على الأرض التي أمست يبابا، وكادت تكون مشاعا، فملكوا ما ملكوه منها، وشرعوا يبنون كما بنى سكان المدينة الغابرون بعد النكبة الأولى. جاء المهاجرون جماعات من كل حدب وصوب، من الجوار ومن بلاد الأكراد، ومن بلاد الأناضول، ومن إيران، ومن البوادي العربية. وما كان بين هذه الشعوب معرفة ما، ولا كان بينهم صلة وطنية، أو حس قومي أو مدني. بل كانوا كلهم غرباء، بعيدين بعضهم عن بعض، ومعادين غالبا لبعضهم لبعض. الرائد يصدق أهله كما يقال. وقد كان لكل جماعة رواد يصدقونها، ولا يصدقون غيرها. فتعيش لنفسها متحفظة متحفزة.
ومع أنهم كلهم كانوا مسلمين، فما جمعت رابطة الدين شملهم، ولا لطفت شعورهم، وما أزالت غير القليل من التنافر والتنابذ فيما بينهم. هؤلاء المهاجرون المتوطنون بغداد، بعد كارثتها الأخيرة، هم أجداد سكانها اليوم. وما كان فيهم من العريقين في النسب العربي غير القليل، منهم آل سويدي وآل سعدون وآل شاري وآل جميل وبيت الألوسي.
أما السواد من الناس، وقل الأخلاط، فلا يزالون اليوم، على الإجمال، كما كانوا في الماضي بعيدين من بوتقة الإدغام والامتزاج. وما غير التزاوج المختلط بينهم - وإن قل - شيئا جوهريا في أحوالهم القومية، ونزعاتهم الجنسية. فالإيرانيون والأتراك والأكراد، وإن تزاوجوا بعضهم ببعض، لا يزالون كما كان أجدادهم منذ مائة سنة أكرادا وأتراكا وإيرانيين. أو إنهم على الإجمال مثل اليزيديين والآشوريين والصابئين، يعيشون عقليا في الأقل بعيدين بعضهم عن بعض، كل جماعة منفردة في شئونها. وما هم سكان بغداد، بل هم سكان الأحياء التي يقيمون فيها، كل جماعة وكل طائفة في حيها.
وقد تتجاور الأحياء وتتلاصق بعضها ببعض، ولا تتجاور القلوب، ولا تتلاصق الإحساسات القومية. فالعقلية في كل جماعة لا تزال في الغالب عقلية بدوية، مفتوحة لإخوانهم، ومقفلة دون الآخرين. والعرب في هذا مثل سائر الجماعات، خصوصا العشائر التي لا تزال في ما كانت عليه. فهي تحافظ على عاداتها، وتقاليدها، وأحكامها الخاصة، ولا تنسى، وشرف العرب، ما بينها من دم، ومن عداء قديم. هي ذي المعضلة الكبرى الاجتماعية والوطنية في العراق.
أما بغداد فقد بناها أجداد هذا المزيج من الشعوب، بعد نكبة سنة 1831، كما بنى تقدمهم بعد كل نكبة من نكباتها. بنوها كما يبني من لا يأمن حتى يومه ولا يأمل بطول الإقامة. بنوها كل على ذوقه، وحسب اقتداره، وعملا بالأحوال القاهرة، بدون تصميم، وبدون اتساق، وبدون نظام مدني يرعونه، أو أوامر مجلس بلدي يلتزمونها. بنوها على عجل كأنهم كلهم مسيرون بحاجة يومهم، أو مهددون بكارثة أخرى، ووكلوا أمرهم إلى رب الصدف والتقارير. فنشأت من الجدران المستقيمة جدران معوجة، وعلت السطوح سطوح، ودرجت الأدراج من النوافذ، ولاذت الأواوين بغرف النوم، واشرأبت الشرفات إلى الشرفات، بل امتدت بعضها إلى بعض، فتوسعت البيوت، وتضيقت الجادات، فصارت تدعى بلغة البغداديين «دربونات». ولهذه الدربونات، من الشرفات المتعانقة فوقها، سقوف ظليلة! إنها لهندسة عجيبة أوحت بها الفوضى، وأيدتها التقادير. وما كان الأتراك ليكترثون بهذه أو تلك، ما دام أبناء التقادير والفوضى يدفعون الضرائب. «دربونة» في بغداد القديمة (تصوير الدورادو).
إن في بغداد شارعا واحدا طويلا عامرا يمتد من الجنوب إلى الشمال، من باب شرقي إلى بوابة الأعظمية، في خط مستقيم، إنما لا كالرمح، فيقسم الصوب الشرقي قسمين، كما يفعل الإسفين في الكتلة. فينبسط القسم الأول شرقا في سهل رحب، ويتكون القسم الثاني إلى جانب دجلة في شكل «هرمي» قاعدته العيواضية، ورأسه دار شركات النفط بباب شرقي. وفي هذه المظاهر من نشوء بغداد تبدو بوضوح قبيح تلك الآفات التي ذكرت: الفوضى في البناء، والصدف في التخطيط ، والقدر في أهواء السكان.
وفيها كذلك المتناقضات المدهشات المكربات. فهي قديمة وهي جديدة، وهي متراصة وهي متبعثرة. وهي مدنية وهي بدوية. فالشارع الطويل الذي دعاه الإنكليز بالجديد، ثم غيرت أمانة العاصمة اسمه فدعته شارع الرشيد، هذا الشارع بما فيه من مخازن حديثة، ودكاكين قديمة، ومقاه ودور سينما، وأنوار كهربائية وأسلاك برقية، وعربات وسيارات و«بصات» ومنافذ في جانبيه إلى «الدربونات»، إنه لشبيه بشارع في قرية أوروبية. والبلدة أو المحلات شرقا منه. وإن كانت بمجملها لا تتجاوز المائة سنة، هي جد قديمة بما في ظاهرها، ولا يخلو بعض داخلها من ضيق الجادات واعوجاجها، والتهدم فيها، والقتام، والروائح العجيبة! أما القسم المحاذي للنهر، وفيه الأندية والمقاهي والسراي، وبعض بيوت للسكن جميلة، وبعض البساتين التي تزينها أشجار النبق والنخيل، فما هو بشرقي ولا بغربي! إنما هو جدير بحسن الذكر والتقدير. ولكن في الجهة اليمنى من دجلة - أي الصوب الغربي الذي لا يزال يدعى الكرخ، وخصوصا في الناحية التي تمتد من جسر مود إلى كرادة مريم - دورا على شاطئ النهر، جميلة بوداعتها، وفسحاتها، ونخيلها، وبشرفاتها التي تجري من تحتها المياه. •••
وبين شعراء العرب شاعر من الطبقة الوسطى، ظفر بالشهرة في قصيدة واحدة نظمها، بل في بيت واحد من تلك القصيدة. وقد تكون الشهرة للبيت لا للشاعر، فقد تغنى ابن جهم بمجازفة له غرامية في الجهة اليسرى من النهر قرب الجسر. ومن لا يذكر مطلع تلك القصيدة التي خلد فيها اسم الصوب الشرقي من بغداد:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
يذكرني ابن جهم بالشاعر الإنكليزي طوماس هود الذي وثب إليه قلب الشهرة وثبة عجيبة في قصيدة واحدة أو قصيدتين. ويندر بين الإنكليز من لا يعرف المقطع الأول في الأقل من قصيدته «جسر الزفرات» الذي كان مجلبة للعيون، التي هي مجلبة للهوى. وموضوع القصيدة حسناء قضت نحبها هناك عند الجسر.
كأن الجسور في كل المدن مغناطيس القلوب، أو كأنها شباك للغرام. وقد يكون فضلها أو إثمها في المياه الجارية تحتها، في رائحة الأنهار القرقفية أو رائحة البحار الزنجبيلية، فتبعث في النفس نشوة يعقبها سكرة - سكرات! وقد يكون فضلها أو إثمها في دنوها من الأجل المحتوم المقدر؛ أي من المكان الذي يصلح للانتحار ... «وأوله سقم وآخرة قتل.»
إن كثيرا من الأنهار عند الجسور بأوروبا تشهد بصحة قول ابن الفارض. أما دجلة فلست أدري إذا كان قد شهد مرة هذا النوع من نهاية الحب. ولست أدري إذا كان أهل الغرام في أيام ابن جهم كانوا يؤثرون الجسور للمواعد على المنتزهات والبساتين. إنما كانت هناك مواعد، ولا ريب، واجتماعات. وما فقدت بغداد هذه المزية الاجتماعية، الغزلية في الأقل، حتى في عهدها الأخير يوم أمها ابن جبير. ولا عجب - وهو الأديب الأندلسي - إذا أشار إلى ما للماء من الفعل بالقلوب في قوله: «والحسن الحريمي بين هوائها - هواء بغداد - ومائها ينشأ. هي من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة.» ولكنه، على غير عادة الأندلسي، يتخوف من فتنة الهوى «إلا أن يعصم الله منها.»
وفي بيت ابن جهم؛ إذ يقول: «من حيث أدري ولا أدري» شيء من هذا التخوف. بيد أن أمره الآن لا يجلب هما، أو يستوجب اهتماما. إنما هناك سؤال لا بد في هذا الموقف منه. ما الذي أكسب بيت ابن جهم الشهرة وضمن له الخلود؟ المكان بين الرصافة والجسر أم عيون المها؟ وهل كانت حسان بغداد يسفرن عند الجسر يا ترى؟ وهل كانت مجازفة ابن جهم شعرية خيالية أم واقعية؟ هذه المسائل جديرة بالنظر، وقد تدعو للمستحب من البحث. وقد تثير الجدل.
ولكن هناك حقيقة لا تقبل الجدل والبحث، وهي أن الصوب الشرقي من بغداد لا يزال يدعى باسمه القديم - الرصافة - المخلد في بيت ابن جهم، كما يدعى الصوب الغربي بالكرخ. إن هاتين الناحيتين قديمتان اسما ورسما. أما النواحي الأخرى فهي حديثة في هندستها وفي أسمائها. •••
كان عدد سكان بغداد في زمن العباسيين يبلغ ألفي ألف نفس؛ أي مليونين. وكانت المدينة مقسمة إلى سبع عشرة ناحية. إنما بغداد اليوم تختلف في تقسيمها، كما تختلف في إدارتها، وعدد سكانها لا يتجاوز الثلاثمائة ألف نفس.
أما المحلات التي أشار إليها ابن جبير وذكر أسماء بعضها، فقد كانت كلها في الصوب الشرقي «مع أن الخراب كان مستوليا عليه.» وكان الصوب الغربي؛ أي الكرخ قد تقدمه في الخراب، فما شاهد ابن جبير فيه غير «الأثر الطامس.»
وقد ذكر شكل المحلات في الرصافة فقال: إن كل محلة منها مدينة مستقلة. يفهم من ذلك، أنه كان بين المحلة والمحلة أرض خالية من السكان، أو أن بعض المحلات كانت مسورة. وقد امتدت الرصافة يومذاك إلى مكان الأعظمية اليوم. وكانت بوابة البصرة مكان باب شرقي أو دونه جنوبا. ومع أن هذه المساحة هي نحو سبعة كيلومترات طولا، ولا أظن أن الرصافة تجاوزت الكيلومترين عرضا، فقد كانت - ولا شك - مزدحمة بالسكان؛ إذ كان عددهم ينيف على المليونين.
والمدينتان - مدينة اليوم ومدينة الأمس - تتشابهان من هذا القبيل. فإذا استثنينا الشارع الجديد، شارع الرشيد، وبعض الأحياء الجديدة، يجوز أن نقول إن كل الجادات و«الدربونات» في الرصافة وفي الكرخ تفتقر إلى النور، والهواء النقي، والنظافة، والتفريج. بيوت متراصة متعرجة، في جادات ضيقة متعوجة، ما رأيت مثلها في المدن العربية الأخرى التي زرتها. وهي تتعجج من القتام والأنام.
إنما أهل بغداد يختلفون في طبائعهم عن أهل الكويت مثلا أو أهل البحرين. والظاهر أنهم لم يتغيروا كثيرا منذ أيام ابن جبير، الذي خصهم بصفحة من كتابه تسود منها وجوه، ولا تضمن للأندلسي الأديب - لو عاد اليوم حيا إلى بغداد - السلامة والأمان. وأقل ما يقال في البغدادي العريق ببغداديته، أن صوته يهز الأرض، ويلقي الرعب في القلوب - أنا بغدادي مو عجمي. فك عينك زين!
والبغدادية العاملة السافرة هي في عنجرتها مثل البغدادي. رأيتها في «دربونة» جالسة على الأرض، وأمامها بعض الخضر تبيعها، ورأيت أحد المارين يتعثر بطرف منديلها المفروش. وسمعتها تصيح به، وتصب عليه جام غضبها، بلغة ممتازة في علم المسبات. كأنها أخذت من إحدى رسائل الخوارزمي إلى بديع الزمان الهمذاني. أين عينك، يا ملعون الوالدين؟ حرمك الله الرجلين! يا ابن الطريق ، يا ابن البطريق، الله يضيق طريقك! لا أظن أن بين نساء العرب من هن أذرب لسانا، وأمضى بيانا من البغدادية. ولا أظن أن ببغداد من يفوقها في بلاغتها الذابحة، إلا أن يكون الشحاذ البغدادي.
سمعت أحد أولئك الشحاذين يردد آيات من الكتاب، وهو جالس على مزبلة في الجادة، ثم يسأل قائلا: أين أهل الصلاح؟ أين الكرام ولد الصباح؟ أين بحر الجود؟ نقطة منه يا معود، نقطة ولا تزود.
وما كان ثمة، في ذاك الصباح، أحد من المعودين، فقد رأيت شحاذا آخر، في جادة أخرى، جالسا عند الحائط، وسمعته، وقد رفع يديه، و«وفك» عينيه، يصيح: اللعنة عليك، يا بغداد، وعلى ذكرك، وعلى أهلك! الدود يأكل عظامك، يا بغداد، وعظام أبنائك! النار والشط والوبا عليك وعلى بنيك، فلا يبقى منك ومنهم غير الرماد والتراب!
وما استوقف مع ذلك أحد المارين، ولا استرعى نظر أحد السامعين.
إنما هناك صنف آخر من المستجدين، ولهم في المهنة لغة غير اللغة التي أسمعتك أمثلة منها. ومع أن التقوى تتمشى بين أضلعهم، والورع يتساقط شعرا من أفواههم، فالناس قلما يقفون، وقلما يسمعون.
هاكم درويشا يرفع صوتا كصوت ربابة في خابية، ويشدو الشعر شدوا محزنا، وفيه الغزل والحنين، وفيه أن كل شيء يزول، ولا يبقى غير وجه ربك القيوم.
خيالك في قلبي وذكرك في فمي
وصوتك في أذني وحبك في دمي
هو صوت سمعته ذات يوم في محلة الشيخ، فاستوقفني وأنا أكتب في غرفتي، فوقفت في الشرفة، فإذا بدرويش في قارعة الطريق يحمل عصا طويلة، وصحنا من التنك. ورأيت العربات تسير إلى يمينه وإلى يساره، دون أن تدنو منه، كأنه شرطي. وكان إذا سمع صوت بوق السيارة يرفع عصاه - هو درويش ضرير - فتميل السيارة عنه، ويستمر هو في طريقه وشدوه!
أين فؤادي؟ أذابه الوجد
وأين قلبي؟ فما صحا بعد
يا سعد زدني جوى بذكرهم
بالله قل لي فديت يا سعد
وها قطعة من النقود ترن في الصحن بيده، فيقف عند القرار شاكرا، ثم يرفع صوته فوق ما كان منه.
يا أهل ودي أنتم أملي ومن
ناداكم يا أهل ودي قد كفي
عودوا لما كنتم عليه من الوفا
كرما فإني ذلك الخل الوفي
إنه ليشجي هذا الصوت، وإنه ليبهج. هو يبهج أهل الحب؛ لأنه يردد من أصوات الماضي ذلك الصدى الخالد، صدى ما صفا من الروحيات والذكريات. وهو يشجي؛ لأنه يمثل طيفا من الأطياف التي يرسلها الماضي شادية في شوارع بغداد المسيرة اليوم بأصوات - وقل بسياط - العمل المرهقة، بتكاليف الحياة المدنية المادية.
إنما هناك، في قلب المدينة، الذي لا يمسه الشارع الجديد بعامل من عوامل المدنية الغربية، أصوات من الماضي يظهر أنها أبدية. هي الأصوات التي تسمعك إياها المطارق تطرق النحاس، والمنافخ تنفخ في نار الصاغة والحدادين. وهناك في قلب بغداد، يمشي العمل الهوينا مشية الورع القنوع، ولا يماشيه الهم، ولا يزاحمه التكالب. هناك يجري في عروق العامل والتاجر والصائغ والصانع؛ ذلك الدم الذي يجري في عروق الدرويش. وإن كان الشعر لا يجري على ألسنتهم كما يجري على لسانه، فإن لغة قلوبهم هي كلغة قلبه من قاموس واحد، هو قاموس القناعة والوداعة.
وهناك أيضا تتجسم تلك الظاهرة العربية - الشرقية - التي تناقض العبارة الذهبية، وهي أن النظافة من الإيمان. ولعمري إن بين الإيمان والنظافة - إن كان في الدراويش أو في الصاغة - وهدة سحيقة. وهاكم في السوق المثال الحي النابض لما في العامل العربي من الصبر والمثابرة، ومن التجويد والجمود، ومن الذوق والإهمال، ومن الورع والوداعة والقناعة والقذارة.
تعال فأريك أجمل الأشياء من ذهب وفضة تصنع أمام عينيك، تصاغ وتصقل في أماكن فرشت بالغبار، وطليت بالدخان، وازدانت بالعنكبوت. ليس الولد صاحب المنفخ من العبيد المناكيد. هو أسود الوجه واليدين، ولكنه عربي من الفتيان البيض، تراه مقرفصا أمام النار ينفخ بها، ويمسح عينيه بطرف قميصه الدكناء، وترى سيده في ثياب الزيات يمسح العرق من جبينه بالمنديل الذي يستعمله لمسح جواهره، وهو ينقش سوارا، أو يدق قطعة من الذهب على السندان.
وهذه امرأة في عباءة وحجاب تجلس على حافة الدكة، إلى جانب ركمة من الفحم والرماد، ثم ترفع طرفا من حجابها وتلقي السلام وتلوم، فيعتذر الصائغ إليها، ويقسم بالله إنه ما نسيها، ثم يفتح خزانة صغيرة، ويخرج منها صندوقا جميلا من النحاس المطعم، ثم يخرج من الصندوق منديلا أدكن كان في قديم الزمان أبيض أو أحمر، فيفكه ويأخذ مما فيه قرطين من الذهب المنقوش مرصعين بالماس، فيرفعهما بالإبهام والبنصر أمام السيدة، ثم يمسحهما بطرف المنديل، ويقدمهما قائلا: حلت البركة. فتتناولهما باسمة شاكرة، وتربطهما بطرف منديلها، ثم تفك الطرف الآخر وتدفع ثمنهما ذهبا وفضة، ثم تنهض وتمشي، ولا تبالي بما قد يكون لصق بثوبها من وسخ المكان.
قال رفيقي الأديب البغدادي، ونحن نمشي في تلك السوق المسقوفة ذات الدكاكين الدكن والجواهر الثمينة: إن المياه في الشتاء تجري فيها كالساقية، فتستمر الأشغال مع ذلك ولا أحد يبالي. وقد يكون هناك يومئذ الرجل الذي يحمل دكانه في عبه، وهو جالس - كما رأيته - على الأرض وظهره إلى الحائط، وأمامه منديل مفروش وميزان صغير. قد يكون هذا التاجر بالحي هناك في اليوم الماطر، إلى جانب الساقية، وهو ينتظر الرزق من كرم ربه.
في سوق الصفارين (تصوير الدورادو).
أتقول، أيها القارئ: إن ما شاهدناه في سوق الصاغة أو سوق الصفارين، لا يستغرب في مدينة شرقية قديمة كبغداد، تعال إذن! ليس في أحياء الفقراء بلندن أو نيويورك أو بمباي، على ازدحامها، وقذارتها، وظلماتها، وفساد الهواء، وفظاعة الحياة فيها، ما يفوق ما ستشاهده في الخان الذي نسير إليه.
هو خان تلكيف وهو من أوقاف بغداد. بناء مربع، ذو طابقين وصحن كبير مكشوف، حوله صفوف من الحجرات الصغيرة المظلمة، الشبيهة بالأكواخ. وفي كل كوخ عائلة لا تقل عن ثلاثة أنفس وقد تتجاوز الستة. وفي الصحن مرابط للدواب، فيلعب الأولاد بين حوافرها وبين الحمالين والمكارين، ويتلقنون منهم اللغة التي أسمعتك نموذجات منها، من فم البائعة والشحاذ.
كان مستشار الأوقاف يومئذ الرفيق الدليل، فسارعت النساء إليه شاكيات متظلمات. وما شكون الازدحام والمقاذر، وما شكون صياح المكارين وروائح المرابط، ولا شكون دخان الجيران والأوساخ التي تلقى في الإيوان؛ إنما لفتن نظر المستشار إلى جدار يتداعى أو إلى باب لا قفل له ولا مزلاج، أو إلى قسطل ماء مسدود أو مكسور، أو إلى سقف تتساقط أخشابه. وجاءت إحدى النساء تحمل ثلاث آجرات، وتقول: إنها سقطت على أولادها وهم نيام، ثم كشفت رأس أحدهم ترينا الجرح فيه.
وكنا، ونحن نمشي في الإيوان، نرى النساء أمام أكواخهن يقمن بأشغالهن البيتية: يغسلن الثياب، يشببن النار، يخبزن، يطبخن، يرضعن أطفالهن. ومنهن من كن يمشطن صغارهن فيقع القمل في أحضانهن، وعلى الأرض حولهن. وهناك في وسط الصحن «مزين» يحلق رأس أحد الرجال، وينثر الشعر وما فيه من «المتحركات» بين أرجل الصبيان، وهم يلعبون، ويغنون، ويصيحون، ويفحشون في ألفاظهم.
إن مدخل الخان كمدخل القلاع عميق مظلم، وإلى جانبيه بضعة خروق لا يتجاوز الواحد عشر أقدام عرضا، ومثلها طولا، ومثلها علوا. هي كذلك للسكن. وقد استوقفتنا امرأة هناك، جاءت تحمل طفلا على صدرها وتقول للمستشار، وهي تومئ إلى أحد تلك المآوي، إن أجرته ثماني روبيات كل شهر، وهي لا تستطيع أن تدفع أكثر من خمس، وترجوه أن يأمر بالتخفيض. فوعدها خيرا. •••
قلت: خان تلكيف من الأوقاف. والوقف في التعريفات هو «حبس العين على ملك الواقف والتصدق بمنفعته». ومن أجدر بالصدقة يا ترى من هؤلاء البؤساء. ولكن للأوقاف إدارة هي على ما يظهر مثل إدارة الشركات المالية. لا روح لها، ولا قلب، ولا عين غير تلك التي ترى الأرقام، وتعد الأموال. ومن هذه الأموال ما هو مخصص بالمساجد فلا يصرف في غير سبيلها. وفي المساجد من فضل ربك ما لا يجده البائس الفقير في بيته، أو في حيه، أو مدينته. المساجد هي الملجأ اليقين، والميناء الأمين، ملجأ الأتقياء والأغنياء والأشقياء والمتشردين. وميناء كل ذي وزر ثقيل وأمل دفين. فالحمد لله أن في بغداد أوقافا يحبس بعض ريعها، وإن كان من دم الفقراء، على هذه الأماكن المقدسة التي هي لجميع المؤمنين.
وكان المؤذن في مأذنة جامع الحيدر خانة يؤذن الظهر، وكانت قباب الجامع في شمس الظهيرة تشع وتتلألأ، فيبدو الأصفر خلال زرقتها كالذهب على طبق من اللازورد. وكانت مياه الشاذروان في صحن الجامع تتناثر كالفضة. وكانت الرحبات الهادئة والظلال الناعمة تبدو من الباب كأنها من لدن الرحمن، وهي تلوح للمارين أن ادخلوا آمنين.
دخلنا فإذا نحن في الصحن المبارك، والهواء فيه نقي كالنور وكل ما فيه منعش كالهواء. مكان رحب نظيف شريف هو للغني والفقير على السواء. وهناك ما هو فوق ذلك في المكرمات. هناك داخل الصحن، في الجامع تحت القبة اللازوردية، عين السكينة وروح السلام. هناك البحر الإلهي الذي تغرق فيه - ولو إلى حين - دنيا الهموم والأحزان البشرية.
ما رأيت في جمال بغداد - وما أقله بعد نهر دجلة وضفتيه! - مثل ذاك الجمال الفني في قباب جوامعها، ومثل هذا الجمال الروحي تحت القباب. وليس الذهب في حاجة إلى التذهيب. سأمسك اليراع في الإفاضة إذن، وأكشف لك ناحية مجهولة من نواحي الفن في صناعة كادت تضمحل. أنت تسمع - وقد تكون عالما - بما يسمونه خزف الرقة. وقد لا تحتاج إلى من يزيدك علما بما كان للعرب في الأندلس من المهارة والذوق في صناعة الآجر الملون المصقول، الذي كان يدعى الزلاج (زلج: زلق). إنما المدهش أن لا يبقى في بغداد لهذه الصناعة أثر يذكر.
تعال ندخل المعمل في جامع الحيدر خانة، وذلك الجمال في القباب والمآذن إنما هو منه. ها هنا المدهشات، وخصوصا لمن كان منذ ساعة في سوق النحاسين، وأول المدهشات النظافة التي لا نتوقعها في من يلعب بالتراب والأصباغ. النظافة ثم الترتيب ثم الإتقان. ورب المكان هو رب هذه الفضائل كلها، التي ورثها، كما ورث الصناعة، عن أبيه، عن جده، إنما لا يذكر إلى كم جيل من آله تعود، وما يدريك! قد يكون الأستاذ من سلالة أحد أرباب هذه الصناعة في الرقة أو في الأندلس.
هو شيخ في العقد السادس، ومعه ابنه يتعلم ويساعده ليحسن استخدام الإرث الثمين، وإنه على سنه يعمل مجدا فيشرف على كل فرع من فروع هذه الصناعة التي تبدأ بخلط التراب والرمل، وتنتهي بالاستواء. وهو نفسه يصنع الأصباغ، وجلها من الأزرق اللازوردي والأصفر العصفري، وليس فيها شيء مجلوب. ليس فيها أصباغ كيماوية غير التي يصنعها من التنك والزجاج، إذا صح أن يدعى هذا المزيج مزيجا كيماويا.
أذن لنا بالدخول إلى غرفة الأصباغ، وفيها ركام من صناديق التنك، والقناني المكسرة، والرصاص. وفيها آلة هي كالجاروش من حجر، وأخرى من حديد، فبعد أن تجرش المواد وتطحن، تذاب بالماء، وتوضع في مواعين فوق النار لتغلي، ثم تنقل إلى الشمس لتجف، فتفتت بعد ذلك وتمزج بالزيت فتغدو صباغا.
ومن مدهشات هذا المصنع أن رجلا واحدا يقوم فيه بالأعمال الأساسية كلها. فهو الطيان، وهو الصباغ، وهو الرسام الفنان. ولا بأس برسومه التي تشتمل على أشكال هندسية، وأخرى نباتية. وهاك السلم في عمله. فبعد أن تصنع الآجر وتشوى، يصبغها، ويرسم عليها الرسوم، ثم يعيدها إلى النار، فيعمل اللهب بالألوان عمل الشمس بالغيوم المذهبة والمفضضة. فيذيب اللون الواحد فتبدو في حواشيه ألوان منه فرعية ناعمة ناعسة. وبكلمة أخرى تتشبح الألوان فترق، فتظن، وأنت تعجب بها، أنها دهنت بريشة فنان ماهر.
أما لون الرسوم في بناء القباب والمآذن بهذا الآجر فهو غالبا مركب من الأخضر أو الأزرق على صفحة من الأصفر الذهبي. أو أن الخطوط والأهلة من هذا الأصفر تتخلل أحد اللونين الأولين.
بقي أن أقول إن هذه الآثار الفنية في قباب الجوامع ومآذنها هي، على ما يظهر، ثابتة طويلة الأجل، فلا الشمس ولا العوامل الطبيعية الأخرى تضر بألوانها. ولا عجب، فقد دخلت النار مرتين. وإذا ما صال الزمان على تلك القباب في المستقبل فهدمها، فإن الأثريين ليجدون الآجر في الردم وتحت التراب، كما يجدونه اليوم في حفائر سلوقية وأور، فيغسلونه، فتبدو الألوان فيه وقد أكسبها الزمان مسحة عجيبة. كذلك فعل الزمان في البلاط الذي كان يزين قصر الزهراء بقرطبة، ذلك البلاط الجميل، الفريد بتشبح ألوانه المعروضة أمثلة منه في المتحف البريطاني بلندن، وفي قصر اللوفر بباريس. •••
ومن الصناعات التي اشتهر بها العرب في الماضي، ولا يزال منها أمثلة في بغداد، صناعة الحفر في الخشب، وهي عربية بحت، وصناعة الزجاج المركب في إطارات مذهبة، وقد أخذوها عن الفرس. وفي بغداد اليوم بيت قديم، يقال إنه سلم من النكبة الأخيرة؛ أي إنه يتجاوز المائة سنة، فيه من الصناعتين أثر حسن سليم. وفيه أيضا ما يعيد إلى الذهن، في هندسته وفي زينته، صورا وذكريات لتلك الدور التي خلدت في كتاب ألف ليلة وليلة.
على أن مدخل البيت أو صحنه الصغير، يزيل ما في النفس من بهجة الشوق والخيال، فقد صدمنا لما دخلنا بتجارة من التجارات الحديثة، يتمثل دور منها في حلقة من النساء جالسات على الأرض حول ركام من جوز العفص. وهذا الجوز يجيء من الغابات في جبال الموصل، فتنقيه النسوة العاملات، ويهيئنه للشحن إلى لندن وبرلين؛ لتصنع منه هناك الأصباغ. التجارة في الباب.
ولكنا صعدنا إلى الطابق الثاني مسرعين، فإذا نحن في غير بغداد اليوم. أجل، قد انتقلنا انتقالا عجيبا إلى دار من دور بغداد القديمة، التي نجت من النكبات كلها.
وما هذه الردهة التي يعلو جدرانها الخشب المحفور المدهون أشكالا نباتية، وهندسية، المزين سقفها بالإطارات الذهبية المرصعة بالمرايا، القائم في نوافذها الزجاج الملون تقيه الشعريات الدقيقة الصنع، ما هذه بردهة تركية أو سلجوقية أو بويهية.
وما هذا الإيوان، وقد تكاثفت فيه، وتداعت لقدمها، الصناعات الثلاث - صناعة الخشب، وصناعة الزجاج، وصناعة النقش، الرسم والتلوين - ما هذا بإيوان أحد الولاة العثمانيين، ولا هو بإيوان كبير من آل بويه.
عفوا أيها القارئ! ما نقلني إلى عهد العباسيين أثر قديم في بغداد مثل هذا الأثر الجميل البهيج. وما هو كذلك بنقشه وزخرفه فقط، بل بشوارد هندسته، التي يظهر أنها بنت الصدف والحاجات. كأن الحجرات والأيونات قد نمت في هذه الدار، كما تنمو غصون الأشجار، أو صخرات المرجان في البحار.
هي حقا دار الخبايا والخفايا، دار الأسرار والأحلام، وعجائب الليالي والأيام. كنت وأنا أنتقل من حجرة إلى حجرة، ومن رواق إلى رواق، ومن ممر مظلم يطل على فراغ أظلم، أحس أني في شباك من السحر والاستغواء.
ها أنا ذا في بغداد هرون الرشيد، في بيت من تلك البيوت المسحورة، المقيدة بمشيئة الغرام العليا، المخلد ذكرها في ذلك الكتاب الأوحد، كتابنا العربي الخالد، الذي قال فيه أحد المتنطعين المتحذلقين من الأدباء الأقدمين، إنه كتاب قصص بليدة. وهو اليوم من آداب العالم الخالدة، يقرأه الإنكليزي والألماني والفرنسي والياباني كما يقرأه - أو كما ينبغي أن يقرأه - العربي، مكبرا فيه العبقرية المبتدعة الساحرة.
إن الغريب ليضيع في تلك الدار. لا يستطيع، وهو يتغلغل فيها، أن ينبذ من ذهنه ذكر الكتاب الشهير، وأماكن القصص البغدادية فيه. ولا عجب، في مثل هذه الدار جن أخو الحلاق وهو يطارد عاريا تلك اللعوب الحسناء، التي قادته من باب إلى باب وهي تعدو أمامه، حتى أمسى وهو في تلك الحال في السوق. وإلى مثل هذه الدار دخل الحمال بحمله، فإذا هو بين ثلاث حور ضجرات، يشتهين من يلاعبنه ويلاعبهن. ومن الباب الخفي، في مثل هذه الدار، كان يجيء الجني ليحمل المبنج والمبنجة إلى الظلمات الأبدية، أو إلى أحد فراديس الشوق والهيام ...
وخرجنا بعد التطواف من الإيوان، ونزلنا الدرج إلى صحن الدار، فإذا نحن في بغداد اليوم؛ حيث النسوة العاملات ينقين جوز العفص لمعامل الأصباغ.
الزيارة الثانية
قلما يرحب الكاتب بالنعمة التي تجيئه في ما يقطع عليه عمله، وقلما يدرك قيمتها. وإن أدركها، فهو لا يتوقف عن التأليف، إذا كان شراع الفكر منصوبا للريح، وكانت الريح مواثبة. أما الآن فالأمر بالتوقيف هو شبه عسكري، فلا تحول دونه ريح أو شراع.
من طالع كتابي «ملوك العرب» يذكر - ولا شك - الشيخ قسطنطين يني، رفيقي الكريم في رحلتي اليمانية، فقد كان يومئذ الملازم يني، وكانت له في الحجاز مساع وآمال عربية، ما أدرك قدرها الملك حسين - رحمه الله - لينتفع وينفع العرب بها. فأقلع الرفيق من الحجاز محوقلا، وبعد الأسفار، في الهادئ والمضطرب من البحار، رسا في بيروت، واعتنق مذهبا من المذاهب الاجتماعية القديمة، التي لا تزال محترمة، فأضحى زوجا، وأضحى أبا لابنتين، يحمل صورتهما وصورة أمهما في جيبه على الدوام. وهو ينظر إلى صديقه في الجبل، إلى أخيه الأمين، نظرة الحزين؛ لأنه لا يزال من المحرومين، الزوج والبنين. ولكنه محب لبنات أفكاره، معجب بها، وبنشاطه في التوليد، ويروح ناشرا، على عادته في النشر والتبشير، خبر المولود الجديد قبل أن يتكون في بطن الأوراق.
وهاكم الآن قصة الشراع المطوي. بينما كنت أكتب الفصل السابق، اجتمع الملازم يني بالملازم راسم سردست، أحد رفقائه في الحجاز. والملازم سردست بدأ حياته العسكرية في المدفعية التركية. وكان من المستبسلين في الثورة العربية، ومن أخلص المخلصين للسدة الهاشمية، وكان أحد أربعة من ضباط العرب منحتهم الحكومة البريطانية رتبة
DSO ، لاستبسالهم في محاربة الأتراك في الحجاز وشرق الأردن. أما الآخرون فهم نوري السعيد وجعفر العسكري ومولود مخلص، ودخل الشام مع العرب الفاتحين، وهلل مع المهللين، وكان من المحزونين، وراح بعد ذلك يداوي جروحه في تجارة السيارات ببغداد.
وكان الملازم سردست قادما من العراق يوم اجتمع به الملازم يني، فأخبره بما يشغل قلم الأمين، فرفع يديه إلى السماء مستعيذا بالله، وقال: يجب أن نزوره حالا وننذره.
وفي اليوم التالي، شرف الفريكة الملازمان الكريمان، فرحبت - على المفاجأة - بهما. كنت لا أزال أذكر الملازم سردست، وقد اجتمعت به في جدة يوم كان ياورا للأمير «زيد»، وأذكر ما هو أهم من ذلك. كان عرش «الحسين» في تلك الأيام قائما على صخر رملي، في بحرة من التزلف والمداجاة، وما كان بين الأصوات التي كنت أسمعها هناك غير بضعة أصوات للصدق والحرية، منها صوت سردست عندما كان يستدرج للحديث، وصوت يني المسموع العالي على الدوام. وما تغير الاثنان. لا التجارة أطلقت لسان الأول، ولا الزواج عقل لسان الثاني. ولكن الملازم سردست - وهو صاحب الرأي في المشروع الحاضر - باشر الحديث، فقال: يجب عليك، يا أستاذ، أن تزور بغداد مرة أخرى قبل أن تكتب كتاباتك. فإذا عولت على مذكراتك ومعلوماتك منذ عشر سنين تخطئ والله، ويجيء الكتاب ناقصا؛ فقد تجددت أشياء، وتغيرت وتطورت أشياء كثيرة، لا يجوز أن تكون جاهلها. يجب عليك أن تقف في عملك إذن، وتسافر غدا معي. سنعود في الطيارة، خمس ساعات في الجو، لا غير.
فقال الملازم يني بشيء من الحماسة: «سأسافر معك، وحياة سميرة. ماذا؟ أتسافر وحدك؟ مستحيل! فمن يا ترى يساعدك في عملك؟ ومن يعتني بشئونك، ومن يوقظك في الصباح؟ ومن ذا الذي يحافظ على صحتك وسلامتك - وكيسك؟ لا، وحياة سميرة، لا تسافر وحدك. رجلي ورجلك سواء. نعم، إني مستعد للسفر غدا.»
اقتنعت وما تحمست. فللأسفار في هذه الأيام - إن كان في البلاد العربية أو الأوروبية - أنظمة وآداب لا بد من مراعاتها والعمل بها. فكيف أهبط على بغداد فجأة من الجو؟ وكيف أسافر إلى العراق دون أن أكتب إلى جلالة الملك مستأذنا؟
كتبت إلى الملك فيصل - رحمه الله - فجاءني منه ذلك الجواب الجميل،
1
وهو ينذرني فيه أنه سيأسرني في بلاده التي دعاها تلطفا بلادي.
وكنت بعد أيام أعد حقائبي للسفر، وكان الشيخ قسطنطين يسعى لإتمام الشكليات الرسمية التي تتعلق بالجوازات وغيرها من المزعجات. وقد فضلت أن أظل قريبا من الأرض هذه المرة، فلا يفوتني شيء مما جد أو تغير حتى في طريق الصحراء. •••
رحلنا عن بيروت، في أصيل يوم مشرق مدفئ من أيام شباط سنة 1932، ورحنا نطوي طريق الجبل طيا، فمررنا بعد نصف ساعة بمدن الاصطياف التي كانت وقتئذ مستكنة متقشفة، مثل الحلزون في صدفه، والتي ستغدو بعد شهرين، قطب اللذات والطرب، مستجنة للناس، مستعينة عليهم بالوسواس الخناس.
هدرت السيارة في جوار تلك المدن الهادئة، وفي أسواقها الساكنة المهجورة، فارتفعنا عند ظهر البيدر خمسة آلاف قدم فوق البحر؛ حيث كان الثلج والشمس يتعاونان في تعديل طبيعة الهواء.
وكان ذلك اليوم ثابتا في كرمه وإشراقه، فما تقلب حتى في تقلب المناظر ودرجات العلو، بل ازداد جمالا عندما أطللنا على سهل البقاع - 2500 قدم دوننا - وقد فرش بالطنافس الخضراء والصفراء والبنية. وهناك بين صفوف معوجة من الصفصاف، تنقطع ثم تتصل، يظهر ويختفي الخط الفضي الرقيق، نهر الليطاني، فيبدو حينا كالسهم، وحينا كالهلال، في طريقه إلى البحر. وفي آخر السهل الجبل الشرقي، وقد قل فيه الثلج والاخضرار، فهو جاهم مانع، إلا في منعطفات أوديته؛ حيث طريق الأسفلت تنساب بين البطاح.
وبعد ساعة من سهل البقاع، لقينا الجمال الحي الطروب في المياه الجارية والبساتين، إنما الأشجار كانت لا تزال في إغفاءة الشتاء، وكان نهر بردى لا يزال مكفهر الجبين مما تثقله به السيول.
ذلك مدخل دمشق الغربي، وفي صباح اليوم التالي، بعد أن بتنا في المدينة، كنا نسير في ظل الجمال الذي يزدان به مدخلها الشرقي. أما الجمال نفسه فإنما هو الغوطة السندسية، وقد كان على وجهها نقاب رقيق من أنفاس الشتاء الجامدة. مررنا بين بساتين من المشمش والجوز دكناء، وحقول للكرمة والقنب غبراء سمراء، وبعد أن اجتزنا النيف والعشرين ميلا منها، دخلنا فجأة في الأرض اليباب، فانكشف لنا فراغ البادية، بل تشبح أمامنا هول الشول.
وهناك من هذا الهول وذلك الفراغ خمسمائة ميل ويزيد، لا ينقطع حبلها إلا في وادي حوران، الذي يشق بادية الشام من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي - من الفرات إلى الجوف - وفيه الحيا؛ أي الماء والكلأ، لمن ينشدونه من البدو.
بعد أن نخرج من الغوطة، ونجتاز مسافة لا تتجاوز عشرة أميال، نصل إلى مخفر حديث البناء يدعى أبا الشامات؛ حيث تستوقفك الحكومة السورية الانتدابية لتنفذ فيك أوامر ثلاث من دوائرها، هي دوائر الجمرك والشرطة والاستخبارات. فهل تحمل شيئا في حقائبك فرض عليه رسم جمركي؟ وهل تحمل جواز سفر مقبولا لدى الحكومة التي تحمل بعض أثقالها، أو لدى القنصل الذي تنتمي إليه، ولا ينتمي هو إليك؟ وهل أنت ممن تأذن لهم دوائر الشرطة والتحري والأمن العام بالخروج من البلاد أو بالدخول إليها؟ هذه المسائل تصدم بها عند بئر الماء، على حاشية البادية؛ حيث ابتني مخفر أبي الشامات. تعسا لحكومات هذا الزمان التي جعلت أكل النار أهون من الأسفار!
منذ عشر سنوات دخلنا دمشق سالمين، بعد أن اجتزنا البادية آمنين، وما كان على الباب شرطي أو دركي أو عبيد مستشارين. فالمخفر في أبي الشامات إذن هو شيء جديد غير سعيد.
وهناك جديد آخر لاحظناه، إلا أنه من حسنات الطريق. منذ عشر سنوات كانت السيارات تخرج من دمشق أو من بغداد لتجتاز البادية في أي يوم كان من الأسبوع، على شريطة أن تكون مصحوبة بدليل. فما كان قد أنشئ خفر البادية، وكان المسافرون عرضة للعصابات أو للشاردين الناهبين من البدو.
أما الآن فلا تخرج السيارات إلا في يومين معينين كل أسبوع، فتسير كلها قوافل، يضمن فيها التعاون إذا تعطلت إحداها، وتضمن سلامة الركاب وأموالهم دوريات شرطة البادية.
ما بقي إذن من الأخطار غير اثنين! الواحد من الطبيعة، والثاني من الإنسان. أما الأول فهو جنون البادية، ذلك الجنون الذي يخشاه حتى أبناؤها. هو هول الشول بعينه. هو جنون الرياح العاصفة. هو «إعصار فيه نار» وفيه ما هو أشد بلاء، إعصار يحمل من الرمل والتراب ركاما، فيضيق على المسافرين الرحبات، ويسد مواطن النظر كلها. إعصار يعمي الأبصار. وما هذا كل شره. فهو إذا لقي قافلة في طريقه، وكان سائق إحدى السيارات ضعيف النظر أو العصب أو القلب، وغير ماهر في مهنته، فتهتز يداه القابضتان على الدولاب، فتدور السيارة بجنبها للمهب، بدلا من أن تظل سائرة وإياه في خط مستقيم، مدبرة أو مقبلة - إذا كان الأمر - كذلك ينفخ الإعصار في جوف تلك السيارة، وتحت أنفها، فيرفع بها عن الأرض، ويقذفها قذفة فيها الدمار والموت.
أخبرني من شاهد مرة إحدى السيارات في مثل هذه المحنة. فكان الإعصار يعصف فيها عندما جنبت، فرفعها فوق الأرض، وقذف بها بضعة أمتار من الطريق، فحطمها وقضى على كل من فيها.
أما الخطر الثاني: فهو من طمع الإنسان المتاجر بالأسفار، ومن جهل المسافرين، أو من رغبتهم في توفير دريهمات من المال. فإنك لتعجب وتحزن إذا رأيت سيارة من سيارات الشركات الوطنية، حاملة ستة من الركاب، راكمة حقائبهم وصناديقهم، ليس إلى الوراء وحول الخزان فقط، بل إلى الجنبين، على طول الدرجتين حتى مستوى سقفها، فتسد كل الأبواب، إلا واحدا لا غير. فماذا يفعل الركاب إذا ما فاجأهم الخطر؟ إذا انقلبت السيارة، أو اشتعلت بها النار من عود ثقاب مشتعل يرمى إهمالا بين الحقائب، فكيف يخرج الركاب والسائق، كيف يخرجون مسرعين لينجوا كلهم بأنفسهم؟!
طريق الصحراء (تصوير الدورادو).
كانت في موكب ذاك اليوم خمس سيارات مشحونة، مزدحمة، مسدودة الأبواب كما وصفت، وسيارتان كبيرتان تحمل الواحدة عشرين راكبا، كراسيها معدودة، فلا سبيل للازدحام فيها، وسطحها معد لأمتعة الركاب، ثم ثلاث سيارات شحن، منها واحدة تحمل البريد. والموكب يسير غالبا في وقت واحد.
هذا النظام في السير هو من حسنات السفر بين سوريا والعراق. فهو يذهب بهول البادية، إلا في عواصفها، ويزيل وحشة الطريق وأخطارها. ولم يبق من حاجة إلى دليل. لقد أضحت الطريق معروفة من آثار الدواليب فيها، وكثيرا ما تسير السيارتان والثلاث في صف واحد، مقابلة بعضها البعض، ويطلق للسبق البنزين.
وهناك غير هذا الجديد المفيد. هناك الأنصاب إلى جانب الطريق، وما هي بعيدة بعضها عن بعض، تنبئ المسافات، كيلومترا في الناحية السورية، وميلا في الناحية العراقية، وتزيد بالاطمئنان. إنما هي الدليل الصادق اليوم. أو هي وأثر الدواليب تهدي السائقين فلا يتيهون، ولا يضلون السبيل. •••
لقد مدنت البادية، وأهم ما تغير وأنشئ فيها، إنما هو في الرطبة. هناك، شرقي وادي حوران، في قلب الشول، في منتصف الطريق، بين دمشق وبغداد، آبار الماء، التي لم يكن يعرفها منذ عشر سنوات غير البدو، بل الإدلاء من البدو.
تلك الآبار يكنها العراء، ويحيط بها الهول العاري، فلا شجرة ولا صخرة ولا شعيب ينبئ بها، أو يدل عليها. تلك الآبار هي إرث البدو، أيا كانوا، ومن أي قفر جاءوا، يسوقون أغنامهم وقوافلهم إليها. وكل من وردها كان يحمل دلوه وحبله. وإلا فلا سبيل إلى الماء، ولا حيلة.
فلو وردها جماعة من البدو، ولا حبل معهم ولا دلو، وكان على الماء من معهم الاثنان، وكانوا معادين مانعين، فلا بد من قتالهم وغلبتهم؛ ليصيروا من أبناء الرحمة والمعروف. وكم من معركة شبت نارها حول هذه الآبار بين أبناء البادية المتغازين الذين هم «قوم» بعضهم لبعض؟ كذلك كانت الرطبة، رحمة من الله مدفونة في الشول، تحف بها الأخطار، ويحميها الموت.
وما هي اليوم؟ إذا كان الثناء على الإنكليز في هذا الشرق يستوجب الشجاعة، فإني مجمع الآن ما عندي منها وبادئ باسم الله. يقول الوطني العربي: إن الإنكليز شيدوا هذا البناء - هو مخفر وحصن ونزل ومركز لاسلكي - لحماية طائرات الإنكليز، لمصلحة الإنكليز، لراحة الإنكليز لا غير. فيا أخي العربي الوطني، إنك لتغيظ، وإنك لتستنفد صبر الصابرين. فإن كانت العاطفة الوطنية شريفة، فذلك الشرف يزول إذا كانت العاطفة عمياء. وإن كان العداء للمستعمرين حقا وعدلا، فإنهما يفسدان، إذا لم يكن لذلك العداء فكر وحكمة ووجدان. وإذا كانت المقاومة للحكم الأجنبي واجبة - وهي كذلك - فإنها تفقد القوة والروعة والتأثير إذا ظهرت في مظهر التحامل والحماقة.
إن الرطبة اليوم مرفق عراقي في إدارة وزارة الأشغال والمواصلات العراقية. وهو كنزل يستوجب التحسين. فالأثاث رث على جدته، والمرافق وسخة، والطعام معظمه مما يجيء بالعلب مما وراء البحار، والخدمة عراقية، والأسعار إنكليزية. قد يكون ذلك كله من سوء الإدارة - الحكومة تؤجر النزل - وقد يكون من نقص في الميزانية. فالركاب الوطنيون قلما يبيتون أو يأكلون في النزل، والأوروبيون قليلون. على أن النظافة مع ذلك ممكنة، وهي لا تستوجب غير إرادة المدير وحزمه، فيقوم الخدم بأعمالهم ويحسنونها.
أما من الوجهة الفنية، فإن المكان يشهد على علم من تولوا البناء، وعلى عزمهم ونشاطهم. وفي الشرق الشمالي من هذه البادية مدينة من الحجر ضخمة متهدمة، بنيت عهد الدولة البرثية، في الحروب بين البرثيين والرومان. إنها مدينة الخضر، وهي أفخر وأعظم حتى في خرائبها من الرطبة. ولكننا لا نحتاج اليوم إلى أسباب الدفاع القديمة - أسوار ضمن أسوار تحيط بها الخنادق، وبروج فوق بروج تحميها الحصون - لا شيء من هذا في الرطبة.
ولكن فيها كل أسباب الدفاع الحديثة. فإذا جاء العدو من الجو، يصعب عليه هدم هذا الحصن المنخفض الوديع؛ لأن سطحه المزدوج المصفح يرد القنابل خائبة خاسرة. وإذا جاء العدو من البادية فالجدران الخارجية السميكة، الخالية من النوافذ، لا يخرقها رصاص البنادق، وقلما يصل إليها رصاص المدافع. هو ذا علم اليوم وهو ذا عمله. فهل يصغران يا ترى بالمقارنة بينهما وبين العلم والعمل في الماضي؟ من الجهة الشكلية، نعم. أما من الجهة العملية، فلا، تلك هي الحقيقة. فمثلما جلب الرومان إلى قلب البادية الحجارة الضخمة، والعمد الكبيرة، كذلك جلب الإنكليز قطع الفولاذ، وجسور الحديد، وأدوات العلم والدفاع. فمن وراء السور على السطح تنطق المدافع الرشاشة، ومن غرفة اللاسلكي يبرق نداء الاستغاثة إلى بغداد والقاهرة أو إلى لندن.
تلك هي الرطبة. قد كانت أمس بئرا مختبئة في بطن الأرض، يتقاتل ويتذابح حولها البدو، وهي اليوم السقاية الكريمة - ولا دلو ولا حبل - والملجأ الأمين، للبدو وللطيارين، وللسائقين والمسافرين، من الإنكليز كانوا أو من العرب، أو من النوبيين. تلك هي الرطبة. قد كانت أمس الهول المجسم، الهول العاري الأعمى الأصم، فلا يرى غير الدلو، ولا يلين لغير الحبال، وهي اليوم ذات عين تبصر، وصوت ينطق، وعقل يفكر، وقلب يعطف ويحنو. فهي تسمع صوت الإعصار يزمجر وراء الآفاق المشرقة، وترسل أصواتها المنذرة إلى ما دون الآفاق. هي تهدي الطيارين فلا يضلون، وتحذرهم من العواصف فتقيهم أخطارها. وهي للمسافرين نعيم ساعة على الأقل، وللواردين المستقين عون على الدوام.
وإن في الرطبة ما يسلي ويطرب حتى أخي العربي الوطني. عندما دخلنا ردهة الاستراحة، الساعة العاشرة من الليل، كان الوقت بلندن وقت الشاي؛ أي الساعة الخامسة بعد الظهر، وهي ساعة الإذاعة اللاسلكية. وكانت في الردهة آلة الراديو مفتوحة ترحب بنا بقطعة من «عائدة» لفردي، كانت تعزف في تلك الفينة بلندن، يعزفها جوق كبير على معازفه الخمسين. ورأينا بعض المسافرين يطالعون الجرائد، وبعضهم يشربون الويسكي أو الشاي، وهم يستمعون إلى لندن تغني! لندن في الرطبة، وكانت الرطبة بالأمس ثقبة في ظهر الشول. •••
شئت أن نبيت في الرطبة، وشاء الرفيقان أن نصل إلى بغداد صباحا، فقلت: ضعيفان يغلبان قويا، فكيف بقويين. في الساعة الحادية عشرة إذن نهضنا للإسراء.
وأين السيد يحيى؟ نعم ، إن سائق السيارة وصاحبها لسيد من السادة ، سيد كبير من بغداد، عريض المنكبين، عريض الصوت والدعوى، يعنجر ويزنجر، ويلف حول لبادة رأسه خمسة أذرع من الكشمير الهندي. ما كان في تلك الساعة على مرأى أو مسمع منا! فراح الشيخ قسطنطين ينشده ويناديه. ولقسطنطين صوت يعلو صوت السيد ويجعله بالمقارنة أنثويا. سمعته وهو واقف في بوابة الحصن يرسل ذاك الصوت في الليل - يسخر الليل - ليحمله إلى السائق السيد حيث كان، ويبرزه للوجود. يا سيد يحيى! يا سيد يحيى!
وكان لا يزال نور السراج يبصر في المقهى خارج الحصن، وكان أحد الحراس عند البوابة، فقال لقسطنطين: «خفف عنك، وامش إلى حيث النور، فتسمع السيد يغط قبل أن تصل إلى المقهى.»
بعد دقائق رأينا السيد يجر نفسه وراء قسطنطين، وهو يلف أذرع الكشمير على رأسه وحول أذنيه، ثم لبس معطفه المبطن بصوف الغنم. ولا عجب. إن برد البادية في الليل لأشد من برد الجبال، والرطبة لا تفرق كثيرا عن دمشق في علوها - 650 مترا - عن سطح البحر.
لذلك اقتدينا بالسيد، فلبسنا لليلة شباط وريحها أثقل ما عندنا، ونحن نردد متورعين الكلمة التي كان يرددها قبل أن يضع يديه على الدولاب: توكلنا على الله!
ولكننا بعد نصف ساعة من السير، أحسسنا بأن يد السيد تهتز، والسيارة تتذبذب في العراء المجهول. فصاح الشيخ قسطنطين به أن قف. - قف يا سيد، وفتش عن الطريق.
ثم نزل هو بنفسه يتحقق ظنه، فعدنا نحو خمسمائة متر إلى الوراء ننشد أثر القوافل السيارة.
قبل أن خرجنا من دمشق أطنب قسطنطين بمدح السيد السائق. هو أحسن السائقين في الشام وفي العراق، وهو رجل صادق شريف - من سلالة النبي - هو سيد! وكأني بالرفيق قد نسي ما كان من حظنا وأولئك السادة في اليمن. وهم - على زعمهم - خلاصة الخلاصة، زبدة السلالة النبوية. وقد كان رفيقي في نجد سيدا كذلك، وما كنت في رفقته من أسعد الناس، فقد كان خمرا في أول أمره، وخلا في آخره.
في تلك الساعة، وفي قلب البادية وشدة الليل والبرد، وددت لو أن سائق سيارتنا من غير السادة، فقد عادت اليد القابضة تهتز على الدولاب، وصرنا للمرة الثانية خارج الطريق. نبهنا إلى ذلك قسطنطين على عادته. فهو في الأسفار، ساعة الخطر، أكثر من عرفت تيقظا وحزما. ولكنه - خذ الحقيقة بكاملها - أكثرهم تشاؤما. صاح بالسيد وفي صوته رنة الأمر والتوبيخ، فتوقف فورا، ثم قال يخاطبه: هل أنت نائم؟ - لا والله. - هل أنت نعسان؟ - لا والله. - والله أنت كذاب. والله ستنام - كلنا ننام.
أظن أن السيد سلك ذلك المسلك ليصل إلى هذه النتيجة. نمنا كل في مكانه من السيارة، نحو ساعتين، نوما متقطعا. وكان الواحد منا، كلما صحا، يلعن ريح شباط، وبرد ليله، ذلك البرد الذي يخرق المعاطف كلها ويتغلغل في الأمعاء، فيقلصها ويزيد في تعقدها.
لزمتني الرعدة بعد أن استأنفنا السير، وأحسست بوجع معوي شديد. وعندما رجا الشيخ قسطنطين السائق أن يقف، كما كنت قد فعلت، ضحكت، على ألمي، وسمعته وهو عائد إلى السيارة يقول: «هذه مذلة، وأية مذلة، أن يكشف المرء قفاه لهذه الريح القبيحة ... وبي صداع أيضا ... بودي لو بتنا في الرطبة.»
كان الفجر ساعتئذ يتثاءب ويتمطى، ففاجأته الشمس، وهي مثله كليلة أو عليلة. رفعت رأسها من بطن الأرض - من حافة السهل المنبسط أمامنا - بدون مقدمات، وهي أشبه بالقمر المغيوم، فما شعرنا بحرارة وجودها، إلا بعد ساعة من تشريفها. وكان السيد أول من استنشط فينا، فحاول أن يعوض عما كان من إبطاء، فزاد بالسرعة حيثما استطاع. على أن الجانب العراقي من هذه البادية هو وعر، والطريق كثيرة الأخاديد.
وبينما كنا سائرين بسرعة تنيف على الثمانين كيلومترا في الساعة، رأينا أعرابيا يلوح من بعيد بردن قميصه، ورآه السيد وما اكترث به، فتململ قسطنطين غيظا. قسطنطين، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، على الدوام، وإن كان مكروبا متألما، قسطنطين، حاضر الفكر، بعيد التصور، لله دره، فقد ذكر في تلك الفينة أن قسما من القافلة تقدمنا، وظن أن إحدى السيارات أصيبت بأذى، فأمر السيد أن يقف. قد يكون هذا البدوي قادما من قبل القوم مستنجدا. وقد يكون هو نفسه في حاجة إلى إسعاف. - وقف يا سيد. أما سمعت؟ أقول لك وقف!
وكان الأعرابي لا يزال يعدو ويلوح بردنه، فبتنا ننتظر وصوله. ولبثنا ننتظر، بعد أن وصل، رجوع النفس إليه، ثم قال إنه عطشان، يكاد يموت من العطش.
فجبهه السيد يحيى بهذه الكلمات: «يا ملعون، يا ابن الملاعين!»
فكشف الأعرابي عن صف من الأسنان كاللؤلؤ المنظوم. - وماذا يصير في الدنيا، يا ابن السعادين، لو فطست؟
فابتسم الأعرابي ثانية دون أن يفوه بكلمة. - وتضحك يا لعين. تضحك يا أبله البله، يا كلب البدو. لعنة الله عليك وعلى جدودك. خذ اشرب.
فابتسم الأعرابي ابتسامته الكبرى، ابتسامة العيد، وقبض على القربة بكلتا يديه، فشرب واشتف وحمدل، ثم مال بوجهه إلينا وقال: بأمان الله.
أما قسطنطين فكان يصرف بأسنانه، فقال للسيد بعد أن استأنفنا السير: «أما كان أجدر بك أن تسبه ولا تسقيه، أو تسقيه ولا تسبه، أو لا تخشى أن تعطش أنت ذات يوم في البادية، فلا تجد لا من يسقيك ولا من يسبك؟»
فأجاب السيد: «ما شاء الله كان، وما يشاء يكون. الله سبحانه وتعالى، أعطى اللعين الماء، وأنا، سبحاني، أعطيته ما يستحق.»
فأفحم قسطنطين وغلب. إن «سيده» لصاحب ذكاء ودعابة. وما كره أناس البدو كره السادة. وما كرههم أحد السادة كره هذا السيد؛ فقد استمر يقول: «البدو - البدو» ثم يبصق ويقول: «بعر الجمال خير من البدو، بعر الجمال يصلح للنار، والبدو لا يصلحون لشيء.»
كظم الشيخ «قسطنطين» ما أصابه من وقاحة «سيد السيارة» ثم أعاد الكرة عليه، وكان الحديث هذه المرة في السياسة، فسأله قائلا: «ومن هو في نظرك الوطني الأكبر في العراق؟»
فأجاب بصوته الجهوري الغلاب: «الوطني الأكبر؟ إه نا (أنا). والبرهان أني الوطني الأكبر، إني لست مثل أحد من الوطنيين. لا المال أبغي، ولا الوظيفة، لا أريد شيئا من الحكومة. إه نا أحب وطني مجانا لوجه الله.»
سكتنا جميعا، وجاء نسيم الصباح مع نور الشمس ينعش ما زعزعت ريح السيد من يقيننا ، ويداوي ما أصابنا من رياح الليل. فعاد إلينا شيء من حسن الظن بالكون، وبالسادة. •••
من الرطبة نبدأ بالهبوط هبوطا محسوسا، وعندما نصل إلى الرمادي ينبئ عداد الارتفاع بأن هذه البلدة العراقية، على حاشية البادية الشمالية، هي ثلاثمائة متر فوق سطح البحر. وفي الرمادي شيء مما نلقاه في أبي الشامات، إلا أنه أخف، ولا يد أجنبية فيه. فالمأمورون في دائرتي الجمرك وجوازات السفر كلهم عراقيون، وقد ألفيناهم على جانب من اللطف جزيل.
استأنفنا السير ساعة الظهر، ونحن لا نزال آخذين بالنزول، فعبرنا الجسر في الفلوجة، ودخلت السيارة بعد ذلك نعيم الزفت. ذلك النعيم الذي لا يدوم طويلا في طرق العراق. إنما هو قطع، أو حتت، بلغة أهل مصر، من الزفت، تصلها بعضها ببعض الطريق القديمة الحافلة بالغبار والأخاديد. ومتى يتم نعيم الزفت؟ سألت السيد يحيى هذا السؤال، فكان جوابه أن «الوطنيين» في الحكومة مثل المستشارين، وأن المستشارين من سلالة البدو. وقد شنف آذاننا ببعض ألفاظه المنتخبة التي رمى بها ذلك الأعرابي.
على أننا شاهدنا في الطريق بعض العمال وأدوات العمل، ثم أخذت تقل لعنات الوصل، ويطول نعيم الزفت، في دنونا من بغداد، ومن مستوى البحر، فإن المدينة لا تعلو عن سطحه أكثر من تسعين مترا.
عبرنا جسر الحديد الصغير الذي بناه الترك في أواخر القرن الماضي، وعيدت بغداد يوم افتتاحه وبعده عيدا طويلا مهلهلا، وبعيد ذلك وقفنا أمام البناية التي كانت ولا تزال الجمرك.
أمر المدير - وهو شاب أشقر أعمش - بأن تنقل حقائبنا كلها إلى غرفة الفحص، ثم دخل إلى مكتبه يتبعه الشيخ قسطنطين حامل الجوازات والسيد يحيى، وبينا كان يفحصها ويسأل سؤالاته المعتادة، سمعت أولا صوت قسطنطين، ثم صوت السيد يعلوه ويمحوه، وسمعته يصيح: «اتق الله يا رجل، نحن ثلاثة، وما معنا غير ثلاث زجاجات.» الأمر أمر خمر.
ولكن المدير أصر على ما يظهر، وما أسر السيد العنجري، الثلاث لواحد من الركاب الثلاثة - هذا ما يفترضه حضرة المدير، وافتراضه هو وفق القانون، ولمصلحة الجمارك العراقية - فعلينا إذن أن ندفع رسم الجمرك على زجاجتين من العرق. مدير مدقق - مدير يهودي. وسمعت السيد يقول وهو خارج من مكتبه: «يهودي أبو شمعة! لولا كرامتكم والله، لمرغت أنفه بالتراب.»
وعلى جسر «مود» استوقفنا آخر من أولي الوجوه البيض، والعيون العمش. وكنا قد شاهدنا بين المارين ثلاثا من الحسان، يلبسن العباءة دون الحجاب، فقال السيد بعد أن دفع رسم المرور، ولعن الوكيل: «وهذا يهودي أبو شمعة، ينصبونهم لنا في كل مكان ليلتقطوا الفلوس. ولكن لهم «خويات» والحمد لله. أرأيت الثلاث اللواتي مررن سافرات؟ هن أخوات أبي شمعة هذا، ولولا إحداهن لما كان هو على الجسر في هذه الوظيفة يلتقط الفلوس.»
وكنا - والحمد لله - قد أدركنا النهاية من رحلتنا، بل وصلنا إلى حيث تبدأ الرحلة، فنباشر البحث عما جد وأنشئ في بغداد خلال السنين العشر الأخيرة. •••
قد أشرت إلى ما كان من تجديد وتغيير في طريق الصحراء، وأول ما نشاهده في العراق هو جسر الفلوجة الذي كان من خشب، فأصبح من حديد، ثم الطريق من الرمادي إلى بغداد، التي باشرت وزارة الأشغال تزفيتها، وستتمم العمل، وهي طويلة العمر، بإذن الله، فيغدو مدخل العاصمة من الغرب ناعما للمسافرين، ومستحقا إعجابهم.
إن القسم الأخير منه لهو الآن كذلك. فمن الجمرك إلى جسر «مود» جادة كانت ترابا في الصيف، ووحلا في الشتاء، وهي اليوم شارع واسع مزفت مشجر، أطلق عليه اسم الملك فيصل، إلا أن في ساحته عند الجسر جنينة مدورة تشكو العطش والإهمال، وتشتاق الزهور!
وفي هذه الساحة، وسط الجنينة، تمثال الملك فيصل في القيافة العربية، على جواد شبه عربي، صنعه المثال الإيطالي المشهور بياترو كانونيكا. وقد صنع أيضا تمثال عبد المحسن السعدون القائم في باب شرقي. أقف عند هذين التمثالين لأقول الكلمة الواجب قولها، لا تأسفا على خمسة آلاف الدنانير ثمنهما، ولا تنقصا من شهرة صانعهما، بل تنبيها للحكومة العراقية التي تحتاج حقا إلى مستشار في الفنون الجميلة، فلا تقدم مرة أخرى على هذه مثل هذه الفعلة في تكريم رجالها الخالدين.
إن في هذين التمثالين البرهان الموجع على افتتاننا بما هو للغربيين من الآثار الفنية، وعلى ظننا أنها كلها ممتازة، وعلى جهلنا بما يكون من إسفاف الفنان الغربي، إذا انتدب لعمل وطني فني في بلادنا. إني على يقين أن حاضر هذين التمثالين لخير من مستقبلهما. فإنهما قائمان اليوم فوق مرمر سدتيهما بسلام وأمان. أما غدا، عندما تنشأ الفنون الجميلة في البلاد، وينبغ في الأمة الفنانون، ويصبح المثقف البغدادي في تذوقه جمال الفن، كما هو في تذوقه الشعر والأدب، فلا أمان على التمثالين ولا سلام.
غدا تحمل صحافة بغداد عليهما؛ لأنهما من سقط المتاع، لا فن فيهما ولا حقيقة، لا الوجه وجه فيصل ولا الجواد جوادا فيصليا، ولا الوجه وجه «عبد المحسن» ولا الوقفة وقفة من وقفاته الوطنية الرائعة. غدا - أقول - يحم القدر، فيثور ثائر الشعب على التمثالين، فينزعهما من مكانيهما، ويرمي بهما في دجلة، غير آسف على تلك الدنانير التي قبضها ذلك الفنان الإيطالي، ثم تنتدب الحكومة العراقية، التي تكون قد استنارت بنور الفنون، مثالا عراقيا أو سوريا أو مصريا ليصنع للرجلين الخالدين ما يليق بهما من التمثيل بالصفر أو بالرخام. عندئذ يتم التكريم لهما، وخصوصا للملك فيصل في ذكريه - شارعه وتمثاله.
هيا بنا، قد انفتح الجسر، وهو لا يزال ذلك الجسر الخشبي الذي يفتح مرتين في النهار لعبور السفن. ولا يزال القسم الذي يفتح منه كما كان. أما القسم الأكبر فقد فرش ممر السيارات منه بالزفت، فخفت الأصوات تحت الدواليب. والعلمان - تبارك العلمان الأبيض والأحمر - فهما مقيمان على عهد مخترعهما العبقري، فلا يزالان قيد أيد بشرية ترفعهما وتخفضهما لضبط سير بين الكرخ والرصافة، وهما على ما يظهر من الآثار الفنية الخالدة، تبارك العلمان. •••
أما ونحن الآن في بغداد للمرة الثانية فإننا نتوكل، بعد الله، على الملازم سردست ليهدينا إلى ما أصلح وأنشئ وجدد خلال السنين العشر الأخيرة. إن أولها النزل ذات الأسماء الإنكليزية المضللة - نزل وندزور، نزل كارلتون، نزل كرزون، نزل مادجستك - وأحسنها، هو هذا النزل الذي نحن فيه، فقد كان اسمه نزل مود، فتغير بعد ذلك مرارا، وصار يدعى نيغريس بالاس؛ أي قصر دجلة.
إنه صادق في الشطر الأخير من اسمه، فهو على دجلة. أما الشطر الأول فهو مثل أسماء النزل الأخرى كذب وتضليل. ليس في بغداد اليوم قصور، إلا إذا قلنا قول القاموس: إن القصر كل بيت من حجر، وقد سمي كذلك لاقتصاره على بقعة من الأرض بخلاف بيوت الشعر، فلا ينتقل مثلها. إذن كل بيوت بغداد قصور. إما إذا كان القصر قصرا لقصور الناس عن الارتقاء إليه - لا نزال رهن القاموس - فليس في بغداد قصر واحد؛ لأن أعلى بيوتها لا تتجاوز الثلاث طبقات، ولا يقصر دون ارتقائها لا العرج ولا ذو الفتوق.
لنصرف النظر عن الاسم إذن، ونسرحه في هذه الغرف القائمة حول صحن كبير التي ينشد فيها المسافرون - وجلهم من الأوروبيين - الراحة والهناء - والأوروبي من مأكول ومشروب، وإنهم ليجدون كل ذلك. ويجدون فوق ذلك ما هو حقا جديد؛ أي الغرف المجهزة بالحمامات الخاصة.
لأول مرة نزلت في هذا «القصر» كان صحنه بستانا، فيه أشجار النخيل والرمان، وأزاهر الفل والمرجان، وظلال بينها وشاذروان.
ولما زرته ثانية كان قد اضمحل البستان، واختفى ترابه تحت فراش من البلاط الأبيض، وما بقي من أشجاره غير نخلة واحدة، أقامت في قلبه وحيدة، وكان إلى جنبها قسطل من حديد، يرفع رأسه إلى ما فوق صدرها، ويحمل إليها - على ما أظن - روائح ما تحت أرض الصحن من مجارير. رثيت حقا لحال تلك النخلة، التي فرض ذلك الرفيق عليها، فظللته كرما، فأفسد جوها لؤما. وأظنني لفت نظر المدير يومئذ إلى هذه الفجيعة في الاقتران، فقلت: «اقطع النخلة أو أجرها من هذا الفظيع قرينها.»
وإنه ليسرني أن أقول الآن إن مدير التيغرس بالاس عمل برأيي، ولكنه تحرى فيه المساواة فقضى على القسطل والنخلة معا، وقد أمسى الصحن ساحة بيضاء، عارية، جامدة، عقيمة، يتسابق فيها ابن المدير ورفقاؤه على الدراجات، وتدخلها فتحط فيها السيارات. إنا لله ...
على أنه قبيح بنا ذم «قصر دجلة» ما دام يوسف الكلداني التلكيفي مديره، وما دام المعاونون والخدم من إخوانه الكلدانيين التلكيفيين. فإن أبناء تلكيف متصفون معروفون؛ حيث كانوا بالنشاط والإقدام، والصدق والاستقامة، واللطف والتهذيب. تلك هي الحقيقة. وليس في «قصر دجلة» ما قد يكون شائنا لسمعته ولفضائله غير ذلك ال «بار» الأمريكي، الحافل بالكئوس والقناني، المغري بابنة الدالية، وابنة الشعير الغالية، وبكراسيه العالية. ذلك ال «بار» الذي يديره ابن عم يوسف، الحذق اللبق، البسام على الدوام، فيمزج العقيق والذهب والمرجان - الوسكي والرم والجن والجان - ولا يبالي بما يكون من شأنها في رءوس الشبان، المسلمين والكلدان، الذين يتهافتون على «نعيمه»، تهافت الذباب على أديمه. فيا يوسف، ويا ابن عم يوسف، ارفقوا في الأقل بالشبان العراقيين، وفرغوا زجاجاتكم في بطون البريطانيين.
ولا تتشبهوا في مطبخكم بهؤلاء الإنكليز، الذين قد يحسنون كل شيء في الحياة، إلا الأكل وفن المطبخ، فيسلقون الخضر ويحسبونها مطبوخة، ويشوون اللحوم، ويقدمون معها الأبازير والسوائل المقبلة ليكمل طبخها الضيوف، كل على مائدته. والعجل والثور والخنزير، يا يوسف، إنك فيها عدو العرب، تجيء بالثور في التنك، وتجلب الخنزير بالصناديق، وتطبخ منها وتقدمها - باردة - لأبناء لندن ولا بأس - وتفسد بها - ولا رحمة في قلبك، ولا رحمة عليك - معد العرب وأذواقهم - ودينهم! وماذا يفعل خس بغداد بخنزير يور كشير؟ وما لذة الحبارى، يا ابن تلكيف، وهي تستحيل في مطبخك قطعة من ال «روس بيف»؟
أما الخدم فإنهم جديرون بالثناء لما يحسنونه من الخدمة، ولما فطروا عليه من اللطف والمعروف. ولكننا نتقزز من الساكو البيضاء في النهار، ومن الثوب الأسود الرسمي في الليل، ونحن في بغداد، يا يوسف، لا في لندن، والثوب الرسمي للخدم، إن كان يفتقد الأجسام المعد لها، اللائق بها، وكان يفتقد النظافة والكي بالمكواة الحامية كل يوم، فهو شيء فظيع، ولا نظن أن الإنكليز أنفسهم يستأنسون به، ويرضون عن لابسه. فلو استغني عنه في نزل بغداد، وألبس الخادم ثوبا وطنيا، أو ثوبا نوبيا؛ أي مصريا - قفطانا أبيض ومنطقة حمراء - لكان ذلك أكثر ملائمة للمكان، وألطف في نظر الضيوف وأجمل. ما سوى هذا فإن نزل يوسف لخير النزل ببغداد.
أما الشارع الجديد - شارع الرشيد - فقد زال منه الغبار، دفن تحت صفحة من الزفت، وهذا من حسناته الحديثة، لقد شط القلم في «حسناته» وليس هناك ما يجيز الجمع. ذلك أن البنايات الجديدة، وأكثرها في جهة باب شرقي بنيت على الطريقة القديمة، التي لا تعرف النظم المدنية، فهي تحترم الرصيف مرة، وتثلم عرضه - بضم العين وبكسرها - مرات. إن هذا الشارع لا يزال كالمنشار في نتوئه وفتوقه، وفي عماره وخروقه، أما المقاهي فيه، فقد ازداد عدد تلك التي لا يتقزز المرء منه.
وقد ازدادت كذلك الضوضاء في شارع الرشيد، فقد وصلت السينما الناطقة إلى بغداد، وشرعت الفونوغرافات والمكبرات ترسل في الشارع ألوانا من مكربات الألحان والصيحات. تعالوا اسمعوا، يا أهل بغداد، صياح الأمريكيين في ساحات كرة القدم واللكام، تعالوا اسمعوا المدنية الغربية تعج وتثج - ليت شعري - بأصوات البغداديين ما تكون عندما تغزو بغداد كرة القدم والملاكمة، ويجن أهل بغداد جنون أولئك «البرابرة» عبر البحار، باللكام ولعب الأقدام! هي المدنية الغربية، ولا مهرب منها.
وهذه البصات منها، وهي تزيد بازدحام شارع الرشيد وبضوضائه وروائحه، أما السيارات ذات العداد فقلما تجدها، وأما الخصوصية فهي في بغداد، في كل العراق، لا تتجاوز الألفي سيارة، وأكثرها قديمة أو أنها لا تلبث أن تصير كذلك لقلة الاعتناء بها. وقلما يفطن السائق أو صاحب السيارة أن غسلها كل يوم هو ألزم ما يلزمها في بلاد مثل العراق غبارها كثير.
إن العربات من هذا القبيل خير منها، وقد تقول إذ تراها: إنها من عهد سحيق، ولكنك بعد أن تركب فيها - اللهم إذا كنت ممن لا يعدون الدقائق والساعات - ترضى عنها، وتقول: خسئت يا سيارة!
فالمجلس فيها أحسن مما يبدو لناظريك؛ لأنه نظيف وثير، والخيل تجري جري الأصايل، وإن لم تكن منها.
إلا أن حال الخيل يسوء عندما يرش الشارع بالماء، فيجر الجري البلاء عليها، أو بالحري يجرها إليه؛ ذلك أن هواء بغداد يحمل دائما من دقيق الغبار ما يفرشه في الشارع، فيستحيل إذ يمسه الماء وحلا رقيقا زلجا، وعندما تكون الخيل جارية جريها المعتاد ربعة - وقلما تراها ماشية - فترتفع فجأة أمامها يد الشرطي لتوقفها، فيقصر السائق العنان في الحال وبقدر ما تلبيه قواه، تزلق الخيل زلقة هي القرفصاء بعينها، فتكاد تدخل في العربة ولولا العريش تصير تحت دواليبها، لاحظت ذلك غير مرة، ولفت نظر رفيقي إليه، فابتسم وما شاطرني في تلك الحال شعور الرفق بالحيوان، قلت: إن الملازم سردست قليل الكلام، وهو لا يؤخذ بالأوهام، ولا يروقه حتى الشعري من الخيال، دقيق النظر على قدر ما يمد نظره، صريح القول في ما يعلم ويرى، وقد قال يصلح ما كان من خطئي في ما تقدم، وما كان من رثائي لحالة الخيل: ليس الحق على الأسفلت، ولا على الغبار والماء، ولا على الشرطي أو على السائق، هذه العربات من أيام الترك، وليس لواحدة منها ضابط (أداة للتوقيف في المفاجآت).
وبينا كنا نطوف بعض الأسواق الجديدة في السنك قال: ترى الرصيف في هذه الأسواق أيضا غير متسق، ضيق هنا - واسع هناك - وفي بعض الأماكن يضيع، يختفي. وما ذلك إلا من أطماع الناس، وإهمال المجلس البلدي، فالمجلس رغبة بالتجديد - بالعمران - أعطى أجازته كل طالب، بدون حساب ولا قيد، وكل من احتاج إلى بضعة أقدام أو أمتار من الشارع أخذها ولا حرج عليه.
لكن في بغداد الجديدة نواحي تبشر بالخير، الأولى في الباب الشرقي على طريق الكرادة، تشقها جادة عريضة ذات اتجاهين، للذاهبة من السيارات والعربات وللآتية، وبين الطريقين جنينة مستطيلة ستغرس فيها الأشجار. فمتى كملت هذه الجادة ببيوت حديثة الهندسة وبستانها المقطع المستطيل، وكمل بناء الشوارع إلى جانبيها، تضحي الناحية مما يحق لبغداد أن تفاخر به.
وفي شمال الرصافة إلى جانب النهر ناحية أخرى جديدة هي الفيصلية، تزينها روضة عمومية، وهناك كذلك العيواضية التي ظهر من عمارها وتخطيطها حتى اليوم ما ينبئ بما سيكون من جمالها المدني. إن في هذه النواحي الدليل على أن أمانة العاصمة عازمة على إثبات وجودها، وتعزيز أسباب الصحة والراحة والجمال في المدينة.
بقي أن أشير إلى مظهر من التجديد أوحت به الوطنية العراقية العربية، فقد بدأت أمانة العاصمة تطلق أسماء عربية على الأسواق والجادات، وأن وطنيتها في هذا الأمر لتستوحي ربة الشهرة في جميع منازلها، العباسية والأموية، السنية والشيعية، الأدبية والدينية والسياسية. أجل، إن اختيار أمانة العاصمة يشف عن ذوق شامل دقيق، وعن حكمة بليغة، مثل ذلك الجادة التي نشأت إلى جانب النهر، من باب شرقي إلى الكرادة، والتي ستصبح المتنزه الأول في بغداد، فقد أطلق عليها اسم أبي النواس، وأحسن من هذا في لباقة الاختيار الاسم الذي أطلق على سوق الصرافين، وهو اسم الشارع العربي اليهودي السموأل، فحبذا الشعر والشعور في حياة هذا الشارع، وحبذا الوفاء، على أن أمانة العاصمة أرادت من الاسم، على ما أظن، ما يرمز إليه عنصر صاحبه.
هي دعابة مستحبة، وإن كانت من الحكومة، بل هي في الحكومات شيء جديد، وإنك لتجد خارج السور مثالا آخر منها. هناك، شمالي البلاط الملكي، إلى جانب طريق الأعظمية، في بستان كبير من النخيل، شيدت كلية آل البيت، منذ عشر سنوات؛ لتدريس العلوم الإسلامية، ففتحت أبوابها للطلاب نحو سنتين، ثم أقفلت، وهي اليوم دار البرلمان العراقي. من العلوم الإسلامية علم الكلام - الذي يدعى عند المسيحيين اللاهوت - فمن علم الكلام الديني، إلى علم الكلام المدني لا يزال موضوعنا الكلام. إلا أن الانتقال من كلية آل البيت إلى البرلمان يعد جديدا، وقد يكون - وقد لا يكون - مفيدا. •••
تعال أريك من الجديد ما لا ريب في خيره، تعال أريك آية الجمال في الجادات. من بغداد إلى الهنيدي - مركز الطيران الإنكليزي السابق، العراقي الآن - مسافة تنيف على خمسة أميال، طريقها مفروشة بالأسفلت، ومزدانة إلى الجانبين بصف متواصل من شجر الدفلى. إن هذه الطريق في الربيع، يوم يكون الدفلى الزاهر في مجده، لأجمل ما يبتغيه المرء من نزهة في ضواحي بغداد. وإن شئت إطالة السرور فالعربة خير من السيارة.
وقبل أن أختم هذا الفصل، ينبغي أن أقول كلمة في المثال الحي المنظم للجديد المفيد - وفي بغداد منه شيئان - الشرطة والسجن ، إني محب لشرطي بغداد، معجب به، لا لأنه صورة مصغرة لشرطي لندن؛ بل لأنه وإن كان دون الإنكليزي في قامته، فهو صنوه في التيقظ والنشاط، وفي اللطف والمعروف، كما هو في حركاته ووقفاته، وفي ملابسه الأنيقة.
والغريب العجيب، أني ما سمعته مرة يرفع صوته مهما كان من المخالفة أو العراك، فأين الصوت البغدادي الجهوري، بل الصوت العربي العريض؟ إن في الشرطة كثيرين من الذين لم يألفوا النظام؛ أي من الأسر الطيبة ومن العشائر، وهم اليوم من أرباب النظام. لله ما يفعله التعليم والتدريب! ما رأيت شرطيا في ثوب مفتقر إلى التنظيف، أو بوجه يحتاج إلى الموسى، وما سمعت شرطيا يشتم المخالف أو يسبه ويتحكم فيه، وقد قال لي العارفون: إن شرطي بغداد نزيه عفيف، لا تمسه الرشوة، ولا تثنيه عن واجبه المغريات والتوسطات.
إني أهنئ بغداد بشرطتها، وأهنئ أولئك الذين جاءوا من وراء البحار معلمين، فانصرفوا إلى مهنتهم الشريفة، دون أن يتدخلوا في السياسة، فعلموا، ودربوا، ونظموا، فحببوا مهنة الشرطي حتى إلى أبناء العشائر.
أما المثال الآخر فهاكم في سجن بغداد، قد زرت السجن مترددا، وخرجت منه حائرا في ما عراني من دهشة يتخللها التسآل، وإعجاب يبطنه الريب، فهل من الحكمة أن تحسن السجون فتغدو كالفنادق، بل أحسن منها في النظافة، وفي حظها من النور والهواء؟ وهل تقل في مثل هذا التحسين الجرائم؟ وبكلمة أخرى هل يصلح المجرم حاله إذا أحسن إليه في سجنه، فيخرج منه نادما على ما فعل، عازما أن يلزم، بقية حياته، الصراط المستقيم؟
سئل هذا السؤال أحد مديري السجون فقال: إن التحسين واجب؛ لأن العقاب المقرون بالمعروف يصلح قسما كبيرا من المسجونين، أما الباقي منهم، وهم المدمنون الإجرام أو المطبوعون عليه - يخرجون من السجن اليوم ويعودون غدا - فهؤلاء لا يصلحهم عقاب مهما كان من المعروف أو من القسوة في تنفيذه، فالإعدام خير لهم - خير لهم وللأمة.
سألت مدير سجون بغداد رأيه في المسألة فقال: إن المطبوعين على الإجرام قليلون، وإن العدد الأكبر من المجرمين يصلحهم العقاب المقرون بالحسنى، إذن، يجب أن نحسن بيئة السجن - يجب أن نحسنها حقيقة ومعنى، فيخرج منها السجين سليما في صحته وفي أخلاقه. والسيد حسام الدين وجيب، المدير الحازم يحسن وضع الشيء في موضعه، وقلما يفرط في القسوة أو في اللين.
قال أحد الحضور معقبا على كلام المدير: إن للدين أثرا يذكر في التوبة، وإن المجرمين من سواد الناس شديدو التدين. لا ريب في الشطر الأول من هذه الكلمة، وقد يصح الشطر الثاني.
استقبلنا المدير في مكتبه إلى جانب السجن، الذي قد ينقل في المستقبل إلى خارج المدينة، فهو اليوم قبالة دار الكتب العامة، في ما كان أمس قريبا من بوابة المعظم؛ أي من السور، وسيصبح غدا في قلب المدينة المسرعة في نموها شمالا وجنوبا.
وكان أول ما قاله المدير بعد السلام - ولا عجب إذا ما افتخر - إن كل أثاث المكتب، من السجادة إلى المنضدة، هو صنع نزلاء السجن، فشاركناه في الافتخار أنا والرفيقان الكريمان، النائبان المحترمان فخر الدين آل جميل وعلي الإمام، ومشينا بعد ذلك جميعا، يتقدمنا المدير الذي تفضل فكان الدليل.
في ظلال النخيل إصلاحية الأحداث، وفيها من الأولاد الذين تراوح سنهم بين الإحدى عشرة والثامنة عشرة سنة، نحو خمسين، منهم عشرة جرمهم القتل.
سئل أحدهم عن ذنبه فأجاب فورا: قتلت ابن جارنا في عركة، وآخر قتل دفاعا عن عرض أخته، والثالث قتل بدون تعمد - بقضاء وقدر. أما أكثر الذنوب فهي التي تتعلق بالسرقات وبما ينجم في «العركات» من الخلل بالأمن العام، ولهؤلاء الأولاد معلم يعلمهم العلوم الأولية، والرياضة البدنية، فيضحي أكثرهم، بعد العقاب، أحسن صحة، وأسلم خلقا، وأنبه عقلا مما كانوا قبله.
ثم زرنا المستشفى، قسم الرجال منه، وهو وقسم النساء بإدارة الدكتور شريف عسيران، ذلك الرائد للشفاء والعافية في الكاظمين، والعامل في سبيل الصحة العامة والنظافة عشر سنوات. وكفى بمستشفى السجن أن يكون مديره الدكتور شريف ليكون في الأقل مثال النظام القائم بحسن الخدمة، وخير المعالجة، للجميع على السواء.
ولكني استنكرت في أسرة المرضى اللحف الخشنة القاتمة اللون ، كفى بهؤلاء المساكين ظلمات السجن والمرض والشقاوة ، وخليق بمديرية السجون أن تجعل اللحف بيضاء أو زاهية الألوان، فترتاح إليها عيون المرضى ويسري من الارتياح إلى نفوسهم شيء من الانتعاش. وهب أن فيهم المجرم المدمن الإجرام أو الشرير المطبوع على الشر، فالقسوة في العقاب تعود، بعد عودته إلى الصحة والعافية.
أما السجناء في دور الصناعات فليس في حالهم ما يبعث على الشكوى إلا إذا كان الحديد - سلاسل منه ثقيلة - في أرجلهم، وها هنا مجال للحسنى، فإن السجناء في المصانع أكثرهم من أصحاب الذنوب الصغيرة، وهم منها في زورة السجن الأولى. فهم إذن يستحقون الرحمة، ولا أظن أن القيد الخفيف أو عدم القيد يغريهم بالفرار، أو يحرم مخزن السجن شيئا من الإنتاج أو من جودة العمل.
رأينا هؤلاء السجناء في مصنع السجاد، وفي وجوه أكثرهم ملامح القناعة والوداعة، وفي أرجلهم أثقال الحديد، ينسجون أنواعا من السجاد الإيراني، التبريزي والشيرازي والكاشاني، بمشارفة معلم عراقي تعلم صناعة النسج في إيران، ويجيدون عملهم إجادة تدعو للإعجاب.
ورأيناهم في دار الأنوال التي تدار بالكهرباء ينسجون أقمشة القطن والحرير، فيأتون بأنواع منها، للرجال والنساء، حسنة الديباجة، يبيعها مخزن السجن بأسعار بخسة. أما مصانع الأحذية والأجربة فهي تصنع في السنة ما يسد حاجة الجيش كلها.
وهناك مصانع للنجارة والحدادة والحصر وغيرها، تنبئك بها، إذا فاتتك في جولة الاستكشاف، ما تراه في المخزن الكبير الحافل بأنواع شتى من حاجات السجن.
كل هذا حسن محمود، بيد أنه عادي مألوف إذا قيس بمثله في سجون أميركا الحديثة، فهل في سجن بغداد ما يميزه عن سجون العالم المتمدن بشيء؟ أجيب: نعم، فقد لا تجد في غيره، في الشرق وفي الغرب، ما تجده فيه من الرحابة والنور والهواء الطلق. أجل إن من هذه البركات في سجن بغداد ما يكفي للتوزيع على عشرة سجون في مكان آخر، وإنك لتجد الرحبات للنور والهواء النقي حتى في السجن الداخلي المعد للمحكوم عليهم بالسجن طوال الحياة.
ليس من العجب إذن ألا يكون للمجرمين هنا تلك الوجوه التي تسمها الجرائم بميسم التنكد والتأبد، ليس من العجب أن يكون أكثرهم على جانب يذكر من البشر والوداعة.
إن ذنوبهم لتنحصر في الدفاع عن العرض، والثأر، والسرقات، و«العركات» التي تنجم عن تنازع في أرض أو ماء، وما أحد منهم إذا سئل عن ذنبه يكذب أو يجمجم الكلام.
سألنا عددا من القتلة فكان جواب كل منهم: نعم قتلت، وزاد ثلاثة بقولهم: مقدر - هو ما قدره الله.
وقفنا عند زمرة من السجناء جالسين في الشمس أمام حجراتهم، وفيهم شاب مسيحي أسلم ثم أجرم، سألته فأنكر أنه قتل، وجمجم الكلام، وانتحل الأعذار، لا أقول إن هذا الرجل هو مثال صادق لكل من أذنب من المسيحيين، إنما حزنت؛ لأنه مجرم وفوق ذلك جبان، حزنت؛ لأنه على إسلامه، لم يكن كالمسلم صريحا صادقا شجاعا.
قال فخري آل جميل يطيب خاطري: «ما خسرتموه، يا أمين، وما كسبناه، هو من مال إبليس.»
وأخبرني زميله المحترم علي الإمام أنه عرف بنفسه، قبل الاحتلال، حجرة من هذه الحجرات، وما ألفها، وأن المجرم اليوم يلقى من الحسنى والمعروف في السجن ما لم يلقه في عهد الترك المذنب السياسي.
والمجرمات يعاملن بمثل ما يعامل المجرمون، ما زرنا القسم الذي يختص بالنساء، ولكننا علمنا أن فيه أربعين سجينة، منهن القاتلة والسارقة والزانية.
والزانية! - ها هنا وقفت، وما كان الناصري ليحلي في نفسي مرارة التأمل ... «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر» ... وها هنا أيضا ينهزم المثل الأعلى ... قال المعري:
الشر والخير ممتزجان ما اقترفا
وكل شهد عليه الصاب مذرور
شارع المستنصر
إن للمدن كما للناس روحا حية ناطقة ثابتة، وبكلمة أخرى: إن روح المدينة هي البارزة الممتازة من صفاتها، تلك الصفات التي تبدو في أكثر مظاهر الحياة والعمل، فتسمها بوسمها الخاص، وهذه أمثلة من بعض ما عرفت من المدن الكبرى. إن روح نيويورك التبجح، فكأنها تقول: كل ما عندي هو مثل هذه ناطحات السحاب، كل شيء ضخم علي عظيم! وروح لندن الأناقة - كل ما عندي مشمول بالتدبير والترتيب والتنظيم، وروح باريس الزهو والمرح - ومن مثلي حسنا وبشرا وازدهارا ؟ وروح برلين المهماز وخوذة الفولاذ - ألمانيا فوق الجميع! إلا أن في ألمانيا مدينة وادعة جميلة هي ميونيخ، وإن لها من الفنون روحا سامية. وليس بين المدن الإسبانية مثل إشبيلية المركبة روحها من نقيضين، القداسة والقمار.
أما في هذا الشرق العربي فكل مدينة من المدن الكبيرة أضحت اثنتين: القديمة وهي ذات روح تعرف وترى، والجديدة لا روح لها ترى أو تعرف، أو أنها مزيج من الشرق والغرب، فللقاهرة مثلا روح تتجلى في الصحافة وفي ما حول الأزهر من الأحياء، هي روح زغلول والوفد والحوقلة - البلاد وفدية، والحكومة إنكليزية! لا حول ولا قوة إلا بالله، وروح القدس، داخل السور، هي الأقصى والمبكى والطور - نحن العرب ويلنا من إسرائيل، أنا إسرائيل ويلي من العرب - أنا بريطانيا، خيري في الويلين! أما دمشق فروحها روح المرجة والكتلة - حركة دائمة، ووطنية هائمة، وتمرد لا يزول ما دام الجنود السود يرون في المرجة، ويرعون في مروج الوطن. وأما بيروت فلا روح لها اليوم بارزة، على ما فيها من معاهد العلم، غير الخلاعة والخنوع وحب المال - هات الفلوس، وخذ العروس، وعفر وجهك أمام صاحب «الكابوس».
وما هي روح بغداد؟ لا تقسم بغداد اليوم إلى قسمين ظاهرين بالمعنى الذي ذكرت. فهي لا تزال مدينة شرقية واحدة، يتخلل بعض أحيائها، شيء من اختلاط الشرق بالغرب. إنما قديمها كثير الأشكال والألوان، فيصح أن نرمز إليه بإله من آلهة الهندوس، روحه تبدو، ولا تتوحد، في رءوسه وفي أيديه المتعددة.
إذن روح بغداد أعجوبة من الأعاجيب. فهي الحوقلة والاستسلام، وهي الشغب والتمرد، وهي الورع والتقوى، وهي التخنث و«التشلجي»، وهي في هذا الزمان النفط! وقد يصير النفط في المستقبل روحها الكيماوية العظمى، روحها المركبة في بوتقة هذا الزمان البراق الخناق.
هات شتات هذه الروح نعرضها للبحث، فنتحقق طبيعتها ومنهجها، إلا أنني لا أجزم في ما نؤمل من إدراك واكتناه، فقد لا أوفق لغير العرض، فأترك للقارئ الاكتناه. لقد سبق أن ألمحت إلى بعض صفات المدينة، في ما وصفت من أحيائها، ومن شارعها الأكبر الجديد، شارع الرشيد، وسأزيد القارئ علما بما هو عريق في القدم، عميق في الجدة.
إلى جانب شارع الرشيد، بينه وبين دجلة، شارع هادئ وادع، جدير بالطواف والاستكشاف، هو شارع المستنصر الذي ينشأ عند رأس الجسر، فيمتد شمالا في خط شبه قويم، وينتهي عند شارع المأمون، ذلك الشارع القصير العريض الذي يرضى بقسمته من المدينة، فيصل شارع الرشيد بالجسر الثاني، ويفتح قلبه للسوق المسقوف شمالا منه الذي يدعى سوق السراي، وإذا ما وقفت في هذا الشارع القصير العريض ترى نفسك في ظل السلطات المادية؛ أي الحكومة والتجارة، أمامك السراي، ووراءك الجمرك وبيوت التجارة والشركات والبنوك. وهناك إلى يمينك مهد للفن صغير هو المتحف العراقي، وفي السوق المسقوف - سوق السراي - مرجة للأدب خضراء صفراء هي الدكاكين التي تباع فيها الكتب والمجلات.
هو ذا مركز أعصاب المدينة، وإنك لتجد هنا، فوق ما ذكرت - بين الجسرين - أشتاتا من روح بغداد الاجتماعية والدينية، فإن شارع المستنصر يبدأ بالمقاهي، وينتهي بالمساجد، وبين هذه وتلك وحولها طواحين التجارة والدعارة. أجل، إن بين الجسرين محط رحال قافلة الروح البغدادية، إن بين الجسرين بيت قصيد المدينة ...
أظل أرعه نجومل ليل بسماي
ولي ناظر يهلل دمع بسماي
ألج بسمه وعيبن يلج بسماي
أون عليه ليه مي ون عليه
وهذه التي ترعى نجوم الليل، وتلهج باسم الحبيب، وتئن عليه، هي إحدى مغنيات بغداد الشهيرات، وأكثرهن يهوديات، تجلس كل ليلة على عرشها في المقهى الذي في الطابق الأعلى، على زاوية شارع المستنصر - بين الرصافة والجسر - وتصيح بأعلى صوتها صيحات منكرات فظيعات: أظل أرعه نجومل ليل بسماي!
شارع المستنصر (تصوير الدورادو).
فتسمعها نجوم الليل في السماء، فتئن منها، ويسمعها أهل بغداد، فيئنون معها ويتأوهون. مسكينات تلك النجوم! كم ينقصها من العلم لتحسن تقدير هذا الغناء البغدادي القديم.
قلت ذلك مرة، وأنا واقف على الجسر، بينما كانت أشعة القمر ترقص على الأمواج، سمعت صوتا يوبخني قائلا: وهل تظننا نرقص طربا؟ أفلا يرقص الطير مذبوحا من الألم؟ فحتىام التهكم منك؟ وإلام أنت ماض فيه؟ أوليس هذا الغناء صياحا بصياح؟ بل هو صياح جراح، ونواح فضاح! تعال ارقص معنا على هذه الأمواج ...
علي بعد هذا أن أقول: إن ما أسمعتك من المغنية المشهورة هو من القديم القبيح في الغناء. ولا جديد اليوم في بغداد غير ما يجيء في الفونوغراف من سوريا ومن مصر، إذن دع الجالسة على عرشها، بين الرصافة والجسر «ترعى نجومل ليل وتون.»
وتعال ندخل هذا النزل الإنكليزي الاسم، ونجلس في البستان المشرف على دجلة، تحت شجرة النبق الكبيرة، المعلقة فيها أنوار الكهرباء، هذه المائدة قريبة من الساحة المسحورة، وبعيدة من جوقة الطبالين والزمارين، فاجلس ها هنا تسمع قليلا وتر كثيرا.
ولا تسل عن أبناء الليل هؤلاء المعجبين بهذه الشقراء النمساوية، أو بتلك السمراء الفرنسية، أو بالشقيقتين الصغيرتين، اللتين يطويان البطن والساق طيات عجيبات، تحملق لها العيون، وتتضاعف الشجون.
إن هؤلاء الراقصات يدعين بال «أرتستات» وبينهن وبين الفن بيد دونها بيد. أما المعجبون بهن فإن فيهم البغدادي ذا السدارة، وذا العمة، وذا العقال، ومعهم الرفيقات والحبيبات، العابثات بالقلوب والجيوب، وفيهم الإنكليزي والفرنسي والألماني والإيطالي، وهم في النهار من أصحاب الأشغال، وفي الليل من أبناء الوسكي والصودا أو الأبسنت والفرموت.
وما هذا الشيء الذي تعرضه لنا الراقصات العاريات، في طيات واهتزازات، تحت النبقات، واها لهن! فقد كانت الليلة من ليالي كانون، وكانت الريح تنفخ في نواعم ذلك العري، فتزيد المسكينة في الهزيز لتبعث الحرارة في جسمها، وكنا نرى البرد، على تلك الرجرجات واللزلزات، يقرص الناعم منهن؛ فيفضح نور الكهرباء القشعريرة فيه.
ما هذا الرقص بشيء من الفن الذي يصفق له المتفرج الأوروبي استحسانا في بلاده، ولكن الأوروبي الهاجر المحروم يتعزى بنظرة فيها إحياء الذكرى، وهو لا يتوقع ممن هي هاجرة محرومة مثله، أن تكون من ربات الفن والشهرة في بلادها، فتجيء بغداد نشرا لنعم عبقريتها، ولا هي تنتظر الإعجاب من مواطنيها. أما من أبناء البلاد فلا ترضى بغير العبادة. كيف لا وهي ربة الفن الفذ - الفريد - القائم بالرجرجة والتجريد!
مسكينات تلك الحمامات اللواتي يتهززن ويترجرجن تحت النبقات! مسكينات تلك الواهمات أن الفن كل الفن في هذه الرجرجات والتلزلزات! وهذا لعمري ما يحسبه البغداديون فنا جديدا، وما هو غير الفن الرجرج، بل هو مثل ذلك القبيح من الغناء القديم - وأقبح منه.
على أن في شارع المستنصر، بالقرب من الجسر، غير هذا العري الفضاح، وذلك الصوت الصياح. إن هناك بضعة نزل إنكليزية الاسم، وإنكليزية النزعة تخيم عليها السكينة والطمأنينة، تنعم في الليل لأصحاب الذوق الرفيع، والستر المنيع، فتجرد فيها الصياحة من صياحها، والرجراجة من ترجرجها، فتجري الأمور على هدإ تطمئن له القيادة العامة والخاصة في عالم اللذات.
سقيا لزمن كانت الدور في هذا الشارع من أجمل ما ببغداد وأشرفها مبنى ومعنى! إنما بعد الحرب العظمى تحول بعضها إلى نزل، وبعضها إلى مخازن ومكاتب للتجارة والمال، بيد أنه لا يزال بين الاثنين أثر لذلك الماضي الشريف، يتمثل هنا وهناك في حوش - بيت - عامر بالفضل والكرم. تنبئك البوابة المفتوحة، إذا ما وقفت فيها تشرف على الصحن اللألاء بالآجر الأبيض والأحمر، وبالقيشاني الساكن الحواشي، الصافي الجو، تنبئك بما كان من لطيف العيش الهادئ الأمين على ضفة دجلة في الزمن الغابر.
أما بعد الحرب فقد أسمى الإنكليز هذا الشارع شارع النهر، وفرشته أمانة العاصمة بالأسفلت، ثم غيرت اسمه، فصار شارع المستنصر، وما غيرت كثيرا مما آلت إليه الحال في ظلال هذه المدينة الغربية الشرقية، التي تقوم فيها المناقضات جنبا إلى جنب.
وهاك قرب النزل الكبير، ذي الاسم الشهير، دكاكين صغيرة حقيرة لقوم وصفوا بالوداعة، وعرفوا بحسن الصناعة، وامتازوا بالمحافظة على ماضيهم القديم، وأصلهم الكريم. فهم في دكاكينهم الزرية، وفي كل منها النار والمنفخ والسندان، مثال القناعة والنزاهة والنشاط، تراهم على الدوام يدأبون، ومن الصناعة الواحدة لا يخرجون. إن هؤلاء الصبة - الصابئة - وصناعتهم الواحدة الفضية، وبراعتهم فيها، والوداعة في سلوكهم والاستقامة في تجارتهم، إنهم في كل ذلك لأشرف مظهر من مظاهر الحياة في شارع المستنصر، ولمن أجمل ما رأيت من أقوام بغداد.
وبين دكاكين الصبة بيوت التجارة والشركات الإنكليزية والأوروبية، وفيها النظام والاجتهاد، والمطامع المستغلة لضعف العباد. إن فيها المال والسيطرة، وليس فيها شيء من الوداعة والقناعة، وليس فيها من اللطف غير المكتسب، ابن التعمد والاجتهاد، وهو من لوازم النجاح في المعاملات التجارية وفي المشاريع الاقتصادية والمالية.
هي ذي بعض المناقضات، ومنها كذلك المخازن والمستودعات التي كانت «أحواشا» في الماضي. فإنك لترى فيها البغداديين، على اختلاف أديانهم وعناصرهم، وكلهم واحد في القناعة والاحتراس، وقل في التقاعد والنعاس، لا يبالون، جاء أم لم يجئ الزبون.
إن شارع المستنصر، خلاف شارع الرشيد، ساكن الطرف، بالرغم عما أسلفت من وصف إحدى نواحيه، قليل الضوضاء، فقلما تجد فيه غير العربة يجرها الخيل، وبعض السيارات، وإن فيه، بما أنه على النهر، الحمامات للرجال والنساء.
وقفت أمام باب مفتوح مهجور، فغرني حب الاستكشاف، فنزلت الدرج، فسمعت قهقهات أنثوية فعدت أدراجي، فإذا بوليد يعدو إلي ويقول: ممنوع، ممنوع! فقلت: ومن أنت؟ فقال: أنا الحارس، والحريم تحت في الحمام.
أما حمامات الرجال فهي كذلك تحت مستوى الشارع - وقد تكون سراديبها تحت مستوى قعر دجلة، بيد أن القسم الأعلى منها باد للعيان، فالباب مفتوح، والستر مكشوف، والقيم والخدامون في جيئة وروحة حاملين المناشف والقباقيب.
أطللت على واحد من هذه الحمامات فإذا بغرفة الاستقبال تحت قبة مستوى سطحها يعدل مستوى الشارع - قبة تحت الأرض! - وكل ما تحتها زاهي الألوان، منعش للأرواح والأبدان ... طابت حمتك يا شوق الزينات. طابت حمتك يا فتنة القلوب ...
إنه ليصعب على المرء المشغوف بباهر ذلك الزمان الغابر، أن يجول في هذه المدينة، دون أن يستسلم إلى طيف من أطياف الأساطير أو التاريخ، وينعم بشيء من الخيال الذي تتجلى فيه عرائس الإنس وأبطال الجن، فإن في هذا الشارع الكثير المباغتات أزقة قصيرة، هي «الدربونات» التي تفضي بك إلى النهر، وقد استهوتني إحداها، فسرت بين «أحواش» أبوابها عريضة فخمة دكناء، لبعضها خوخات، ولجميعها مطارق من حديد تنوعت أشكالها، وجودت صنعتها.
ومع أن أكثر هذه الدور أمست مستودعات للخشب الذي تجلبه بغداد من الموصل ومن الهند فما زال الإنس فيها يكنسون ، والجن يزمزمون، خصوصا عند الضفة بين الدارين المشرفتين على النهر، وقفت هناك أتأمل تلك الرواشن القائمة بعضها فوق بعض، وما كان وما يكون من باطن أمرها. هي الحياة في حقائقها الرائعة المروعة، وفي أحلامها الباهرة المبهجة. هي الحياة في الأمس، وهي الحياة اليوم وغدا، أحوال تحول، وآمال لا تزول. قلوب تذوب، وأشواق تذهب وتئوب.
إن هذه الأحواش إسلامية البناء أو بالحري عربية، فقد رأيت في جدة وفي الحديدة مثل هذه الرواشن، ومثل هذا الاضطراد في هندستها. إنما هي تمتاز في بغداد بما يجاورها ويهيمن تحتها.
لقد شغفتني الدار القائمة على دجلة. شغفتني حبا؛ لأنها في آخر الزقاق، فلا تتقيد بكل ما فيه من مضايق وظلمات؛ ولأنها على طريق النهر، فيستطيع من فيها الفرار، في ضوء القمر أو في نور الشمس، دون أن يراهم الحارس أو الشرطي أو أحد من الجيران؛ ولأنها كثيرة الرواشن، فترحب في الأقل بالهواء وبالنور؛ ولأنها مقفلة الأبواب والنوافذ، ساكنة مستسرة، كأنها قصر لبنات الجان، أو مركز لأرباب الجن.
وهي رحبة ذات ثلاث طبقات، الثانية منها تبرز فوق الأولى برواشنها الممتدة على طول البناء، وللثالثة رواشن فوق رواشن الثانية، وكلها من الخشب الهندي النادر جودة وصنعا. وهناك من الحواجز للشبابيك ما يبعث على الظن أن أهل الدار الأولين كانوا متشائمين بالحياة، متحذرين من بوادرها، ومن إغارات بدوها، فهذا الزجاج، وهذه شعريات الخشب، وهذه قضبان الحديد، حواجز ثلاثة لا يخترقها غير الجن.
فليطمئن بال الخاتون، ولتطمئن الحوريات المكنونات. إن ها هنا الأمن والسلام، والسجن! وإن شئت التنزه يا سيدتي، كان لك ذلك في الروشن المعلق فوق دجلة، تجلسين هناك، وتسرحين النظر في ما تحتك، فترين الأسماك ترقص في المياه الجارية، وإذا أخذتكن نزعة الحرية أيتها الحسان، وشئتن الفرار من سجنكن في الليلة المقمرة، فالزورق عند الدرج والنوتي حاضر مطيع، وإن جرى هذا الزورق من هذا المكان في الرصافة جريا قويما كان مرساه في الكرخ عند درج آخر، أسفله في الماء، وأعلاه أمام بوابة السفارة البريطانية ...
وهذه سيارة براقة خضراء تملأ الحي بصوت بوقها، فتقف أمام بوابة وسط الجادة، فتنزل الخاتون ذات العباءة السوداء والقناع، وتختفي قبل أن يقفل السائق الباب - تعود إلى سجنها المحبوب. ويعود السائق إلى مكانه وراء الدولاب، فيسوق متقهقرا إلى شارع المستنصر.
هو ذا القديم والجديد في الجادة الواحدة، وسيمسي هذا الجديد قديما وسيزول ذلك القديم، وقد يتداعى الدرج فتذهب حجارته في النهر، وتسقط الرواشن فتحملها الأمواج، ويظل النهر يجري جريه الأبدي إلى البحر، صورة من الجديد وأخرى من القديم، تنعمان ثم تفنيان أمام دجلة الخالدة.
وفي شارع المستنصر إلى جانب القديم جديد من غير الغرب، فيا يجدد صرح للشرع الشريف، فهاكم جامع المحكمة، وليس فيه ما يستوقف البصر غير المأذنة الخضراء الصفراء البيضاء. بل فيه ما يستغرب مما لا يلتئم وجمال المأذنة، وما يستنكر في مكانه، فيه صحن خال خاو، ومصطبة للصلاة مفروشة بحصير، ومرحاض، تراه وأنت واقف في الباب، قديم جد قديم!
بيد أن الأرض قبالة الجامع تنبئ بالخير الحديث. هي وقف إحدى الخواتين - زاد الله سجونهن نورا وحبورا - على ما فيه إقامة الحق وإزهاق الباطل، فقد كانت المحكمة الشرعية القديمة في هذا المكان، فهدمت لتقام، بين ما تبقى من بواسق النخيل ووارفات النبق، المحكمة الجديدة، وهذه الأتن البيضاء عشرات منها تحمل التراب من أمكنة الحفر، وتعود إليها بأحمال من الآجر، والبناءون شارعون بالبناء، صرح منيف، للشرع الحنيف.
وغدا يجلس قضاة الشرع في دارهم الجديدة، فيسمعون وهم يقضون صوت المؤذن يتموج خلال النبق والنخيل، فيذكرهم كل يوم بوجوب إقامة الحق وإزهاق الباطل. إن ذلك في الأحكام لمن القديم، الذي يبقى جديدا، بل هو مثل نور الشمس جديد كل يوم، ولا خوف عليه من عدو الزمان. •••
ها نحن في التطواف شمالا ندنو من آخر الشارع الذي عرضت لك بعض ما فيه، صورا متحركة، فلا تستبدلها، وقد فاتني أن أعلمك أن أمانة العاصمة أطلقت اسم المستنصر عليه، تذكارا للمدرسة المستنصرية التي كانت في جواره.
إن جزءا من الماضي في بغداد هو أمامنا في قيافات الناس وأشكالها وألوانها، فضلا عما يبدو منه في الوجوه ويخفق في الصدور وفي العقول. إن هذا الماضي مقيم في يومنا كما في أمسه، هو على ما يظهر صنو الزمان، بل هو الأثر الحي القديم الجديد ببغداد، تسوقه إليك الليالي في أشكاله المتموجة تموج دجلة، على نحو بطء هادئ، وفي ألوانه التي تذكر في مجموعها بذنب الطاووس.
وللجماعات في بغداد صفة تختلف باختلاف المكان. فهي ساكنة في الكوخ، مسرعة على الجسر، مصطخبة في شارع الرشيد، فلا تستطيع مراقبتها، وتمييز صفاتها الظاهرة والباطنة، إلا إذا كانت في غير هذه الحالات الثلاث، إلا إذا كانت متمهلة في سيرها، جامعة في قيافاتها.
وإنك لتشاهدها في هذه الحال في مكان واحد هو شارع المأمون عند مدخل شارع السراي، قف هناك هنيهة تر معرضا من الناس عجيبا، أو اجلس في دكان أحد التجار، بشارع السراي الظليل، وراقب الموكب المستمر في سيره، فتنطبع في ذهنك شتى الصور، وتدرك إذا استعنت بالتساؤل معناها ومغزاها.
تعال نستعرض قيافات البغداديين، وهي اليوم في مجملها كما كانت على ما أظن في زمن الرشيد والمأمون، سنبدأ بالرأس، أو بما يزينه من عمارة، في شكل عمة أو عقال أو سدارة، قد تظن أن العمة عمة، والعقال عقال في كل حال، وهذا خطأ، فإن لأشكالها وألوانها وكيفية لبسها معاني ومغازي تخفى على السائح العربي، فضلا عن الأوروبي.
وأول ما يستوقف البصر العقال الصوف الضخم الطية، البني أو الأسود اللون، هو عقال أهل البصرة والزبير، ويندر أن يلبسه في بغداد غير الشيوخ المسنين. يلبسونه فوق غطرة «كوفية» ملونة ولا فارق في اللون، أما في الجنوب فإن النجدي والزبيري يمتاز بغطرته الحمراء عن البصراوي ذي الغطرة الزرقاء؛ ولهذا العقال في بغداد صفات أخرى. فإن كان ذا لفتين سمي «طيتين» وذا ثلاث أو أربع طيات عرف باللف، أما العقال الأسود البسيط فيدعى قحطانيا.
ولا عقال بلا غطرة؛ أي كوفية، وللغطرة ما للعقال من الأشكال والمعاني، فالزرقاء التي تدعى «يشماق» تلبس في شكل عمة ملفوفة لفتين أو ثلاث لفات ، ومشدودة على الرأس في انحراف إلى الأمام أو إلى الوراء، وفقا لمزاج صاحبها، فالذين يرفعونها فوق الجبين هم «القبضايات» أو الفتيان المشهورون في العراق بالشقاوة، فهم المثيرون «للعركات»، الضاربون القاتلون، في سبيل الشرف ومن أجل من شاء ممن له ثأر، وعنده المال بدل الشجاعة.
وبما أن لهؤلاء «الفتيان» شهرة محلية تذكر بشيء من الإعجاب فالمتهافتون على المهنة والمتطفلون كثيرون، وليس في القانون ما يمنعهم من أن يلفوا الغطرة لفتين أو ثلاث لفات، ويرفعونها فوق الجبين عالية. فلا يغرنك إذن كل من لفها ثلاث لفات، ولا تخش جانب كل من رفعها فوق الجبين!
والغطرة كيفما وضعت على الرأس بدل العقال تسمى جراوية، أما إذا لفها صاحبها على الرأس وحول الوجه؛ أي تلثم بها، فتدعى إذ ذاك يشمقين، وأكثر من يلبسونها ملفوفة لفة واحدة بتأدب واتضاع هم من أصحاب الصناعات.
أما العمم، فالشاب المتدين إذا كان طالب علم، يلفها رقيقة فوق الطربوش. والتاجر أو الوجيه الشيعي يجعلها كذلك فوق الطربوش، إنما من الحرير المقصب، فتسمى إذ ذاك كشيدة، وهناك الخضراء للشريف كما في سوريا ومصر، والسوداء للسيد، والبيضاء للعلماء.
ننتقل من الرأس إلى العباءة، فهي سوداء مطرزة بالأسود أو بالفضة أو بالذهب، وهي بيضاء صيفية، وهي من اللون البني أنواع، فالعباءات السوداء المفضضة والمذهبة تصنع في بغداد من قماش أوروبي، والباقي يصنع في إيران وفي الحساء. فالعباءة الحسوية، التي هي من الوبر، يلبسها مشايخ العشائر خصوصا في كربلاء والنجف، والعباءة الإيرانية التي هي من الصوف البني اللون على نوعين، الكوبائي والنائيني، يلبسها التاجر والعالم وغيرهما.
أما ما تحت العباءة فهو كذلك من الملابس العربية الشائعة، فلا تميز البغدادي عن السوري، الذي لا يزال يلبس القنباز، من قطن أو حرير، ويتمنطق بمنطقة من نوعه، أو أنه يلبس الدشداشة «جلباب» ويشدها بحزام من جلد أو قماش. أضف إلى ما تقدم القيافة الفرجية بالسدارة الفيصلية، وهي قلما ترى في غير المدن. تلك هي الأوليات في علم القيافة العراقي ، احفظها إذا شئت أن تحسن التمييز بين أبناء التقوى وأبناء الشقاوة في بغداد.
وإذا ما وقفت في شارع السراي تشاهد الموكب جميعه وفيه من كل طبقات الناس. فالشاب في القنباز والعباءة السوداء المفضضة، والعقال الأسود، والغطرة الزرقاء، الحامل في رجله حذاء أسود أو أصفر، هو من الفتيان الذين لم يمعنوا بعد في الحرفة، فما اشتهروا بخيرهم ولا بشرهم. إن قيافتهم تخبر بانحراف فيهم إلى الشقاوة، وقد تحول الأيام دون تحقيق رغباتهم الفتوية، فيبقى ذكرهم مضمخا ومنعما بالخمول. مثل هذا الرجل في الغطرة الزرقاء والعقال البني والعباءة والقنباز فهو من الطبقة الوسطى التي لا تعرف من خمول الذكر غير القطن والصوف. وإذا لبس أحد رجالها السرماية أو ما يسمونه اليمني، فهو من كعب الطبقة. إذا لبس الساكو الفرنجية بين القنباز والعباءة والحذاء الفرنجي فهو من رأس تلك الطبقة - من وجهائها ... اتق الله يا حمار، يا، يا أبالجراوية، فإنك تحشر حمارك بين عالم معمم، وسياسي «مسدر».
وهذا وراء الثلاثة بغدادي في دشداشة وساكو عسكرية، هي من لون العصفر «كاكيه»، وهو من الركبة إلى الأخمصين كما جاء الدنيا الدنية.
وهذا الممنطق بالمنطقة الحمراء، فوق القنباز الأبيض، الحامل كرشا تحتهما عامرا، الملفوفة غطرته فوق كوفية صفراء، المزدانة رجلاه بيمانية حمراء، هو من أولئك البغداديين الهائلين - من عشيرة «أبو حمد» (أي القبضاي) - الذين يصيحون بوجه المعتدي عليهم: أنا بغدادي مو عجمي - فك عينك زين.
وفي الموكب ترى الحمالين، في دشداشة وجراوية، يحملون الأكياس والصناديق، والأشجار للغرس، والخشب والحديد. وهم يزاحمون الأفندي اللابس السدارة، والعالم ذا العمة البيضاء، والفقيه والسياسي - نحن بالقرب من السراي والمحاكم العدلية - ومن في الموكب من النساء.
النساء، وليس فيهن شجر الدر، أو فتنة القلوب، وهذه اليهودية أو المسيحية تلبس العباءة كالمسلمة ولا تلبس الحجاب، مع أن الوجه منهما أحق بالحجب مما حجبت من جسمها، وهذه مسلمة في ثوب إفرنجي قصير، وجوارب من حرير، وحذاء يرفعها قبضة فوق الأرض التي تشرفها بمشيتها المتكسرة، وهذه منهن أقرب شيء إلى الفتنة. بنت سافرة في عباءة سوداء، من تحتها فوق الجبين غرة من شعرها الذهبي، ووجهها بين طرفي العباءة كالبدر بين غيمتين سوداوين، فنصع البياض فيه، واشتد تورد الخدين.
ومن النساء من يخرجن إلى السوق بالمشاية، ومن المشايات ما ترفع صاحبتها بضع أصابع عن الأرض، ومنها المسحاء وتلك التي لا يظهر منها في الرجل غير رأسها، ومن النساء من يلبسن الحذاء الفرنجي، وجوارب الحرير، ويسدلن من رأس العباءة الحجاب، فلا ترى من محاسنهن غير الأرساغ - هل تصح الاستعارة ولا تذل؟ - اللهم إذا كانت دقيقة أنيقة. ومنهن من يلبسن جوارب الحرير فوق الخلاخل الضخمة. فتظن أن في الساق ورما، أو جرحا مضمدا، ويخفين تحت العباءة السوداء دراعات (فساتين) من الحرير تنم الأطراف عن ألوانها الزاهية، فهل تصدق الظواهر فيهن أم البواطن؟ وقد يكون في القلوب شيء من فضة الخلخال الخفي، وقد يكون فيها القيود الفضية!
ومن النساء في هذا الموكب المتحرك على الدوام الحمالات والمعولات - حمالات اللبن، وحمالات الحطب، واللاتي يحملن أطفالهن على أكتافهن. وجوه صفراء فوق وجوه سمراء، أرجل نحيلة على صدور عليلة، بيد أن هذه الصغيرة وردية الوجه، الضامة يديها على رأس أمها، وتلك الأم الحافية ذات القد الرديني، تعيدان إليك ما ذهب من أمل وتشعلان ما انطفأ في موقد الحياة.
إن ها هنا أيضا ما يباغتك في أملك، وينفخ في رماد موقدك، هاك زمرة من الصبيان في أطمار فرنجية، وأسمال بغدادية، يحمل أحدهم طبلا، وآخر لوحة، ويتقدمهم أبو اللفتين، رافع اليد، جاحظ العين. فيدق حامل الطبل طبله، ويرفع حامل اللوحة لوحته، ثم يرفع الخطيب أبو اللفتين عقيرته: هبوا على السينما الملكي، وشاهدوا أعجب الصور، وأغرب المخلوقات. ثعلب يقتل أسدا، خروف يأكل ذئبا، طفل ذو قرنين، وآخر ذو رأسين ... عجائب المخلوقات - هذا المساء - في السينما الملكي. هبوا على السينما الملكي: دبه دب دب، دبه دب دب!
من الناس من وقفوا ليسمعوا ويتعجبوا. ومنهم من قالوا: عجيب، وهم ماشون، ومنهم رجل يبيع بزر بطيخ مملح، كان واقفا عند مدخل السوق، وراء فرشه، وهو يسمع ويهز برأسه، هذا الرجل لا يؤمن بما قاله الخطيب، وإذ رآني أنظر إليه قال:
كل من في الحياة يطلب صيدا
غير أن الأشراك مختلفات
دبه دب دب! اسمعي يا نيويورك، هل عندك من باعة فستق العبيد من ينطق بالشعر؟ دبه دب دب! اسمعي يا لندن، وأنت يا باريس، هل عندكما من باعة السمك أو الضفادع من يحسن النطق بالحكمة شعرا؟
هو ذا الشرق المهذب الوادع القنوع. إن هذا البغدادي لأكبر وأشرف من كل من ينصبون الأشراك للناس. إنه لمن الماضي القديم الجميل، وإنه من هذا الجيل، وهو مع ذلك يرضى بالقليل، ويرى بعينه الثاقبة الظاهر والخفي من الأحابيل. •••
ليس في القيافات البغدادية التي عرضناها لك قيافة واحدة جامعة تميز البغدادي عن سواه من أهل العراق، أو العراقي عن سواه من العرب، إلا إذا استثنينا السدارة والجراوية، ملبوس أقليتين من الأهالي الأفندية والفتيان. أما الأكثرية فإن هي إلا أشتات من الناس، تعلن صفاتها وجنسياتها، ومذاهبها المختلفة، في أشتات من القيافات.
على أن الأقلية العصرية في الملابس الفرنجية تزداد يوما فيوما. وكما أنك شاهدت السيارة البراقة في الدربونة المعتمة، فإنك تشاهد في المآدب وفي الحفلات الرسمية ما يدهشك لأول وهلة. وإذا كنت من الزوار المرموقين، وكنت تظن أن بغداد مدينة عربية أو صحراوية، لباس أهلها قميص وعباءة، فلا تعجب ولا تجزع عندما تجيئك رقعة مكتوبة على الآلة الكاتبة، أو مطبوعة بماء الذهب، تتضمن دعوة لمأدبة أو حفلة، وفيها، في الزاوية: «اللباس رسمي». أو إذا كانت من البلاط: «اللباس رسمي كامل!»
إني لا أزال أذكر يوم تشرفت للمرة الأولى بمثل هذه الدعوة. ولا بأس، ما دمنا في موضوع الثياب؛ أن أقص قصتي وأشرح محنتي، يوم كنت مقيما مع صديقي العزيزين؛ «أمين كسباني» سكرتير الملك فيصل في تلك الأيام، و«حسين أفنان» سكرتير مجلس النظار، في بيت واحد، جاءتني دعوة من البلاط الملكي، وفيها اللباس رسمي كامل.
إن معنى ذلك للضباط والموظفين أن يلبسوا أثوابهم الرسمية، العسكرية أو المدنية، ويزينوا صدورهم بما يحملون من الأوسمة ، ومعناه لمثلي ثوب فرنجي أسود ذو ذنب كذنب الحسون، واحر قلبي! أين لي بثوب نصف رسمي، فضلا عن الكامل ذي الذنب الطويل، وأنا قادم، أيها النجيب؛ من رحلة طويلة في البلاد العربية، ولم أتعود أن أحمل، مثل الإنكليز، حتى في البادية، جهاز العروس والعيد؟! فقد كان بيني وبين الثوب الرسمي بحور، عدا البوادي والجبال. هنالك في نيويورك تركت كل ما يسعد المرء في رحلة عربية، وما أدركت خطئي إلا في بغداد، عندما تلقيت رقعة الدعوة لمأدبة الملك.
وأين في بغداد الثوب الرسمي أحرزه بيوم واحد، بساعة واحدة؟ إن عاصمة العراق لا تزال، في التمدن الحديث، دون تلك المنزلة التي ينعم بأسبابها أولئك الذين يستأجرون أثوابهم الرسمية لليلة من ليالي الدهر، أو إنهم يرهنون ساعاتهم عند صاحب الدكان السعيد، أبي الكرات الثلاث المذهبة ليبتاعوا ثوبا مخيطا جاهزا من صاحب المخزن الآخر ابن عم أبي الكرات المذكورة.
ولم نكن في بغداد الرشيد، بغداد السحر والجن، فأفرك خاتم لبيك، فيقول عبده: «بين يديك»، ويجيئني في الحال بثوب رسمي كامل، يدهش بقماشه وخياطته حتى خياط الملك بلندن. ومع أني كنت أسكن في محلة الشيخ، بجوار مولانا عبد القادر الكيلاني - قدس الله سره - وأنا من الطامعين باليسير من بركته، لما ينور في روضتي الحين بعد الحين من زهيرات التصوف، فما حقق رجائي بزيارة تستكشف حاجتي، فيقضيها كما كان يقضي حاجات المقربين منه في قديم الزمان. ما جاءني يقول: «ما همك، يا أمين؟» فأجيب: «ثوب فرنجي رسمي يا مولانا.» فيهديني إليه، أو يقول: «هاكه»، فأراه بين يدي إذ ينطق بالكلمة المسعدة. لا، وربك، ما كان شيء من هذا.
بيد أن أملي ما خاب، فإن أحد رفيقي يمت بالنسب إلى مولانا عبد القادر؛ لأنه مثله سيد ابن سيد من سلالة الحسين ابن بنت الرسول - عليه السلام - والآخر هو من لبنان، من تلك البلدة التي أنجبت الشميل واليازجي وغيرهما من العلماء. ولكن علم الكسباني أمين لم ينفعني في تلك المحنة، ولا نفعتني ظاهرا سلالة السيد حسين أفنان.
إنما الأمل، كما قلت، «ما خاب»، وإليك البيان ، فقد كنا نحن الفرسان الثلاثة، على ما كان اضطراب الأحوال، نظفر بسويعة واحدة في النهار، بل في الليل، نحسبها دهرا من النعيم. وفي تلك الساعة كان ينقسم الكون إلى قسمين: العالم، وأنا وخليلي، فيظل العالم خارجا بعيدا، ونمسي نحن الثلاثة في حصن حصين، بل في واحة من السحر الحلال، ولم يكن لمولانا عبد القادر يد في هذا السحر أو كلمة. لا، وربك، إنما كان كله من بعقوبة، من فضل رمانها.
تراني أنتقل من قصة إلى قصة، ولا أبالي بما يقطع أو يوصل منها، مثل شهرزاد، كنا في الثوب الرسمي، فصرنا في بعقوبة. إيه بعقوبة جنة العراق. إن فيك يتراجع على الدوام صدى أغاريد الشعراء والأطيار، وهم يتغنون بجمال بساتينك، وطيب ثمارك - بعنبك وهو كالبلور والياقوت، بتمرك وهو كالعسل من قبلات الشمس، ببرتقالك الذهبي، بخوخك الذي تخجل ألوانه الزمرد والماس الأصفر والأرجوان.
ولكن أميرة بساتينك هي التي استعارها الشعراء ليزيدوا جمال ما في صدر الحسان. هي ذات الفم المدور المهيأ دائما للقبلات، هي التي تخبئ في صدورها كنوزا من لؤلؤ الحب وياقوته، هي أم النهود، وخالة ورد الخدود - هي الرمانة.
وقد كنا نجلس نحن الثلاثة حول طبق من الرمان، من العشر إلى العشرين، في ساعة من الليل تغبطنا عليها الملائكة والجن، ولا ننهض للنوم حتى نكون قد جردنا الأخيرة من ثوبها المصبوغ بذوب الياقوت الأصفر، وظفرنا بكنوزها كلها. وكذلك كل ليلة، قبل أن نصعد إلى الأسرة على السطح تحت ستر النجوم، كنا نجلس إلى مليكة قلبنا، ونتبارى نحن الثلاثة في حبها. وكان الكسباني السابق في أكثر الأحيان، يعض الخمسة ويلتهمها، الواحدة تلو الأخرى، قبل أن يكون قد فرغ أفنان من الرابعة. وكنت أنا الأخير دائما، الأخير إلا باللذة الهادئة المتأملة. فإذا كنت - أيها القارئ الفهيم! - محبا للرمانة مثلنا، فإني أنصح لك أن تجلس إليها في ساعة المساء الأخيرة، قبل أن تولي وجهك شطر السرير، فينعم بعد ذلك نومك، وتثور أحلامك.
عفوا، قارئي، ما بعدت عن المحنة التي كنت فيها إلا لأخبرك كيف قدر الله كشفها في حلم من أحلام الزمان. فقد جاءني الكسباني أمين في صباح اليوم المعد للمأدبة، وهو يحمل ثوبه الرسمي، ويقول: أمرت بأن أقدمه لك، ثم جاءني السيد أفنان بثوبه، وهو يظن أن من زاره ليلا، وأمره بأن يكشف محنتي، هو نسيبه الجليل الذكر مولانا «عبد القادر».
أما ثوب أفنان فقد كان الجسم مرتاحا فيه أكثر مما يلزم - كان واسعا علي، فضاحا لأمري. وأما ثوب الكسباني فقد أحسست أني فيه مرزوم رزما محكما، فيخيل للناظرين أنه صنع لي في عهد الشباب. فاخترت من الفضيحتين أصغرهما، وأحبهما ذكرا إلي. وبما أن خليلي كانا من المدعوين مثلي فقد تعاهدا صباح ذلك اليوم على أن صاحب الثوب الذي اختاره يحرم نفسه أطايب المأدبة وخمورها. فطأطأ الكسباني رأسه للقدر، وأصيب - وفقا للعهد - بصداع شديد يحرمه شرف الحضور، فأبلغ خبره بالهاتف، فقبل رئيس التشريفات العذر، وغفر الذنبين، ذنبه وذنبي أنا ... بعد أن رآني في ثوبه!
كن حكيما إذا، ولا تنس إذا ما زرت بغداد ثوبك الرسمي الكامل، فقد لا تتوفق إلى رفيقين مثل الكسباني وأفنان، وقد لا يكونان، إذا توفقت، ممن يسكرون بالرمان، ويحلمون بعد ذلك الأحلام التي يتجلى فيها أولو الكرامات من الأولياء. •••
أما وقد ذكرت الرمان وبعقوبه - والحديث ذو شجون كما يقال - فإني خاتم هذا الفصل بما لا يخرج عن موضوع التجوال، وإن كان خارج المدينة، فمن شارع المستنصر نذهب بك الآن إلى بعقوبة. وسنسمعك هناك، في دار صديقنا الأبر «فخر الدين آل جميل»، ما ينسيك ما أسمعناك من صياح تلك التي ترعى على الدوام نجوم الليل «وتون». فقد دعانا للعشاء، ووعدنا - وهو الجميل المحب للجمال - بشيء من محاسن الفن صوتا وشكلا.
وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون .
خرجنا من بغداد، والشمس وراءنا تدنو من الغروب، والأفق أمامنا خط من ذوب قلبها أصفر رقيق، يفصل بين سماء جامدة في زرقتها، وأرض هامدة غبراء. وهذا السهل السوي الفسيح الفارغ هو درب في كل مكان، وهو للسيارة ميدان. لا زرع فيه ولا كلأ، غير بقاع هنا وهناك أخضرها مائل إلى الاصفرار، وأصفرها كالغبار. وهذا قطيع من الغنم يعلل النفس بها. وهاك آخر يجتز ما لصق بين الحصى والتراب منها.
لا شيء جميل حتى في القوافل التي مررنا بها، وهي سائرة إلى بلاد فارس أو قادمة منها. ولا رفيق لنا في الطريق غير الغبار والشمس، أرض بلقع يملها الحادي، ويقنط منها حتى القطا، ولا يتحمل مشقتها مشيا غير الحاج العجمي الذي يجيء زائرا النجف. بل هو يجتازها فرحا؛ لأنها مدنية إليه مشهدي علي والحسين.
وها قد هجرتنا الشمس، ولا رفيق لنا غير الغبار. ولكننا بعد قليل وصلنا إلى خان بني سعد، في منتصف الطريق بين بغداد وجسر ديالي، فأوقفنا شرطي المخفر هناك، ورحب بنا قائلا: «لا سفر بعد الغروب، قانون جديد. إما أن تبيتوا هنا، وإما أن ترجعوا.» وقد أكد لنا أن الطريق غير أمين، وأن اللصوص لا يخشون مخفرا فيه شرطيان لا غير. فأفهمناه أننا مجازفون، وأن الأخطار لذة الأسفار، ثم أعطيناه أسماءنا - العفو - نحن السيد حسين أفنان سكرتير مجلس النظار. فسلم ثانية وقال: «بأمان الله.» وقد كان أفنان يحمل بندقية للصيد، والسائق سكينا، أبرزها ليزيدني اطمئنانا.
عاد يرافقنا اثنان - الغبار والقمر. وكنا نرتاح إلى ثالث هو صوت السيارة، ثم مررنا بجماعة من الناس، وهم مثلنا متخوفون، متوقعون القدر واللصوص. فبادرونا بالسلام بصوت عال، كأنهم يستنجدون بنا، ولوحوا بالأردان. فرددنا السلام بصوت أعلى، وطمأنهم السائق قائلا: «اللصوص أمامكم.»
وها قد دنونا من العمران. هو ذا جسر ديالى ومخفره، وهو ذا عدو اللصوص يسلم علينا، ثم جابي رسم المرور يلوح لنا بقنديله الأخضر. دفعنا الرسم وسمعناه يشكر ويدعو لنا بالسلامة.
بعد أن عبرنا الجسر سرنا في جادة ضيقة، مضيئة بأنوار ضئيلة من الكاز، أدت بنا إلى السوق - سوق بعقوبة المسقوفة، الحافلة بالمقاهي - وقد اكتظت بالناس. وكان السائق فرحا فخورا ببراعته، وسرعة سيره، كأنه لا يزال في الفلاة. وكنا نحن بشجاعته معجبين، وبجنونه راضين، وليس في السوق شرطي يعيده إلى رشده، ويذكرنا بأننا في قلب بعقوبة ، لا في البادية.
وما بعقوبة، وما قلب بعقوبة، بلا رمانها؟ كنت أتوقع أن نصطدم بطبق من الرمان، بدل كرسي وخوان. زمر يا رجل، زمر. ما جئنا بعقوبة غازين، ولا نحن من المحتلين. هؤلاء السمار إخواننا، ولهذه الأراكيل حق في السوق مثلنا. فقال السائق: «إذا زمرنا يا بك يجيء البوليس.»
وما كاد يفصح عن خوفه حتى بدا أمامنا الشرطي، والعين منه جاحظة، واليد مرفوعة آمرة. ممنوع السير، ممنوعة السيارات. وكيف يمكننا أن ندور لنرجع أدراجنا، إلا إذا دخلت السيارة أحد المقاهي؟ كلم السائق الشرطي ملاطفا، مجاملا، وصلى على النبي. فصلى الشرطي كذلك على النبي، وما لان. فهمس السائق إذ ذاك قائلا: السيد حسين أفنان سكرتير إلخ، فحوقل الشرطي، وأشار بيده أن سيروا بأمان الله.
وكانت السوق تزيد ضيقا وتقل نورا. وكنا نسمع الناس يستعيذون بالله، ويصلون على رسوله، ويحوقلون. وكنا نراهم يقفون واثبين، والأراكيل أو الكراسي بأيديهم فيلصقون بالجدران، أو يدخلون الخان أو الدكان، لنسير نحن بأمان. يا للفضيحة ويا للعار! إن جملا هائجا في مقهى، أو ثورا ثائرا في مطعم، لأقل فظاعة منا في سوق بعقوبة. ولكننا نحن والسوق ومن فيها خرجنا من الغمرة سالمين كلنا والحمد لله. وما كان من ذنبنا إلا أننا روعنا البعاقبة. وكدرنا جو سوقهم ساعة السمر.
وكدنا، ونحن متأخرون في الموعد، نكدر عيش مضيفنا، الذي كان في انتظار ضاقت دونه فسحة الصبر والأمل. فبادرنا، بعد السلام، إلى المائدة، وهو يقول: «خفنا عليكم، والله من قطاع الطريق.»
وما كانت المائدة، بزينتها وألوانها وخمرها، بعقوبية أو بغدادية. مائدة لا شرقية ولا غربية، بل جامعة بين محاسن القارتين وكنت أنا في سروري الوارف، أتشوف إلى السرور الأورف في ظلاله ونضارته. كنت أتخيل ما سيتبع الوليمة، وأنا أحسب نفسي، بعدما ذقت من غم المآدب الرسمية، مستحقا كل ما تجيء به أريحية الصديق الجميل. ولكني ما رأيت في الإيوان، ولا في من بدوا وتواروا هنا وهناك في الدار، ما يبرر الخيال والأمل. لا وجه من وجوه الحسان، ولا طيف لقين من القيان. لا، ولا سمعت همس راقصة وراء الستار، ولا خشخشة فستان أو إزار.
انتهى العشاء، وشربنا القهوة، ثم جاءت الأركيلة، ثم شيء من الشراب. وما لبث أن تثاءب السيد حسين أفنان - قدس الله سر أجداده - فقال الأخ فخري - دامت نجابته: «إنكم - ولا شك - تعبون من السفر.» ثم نهض يتقدمنا: «هذي هي غرفتك، يا حسين، وهذي هي غرفتك، يا أمين.» وكان الله محب المحسنين.
مغزى اللبنة
لا يزال في بغداد من الآثار ما يعود بعضه إلى القرن الرابع للهجرة. سنعود بك ألف سنة إذن، لنريك ما نجا من صول العناصر، وغوائل، الزمان. وإنك لتعجب للرسم الطامس، والطلل الدارس، فضلا عن الصرح الذي لا يزال قائما سليما نافعا، إذا ما علمت أن مواد البناء في أواسط العراق سريعة التفكك والدثور. فالباني بالطين والآجر مهما كانت مهارته، ومهما كان من طموحه وإجادته في الهندسة والزخرف، لا يتمكن من تشييد الصروح التي يضمن لها طول البقاء الصلد الضخم من الحجارة. أما اللبن فهو مثل العامل باللبن - هو من التراب ولا يلبث أن يعود، مثل الإنسان، إلى التراب. لا خلود في غير الجلمود.
وأذكر؛ كذلك أن لبنة بابل التي لا تزال تشهد على مهارة صانعها وبانيها في عهد نبوخذ نصر، والتي لا تزال في حائط المعبد وشارع النصر، في ما اكتشف من المدينة الكلدانية القديمة كما كانت يوم أخرجت من النار منذ ألفي سنة ويزيد. إن تلك اللبنة أمست من التقاليد المطوية، والذكريات المنسية، في مصانع الآجر في بغداد والكاظمية، فقد تطورت صناعة الآجر في العراق تطورا سلبيا، لا أعني بهذا أنها رجعت القهقرى، بل أعني أنها سقطت سقوطا مفجعا. والبرهان على ذلك في ما نشاهد من أنواع الآجر القديم والحديث، أو بالحري في المقارنة بين لبنة بابل ولبنة طاق كسرى من جهة، ولبنة بغداد اليوم من جهة أخرى.
ومما يدعو للتفكر والاعتبار أن هذا التطور المعكوس دخل على شعب البلاد، في بعض نواحي الحياة، كما دخل على آجره. فلا عجب إذا قال العالم الأثري: هات اللبنة العراقية وخذ الحديث عن أهل الزمان الذي صنعت فيه.
وهناك بعض الحديث. كان البابليون مثلا يهتمون اهتماما عظيما بالزراعة والري، وكانت اللبنة البابلية منتهى الجودة والمتانة، ثم عرا الزراعة شيء من الإهمال في عهد الساسانيين، وغدت اللبنة الفارسية دون البابلية صنعا وإتقانا، ثم جاء العرب، فدخلت الزراعة - وصناعة الآجر - في دور الانحطاط.
لا نكران أن بعض الخلفاء العباسيين كانوا يعتنون بالزراعة عناية تذكر، ويستحبون من البناء ما كان فسيحا، وما اتسعت في طول بقائه فسحة الأمل. ولكن اللبنة التي كانت تصنع في زمانهم هي دون اللبنة الكسروية فضلا عن البابلية.
مسكينة هذه اللبنة العراقية العصرية، هذه اللبنة النضاحة المتملحة. فما كان بإمكان حتى الخلفاء العباسيين - أولئك الخلفاء الذين بذروا أموال الدولة في بناء الجوامع والقصور، كما بعثروها في الحروب - ما كان بإمكانهم أن يجبروا صانع الآجر على أن يستخرج من اللبنة كل ما فيها من الملح. أو أنهم جهلوا هذا الأمر، وما علموا أن ملح الأرض، في صناعة الآجر على الأقل، هو غير ما تصفه به الأمثال. هو يفسد، ولا يصلح وهذا هو السبب الأول في دروس آثار بغداد المشهورة وامحائها، إلا القليل منها.
كان البابليون يحسنون - ولا شك - استخراج كل الملح من الأتربة التي يستعملونها لصنع الآجر. وهذا هو السر في دوامها سليمة أكثر من ألفي سنة. فالملح في اللبنة يجعلها عرضة لفعل العناصر؛ أي نضاحة. وإنك لتراها في أبنية بغداد اليوم تنش بالماء، فيذوب تدريجا ما فيها من الملح، فتبدو بنخاريبها كقطعة من الإسفنج المتحجر. وتستمر هذه الحال حتى تتفتت اللبنة، فيتداعى الجدار، ويسقط البناء.
ولماذا لا تصنع اليوم اللبنة الشبيهة بلبنة بابل القديمة؟ سألت هذا السؤال أحد أصحاب المصانع خارج الكاظمية، فقال: «هذا التراب من كرم الله، واللبنة منه، وهي خير ما يصنع، والحمد لله.» قلت: وكم هي مدة الاشتواء؟ قال: «قدر ما يشاء الله. حينا سبعة أيام، وحينا عشرة، وحينا خمسة عشر يوما، وفي بعض الأحيان لا يشتوي قطعا. سبحان الله!»
كانت النساء العاملات في محفر كبير في جوار الأتون يمزجن قطع التراب بالماء، فقال لي وأنا أنظر إليهن وأرقب عملهن: «التراب والماء لا غير.» ثم انتبه فأدار بوجهه إلى الأتون وكمل كلامه قائلا: «والنار - التراب والماء والنار. وكلها من كرم الله، سبحانه وتعالى.»
قلما اجتمعت، في رحلاتي كلها، بمن هو أدمث خلقا وأجمل تقوى وورعا من هذا الرجل. وهو - ولا شك - شيعي من الكاظمية، قلما تجد مثله في الشرق. هو رجل قديم الأيام، قديم اللسان، قديم العقيدة والإيمان. هو رجل من القرن العاشر، أحد صناع الآجر في زمن العباسيين، عاش ألف سنة فأدمثته الأيام، وروعته الليالي، ثم استأنف صناعته في ظل المآذن والقباب، في جوار الكاظمين - رضي الله عنهما.
وقد زرت خارج بغداد مصنعا للآجر حديث البناء والأدوات، صاحبه، يهودي من هذا الزمان - عصري عمراني! فهو يشعل في أتونه زيت النفط، بالضغط البخاري، ويصنع الآجر بالمكنات، ويرسل نموذجات من التراب - مكن كلمته هذه بإيماءة فيها الرضا عن نفسه والفخر بها - إلى أوروبا ليفحص فحصا كيماويا، ثم قال: «نعم، إننا نلجأ إلى العلم، لننتفع به ... ولكن العلم لا يزيد الأرباح في العراق.» ثم سألته سؤالي بخصوص اللبنة البابلية، لبنة نبوخذ نصر، وهي المثل الأعلى في هذه الصناعة، فقال: «كله يتوقف على التراب والملح. في بعض الأماكن يكثر الملح في التراب، ويقل في غيرها؛ لذلك نرسل النموذجات منه إلى الاختصاصيين بأوروبا ... أظن أن الملح يقل في التراب في جوار بابل والحلة ... لا يا سيدي، لا نستطيع أن نستخرج كل ما في التراب من الملح؛ لأن ذلك يقتضي نفقات كبيرة. والناس لا يرغبون في غير الآجر الرخيص.»
إن المسألة اقتصادية. فاللبنة لا تتحسن إلا إذا زيد بثمنها، والزيادة بالثمن غير ممكنة إلا إذا ازدادت الثروة في البلاد؛ لذلك ترى الحكومة العراقية باذلة جهدها في تحسين الزراعة بتحسين عوامل الري. إذ ذاك نعود إلى الزمن البابلي - إلى عهد نبوخذ نصر الزراعي - فنستغل الأرض بكل ما لدينا وبكل ما فيها ، ونثري ونبني البيوت التي لا تنضح لبناتها ولا تذوب، البيوت التي تدوم أكثر مما دامت قصور الخلفاء العباسيين.
لله أولئك العباسيون! فقد ابتغوا المجد في الدنيا وفي الآخرة، وخصوصا في الدنيا، وما أدركوا أن ما ابتغوه موكول باللبنة لا بالدينار، وبأقنية الري لا بأقنية العصور الحريمية، وبالمحراث لا بالسيف. بل هو موكول ببناء العقول أكثر منه ببناء الدور لاسترقاق العقول وسجنها، أو لاستخدامها في سبيل الخليفة ولذاذاته.
آثار العباسيين
إن الإنسانية لتنور النور الأجمل في أوديتها الساكنة الهادئة، وتثمر أطيب الثمار في المروج والحقول. أجل، إن أكثر النوابغ، وأكبر الأبطال لمن سواد الناس. مما يحقق الآمال بالإنسانية ويبرر الزهور بالنهضات القومية، فتتميز بفضل أرباب النبوغ والبطولة عهود التاريخ بعضها عن بعض، وتظهر الفوارق حتى بين المثمر منها والعقيم، فتعرف إذ ذاك بأسماء أصحابها، لا بالنعوت الذهبية أو الدرية.
وإن في تاريخ العراق عهدا - وإن قصر - يستحق أن يدعى باسم من بز فيه جميع معاصريه. وما هو العباسي، من أوطئ له هذه التوطئة، ولا بالبرمكي ولا بالبويهي. ما كان من الأمراء، ولا من الفقهاء، ولا من العلماء. بل كان عبدا رقا، ذا مطامع تصغر عندها مطامع أكبر الناس همة، وأشرفهم حسبا ونسبا. هو العبد مرجان؛ وسأزيدك علما باسمه وسيرته عندما نصل في جولتنا إلى آثاره.
أول الآثار هو ما بقي من مدينة أبي جعفر المنصور، في مقبرة في الصوب الغربي هي اليوم للشيعة. هناك حجرة كانت مسجدا في المدينة المدورة، أو أنها الأثر الباقي من ذلك المسجد، وهي لا تزال تدعى باسمه؛ أي مسجد المنطقة. وفي هذه الحجرة أسطوانة من الرخام السماقي يتبرك ويتوسل بها العوام من الشيعة لمعجزة نسبت إليها. وهي أن علي بن أبي طالب وقف ههنا يصلي ذات يوم، وكان عطشان، فنبع الماء من الأسطوانة، فشرب وحمد الله. هي أسطورة لا تحفل بالتاريخ، فقد توفي الإمام علي بالكوفة قبل أن بنيت المدينة المدورة بمائة سنة.
منارة سوق الغزل (تصوير الدورادو).
أما المأذنة القديمة القائمة اليوم في قلب الصوب الشرقي من المدينة، فلا أسطورة تشرفها، ولا هي تفعل العجائب. كانت هذه المأذنة زمن العباسيين وسط جامع كبير، قيل إنه بني عهد هرون الرشيد (787-809م)، وقيل عهد المكتفي بالله (903-908م)، ولو كانت تقرأ الكتابة المحفورة في أعلاها بالخط الكوفي لتحقق على ما أظن تاريخ هذا الجامع، الذي كان يدعى منذ خمسين سنة بجامع الخلفاء، والذي لم يبق منه غير هذه المأذنة، القائمة وسط بيوت وأسواق يباع فيها الغزل، فسميت لذلك منارة سوق الغزل.
هي فريدة وحيدة في مكانها، وهي تختلف كما يقال عن سائر المآذن القديمة والحديثة بأمرين، الأول هو الكتابة الكوفية التي لا يستطيع أن يقرأها أحد لعلوها ولغرابة نقشها، والثاني هو أنها غير مستقيمة، تميل قليلا عن الخط العمودي. فهي من هذا القبيل تذكر السائح الأوروبي ببرج بيزة، المدينة الإيطالية.
ولكن في العراق غيرها من المآذن المنحنية، أهمها في الموصل مأذنة الجامع الكبير. فإن انحناءها يزيد عن انحناء منارة سوق الغزل، ويدنو على ما أظن من انحناء برج بيزة. على أن صفتها الممتازة ليست في الانحناء نفسه، بل، في الأمر الذي من أجله انحنت. قلت إنها لا تفعل العجائب، والقول يحتاج إلى تصحيح. فإنها تمتاز عن سواها من المآذن والأبراج، في الشرق وفي الغرب، بما هي عليه من الورع والتقوى.
فقد جاء في الآثار أن النبي مشى في ظلها، فانحنت إكراما وإجلالا له، وهي لا تزال منحنية، وستظل كذلك إلى يوم القيامة!
وثمة أثر عباسي آخر هو من مألوف الطلول الدوارس المبنية بالآجر. إلا أنه أقدم، من منارة سوق الغزل، وهو قائم في القلعة إلى جانب وزارة الدفاع، إلا أنك لا تجد في جدرانه المتهدمة وسقوفه المعقودة ما يثبت شيئا كل الإثبات غير الآجر، وفيه الدليل على أن هذه الصناعة كانت في العهد العباسي الأول أرقى منها في ما بعد. مما يؤيد ما أسلفت إليه من أن مستوى صناعة الآجر مقرونة بمستوى شعوب البلاد.
قد أشرت في فصل سابق إلى المدرسة المستنصرية، وما يزال يبدو من آثارها في البناية التي هي اليوم الجمرك، ومنها كتابة على بقية جدار بارز فوق سطح هذا البناء، تنبئ أن المدرسة شيدت بأمر الخليفة المستنصر في سنة 602 للهجرة/1233م لتعلم فيها المذاهب الإسلامية الأربعة؛ أي الحنفي والحنبلي والشافعي والمالكي. بيد أن تساهل المستنصر لم يكن شاملا، فقد وقف واجما مانعا، على ما يظهر، عند المذهب الخامس؛ أي الجعفري. وهو مع ذلك جدير بالثناء؛ لأنه جاء في آخر زمان العباسيين - هو السابع والثلاثون من الخلفاء وابنه المستعصم هو الأخير - فأعاد مع ذلك إلى الملك شيئا من مجده الغابر، وبعث في البلاد روح العلم والأدب.
إن ذلك الصرح ليحزن في ما صار إليه. وهل في دور الحكومة ما هو أقتم وجها، وأنكر شكلا، وأهول قلبا من دار الجمرك؟ هيا بنا. ولكننا، ونحن نسارع منها إلى السوق، نمر بقسم قديم تحت مستوى الشارع، معقود عقدا محكما بشيء من الزخرف البديع - الذي كان بديعا - ولا يزال يفصح من تحت القتام الكثيف عن مجيد غابره. هذا المكان الأشد سوادا من الجمرك هو اليوم فرن للخبز. ومع هذه المخزنات في الأثر الطامس للمدرسة المستنصرية، فإنه خير خاتمة للعهد العباسي.
بيد أن من خلفهم من التتر لم يكونوا كلهم أعداء العلم والأدب. فقد تداعى من هذه المدرسة، بعد خمسين سنة من بنائها، جدار إلى جانب دجلة، فأمر الملك أبو سعيد آخر ملوك الدولة الإيلخانية ببنائه، كما هو مذكور في الكتابة التي تقدم ذكرها.
جدار المدرسة المستنصرية (تصوير الدورادو).
القصر العباسي (تصوير الدورادو).
الآثار التترية
أما وقد وصلنا إلى العهد التتري، فيجب علينا أن نقف إكراما وإجلالا عند اسمين من كبار الدولة التترية الثانية - الجلائرية - وهما السلطان أويس ومملوكه الناهض الطامح، المختلس التائب، الصالح المحسن، مرجان.
كان السلطان أويس بن حسن الجلائري، مؤسس الدولة الجلائرية (1339م) طامعا بتوسيع ملكه، فجرد حملة على خيجوق ملك أذربيجان، وعين مملوكه مرجان حاكما لبغداد في غيبته. وكان مرجان قد تخرج في سياسة الدولة، وتدرج في مناصب البلاط السلطاني، فغدا أسيرا لرغبة مضنية، بل لأمنية مهلكة . مرجان بن عبد الله بن عبد الرحمن الأولجايني، الرومي الأصل، طمح إلى الملك، وكان يومئذ دجلة آخذا بالطغيان، فطغى الاثنان معا. وعندما شاهد مرجان المياه تغمر الصوب الشرقي من المدينة ظن نفسه في حرز حريز، فتوكل على الله، وتبوأ عرش أويس.
وما كان السلطان أويس موفقا في حملته على خيجوق صاحب أذربيجان، فعاد إلى عاصمته التي أضحت في حوزة مملوكه، وكان الصوب الشرقي لا يزال تحت مياه النهر، فبنى أسطولا من الزوارق وخاض به عباب دجلة الطاغي يحمل على ذلك الطاغي الآخر مملوكه مرجان. فوصل إلى القصر وأدركه هناك ... وماذا دهاك يا مرجان؟ - العفو، يا مولاي، العفو!
وكان الاثنان من الصالحين. اعترف المملوك بذنبه وتاب، وتوسط من أجله بعض كبار الدولة، فعفا السلطان عنه.
ومنذ ذاك الحين تاب مرجان إلى الله - لست أدري أسمي بأمين الله قبل ملكه القصير أم بعده - وبذل كل ما كان يملك في سبيل البر والإحسان. بل خلد ذكره في ما بناه لخير الناس في هذه الدنيا وفي الآخرة. من ذلك المدرسة المرجانية التي شيدت في سنة (1357م) وأوقف عليها مائة دكان، وثلاث عشرة معصرة للزيت - كان يحرز الأملاك على ما يظهر بالسهولة التي أحرز بها الملك، وينفض منها يديه كما نفضها من العرش - وثلاث عشرة قطعة من الأرض، وسبعة خانات، وسبعة بساتين، وقفها كلها وقفا صحيحا شرعيا، كما جاء في الكتابة المنقوشة بالآجر قرب البئر في الجهة الجنوبية. وقد ختمت بهذه الكلمات: من غير شروط أوقافي أو تصرف فيها خلاف ما شرطت لعن في الدنيا والآخرة. ومع ذلك أن أكثر تلك العقارات التي لا تزال قائمة هي اليوم في أيدي اليهود.
وقد جاء في الوقفية:
وتممت هذه المدرسة في دولة نور حدقته، ونور حديقته، المخدوم الأعظم الأعدل، رافع رايات السلطنة على الأفلاك، ساحب ذيل الرحمة على الأعراب والأتراك، محيي مراسم الملة المصطفوية، مزين شعار الدولة الجنكيزية، حاجيج شاه أويس خلد الله ملكه.
وما خلد لولا هذا حتى ذكره. أما مرجان فلا حاجة إلى الكتابة لتخليده . فهو مدفون تحت قبة المسجد، ولا يزال الناس يزورون قبره ويتبركون به . وإن سألت البغدادي اليوم عن الحاجيج أويس، أجابك بسؤال آخر قائلا: أويس، أويس؟ ومن هو أويس؟ مما يثبت ما بدأنا به قصة مرجان، وهو أن عظماء التاريخ قلما يكونون من الأمراء أو من ذوي المال والجاه في الناس.
جامع الكيلاني من الداخل (تصوير الدورادو).
ومن آثار مرجان الجامع الذي بناه للمدرسة، والخان المقابل للجامع والاثنان يدعيان باسمه. أما أوروتمه فهو الاسم الذي أطلقه الترك على الخان لظلمته، وقد أمسى تحت الأرض، ولا تزال عليه مسحة من الفخامة. أما الجامع فإن بابه على الأقل جميل. بل هو في هندسته ونقشه منقطع النظير ببغداد، وقد أمسى مثل باب الخان بضعة أذرع تحت مستوى الشارع.
والجامع والخان اليوم مفتوحان، الواحد للصلاة والآخر للتجارة. أما المدرسة والمكتبة التابعة لها، الحافلة بالمخطوطات، فقد تولى إدارتهما زمنا طويلا بيت الألوسي الموصوف بالعلم والفضل والتقوى، ثم أقفلت المدرسة ونقلت المكتبة إلى دار الكتب العمومية.
لا أظن أن في بيت الألوسي اليوم من يهمه أمر مرجان ومدرسته القديمة. فإن كبير هذا البيت السيد موفق من غير أولئك الأجداد الأتقياء في علمهم، العلماء في تقواهم، الرافعين أيدي الدعوة والاستيحاء للسلف الصالح، الشاربين من مياه التقاليد الحلو والمالح. لا، ما هو منهم، لا في كتابه، ولا في شرابه، فقد تلقى علومه بباريس، وأفعم روحه بالثقافة اللاتينية، ثم أضاف إلى ذلك من الأنكلوسكسونية أشياء، تتصل أسبابها حينا بالعلماء، وحينا بغير العلماء. وكيف لا وهو إلى ال «بار» اللامع، أدنى من البار إلى الجامع؟!
وما مرجان، وجامع مرجان، ومدرسة مرجان! إن للدولة العراقية الحديثة حقا بثمار علمه العصري، وبخير وطنيته المتفتحة. بيد أنه لا يتوفق دائما بما يريده لها من الخدمة. فبعد أن درس القانون الدولي في كلية الحقوق دخل في السلك السياسي من باب الوزارة الخارجية، ثم خرج منه غير آسف، وهو اليوم - لست أدري! أين يكون عندما يصدر هذا الكتاب؟ - وما مرجان! ومدرسة مرجان، وخان مرجان! هات يا ولد الوسكي والصودا.
لقد جرنا مرجان ووقفياته إلى آل الألوسي، فحملنا ذلك على ذكر كبير الألوسيين اليوم، وهو ينبو عن كل ما فيه سمعة وظهور. فنسأله العذر، وندعو له بالتوفيق حيث كان، ببغداد أو بطهران، معلما للإنس أو للجان، في دار الحقوق، أو في «بار» الأميركان!
المقامان الأعظم والأشرف
قد ذكرت المذهب الحنفي في عبارة ماشية، وما تورعت ولا اعتذرت. فلا بد من التفكير في زيارة لمقام الإمام بالأعظمية. وما المقام على شيء كثير من جلال القدم، فقد شيده الترك، وأحاطوا الحجرة بمشبك من الفضة. إنه في ما سوى ذلك كغيره من الجوامع الكبيرة، فلا تجوز المقارنة بينه وبين الكاظمين القائم قبالته على الصوب الغربي. وحسبك أن تذكر المأذنتين والقباب الكبيرة والصغيرة المصفحة كلها بالذهب، فيتوارى المقام الحنفي الأعظم، ويستغفر لبانيه الله.
ولكنه يمتاز بما لا تجد له أثرا في الكاظمين. ويحق له أن يفاخر جوامع بغداد كلها بما إلى جانبه، ضمن السور، من جمال الطبيعة الهادئ الوادع، المرحب بالنفوس الوادعة الهادئة، المضيء فيها أنوار الفكر والتأمل. فسلام على بستان المعظم وأزهاره، وعلى ظلال أشجاره، وعلى سكينة جواره.
ويحق للمعظم اليوم أن يفاخر؛ كذلك بإمامه الأعظمي سميه نعمان، الحامل للبيان، العلم والصولجان، الجامع في مواعظه الحديث والقديم، والسليم والسقيم، والمثمر والعقيم، الضارب في كل واد، وفي كل منبت آس وقتاد، المزين الترهات بالآيات، الخالط السمن باللبن، واللبن بالخل، والخل بالنفط، والنفط بالخمر، والخمر بزيت الخروع! رب المنابر الشيخ نعمان، صاحب العلم والصولجان.
وإنه في حديثه مثله في وعظه، لا حد لعلمه، ولا نهاية لظلمه، يدقق ولا يشفق، ولا يبالي في ما يفتق ويرتق، يفيض ولا يغيض، ويداوي المريض بالقراءة وبالقريض. لله در الأعظمي نعمان، إمام جامع المعظم نعمان بن ثابت!
أما وقد زرنا مقام المعظم فجدير بنا أن نزور مقاما قدسيا آخر، هو في قلب بغداد، بمحلة الشيخ، المشرفة باسمه. هو مقام الشيخ عبد القادر الكيلاني (1098-1166م) الذي جاء من كيلان يشرف بغداد، ويشعل أنواره في البلاد.
كان الشيخ ذا نظرات في التصوف غريبة، وشطحات عجيبة، وتأويلات واجتهادات، في تفسير الآيات، وكشف الغوامض المبهمات. وكان في طلعته، مثله في نزعته. عينان هما أتونان مشتعلان، وحاجبان هما دغلان مدلهمان، في رأس كبير مستدير، فوق أنف ضخم، فوق لحية مرسلة طويلة. أضف إلى ذلك اللسان الفصيح والذهن النفاذ الكشاف، والصوت المزمزم كالرعد، تشهده بأجمعه، وبكامل مجده. قيل إنه نقل إلى خارج المدينة لما ضاق بالسامعين المكان الذي كان يعظ فيه، وهناك في العراء كان يجتمع من المؤمنين، ستون وسبعون ألفا؛ ليسمعوا كلماته الذهبية وآياته السماوية.
أسمي الشيخ بالباز الأشهب، وهو، على ما يظهر لي، رمز «السوبر مان» في الشرق.
جامع الإمام الأعظم (تصوير الدورادو).
قال البنديجي في كتابه «جامع الأنوار في مناقب الأخيار» في ترجمة الشيخ عبد القادر ما نصه:
وقيل له الباز الأشهب، لما كان يمشي ويطير على رءوس الأشهاد، كما روى الشيخ أبو القاسم عمر بن مسعود البزار، والشيخ أبو حفص بن يحيى الهناني. هما شاهدان. وهناك مصدر آخر وشاهد من أهل الجنة - على ما يظهر - اسمه الشيخ عقيل المنيجي. فلما قيل له: قد اشتهر ببغداد أمر شاب أعجمي شريف اسمه عبد القادر. قال: أمره في السماء أشهر منه في الأرض. ذلك الفتى العلي المدعو في الملكوت الباز الأشهب.
وقد أضاف إلى هذه الحاشية صديقي الأبر الشيخ كاظم الدجيلي ما يلي:
والباز الأشهب، كما جاء في التاج، لقب أبي العباس بن سريح والسيد منصور العراقي خال سيدي أحمد الرافعي. ولم يذكر الشيخ عبد القادر بينهما. فتنبه.
وقد كان في بيته مثله في بيئته، كثير الإنتاج، موفقا ظافرا على الدوام، فنعمت الدنيا بتسعة وأربعين ولدا من صلبه، وبألف مرة تسعة وأربعين من السالكين لطريقه. بيد أنه كان في سلوكه مثل جميع المتصوفين، جواب آفاق قصية، حينا متألقة، وحينا مظلمة، له حالات، وحيرات، وابتهاجات، وله في يقينه الآيات:
ارفع نفسك إلى ما فوق الشقاق في نفسك يجئك الأسد طائعا، ويأكل الذئب من يدك. افتل نفسك أمام نفسك، در ثم در، من الوعي إلى الحال، تقع النجوم كالدرر عند قدميك. لتضع نفسك أمام العرش في نفسك ، تشاهد في بابك العزة الإلهية.
وفقا لهذه الشطحات سلك الشيخ «سلوكه القادري»، فكان حملا للوديعين، وأسدا للطالبين، وكوكبا للسكارى في حانة الشوق والحنين، وذاتا مقدسة لبقية المؤمنين، وما كان حتى الخليفة ليأمره بالمثول بين يديه، بل كان إذا شاء الاجتماع به يجيء بنفسه إليه، بعد أن يستأذن بذلك؛ ولكنه كان محبا للفقراء، متواضعا لهم، فيؤاكلهم ويقيم بينهم، إنه في هذا لمثل القديس فرنسيس الأسيسي، وإنه في ما سوى ذلك مثل ولي الجزويت القديس إغناطيوس لويولا. كلاهما مصدر وحي، ومصدر قوة، فقد ابتدأ عبد القادر بالحب وانتهى بالنظام. أدى صاحب السلوك الرسالة في حياته الدنيا، وصار بعد ذلك صاحب طريقة.
وكان فوزه الأكبر في مماته. فإن عظامه محفوظة تحت القبة في الجامع الحامل اسمه بمحلة الشيخ، وما زالت روحه، بعد سبعمائة سنة، منارة علم وهدى لألوف من أشياع الطريقة القادرية في الشرق.
كنج عثمان والباز الأشهب
وللشيخ عبد القادر فوق ما ذكرت صفة حربية تذكر بقصة يشوع بن نون. فهو مثله هدام أسوار وفاتح مظفر.
في السنة 1621م فتح بغداد شاه فارس عباس الصفوي، وملك أربع سنوات، فخلفه الشاه صفي خان، ثم صفي الدين، وما تجاوز حكماهما الإحدى عشرة سنة؛ ذلك أن سلطان العثمانيين مراد الرابع زحف بجيشه على بغداد ليطرد منها الفرس. فحاصرها في 8 رجب سنة 1048 / 15 تشرين الثاني 1638 ودخلها ظافرا في الشهر التالي، ثم أقام عليها واليا من قبله، وعاد إلى الأستانة، تاركا ببغداد للدفاع عنها المدافع التي غنمها من الشاه الصفوي، وتلك التي كانت معه، ومنها طوب أبو خزامة.
هذه هي رواية التاريخ، وليس فيها شيء من سيرة المدفع العجيب، وعلاقته بالشيخ عبد القادر، ولا مما للائنين من الفضل في فتح بغداد. إنها لقصة عجيبة قد تجدها في مخطوطة من مخطوطات المدرسة المرجانية، وقد تظفر في أحد المقاهي بمن يستطيع من القصاصين أن يكمل التاريخ. وبينما كنت أسعى لهذا الغرض لقيت صديقي الدجيلي الشيخ كاظم، الناثر الناظم، فقصر علي الطريق بأن جاءني في اليوم التالي بمجلة «لغة العرب» وفيها ما ابتغيته، مكتوب بقلمه، ومؤيد بوافر علمه.
قال الراوي: لما أخذ الشاه عباس بغداد أذل أهلها، وجعل جوامعهم الكبيرة مرابط لخيله وبغاله. فثار ثائر الناس وقالوا: ما لنا غير السلطان نستغيثه. ولكن السلطان في الأستانة، والشاه عباس منع السفر من بغداد، فكيف الوصول إلى السلطان. أجاب على هذا السؤال رجل من بيت السويدي، وكان جوابه غير الكلام، فقد تزيا بزي درويش، وسافر إلى الأستانة؛ ليحمل إلى السلطان خبر سقوط بغداد. وبعد وصوله ظل متخفيا ليدرك غرضه، فوفقه الله إلى خطيب جامع السلطان، فقال له: إنه طالب علم وعارض خدمة. فاستخدمه الخطيب، لما بدا من نجابته. وفي ذات يوم من أيام الجمع كان الخطيب مريضا، فما استطاع أن يذهب إلى الجامع ليلقي الخطبة، فقال له السويدي: إنه ينوب عنه، فسر بذلك. ولما رقي السويدي المنبر نادى بأعلى صوته: أيها المؤمنون المسلمون. إن الدين ذهب، وإن بغداد قد ضبطها الشاه عباس وربط خيله وبغاله في حضرة أئمتها، وفعل من المنكرات ما لا يوصف ولا يحصر في بال إنسان. فلما سمع الحاضرون كلامه ضجوا بالتكبير، وأخذوا بالبكاء والعويل.
وكان السلطان مراد حاضرا، فأمر أن يجيء السويدي إلى القصر، فاستقصه القصة، ثم أعلن الجهاد، ونادى المنادي في الأستانة أن لا يصحب السلطان من عسكره إلا الكهول، والذين يغرز المشط في لحاهم. فحشد الجيش وفيه الشبان والكهول لا غير، ثم مشى به السلطان قاصدا بغداد.
ولما صار قرب سامراء خطر له خاطر في اختيار رجاله. قال الراوي: أراد أن يجعل على الجيش قائدا محنكا، وأن يذهب هو بنفسه إلى بغداد متجسسا، فأخذ يسأل كل من ظن فيه الكفاية للقيادة: أين بغداد؟ فأجابه الأول: على بعد ثلاثة أيام منا، فأمر بقطع رأسه. وأجاب الثاني: على بعد يومين، فصاح السلطان: اقطعوا رأسه. وأجاب آخر: على بعد يوم، فطاح رأسه حالا. هذا في يوم واحد. وعندما أمر القواد في اليوم التالي بالمثول بين يدي السلطان سأل أحدهم: أين بغداد؟ فوثب إلى صهوة جواد، وراح غائرا يهز اللواء ويقول: بغداد تحت حافر هذا الجواد. فهتف السلطان قائلا: الآن وجدت ضالتي.
ثم دعا القائد إليه وقال له: اصدقني الخبر. من علمك هذا؟ فأجاب القائد: لي ابن أحبه حبا شديدا فلم أطق فراقه، فحملته معي مخفى في صندوق، فأخرجه منه في الليل وأسامره. وفي الليلة البارحة رآني في ضيق وكنت أقول في نفسي: هي الليلة الأخيرة من دنياي، فسألني عن حالي، فقصصت عليه القصة، فدبر لي هذا الأمر.
قال السلطان: أين ابنك هذا؟ فأجاب القائد: في الصندوق. فأمره أن يأتيه به، ففعل. فلما رأى السلطان الولد استسماه فأجاب: اسمي كنج عثمان (عثمان الصغير).
السلطان :
ألم تسمع أني أمرت بقتل كل من لا يغرز المشط في لحيته؟
كينج عثمان :
أنا لست كما ترى، بل أنا شيخ من الشيوخ.
السلطان :
إن كنت صادقا فخذ هذا المشط واغرزه في لحيتك. (فتناول المشط ولشدة خوفه من السلطان غرزه في لحم خده.)
أين لحيتك؟ فإنا لا نراها في وجهك.
كنج عثمان :
لحيتي، يا جلالة السلطان، في داخل صدري.
فأعجب السلطان بنجابته وشجاعته، وولاه القيادة العامة.
ثم زحف الجنود بقيادة كنج عثمان على بغداد، فحاصروها.
أما السلطان مراد فقد دخل إلى بغداد في زي درويش ينشد الأشعار الفارسية بأطرب الألحان، فسمعه الشاه، فدعاه، وقربه، ولعب وإياه الشطرنج، فتقدم السلطان بفرزانه منتصرا، ثم حصر «شاه» الشاه وقال: الشاه مات. قال ذلك وقام، فخرج من القصر مسرعا، وراح إلى المعسكر خارج السور.
وفي تلك الليلة كان القائد العام كنج عثمان أرقا مغتما، فزاره شيخ معمم بعمامة خضراء كبيرة وخاطبه قائلا: ما لي أراك في ضيق واضطراب؟ فقال كنج عثمان: قد أعيانا فتح بغداد، وقد نفدت قوانا وذخيرتنا. فقال الشيخ: إذا كان الغد اذهب إلى السلطان مراد وقل له أن اعمل مدفعا كبيرا.
فلما بزغت الشمس ذهب القائد العام إلى السلطان وأخبره بما كان. فقال السلطان: من أين لنا ذلك ولا حديد لدينا.
وفي الليلة الثانية أيضا طاف الشيخ بالمعسكر، وخاطب القائد العام عثمان الصغير قائلا: ألم أقل لك اعملوا مدفعا من حديد؟ لم لم تعملوا ذلك؟ فقال عثمان: ليس عندنا شيء من حديد. فقال الشيخ: خذوا أنعل خيولكم ومرابطها الحديدية وصبوها.
وعند الصباح أخبر كنج عثمان السلطان مراد بذلك، فأمر السلطان بجمع النعال والمرابط كلها، فلما جمعت وأذيبت تحيروا في كيفية صبها.
وجاء الشيخ في الليلة الثالثة إلى خيمة كنج عثمان يقول: أنا أعلمك. وراح يشرح له كيف يعمل القالب ويصب المدفع.
ما فهمت القاعدة لا مما نقله الدجيلي، ولا مما رواه الراوي. كلام الشيخ مبهم. ولكن القائد العام كنج عثمان فهمه، على ما يظهر؛ لأن المدفع صنع في اليوم التالي.
قال الراوي: صنع المدفع، ولكن يا جماعة الخير، ما عندنا بارود!
وللمرة الرابعة تجلى للقائد الصغير الشيخ الجليل - الذي عرفه الآن ولا شك القارئ النجيب - فخاطبه قائلا: لا يهمنكم البارود والرصاص. فاجعلوا بدل البارود التراب، وبدل القنابل قطع الصخور، وارموا بها الأعداء. فإنها ستكون عليهم أشد وقعا من الرصاص والبارود.
وسأقف لكم غدا على رأس قبتي بصورة باز أشهب - نعم، هو الشيخ عبد القادر قدس الله سره - فإذا رأيتموني صوبوا المدفع إلي، واقذفوني بما فيه - ما فهمت السر في هذا ولا فهمه الدجيلي، ولا توفقنا إلى أحد ببغداد يفهمنا إياه - ثم ارموا رمية أخرى على السور، تثلم منه ثلمة واسعة، وادخلوا المدينة عنوة وإنكم إن شاء الله لظافرون.
وفي صباح اليوم التالي، انتصب الباز الأشهب فوق قبة جامعه، وكان ما أوصى به. فأطلق المدفع عليه، فأخفاه التراب عن النظر، ثم أطلقت الطلقة الثانية على السور، فانهدم جانب منه عظيم، فتدفق جنود السلطان مراد في المدينة كأمواج البحر الزاخر، والتحموا وجنود الشاه في القتال.
وكانت ملحمة ولا كالملاحم، حدث عن عجائبها ولا حرج، فقد شاهدت امرأة من على طوار دارها جنديا مقطوع الرأس يحمل سيفا بكل من يديه، ويستمر في التذبيح. فصاحت قائلة: سبحان الله! هذا رجل بلا رأس، ولا يزال بسيفه يقطع الرءوس! عندئذ سقط من على ظهر جواده وخر صريعا، فدفن في موضع مصرعه في المحلة المعروفة اليوم بمحلة «أبو سيفين» وأكثر سكانها من اليهود.
لله من هول تلك الملحمة ومن عجائبها! فقد أصيب فيها حتى القائد العام عثمان الصغير. قطعت يداه وما سقط اللواء الذي كان حامله. بل ظل يمشي أمامه - يمشي اللواء وحده - حتى رآه أحد الناس فصاح مدهوشا: الله أكبر! فهوى إذاك إلى الأرض. وقتل كنج عثمان. ولكنه بعون الله وعبد القادر كان منتصرا.
عبد القادر الكيلاني
من إحسانك لا تنسني
من إحسانك لا تنسني!
دفن عثمان الصغير - القائد العام الكبير - حيث سقط هو واللواء. ولا يزال ضريحه، بحجرته وقبته، قائما اليوم بقرب باب السراي، وقد كتب على أحد جدرانه بالقاشاني الأبيض يتخلله الأزرق ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
رئيس الشهداء كنج عثمان
وقد أصبح هذا الضريح مقاما تشعل الشموع عليه كل ليلة جمعة، ويزوره الناس وينذرون له النذور.
أما إكليل المعجزات في تلك الملحمة العظمى فقد أحرزه الطوب أبو خزامة الذي أضحى بعد ذلك، في نظر العامة، وليا من الأولياء. فهم يزورونه، ويتبركون به، ويعقدون الخرق بسلسلة الحديد التي تطوق قاعدته، وينذرون له النذور، ويسرجون الشموع حوله كل ليلة جمعة. أكرم به من ولي! قلما يخيب طلب زواره، وأكثرهم من النساء. فالمرأة العاقر والفتاة العاشقة، والعمشاء والعرجاء، وأم البنين المعلولين - كلهن يجئنه طالبات داعيات. الأم التي لا يعيش لها ولد تأتي إليه بالمولود في يومه السابع، وتدخله في فوهته وتخرجه ثلاثا لصحة المولود - على ما أظن - وشجاعته وطول عمره. والمرأة التي بعينها رمد تدخل رأسها في فوهته وتخرجه ثلاثا وتغسل شيئا منه أو من السلاسل حوله بالماء، ثم تغسل بذاك الماء عينها، وتنذر النذور. ومما هو جدير بالذكر أن الناذرات لا يفين بنذورهن إلا إذا استجيبت طلباتهن.
وعلى الطوب أبو خزامة زبور ورموز لا يحسن تفسيرها غير المتضلعين بالعلم من الرواة.
قال الراوي الذي تلطف وكان دليلنا: ترى هذه البعجة في ظهره؟ قد توقف عن السير في يوم الحرب، فغضب عليه السلطان، فضربه ضربة بكفه بعجت ظهره. لماذا سمي أبو خزامة؟ الجواب عندي. انظر إلى الفوهة تر في داخلها صدعا، هو مكان أنفه الذي كانت فيه الخزامة - أبو خزامة! ولما استعصى على السير نتله السلطان من خزامته فخرم أنفه. وهذا أثر الخرم باق إلى اليوم. أما السمكات الأربع المنقوشة على ظهره فإن قصتها عجيبة. هي ترمز إلى ما كان من غضبه - غضب أبو خزامة - وسمو قصده، فعندما خرم السلطان أنفه، توقف عن الحرب - أبى القتال - صار من أنصار أهل السلام. ولشدة غضبه وتحقيق قصده في رفض الحرب وشجبها ألقى بنفسه في دجلة. فخاض السلطان النهر لينقذه، فجره إلى البر، فرأى صورة السمكات منقوشة على ظهره لتشهد أنه رمى بنفسه في النهر فرارا من السلطان ومن الحرب.
كل هذا من فضل الدليل وعلمه، إلا أنه نسي أن يشير إلى الكتابة المزبورة على المدفع، وهي أنه «صنع برسم السلطان مراد خان» وكأن به - أي الدليل - يقول: فقهت ما تلمح إليه. وإني أرد كيد المشككين بنحرهم. فهل ترى في الكتابة المزبورة، كما تقول، غير ما قرأت؛ أي «صنع برسم السلطان مراد خان»؟ كلا. إذن، ما صنع بالأستانة بل صنع ها هنا ببغداد بأمر مولانا عبد القادر، قدس الله سره، وبعونه تعالى.
ويبلغ طول هذا المدفع أربعة أمتار ونصف متر وقطر فوهته نحو نصف متر وهو الآن «مضطجع على مرقد» من جذوع النخل في محلة الميدان في الصوب الشرقي من بغداد أمام باب القلعة التي فيها اليوم وزارة الدفاع.
في مقبرة الكرخ
يستدل مما ذكرت على أنه يحق للولي أن يوكل من يقوم مقامه في المعجزات، وإن كان الموكل من الجماد، كالمدفع، أو الراية التي مشت وحدها، أو السيفين بيد الجندي المقطوع الرأس. وما عبد القادر بفريد في هذا بين الأولياء. فهناك غيره كثيرون. وإن صغرت القباب المضطجعون تحتها، ينيبون عنهم الجماد، لخير العباد، ولكنهم ما حاولوا، في حياتهم الدنيا، أن يلبسوا نبوغهم الصوفي ثوب السياسة، أو يقلدوه سيف الملك. ظلوا بعيدين عن الملك وعن الحرب، إلا القليل منهم، من غرتهم المناصب فقاسوا في سبيلها البلاء كثيره أو قليله.
في مقبرة الكرخ القديمة بعض المقامات الجديرة بالذكر والزيارة، وهي لا تخرج من موضع بحثنا في ما تبقى من آثار مدينة الخلفاء. تعال إذن نزر مقبرة الكرخ، وجدير بنا، ونحن في الطريق، أن نتمثل بقول أبي زيد البسطامي الطبرستاني: «اترك نفسك وتعال، كنت لي مرآة، فصرت أنا المرآة.»
إننا في مقام جنيد، وهو لا يزال مشهورا بما يأتيه من المعجزات، فينافس فيها الباز الأشهب وغيره من الأولياء. كان جنيد في زمانه - توفي في العقد الثاني من القرن الرابع للهجرة - أشهر المتصوفين المبجلين، فساوم الدنيا وما عاداها. قبل تبعة الحياة، وشذبها، فكان من أصحاب السيادة والكياسة، يرتدي الدمقس، ويسبح بسبحة من اللؤلؤ، ويتطيب بالعطور، ولا يحفل كثيرا بما لا يساق لطوعه من المحسوس والمنظور. بل حاول أن يسكت المناقضات، ويوفق بين النور والظلمات، فاعترف بفضل الماعون الفارغ يحمله الدرويش، كما اعترف بفضل الفراش الوثير يفرش للقضاة. أما الأول فهو رمز كل باطل في الحياة، وأما الثاني فهو رمز الحياة التي تظل ناعمة ولا بأس ... تحتنا.
كان جنيد محبا للجدل، شغفا بأساليب البيان، بل كان ممن تستهويهم الألفاظ، فيصيغون منها الحكم والآيات للناس، لا لأنفسهم. «البلاء سراج العارفين» قالها جنيد، وما عرف البلاء في الحياة الدنيا. وقال غيرها مما لا نكلفك إجهاد النفس في تصديقه، فقد سئل مرة عن غني شاكر وفقير صابر أيهما أفضل، فقال: «الذي آلم صفته وأزعجها أتم حالا ممن متع صفته ونعمها.» وقد كان هو، كما أسلفت، من الممتعين المنعمين، عفا الله عنه، وغفر له خصوصا لقوله: «ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا.» إن في كتابه «دواء الأرواح» من الغوامض الفكرية، والألاعيب اللفظية، ما يعيد إلى الذهن أسلوب يوحنا في إنجيله، وبولس الرسول في بعض رسائله.
وقد قال المستشرق الفرنسي «لويس ماسينيون»، المحيط علما بالمتصوفين المتضلع بالدراسات العربية والفارسية، إن في كتب جنيد وأمثاله مجالا للبحث في ما قد يكون من الصلة الروحية والفلسفية بين هؤلاء المتصوفين ونساك النصارى في العراق.
لست ممن يقولون إن كتبه - ومن يا ترى يقرأها اليوم - هي الضامنة لدوام ذكره. إنما أظن بل أعتقد أن ذكره منوط دوامه بفجيعة تلميذه وزميله الحلاج، الذي حكم عليه جنيد بالإعدام. وقد دفن الاثنان بالمقبرة الواحدة، في التراب الواحد، تحت قبتين متقاربتين.
وهو لا يزال في هذه التربة ممن يأتون بالمعجزات. فإن في الجامع الصغير الذي يحتوي ضريحه حجرين أملسين، على سجادة مفروشة فوق مائدة صغيرة، ينعمان بالصفة التي للطوب أبو خزامة. أجل، إن فيهما الدواء لكل الأمراض. فإذا وضعت المرأة أحد الحجرين على موضع الألم منها كان لها الشفاء، وإن كان الداء داخليا حملت المرأة الحجر على رأسها وطافت بالمسجد حول الضريح. وإن كانت عاقرا تبتغي ولدا مسحت بالحجر بطنها، وفي خارج المسجد بئر يحقق الغسل بمائها ما قد يعجز عنه الحجر العجيب. بل إن في ذلك الماء قوة تكيف الجنين ليرضي حاملته المؤمنة، فهي إذا أخذت ثلاثة دلاء منه، وصبتها على رأسها وجسدها، جاء مولودها ذكرا! حسبك من جنيد هذه المعجزة، وهو فيها منقطع النظير بين الأولياء.
على أن هناك غيره من الأخصائيين، فيقفون في البركة عند معجزة لا يعدونها. إن في هذه المقبرة القديمة تراب صوفي آخر، هو بهلول الذي كان معاصرا لهرون الرشيد، ومؤازرا لأبي النواس في منادمة ذلك الخليفة المريح. وإنه اليوم، وإن كان من الأبرار في الجنة، ينافس زميله جنيد بالمعجزات.
إنما لبهلول طريقة طريفة، توجب على الزائرين والزائرات - وخصوصا الزائرات - البناء والهدم في سبيل الله. فإن في ساحة المسجد الصغير، كومات من الحصى متعددة، هي بيوت القلوب؛ أي إن كل كومة منها هي بيت بنته إحدى الزائرات الناذرات؛ ليحتوي منية قلبها. وبعد أن تتم المسكينة بناء بيتها تتوسل إلى بهلول، وتقسم أنها لا تهدم ذلك البيت، قبل أن يستجيب دعوتها. فهل يجوز أن تدعي المعجزة البهلولية اللعب بالحصى؟ ما السبب إذن في ازدحام هذا المكان بالبيوت العامرة؟ ... لا أهدم بيتي، حتى تستجيب يا بهلول دعوتي ... «وعمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب» ... ذرهم في حوضهم يلعبون.
طوب أبو خزامة.
الصوفي الأكبر
ها نحن في ظلال - العفو، يا قارئي. ليس في هذه المقبرة غير الشمس في النهار، والظلمة في الليل، لا شجر ولا ظل بين هذه القبور. إنما نحن واقفون وراء ظلنا الضئيل الذي يقبل الآن عتبة مقام حسين بن منصور بن أبي بكر الأنصاري، المعروف بالحلاج، المشهور في الشرق والغرب.
قال عبد القادر الكيلاني في الحلاج: «كان بازيا من بزاة الملك ... فلم يجد في السماء ما يحاول من الصيد ... فطلب في الأرض ما هو أعز من وجود النار في قعور البحار. تلفت بعين عقله فما شاهد سوى الآثار. فكر فلم يجد في الدارين مطلوبا سوى محبوبه، فطرب فقال بلسان سكر نفسه: أنا الحق ترنم بلحن غير معهود من البشر. صفر في روضة الوجود صفيرا لا يليق ببني آدم. لحن بصوته لحنا عرضه لحتفه.»
كان الحلاج مثل عبد القادر فارسي الأصل، ولد في تل بيضا القريبة من شيراز، وجاء إلى العراق فقضى معظم سكرته الإلهية ببغداد. وهو حقا من أعظم السالكين، وأصدق المتصوفين، بل هو أشهر من ابتلوا بالعشق، وتلذذوا بالبلايا، هو «صاحب الخرقة، شطاح العراق، رئيس السكارى والعشاق.»
ولكن جنيد أنكر ذلك، فقد قال مرة للحلاج: «فتحت ثغرة في الإسلام لا يسدها إلا رأسك.» ما لنا والثلمة. أما الرأس فقد طاح، وبالتوحيد صاح. وما تبقى من صاحبه هو مدفون تحت قبة في جوار خصمه الأكبر. وما جنيد وبهلول ومعروف الكرخي إذا ما ذكر الحلاج؟ فهو للسالكين في الشرق وفي الغرب النور الأنور، والعلم الأشهر.
تفكرت في الأديان جد تحقق
فألفيتها أصلا له شعبا جما
فلا تطلبن للمرء دينا فإنه
يصد عن الأصل الوثيق وإنما
يطالبه أصل يعبر عنده
جميع المعالي والمعاني فيفهما
وله في ديوانه غيرها من الحكم الإلهية التي تبدو كفرا في ظاهرها، أو هي من الكفر المبطن بالإيمان . غير أن الذي أوجب الحكم عليه بالإعدام هو قوله: «أنا الحق.» وقد أطلعتك على ما قاله عبد القادر الكيلاني في شرح الحال التي أدت بالحلاج إلى أن ينطق بهذه الكلمة.
أما جنيد منكرها ومخزي قائلها، فقد جلس في كرسي القضاء وحكم حكمه، بعد أن جمع أربعة وثمانين من العلماء والقراء ليشهدوا «بأن في قتله صلاح المسلمين.» ... وجاء حامد بن العباس وزير الخليفة المقتدر بالله (908-933م) ومعه موكبه وصاحب الشرطة محمد بن عبد الصمد، فتقدم حامد إلى الخشبة وأخرج من كمه الدرج الذي فيه شهادة الفقهاء والعلماء، فقال: «أريد الشهود.»
فإذا بالشهود يهرعون إليه من كل مكان.
فقال لهم: «هذه شهادتكم وخطوطكم؟» فقالوا له: «نعم، اقتله ففي قتله صلاح المسلمين ودمه في رقابنا.»
أنزل الحلاج من الخشبة وتقدم السياف إليه ليضرب عنقه، فقال الوزير (بيلاطوس بغداد!) للشهود: «أمير المؤمنين بريء من دمه.»
فقالوا: «نعم.» فقال: «وأنا بريء من دمه.» فقالوا: «نعم.» فقال: «وصاحب الشرطة بريء من دمه.» فقالوا: «نعم.» لله أنتم يا بيلاطوس البنطي، ويا أخوان بيلاطوس ببغداد! «وبلغنا أن الحسين بن منصور دخل على المقتدر بالله فقال: من أطاع الله أطاعه في كل شيء. فقال المقتدر: إذن لا تبالي بما سيفعل بك. فقال له: ثم حاكم ومحكوم عليه وواسطة على السبب في إيصال الحكم من الحاكم بالمحكوم عليه ... أنت الواسطة وأنا عبد من عبيد الله صابر لحكم الله، راض بقضاء الله، فافعل ما حركت له، واعمل ما استعملت فيه، وكن بعد ذلك شديد الحذر، فيما تأتي به وتذر. وانظر في عواقب أمرك ... وإني لا أعترض عليك، وألومك في فعلك، ولكني أقول كما قال الخليل: «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين.» فأمر الخليفة بحبسه، وجمع الفقهاء والصوفية في مجلسه فاستشارهم فكفره الفقهاء، وتوقف عن تكفيره الصوفية - إلا جنيد.»
هذه هي صفحة من التاريخ، وهناك صفحة أخرى من كتاب الأساطير ... عندما ضرب عنق الحلاج، بقي جسده ساعتين من النهار قائما، ورأسه بين رجليه، وهو يتكلم بكلام لا يفهم، إلا أن آخر ما قال: أحد أحد. وكان الدم يخرج منه، ويكتب به على الأرض: الله الله، في خمسة وثلاثين موضعا ... وبعد أن ضرب عنقه أحرق بالنار، فانتثر رماده في نهر دجلة وهو ينطق قائلا: أنا الحق! •••
قال الشاذلي: اضطجعت في المسجد الأقصى، في وسط الحرم، فدخل خلق كثير أفواجا، فقلت: ما هذا الجمع؟ قالوا: جمع الأنبياء والرسل. قد حضروا ليشفعوا في حسين الحلاج عند محمد
صلى الله عليه وسلم
في إساءة أدب وقعت منه ... •••
وقيل إنه قبل ذلك وضع بالسجن فصور في حائط المحبس صورة مركب وقال للمحبوسين: قوموا بذكر الله تعالى، ثم إنهم فعلوا ذلك حتى غابوا عن الحبس، فإذا هم دخلوا المركب المصور ونجوا جميعا. •••
وقيل إنه حفر حفرة، وأوقد فيها النار، ووضع فيها هاونا، ثم إنه صلي كالجمر، وقال لأهل المدينة والأولياء: كل من كان صادقا بالله فليتقدم ويقف على الهاون داخل النار. فلم يقدر أحد، ثم إنه تقدم ووقف عليه، فذاب تحت قدميه حتى صار كالماء ... ••• «قال القاضي أبو علي التنوخي: حدثني أبو الحسن محمد بن عمر القاضي قال: حملني خالي معه إلى الحسين بن منصور الحلاج وهو إذاك في جامع البصرة يتعبد ويتصوف ... فأخذ يحادثه وأنا جالس معه أسمع، فقال لخالي: قد عملت على الخروج من البصرة. فقال له خالي: لم؟ قال: قد صير لي أهل هذا البلد حديثا، فقد ضاق صدري وأريد أن أبعد منهم. فقال له: مثل ماذا؟ قال: يرونني أفعل أشياء فلا يسألون عنها ولا يكشفونها، فيعلمون أنها ليست كما وقع. ويخرجون فيقولون الحلاج مجاب الدعوة، وله مغوثات. قد تمت على يده ألطاف. ومن أنا حتى يكون لي هذا؟ بحسبك أن رجلا حمل إلي منذ أيام دراهم وقال لي: اصرفها إلى الفقراء. فلم يكن يحضرني في الحال أحد، فجعلتها تحت بارية (حصير) من بواري الجامع، إلى جنب أسطوانة عرفتها، وبت ليلتي. فلما كان من غد جئت إلى الأسطوانة أصلي، فاحتف بي قوم من الفقراء، فقطعت الصلاة وشلت البارية فأعطيتهم الدراهم ، فشنعوا علي بأن قالوا: إني إذا ضربت بيدي إلى التراب صار في يدي دراهم.»
قبة زمرد خاتون المعروفة بضريح الست زبيدة (تصوير الدورادو).
وقفت في حضرة الحلاج عند مائدة عليها ورقة مكتوبة فيها الأشعار التي قالها قبل أن ضرب السياف عنقه. وقد نظم الأبيات، على ما يظهر، بعد أن علم بالحكم الذي أصدره جنيد. ولكنه سأل من جاءه بالخبر: أين صدر الحكم؟ أفي التكية أم في المدرسة؟ فقيل له: في المدرسة. وفي المسألة نقطة قانونية شغلت باله. فلو أن الحكم صدر في التكية لكان باطلا؛ لأن الحلاج وجنيد فيها إخوان. أما في خارج التكية فجنيد القاضي يحكم بما يشاء ... وجاء الشهود، وتبرأ من تبرأ من دم هذا الصديق، فأنشد الأبيات المعروضة اليوم على المائدة عند ضريحه:
نديمي غير منسوب
إلى شيء من الحيف
سقاني مثلما يشرب
كفعل الضيف للضيف
فلما بان لي سكر
دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الراح
مع التنين بالصيف ... وبعدها نامت أخته فرأت في المنام أخاها حسينا وهو يقول لها: يا أختي، إلى كم تبكين علي؟
فقالت له: كيف لا أبكي وقد جرى عليك الذي جرى؟
فقال لها: يا أختي، لما قطعوا يدي كان قلبي مشغولا بالمحبة، فلم أدر إلا وهي طيبة. فلما صلبوني كنت مشاهدا ربي، فلم أدر ما فعلوا بي. فلما أحرقوني نزلت علي ملائك ربي من السماء صباح الوجوه، فاختطفوني إلى تحت العرش، وإذا بالنداء من العلي الأعلى: يا حسين، رحم الله من عرف قدره، وكتم سره، وحفظ أمره. فقلت: أردت التعجيل إلى رؤيتك. فقال: تملا بالنظر فإني لا أحتجب عنك.
المرأة المجهولة
بالقرب من ضريح الحلاج، لا من تصوفه الملهم الملهم، قبة فريدة بشكلها وهندستها، وبالنخلات القليلة التي تظللها. ما رأيت في بغداد غير قبة واحدة مثلها، هي لمقام الصوفي السهروردي خارج السور إلى الجهة الشرقية منه. إن هندسة هاتين القبتين بويهية عربية. فالشكل الهرمي فارسي، والزخرف الداخلي عربي، هو التقرنص. غير أن لهذا التقرنص وجهتين، خلاف ما نراه فوق أبواب الجوامع والخانات القديمة. فإن بين المخروطات المنعكسة نوافذ للنور مغطاة بالزجاج، فتبدو القبة للواقف تحتها كقبة سماوية مرصعة بالحجارة الكريمة. ومن تلك النوافذ الصغيرة ترسل الشمس أشعتها، فتبسط على أرض الحجرة بساطا من الظل والنور يبدو كالمشبك تحت قدميك.
وليست هذه القبة الجميلة في جبانة الكرخ لأحد من الرجال أصحاب السيادة أو الكرامة أو المال. بل هي لامرأة تدعى زبيدة. ولك أن تسأل: من هي تلك الزبيدة التي استحقت هذا الأثر الرائع؟ ولي أن أجيب: لم تكن من أهل البر والتقوى، فلو كانت كذلك لكان ضريحها اليوم مقاما لأبناء الأحلام، وبنات الأساطير والأوهام.
أما أنها كانت من ذوات الليالي، من الجميلات الفاتنات، فذلك ممكن. ومما لا ريب فيه أن رجلا واحدا صفا لها وأخلص الحب حتى النهاية. أقول ذلك لعلمي - ولا أظنك تماريني به لعلمك أو عدم علمك - أنه يستحيل في الشرق اليوم، وبأولى حجة في الماضي، أن تكرم امرأة هذا الإكرام إلا لحب شخصي. فلا المعاهد العلمية، ولا الجمعيات الأدبية النسوية، ولا الحكومات «البرلمانية» تبذل فلسا من أجل أثر تذكاري يقام لامرأة عظيمة.
وهل كان بين النساء العباسيات أعظم من الست زبيدة المشهورة بوفائها وبرها وإحسانها؟ وهل هي مدفونة تحت قبة مثل هذه الزبيدة المجهولة؟ إن الست زبيدة التي يفاخر بها التاريخ مدفونة في مقبرة الخلفاء، مثل سواها من النساء، ولا شيء يزين قبرها، أو يلطف الوحشة المخيمة عليه.
لذلك أقول إن هذه الزبيدة الأخرى مدينة لرجل من كرام الرجال بما يحضن ضريحها، ويغمرها، تحت جمال تلك القبة، بالحب الأبدي. أجل، هو ضريح للحب الخالد، تزوره في النهار أشعة الشمس، ويزوره في الليل ضياء القمر والنجوم.
من العادات الجديدة، التي أوحت بها الحرب العظمى، أن تقيم الأمم ضريحا للجندي المجهول. فهلا أنشأنا في العالم عادة جديدة أخرى. إن هذا الزمان ليمتاز عن الأزمنة الغابرة بالإباحات المشروعة وغير المشروعة، وبالخيانات الزوجية السرية والعلنية. ومع ذلك ما عدم الزمان المرأة الفاضلة.
فالنساء الفاضلات الباسلات، اللواتي يجاهدن في بيوتهن، ويستبسلن في سبيل الحب والسلام، النساء الكاظمات، الصابرات، الورعات، الحافظات أمورهن، وأمور ذويهن، الباذلات نفوسهن من أجل أزواجهن وأبنائهن ، النساء اللواتي تتقدس في حياتهن الأمومة والأسرة؛ إنهن على الدوام مجاهدات مستبسلات في كل مكان.
أحب أن أتخيل لنفسي أن الست زبيدة التي ترقد تحت هذه القبة، هي من النساء اللواتي ذكرت - هي المرأة المجهولة - فاجثوا أمام ضريحها كما تجثو الأمم في هذا الزمان أمام ضريح الجندي المجهول.
وعندما ينفتح قلب بغداد لهذا الإحساس والإدراك تصبح بغداد فريدة مجيدة بين المدن. بل يحق لها إذاك أن تخاطب مدن العالم قائلة: عني خذوا وبي اقتدوا.
غزوات الأثريين
للنزل الذي كنت مقيما فيه صحن فسيح مفروش بالبلاط الأبيض، يرحب حتى بالسيارات. وفي ذات يوم، ساعة الفجر، سمعت صوت بوق صخاب، فإذا بسيارتين في ذلك الصحن، وقد كساهما غبار الصحراء، الواحدة عادية، تظهر في مؤخرها لوحة بلدية دمشق، والثانية كبيرة فخمة، تحمل لوحة حمراء مطبوعا عليها اسم مدينة من المدن الكبرى في الولايات المتحدة. فسارع إلى استقبال الركب مدير النزل الكلداني، يحييهم بالإنكليزية، وتبعه الخدم لنقل ما أثقلت به السيارتان.
ثلاثة رجال في معاطف من الجلد، وهم حليقون، بيض البشرة زرق العيون، وسيدتان شقراوان جميلتان، كل واحدة منهما في معطف من الفرو يندر مثله - ويندر مثلها - في بغداد. قلت: سياح من أغنياء الأميركيين. وقلت: سفير من السفراء. فكنا قد سمعنا أن السفير الأميركي المعين لطهران سيمر في ذلك الأسبوع ببغداد في طريقه إلى مركزه الجديد.
بادر الخدم إلى السيارتين ينقلون ما حملتاه من حاجات الأسفار ونوافلها. وما أكثرها عدا وشكلا! حقائب وصناديق كبيرة وصغيرة، وأكياس من الجلد ومن القماش، وأحزمة ومعاطف وشالات، وعلب لبرانيط النساء والرجال. المسافر - ولا غرو - سفير أو ثري.
ثم جاء ما ينبئ بغير ذلك. وما أكثر ما استخرج من داخل السيارتين! كأنما الخدم من السحار وكأنما السيارة قبعة سحر يخرجون لك منها حتى بالة من القطن. وهذه قرب من القماش وجزم طويلة من المطاط، ومعاطف من جلد الغنم، وصناديق من الصودا والمياه المعدنية، والآلات الكاتبة، وآلات للتصوير، وللمساحة، وصندوق من اللحم المقدد، وعلبة كبيرة فيها علب صغيرة، فيها سحيق لقتل البرغش!
ليس القادم سفيرا أميركيا، ولا هؤلاء بسياح أغنياء. إنما هم الطليعة لبعثة أثرية أميركية. أجل فقد تغيرت الأشكال بعد الحرب العظمى، كما تغيرت الأخلاق. فصرنا نرى العالم فنظنه سفيرا، والسفير فنظنه تاجرا أو متجولا، والمتجول السائح فنظنه من أهل الورع والتقشف.
أما ذلك العالم محدودب الظهر، كث اللحية، اللابس ثوبا باليا ونظارات مصدأة، المتأبط كتابه، الحامل حقيبته بيده، فقد أمسى أثرا من الآثار، وجاء عالم اليوم رجلا بهي الطلعة، حليقا نشيطا، وردي الخد، متقد الباصرة، أنيقا كيسا، تظنه في حركاته سفيرا. وإن ما يتقاضاه ثمن علمه وعمله لأكثر مما يتقاضاه السفير، فيغدو وبإمكانه أن يصطحب امرأته أو حبيبته أو رفيقته إلى مكان عمله. وقد تكون السيدة المرافقة عضوا من البعثة، قد تكون من الغزاة؛ ذلك لأن علم الآثار، بعد الحرب، أضحى من العلوم المثمرة - ماديا - فتهافت عليه من أهل العلم الرجال والنساء.
فلا تعجبن إذا كانت تلك الحسناء الملتفة بمعطف من الفرو الغالي، المخبئة سهام لحظها وراء نظارات زرق، الحاملة حقيبة تحتوي على أسباب التبرج كلها - من المكحلة إلى الأصبع القرمزية - لا تعجبن إذا كانت أخصائية في العلوم والآثار الآشورية.
إنها لأهل في كل حال لمشاركة زوجها، مسرات الأسفار، وحفر الآثار. أجل، هي أهل لأن تتمتع وإياه بملذات الحياة في حفر قبور الأقدمين، وخصوصا في البلاد الشرقية، الغنية في روحها، وفي ما تحت أرضها.
وإذا كانت القبور لا تستهوي هذه المرأة الغازية، فهناك في موضع التنقيب دار فسيحة جميلة تقيم فيها، وهي السيدة الآمرة الناهية، كأنها ملكة أور، أو أميرة من أميرات آشور.
وبكلمة أخرى هي ربة بيت البعثة، المفروش بأحدث أنواع الأثاث وأفخرها، المجهز بالأنوار الكهربائية وبالحمامات، الحافل بالكتب والصور والرسوم. قلت بيت البعثة فأخطأت. إن لكل بعثة من البعثات الكبيرة بيوتا عديدة، فهذا بيت الإدارة، وذاك للرسم والتصوير، والثالث للأعمال الكيماوية والميكانيكية، وهذا مخزن البعثة، وذاك بيت خدامها، والآخر بيت لسياراتها ، فضلا عن بيوت الحيوانات الداجنة.
والجامعات الأميركية الكبرى تعين هذه البعثات أو تنفق في سبيلها النفقات الطائلة من أموال يهبها المحسنون، أو من وقفيات يقفها المتمولون على العلم والثقافة. فهل تستحق الأعمال الأثرية - والأثريون والأثريات - كل ما ينفق منها في هذا السبيل؟ إن لهذا السؤال جوابين: جوابا يتعلق بما يحرز من العلم، والآخر بما يحرز من نفائس الآثار ونوادرها. وللقارئ أن يجيب على السؤال من ناحيتيه، بعد أن يقرأ بياننا عن الغزوات الأثرية في العراق. •••
لا أظن أن في العالم بلادا تعددت فيها البعثات الأثرية تعددها اليوم في العراق. ولكن العلم بتاريخ البلاد القديم كان يقصر، منذ سنوات، على المملكتين البابلية والآشورية، وعاصمتيهما بابل ونينوى. أما بعد ذلك؛ أي منذ سنة 1922، عندما باشرت البعثة الإنكليزية الأميركية التنقيب في أور، فقد فتح كنز من كنوز العلم جديد، وكنز آخر من الآثار العجيبة، والتحف الثمينة، التي زادت بغنى المتاحف الإنكليزية والأميركية، وكانت الباكورة في تأسيس متحف صغير ببغداد.
إذن لقد عمق علمنا بتاريخ بلاد الرافدين. وما بابل ونينوى في القدم إلى جانب ما تقدمهما من المدن والدول؟ إني لأتخيل علماء آشور يحدثون في زمانهم، كما نحدث نحن في زماننا، عن ثقافة الحوريين، وفتوحات العيلاميين، ومجد السومريين الأقدمين.
وفي وصولنا إلى أعماق أور ونوزي قد لا نكون أدركنا الأوليات، فقد يجوز لنا أن نسأل: وبعد أور ماذا؟ أو من هم أجداد السومريين؟ ومن أين استمد أهل أور نورهم - من أين استقوا معارفهم؟ إن الأثريين مستمرون في الحفر والتنقيب، في أعماق الأرض، وفي القبور، طالبين العلم والنور. فهم يخترقون طبقة بعد طبقة من الأرض، ويعثرون في كل مكان من بلاد الرافدين الصغيرة، على مدن مدفونة تحت المقابر، وعلى تلال متهدمة تحت أساس الهياكل والقصور. لقد كسفت أور الكلدانيين بابل ونينوى. وهناك غير أور من المدن القديمة المكتشفة، التي كانت مدفونة بعضها تحت بعض، منها أروك (الوركاء) ولرسا ولاكاش وإشنونا وكيش ونوزي وسلوقية. فلا عجب إذا اجتذب العراق الأثريين.
إن في البلاد اليوم ثلاث عشرة بعثة أثرية أجنبية. ففي الشمال ينقب الإنكليزي في نينوى، والأميركيون في خورسباد، وفي تل بلا وتبه غورا، وفي نوزي وكركوك. وفي وسط العراق، في إشنونا وخفاجي وسلوقية، بعثات أميركية أخرى. وهناك بعثة مشتركة أميركية ألمانية، في تيسفون، وأخرى أميركية إنكليزية، في كيش. أما في الجنوب فالألمان ينقبون في أروك، والفرنسيون في كيش، والأميركيون والبريطانيون في أور، ثم جاء أخيرا الأثريون الطليان، فأعطوا امتيازا للتنقيب في مكان يدعى ككسو على ضفة نهر الزاب الكبير. وقد اكتشفت هذه البعثة الطليانية مقبرة من عهد البرثيين المعروفين في التاريخ العربي باسم إشكان، ومدينة أقدم منها من عهد سنحاريب.
ولكن أهم البعثات التي تنقب في الشمال هي البعثة الأميركية في دور شروقين التي تدعى اليوم خورسباد، فقد حفروا إلى قلب التل الذي بنيت عليه بيوت البعثة، وهم من إيوان بيتهم الجديد المنار بالكهرباء يطلون على غرفة العرش في قصر سرجون الثاني تحتهم. وقد اهتدوا إلى سور المدينة - مدينة خورسباد - التي بناها، على ما يظن، الأسرى الإسرائيليون الذين كانوا قد أجلوا في ذلك العهد عن فلسطين. واكتشفوا شيئا كثيرا من التماثيل الآشورية الضخمة السليمة والمحطمة، المصنوعة من أنواع الرخام التي نشاهدها اليوم في أبنية الموصل.
ولكن قيمة الآثار لدى ناشد العلم ليست بحجمها ولا بزخرفها. وقد تكون ظاهرا قطعة صغيرة من الفخار أو المعدن، نبشها معول أحد العمال، أو برزت من تحت محراث أحد الفلاحين. مثال ذلك صفحة من الآجر بقدر حجم اليد، عثر عليها في المكتبة بقصر سرجون، وعلى وجهيها كتابة مسمارية. هذه هي إذن أهميتها. فإن في تلك الكتابة وجد عالم أخصائي جدولا بأسماء خمسة وتسعين ملكا من ملوك آشور، وما كان يعلم من قبل غير نصف هذا العدد منهم. إذن، سنصحح تاريخ آشور. فإن أول ملوكها هو غير الذي حكم في القرن التاسع قبل المسيح. أول ملوكها، حسب السجل المسماري الصغير، جلس على العرش قبل ذلك الزمان بألف وخمسمائة سنة؛ أي في منتصف الألف الثالثة قبل المسيح.
أطلال طيسون (تصوير الدورادو).
ويظهر أن البعثة الأميركية الأخرى التي تقوم بأعمالها في نوزي - المكان الذي يدعى اليوم ترقلان - تثبت ما تقدم، فقد اكتشفت عددا من المخطوطات التي تبعث النور في تاريخ شعب كان مجهولا، هو الشعب الحوري. قرأ الأخصائيون تلك المخطوطات فإذا فيها عن شئون الحوريين، وصلاتهم بالشعوب الأخرى المعاصرة لهم، ما هو ذو قيمة اقتصادية وتاريخية وجغرافية. والقيمة الجغرافية أعظمها؛ لأنها أول أثر لهذا العلم عند أولئك الأقدمين.
أجل، قد اكتشف الأثريون في نوزي أقدم خارطة عرفها العالم. وقد رسمت على طابوقة من الطابوق المشوي، وظهر فيها نهرا العراق الكبيران، وقسم من جباله، وعدد من مواقع المدن الشمالية القديمة.
وقد استنتجوا من بعض تلك المخطوطات، ومن شكل الهياكل، أن الحوريين كانوا يدينون بدين الآشوريين، وزعموا أن آثارهم تساعد في درس تطور المدنية الآشورية.
وقد تدحض هذا الزعم، وتفسد ذاك الاستنتاج، بعثة أخرى أميركية، هي التي تنقب في أطلال بعشيقة والفاضلية في تل بلا وتبه غورا، فقد أدركوا في الحفر طبقة ما قبل التاريخ، واكتشفوا دفائن يرجع عهدها إلى 5000 سنة قبل المسيح، وزعموا أن الإنسان سكن هناك في العصر الحجري. وقد قال مدير البعثة في خطبة ألقاها في بغداد، إن الأهمية في ما اكتشفه هي أن مدنية السومريين في دولة أور الأولى (3100ق.م) كانت منتشرة في بلاد الآشوريين. ولكن آشور، بحسب الجدول المسماري الذي تقدم ذكره، لم تكن موجودة في ذلك الزمان! أثري يبلبل أثريا، وطالب العلم يلجأ متورعا إلى - الله أعلم.
وهناك في بقعة واحدة تزاحمت البعثات وتباينت الأغراض. فبينما كانت البعثة الألمانية كادة في إصلاح غلطها، وفي المدائن، وفي نقل سلوقية من ضفة النهر اليمنى إلى ضفته اليسرى، كانت بعثة جامعة ميشيغان الأميركية تحفر الطبقة بعد الطبقة من الأرض لتكشف مدينة سومرية اسمها أكشاك.
وقد ظفرت كل بعثة بمبتغاها، وبالأدلة على إثبات افتراضها. فتلك التلال الصغيرة المتعددة، في ذلك السهل الفسيح، هي ما تبقى من المدينة الإغريقية الشرقية سلوقية. وتحت تلك التلال المدينة السومرية أكشاك.
والدليل على كون تلك الكوم من التراب والحجارة هي ما تبقى من سلوقية، هو في ما وجدوه من الحفريات. ومنها تماثيل من الخزف صغيرة، إغريقية الصنع والمغزى، وأختام مختومة في الحمر، ومكتوب عليها «الدائرة السلوقية لضريبة الملح»، ونقود تحمل أسماء بعض ملوك سلوقية. إذن هذه سلوقية ولا ريب فيها.
أما أكشاك فقد وجدوها في الطبقة الرابعة مدفونة تحت سلوقية. والدليل على ذلك بلاطتان من الحجر لصوص الباب منقوش في إحديهما كلمات سومرية واسم ملك أكشاك.
أكشاك وسلوقية - سومر والإغريق! أجل، قد وجدوا في بعض ما تبقى من حياط البيوت آثار هندسة مختلطة تجمع بين أساليب شرقية ويونانية. وبعضها انتقل بعدئذ إلى الفرس الساسانيين والعرب المسلمين. ولا تزال أمثلة منها قائمة في إيوان القصر في تيسفون وفي خرائب الحضر. إنه لعلم جليل.
على أن البعثات الأثرية لا تعمل للعلم فقط. فهناك المتاحف والجامعات التي انتدبتها، وهناك تزاحم بينها وتفاخر، وهناك نفقات لا بد مما يقابلها في الأقل من التحف والآثار. لذلك لا تكتفي البعثة بكشف قبر واحد أو عشرة قبور، لا سيما إذا كان فيها آثار نفيسة، وإن تشابهت، فقد كشفوا في سلوقية مائتي قبر، وعثروا فيها على مائتين وخمسة وسبعين شكلا من الأواني الخزفية، وعلى خمسين شكلا من القناديل البرثية (الأشكانية)، فضلا عن التحف والحلي.
خناجر وأسلحة مزخرفة وجدت في أور (تصوير الدورادو).
وما هذا بشيء إذا قوبل بما اكتشف في الجهة الجنوبية من المقبرة العراقية العظمى؛ أي في بلاد السومريين. هنالك البعثة الكبرى، وهناك الكنوز الأثرية. العفو. ينبغي أن أقول كانت هنالك، وهي اليوم في المتحف البريطاني في لندن، وفي متحف جامعة بنسلفانيا بفيلادلفيا في الولايات المتحدة. أما ما تراه - أيها القارئ العزيز - في المتحف العراقي، فهو جزء صغير، صغير منها.
وما أعجب ما تراه حتى في قسمة بلادك الضئزى، إن كان من الحلي والجواهر، أو من الأواني الخزفية والتماثيل، أو من الأختام والتحف والمواعين! فهناك مكحلة سيدتي السومرية ودبابيس شعرها. وهاك إكليل الملكة شباد، وأوراقه الشبيهة بورقة الورد مصنوعة من الذهب، وهاك قلادتها، وفيها مائة حجر كبير وصغير من الياقوت واللازورد. وقد وجد في قبر هذه الملكة السومرية، مع حلاها وجواهرها ، قارب من الفضة، هو ذكرى نزهاتها - ولا ريب - في نهر دجلة.
وماذا كان مدفونا مع صاحب الجلالة العظمى ملك الأرض وبطلها الأكبر، هوس كلام دوغ؟ فإن الخوذة التي كان يلبسها للحرب لمن الذهب الإبريز، وكذلك سنان الرماح والفئوس سلاحه. وهاك خنجرا من الذهب نصابه من اللازورد، وقرابه من الذهب المسلسل الدقيق الصنع. وهاكم، يا غواة الموسيقى، قيثارة الملك المرصع صندوقها بالذهب وحجارة اللازورد والياقوت. وإن أنفس وأثمن ما اكتشف في مقابر الملوك بأور الكلدانيين كبش من الذهب الخالص، صوفه من المعدن والحجارة الكريمة، وهو واقف عند جذع شجرة، ذات أغصان مثمرة صيغت كلها من الذهب. الذهب! لقد كان في ذلك الزمان، على ما يظهر، أبخس من الحديد، فصنعوا منه حتى الخناجر وسنان الرماح!
أما الحلي المتنوعة - صيغة وشكلا - فإن في المتحف العراقي جزءا صغيرا منها؛ لتمتع به سيدتي البغدادية نظرها. ولتعلم سيدتي أن أختها السومرية، التي كانت تسرح شعرها، أو تجلس للماشطة، في هذه الشمس (شمسنا) وعلى ضفة هذا الفرات (فراتنا)، منذ خمسة آلاف سنة، كانت تنام على سرير، وتجلس على كرسي، وتمد خوانها على مائدة، وتفرش بيتها بالطنافس.
وذلك الذي بنى بيتها، ذلك المعماري السومري، هو الذي اخترع القنطرة والعقد في البناء. وهو أول من استوحى شجرة النخل، فأوحت بالعمود إليه، فظهر العمود لأول مرة في قصور أور وهياكلها.
ومما هو جدير بالذكر، أن شرائع السومريين وصناعاتهم كانت مصابيح علم وهدى لمن جاءوا بعدهم. فعندما اكتشف الأثريون نينوى، منذ نحو خمسين سنة، قالوا إن شرائع موسى مأخوذة من شرائع حمورابي. واليوم يقول لنا الأستاذ لنرد وولي مدير بعثة أور إن شرائع حمورابي مستمدة من شرائع سومر، ولم يكن في موضع مدينة نينوى أثر للبناء يوم كان السومريون قد وصلوا (3100ق.م) إلى درجة عالية من العمران.
ولك أن تسأل: إلى أي عمق حفر الأثريون ليدركوا هذا العلم كله؟ عندما وصلوا إلى مدافن دولة أور الثالثة؛ أي الأخيرة، استمروا في الحفر فاخترقوا خمس طبقات من الأرض، كل طبقة منها تمثل دورا من أدوار التمدن، بما اكتشف فيها من الآثار التي تختلف عما اكتشف في الطبقة دونها. وقد حفروا حتى تحت الطبقة الخامسة فوصلوا إلى التراب البكر؛ أي الطين الراسب على ضفتي النهر.
أما اكتشافهم ها هنا فهو أهم من كل ما تقدم ذكره. إن لسكة الحديد اليوم محطة في أور، بين البصرة وبغداد، هي على مائة وعشرين ميلا من البصرة. والبصرة هي على ثلاثين ميلا من خليج فارس. ولكن أمواج هذا الخليج كانت تتلاطم في ذلك الزمان تحت أسوار أور الكلدانيين، فتكون مياه الخليج قد عادت القهقرى مائة وخمسين ميلا في خلال خمسة آلاف سنة ويزيد؛ أي ثلاثة أميال كل مائة سنة. ولكن الحلزونة تجتاز الثلاثة الأميال - إذا تركها الإنسان وشأنها - بشهر واحد في الأكثر. إن حركة البحار، وهي تتقدم في البر أو تتراجع عنه، لأبطأ حركة في العالم.
قلت: إن أور كانت على البحر. والأصح أن يقال: إن البحر كان عند أور. فكيف عرف الأثريون ذلك وتحققوه؟ عرفوه بالمطالعة، وتحققوه بالمعول والمسحاة. فلو لم يقرءوا في كتب اختصاصهم أن في عهد الاحتلال البابلي لأور «كان في المدينة هيكلان لنبوخذ نصر ونابونيدوس يدعيان بهيكلي الميناء» لما عدوا حدودهم الأثرية إلى ما دونها - إلى ما يختص بعلماء الجيولوجيا - واستمروا يحفرون حتى أدركوا طبقة سمكها ثلاثة أمتار من رمال شاطئ الخليج!
وها هنا اكتشفوا الاكتشاف العجيب الذي جاء ذكره في ملحمة كلكميش. وما ملحمة كلكميش بذاتها أعجب من رمال شاطئ الخليج. إنما هي أعجب في النبوءة التي تحتويها.
جاء في تلك الملحمة:
إن الآلهة لغاضبون غضبة شديدة. وسيمحقون الجنس الإنساني، سيغرقونه إغراقا في البحر.
ولكن إنكي - أحد الإلهة - حمل السر إلى أوتا نابشتيم، ذلك الرجل الصالح، الساكن في قرية شوروباك على الفرات، وأوصى إليه بطريقة للنجاة، فبادر نابشتيم إلى بناء سفينة مثل فلك نوح.
ثم يقول نابشتيم في ملحمة كلكميش:
وحملت في السفينة كل مالي
كل حصاد الحياة جمعت في السفينة
أسرتي وأقاربي،
والحيوانات في الدور والمواشي في الحقول، والصناع والخدم.
أدخلتهم السفينة جميعا وأقفلت الباب. •••
وعصفت الرياح، وهاجت البحار،
ستة أيام وست ليال،
طغت الأعاصير والمياه، فغلبت الأرض وغمرتها
ولما انبلج فجر اليوم السابع خفت صوت العاصفة،
وتقهقر البحر الذي كان يحارب كالجيش الفاتح،
وسكن وجه أليم، وسكتت الرياح، فتوقف الطوفان.
ونظرت إلى البحر فإذا هو هادئ كالنور،
ونظرت إلى البشر فإذا هم كلهم كالوحل.
وبعد ذلك أطلق نابشتيم طيرا من الحمام، وترك سفينته على رأس الجبل، وقدم ذبيحة للآلهة.
هذه هي قصة الطوفان السومرية. وإن رمال الخليج دليل على ما جاء في ملحمة كلكميش، كما يقول الأستاذ وولي. وهناك دليل آخر في الخزف المدهون الذي وجدوه تحت أكوام الرمال وفوقها.
ومن كلكميش إلى كاتب سفر التكوين - من يعرف الصلة والسبيل؟ من ذا الذي يستطيع أن يقول: إن أوتا نابشتيم هو نوح أو غير نوح؟ أو إن موسى قرأ ترجمة كلدانية لملحمة كلكميش؟
أما أن لنوح آثارا في هذه الديار فأهل الكوفة والنجف اليوم يعرفون. أن في الصحن الفسيح لمسجد الإمام علي بالكوفة حوضا جافا، أو مكانا مجوفا، إذا ما سأل الزائر عنه أحد الكوفيين قال له: هو المكان الذي بنى فيه سيدنا نوح فلكه قبل الطوفان. وإذا ما زرت النجف - أيها القارئ - وكنت من المؤمنين الجعفريين، ودخلت الحضرة، فعليك أن تلقي هذا السلام: السلام عليك يا علي وعلى ضجيعيك آدم ونوح.
إذن لقد صنع نوح فلكه ها هنا في الكوفة، ولقد دفن بعد ذلك مع علي في جواره المبارك. والكوفة هي على شاطئ النهر مثل أور، وقد كانت في الماضي بين سومر وبابل. فمن أين جاءت هذه الأساطير - أساطير نوح والفلك؟ - وما علاقتها بملحمة كلكميش وسفينة نابشتيم؟ إن موضوعنا - لسوء الحظ - لا يتسع لهذا البحث.
لنعد إذن إلى أور، فقد اكتشف الأثريون في كيش، وفي خفاجي ما يثبت بعض اكتشافات البعثة الكبرى. ومهما تنوعت آثار الطبقات المختلفة فإن هناك، في كل مكان وزمان، الرمز الأكبر، الرمز السومري المجسم في الهيكل، وفي ما هو أجمل بناء من الهيكل؛ أي ذلك البناء الشامل الهرمي الذي يدعى زقرة، وهو مدرج مؤلف من سبع طبقات، كل طبقة أوسع مما فوقها، كما هو ال «باغودا» عند البوذيين. وقد بنى أحد ملوك سومر زقرة عصماء، طليت طبقاتها العليا بالفضة والذهب.
كانت الزقرة معروفة في كل دولة من الدول السومرية الثلاث، وأمست كلها تحت الأرض، سليمة ومتهدمة، الواحدة فوق الأخرى. فعندما وصل الأثريون إلى زقرات الدولة الثالثة، واستمروا في الحفر عثروا على بقايا زقرات الدولة الثانية، وتحتها في الطبقة الثالثة بدت لهم أسس زقرات الدولة الأولى وقصورها وهياكلها. تلول تحت تلول، وقصور تحت قصور، ومدن مدفونة تحت المدن، وفوقها مدن اختلطت عظامها بعظام من دفنوا تحتها.
ودفين على بقايا دفين
في طويل الأزمان والآباد
خفف الوطأ ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
قيل: إن في السومريين يجتمع العنصران الآري والسامي. وقيل: إنهم آريون أصلا، جاءوا من الشرق وتوطنوا جنوبي العراق في سني الألف الرابعة قبل المسيح، ثم جاء الأكاديون (العقاديون) فتغلبوا على السومريين في عهد الدولة الثالثة، فأسسوا الدولة الأكادية، وجعلوا حاضرتها مدينة لاغاس القريبة من أور.
وبعد ذلك جاء شعب من الجبال، شعب متغلب فاتح، هو الشعب العيلامي الآري، فأسس مملكة في قلب العراق، عاصمتها إشنونا أو إشنوناك على مسافة عشرين ميلا شرقي بغداد، في المكان الذي يدعى اليوم تل عمر.
وفي تل عمر بعثة أميركية موفقة في حفرياتها وغنائها. أما الحفريات فقد أضاءت شيئا من تاريخ تلك الناحية، منذ سقوط الدولة الثالثة الأورية إلى سقوط إشنونا.
ليس في هذه الدولة غير ملك واحد من الملوك الفاتحين على ما يظهر، هو كيريكي ملك عيلام الذي أسس إشنونا واستولى على أور. أما ابنه الذي تولى الملك بعده، فقد حاول أن يبسط سيادة عيلام على البلاد السومرية كلها، فصده عن ذلك العموريون الساميون الذين زحفوا على بابل من لبنان الشرقي، وكانوا في ذلك العهد من الغزاة الصائلين المتغلبين. فحمل عليهم ملك عيلام وما كان موفقا في حملته، فعقد وإياهم صلحا غريبا فريدا في بابه.
آثار أور (تصوير الدورادو).
قال بيلالاما ابن الملك كيريكي إلى أولئك الغزاة العموريين: لا بأس بأن تغزوا في البلاد على شرط واحد - لكم الغنائم ولنا الأرض.
فلا عجب إذا كان عهد عيلام قصيرا في العراق، فقد دخلوا مثل غيرهم من الشعوب في حوزة الملك الآشوري السامي، الملك الأكبر حمورابي (2067-2025ق.م).
وفي هذا العهد من التاريخ؛ أي منذ سقوط الدولة الأورية الثالثة (2170ق.م) إلى أن دخلت إشنونا في الدولة البابلية الكبرى، تطورت عيلام تطورا جديدا في حياتها الاجتماعية، فقد اكتشف الأثريون الأميركيون مخطوطات في القصر تدل على أن إشنونا كانت على اتصال في تجارتها بآسيا الوسطى، وأن في حضارتها أثرا لمدنية الهند، فالنفوذ الهندي في العراق يرجع إذن إلى القرن الواحد والعشرين قبل المسيح.
ولكنه ضئيل بالنسبة إلى النفوذ السومري. فإن الشعوب السامية كلها - العقاديين والعموريين والآشوريين - أخذوا عن السومريين دينهم، أو في الأقل معظم طقوسهم، كما أسلفت البيان، وكانوا على الإجمال مقلدين لهم مقتبسين من أنوارهم.
وإنه ليدهشك ما تعدد وتنوع من الأشياء التي كان يستعملها الناس في ذلك العهد القديم، السابق للعهدين البابلي والآشوري. فمنها القناديل المصنوعة من الحجر والصفر والفضة والذهب، على شكل الأصداف البحرية، وسنان الرماح والفئوس من الذهب والفضة، ومخطوطات من الآجر مغلفة بالخزف ومكتوب على الغلاف اسم صاحبها أو موضوع ما تحتويه، والمواعين من النحاس الأبيض المطرق الشبيه بما نراه اليوم في سوق النحاسين ببغداد، ومسامير من الجص مدهونة بالدهان الأسود (3500ق.م) وجدت في كيش، ومناجل وأسياخ وأوتاد، وأوان خزفية ومرمرية مزينة بالرسوم، وجفان من الحجر والصوان، وأكواب من اللازورد، ولوحات للألعاب مطعمة بالصدف. وأعجب من ذلك كله قطع من العظم مكعبة، ومنقطة بالدهان الأسود، هي حجارة النرد. فاذكروا ذلك يا من تريدون أن تقضوا على القمار في العالم! إن عمر «الزهر» خمسة آلاف سنة. •••
من حق أهل العراق أن يعلموا بمصير آثار بلادهم، ولعل حكومة العراق تقدم على العمل الذي فيه صيانة هذه الآثار، وحفظ حقوق البلاد في البعثات الأثرية.
إن أول ما ينبغي عمله هو تحرير المادة 22 من قانون الآثار، لإزالة ما فيها من التعميم والإبهام، فتفرغ في قالب محكم لا يمكن البعثات من الإخلال بواجباتها، والعبث بحقوق البلاد.
فقد جاء في هذه المادة أنه «ينبغي للمدير أن يختار من بين الأشياء المكتشفة ما يراه لازما لإكمال المتحف العراقي من الوجهة العلمية»، وأن يخصص بعد ذلك «للذي أعطي رخصة التنقيب عددا كافيا من العاديات مكافأة له على أتعابه» ... «وأن يتوخى - بحسب الإمكان - جعل حصة ذلك الشخص مماثلة لجميع النتائج التي حصلت من تنقيبه.»
إن في هذه المادة ثلاثة أبواب للنزاع، هي: «الوجهة العلمية»، و«العدد الكافي» و«المماثلة لجميع النتائج». قلت: إنها أبواب للنزاع، فيجب أن أقول: إنها أبواب مفتوحة للتفسير والتأويل. وكثيرا ما تفسرها البعثات وتقولها كما تشاء؛ ليكون لها ما تشاء من العاديات.
فلو اتفق أن في متحف العراق عددا كافيا من الحلي السومرية مثلا «لا كماله علميا» واكتشف بعدئذ شيء كثير من هذه الحلي، فإن مدير الآثار مطلق التصرف بها، وقد يقدمها كلها هبة إلى البعثات التي اكتشفتها.
فإذا اكتشف خمسون خوذة ذهبية مثلا، وكان فيها ثمان وأربعون خوذة متماثلة بكونها خوذات، ومختلفة بكونها من عصور وصناعات متعددة ولو في جزئياتها، وخوذتان متماثلتان كل التماثل، فلا يعطى المتحف العراقي غير خوذة واحدة من الاثنتين المتماثلتين تماما، وتعطى البعثات الخوذات الأخرى كلها.
هذا ما يحدث في قسمة العاديات النادرة وفي غيرها على الإجمال ما دامت المادة 22 مبهمة وقابلة لكل تفسير.
وهناك أساليب أخرى تمكن البعثات من السلوك المريب، بل من الإساءة في ما تتمتع به من الحقوق والامتيازات. ومن هذه الأساليب ما يتعلق بشحن الآثار. فالبعثة ترسل قسمتها في صناديق إلى البصرة، فتخزن هناك في مخازن شركة البواخر التي تنقلها إلى خارج العراق، بدل أن تبقى في مخازن الجمرك إلى يوم سفر الباخرة، وفي أثناء وجودها في مخازن الشركة يستطيع أحد أعضاء البعثة أن يفتحها ويضيف ما يريد إليها.
إنه لأمر شاذ اضطربت له مديرية الجمارك، وقد كتب مدير جمارك البصرة إلى مديرية الآثار ينبهها إلى أن نقل صناديق الآثار من الجمرك إلى مخازن الشركات خلال انتظار الباخرة لما يثير الريبة وسوء الظن، وهو يلح في وجوب فتحها وفحصها قبل أن تشحن.
سمعت مديرية الآثار ومضت في أمرها. أما الأثريون فهم يقولون إنهم يستعيرون كل نادر نفيس من العاديات ليصلحوه، إذا كان مكسورا، ويصوروه ويدرسوه، ويكتبوا عنه في المجلات الأثرية. وعليهم بعد ذلك أن يعيدوه، إذا كان من قسمة العراق، إلى المتحف العراقي.
فهل يعيدون ما يستعيرون؟ قد تصفح أمين المتحف لوائح القسمة لمجموع ما استخرجته بعثة أور الإنكليزية الأميركية، منذ سنة 1922حتى سنة 1933، فوجد أن ثلاثة آلاف أثر ويزيد، من الآثار التي تضمنتها تلك اللوائح، لا تزال مجهولة المصير.
أضف إلى ذلك ما يحدث من الحيف في القسمات، وليس لمدير المتحف العراقي ما يقول. وإن اعترض فليس لوزارة المعارف، ما دامت المفوضيات الأجنبية تهتم بالبعثات الأثرية اهتمامها بمصالح بلادها التجارية والاقتصادية في العراق، ليس لوزارة المعارف ما تقول.
ما العمل إذن؟ ألا تستطيع الحكومة العراقية أن توقف الأعمال الأثرية كلها إلى أن يصير في البلاد أثريون وطنيون؟ أوليس ذلك أفضل من أن تذهب أكثر الآثار إلى المتاحف الأجنبية؟
إنها لحالة محزنة. فإن كانت تنقصنا العلوم الاختصاصية، ونحن اليوم في حاجة إليها، فعلينا أن ندفع ثمنها مهما كان. وترانا ندفع - إن كان في العراق، أو في سوريا، أو في فلسطين - أثمانا باهظة ...
إن العراق، في كل حال، لا يخسر شيئا إذا توقفت أعمال البعثات الأثرية ريثما ترسل الحكومة بعض الطلبة لدرس علم الآثار في الخارج.
لا، بل أقول إنه خير للعراق أن تبقى آثاره مدفونة في أرضه من أن «تطير» إلى ما وراء البحار.
خطبة بين كربتين
من المألوف في آداب الحفلات الخطابية أن الهيئة المقيمة الحفلة تعين لجنة من ثلاثة أو اثنين، أو واحد فقط؛ لتستقبل الخطيب وترافقه إلى قاعة الخطابة. هذا ما عرفته وألفته خطيبا في الغرب، وفي هذا الشرق العربي.
أما في بغداد، يوم افتتاح المعرض الزراعي (7 نيسان 1932) فقد كان الاستقبال هائلا، وكنت أنا الخطيب الفريد منقطع النظير في العالم. وكيف لا، وقد كنت الغريق في لجج من الناس، أحاول أن أسمعهم غير ما جاءوا يسمعون، أحاول أن أسمعهم شيئا من الأنات والزفرات التي كانت تخرج متقطعة من تحت أضلعي.
وهاكم القصة. كنت في ذاك النهار خطيب الحفلة الأولى في المعرض، فجئت قبل الوقت المعين لأنجو من الزحام الذي وقعت فيه. فأين لجنة الاستقبال تنقذني، وتضمن سلامة الحفلة التي أنا خطيبها؟ اللجنة هي هذه اللجة من الناس المحتشدين في الشارع، وفي الساحة، أمام المدخل الوحيد إلى أرض المعرض. هي لجنة هائلة، وما هي على شيء من لطف الاستقبال، أو من حب المجاملة.
وما كان الذنب ذنبي في خوض عبابها، فقد رأيت عندما وصلت ثلة من الشرطة تغالب الجماهير، وأخرى من الخيالة تشذبها؛ لتفتح الطريق إلى المدخل، وتحفظ النظام. ورأيت تلك الجماهير من المدن ومن العشائر - من حضر وبدو وأكراد - يتزاحمون ويتدافعون ويتضاغطون، وبينهم النساء المحجبات والسافرات - يهوديات ومسيحيات - وهن في تلك اللجج كالأزهار في الإعصار.
ومن أعجب ما شاهدت في احتشاد الناس أن الجماهير العراقية غير صخابة. فهي تتموج ساكنة هادئة، وتتضاغط وتتدافع بشدة وبطء دون أن يسمع لها صوت أو أنين، كأنه قطع من الجماد تحركها يد جبارة خفية. وكانت في تلك الساعة تدفعها دفعا بطيئا عنيفا قاهرا نحو بوابة موصدة يحرسها شرطيان لا غير.
وقفت مترددا في الطريق التي فتحتها الخيالة، وما آنست من رفيقي شجاعة على الإقدام، وبينا نحن كذلك دهشت الدهشة الثانية، الدهشة الكبرى، فقد رأيت على حاشية اللجة السيد نوري السعيد رئيس الوزراء في تلك الأيام، فلفت إليه نظر الرفيق، فاستبشر وقال: لنتبع الباشا ولا خوف علينا.
عجبت لصروف الزمان، فقد أعاد إلى ذهني هذا الرئيس مشهدا من مشاهد الدولة العثمانية في الأستانة. وكان هناك أبهة ملك وازدحام، وكانت الخيالة تخترق اللجج البشرية وتدفع بها يمنة ويسرة، دون أن تبالي بما تفعله سنابك الخيل؛ لتفتح الطريق لعربة الصدر الأعظم، السائرة في موكب فخم إلى الباب العالي . لله من صروف الدهر، وتقلب الزمان!
ليس العراق - وإن استقل ودخل في عصبة الأمم - بالدولة العثمانية. ولكنه ذو سيادة ودستور وبرلمان، والصدر الأعظم فيه شخصية بارزة، وقوة في البلاد نافذة. وهو مع ذلك يحضر الاجتماعات العمومية غالبا وحده، دون مرافق عسكري أو مدني. إن نوري السعيد لمن أخلص الوزراء في روحه الديمقراطية الوادعة، وإنه أصغرهم سنا، وأكثرهم إقداما، وأغناهم في ما عنده من بشاشة وسكينة، فتراه، والسيكارة في فمه، والسبحة بيده، طلق المحيا، هادئ البال على الدوام.
عندما أشار رفيقي بأن نتبعه قلت في نفسي: ولا بأس على من يمشي في ظل حاكم البلاد. فإن السبحة بيده، إذا ما أومأ بها، لتفعل ما لا تفعله ثلة من الشرطة.
توكلنا على الله وأقدمنا، فإذا بنوري السعيد، وقد رآني، يرفع يده، ويومئ بالسبحة والبسمة أن أقدما، كأنه يدعونا إلى طبق من البقلاوة. فأسرعنا إذاك مصدرين أرواحنا، وما عتمنا أن صرنا في ظله، فغمرتنا اللجة، وتوارينا وإياه فيها.
وكانت تزداد ثقلا وراءنا وصلابة أمامنا، فوقفنا متراصين متلاصقين نكاد نفقد النفس - نغص بالهواء. ولولا صرخات لبعض النساء لما سمعنا للحشد صوتا غير ذاك الذي يخرج من تحت الأحذية عندما يستحيل المشي على المحتشدين فيزحفون زحفا.
هي ضغطة القبر. وكان الوزير الأكبر أمامنا ساكتا هادئا مثل غيره من الناس. وما أحد - على ما أظن - عرفه غيرنا. إلا أنه كان يحاول أن يصل إلى مكان يرى منه الشرطي، فيأمره بفتح الباب.
خبرت الجماهير في المدن الكبرى، وليس فيها أفظع من جماهير الصباح والمساء في نيويورك. إلا أني ما أحسست مرة هناك بمثل الهول المجسم في جماهير بغداد، تلك الجماهير الهادئة الواجمة الساحقة.
وكنت قد أضعت رفيقي، وأصبحت ولا أرى من نوري السعيد حتى سدارته. فوددت في تلك الساعة لو أن أحدا عرفني فآنسني ولو بابتسامة ... أين شهرتك الآن، أيها الفيلسوف؟ وأين عظمتك، أيها الرئيس؟ أنضغط ، ونخنق، ونسحق مثل سائر الناس، ولا أحد يصيح: المدد! ولا أحد يقول: مه!
سبحانك اللهم! فها هو ذا المدد أراه بعيني . إن اليد المرتفعة يد نوري، والسبحة سبحته، فقد دنا من المحجة، فرآه الشرطي، فأومأ إليه الرئيس أن افتح الباب. وما كاد ينفتح ذلك الباب حتى سد بالناس. فطفقوا يتدفقون كالسيل الجارف، فيهبطون من أعلى الدرج إلى أسفله، واثبين ومتدحرجين إلى أرض المعرض.
أخذت اللجة تخف أمامنا، وتزداد شدة وراءنا. فتقدمنا متعثرين متقاذفين. وكنت أحس وأنا في هذه الحالة بكوع يغرس في جنبي، وبآخر، لبدوي عمليق، يطوي عنقي. فصحت متأوها، فضاعت صيحتي بين صيحات أخرى عميقة، كأنها كانت تصعد من تحت الأرض. إنما هي في الحقيقة صاعدة من بين أرجل الهاجمين المغيرين.
أما أنا فما كدت أفرح بدنوي من بوابة الحديد، وأنسى كوع البدوي، حتى تراءى لي شبح الموت، فقد دفعت بعنف إلى البوابة، وضغطت هناك ضغطة القبر، فعلقت يدي بين قضيبين من قضبان الحديد، وسمعت صوتا في كتفي كصوت عظم يتكسر، فتأوهت وأننت، وخيل إلي أن سأقضي بقية حياتي بيد واحدة. ولكنه سبحانه وتعالى تداركني برحمته، فتفلت من قبضة الحديد، وهويت فوق الدرجات طائحا، فإذا أنا بين ذراعي رئيس الوزراء. وكان قد وقف هناك ينتظرني، فعانقته بكلتا يدي، وأنا أحمد الله على السلامة.
وعلى المحن التي فيها بعد السلامة العلم والشجاعة، فقد أصبحت، بعد نجاتي من تلك الغمرة ببغداد، فارسا مغوارا، لا تروعني الجماهير، ولا تتكأكأني الزحمات. فأخوض عبابها كأنها حوض ماء، في جنينة غناء. ليقبضني بيديه المتحجرتين ذلك العلج الواقف في باب القطار في النفق بنيويورك، وليقذف بي إلى داخل القطار، وليضغطني ويرصني فوق من ضغطوا ورصوا، وليقفل وراءنا باب الحديد، فيجيء كالمكبس على بالة القطن، ليفعل كل ذلك فلست أبالي. قد خضت عباب الجماهير العربية ببغداد، وأصبحت ذا مناعة بدوية.
وقد شاهدت وخبرت أباطيل الشهرة والسيادة، أباطيل العبقرية والعظمة، في مثل تلك الغمرات. فما رئيس الوزراء، وما الفيلسوف الخطيب، إذا لم يكن ذا إحساس بليد، ونشاط عنيد ، وأعصاب من حديد، فيكون في الغمرة جزءا منها، جزءا متحركا متحكما متقدما مستهترا؟!
وما كانت الكربة بعد الخطبة أقل من الكربة التي تقدمتها، إلا أنها من نوع آخر. ولكن بين الكربتين برهة سعيدة أحب أن أشرك القارئ بها. ولا حرج في الحديث، وإن كنت موضوعه؛ لأنه يتناول ما هو أكبر من حالة حائلة، وشخصية زائلة. كيف لا والحدث منقطع النظير في تاريخ العراق قديما وحديثا؟ كيف لا، والخطيب - دعني أروي ولو مرة واحدة خبرة خطبتي؟ - كان أول من وقف ذلك الموقف في قطر من الأقطار العربية. وحسبي أن أنوه بصوته العجيب. فما كان كزئير الأسد، ولا كقصف الرعد. بل كان منخفضا ناعما هادئا. وقد جاز مع ذلك الآفاق، وسمع حتى في بلاد الواق الواق.
عفوا، قارئي. لست محدثك بالألغاز، فقد ملأ الراديو الأرض على حداثة عهده، وأمسى ذكره مألوفا مبتذلا. بيد أن للتاريخ حقا يرعى. فإن استعمال الراديو للمرة الأولى في أقدم بلدان العالم - في أرض الرافدين - لجدير بالذكر والاعتبار.
قد نصبت الآلة للمرة الأولى ببغداد لسبع خلون من نيسان من السنة الثانية والثلاثين وتسعمائة وألف مسيحية، وكان الريحاني أول من وقف أمامها للخطابة. وكان الاثنان - الخطيب ومطية صوته - في أحسن حال، تمدهما السماء بروحها المكهربة الممغنطة. وكانت الأسلاك ممتدة من الجهاز إلى مكبرات موزعة في أرض المعرض، فخطب الخطيب في جمع أمامه يرى، وجموع في جواره لا ترى.
وهناك وراء الآفاق في عواصم ألوية العراق، وفي ما دون العراق غربا وشمالا وشرقا - في سوريا وفلسطين ومصر وفي أنقرة وطهران - سمع صوت الخطيب الواقف على المنبر ببغداد. أجل، قد طارت كلماته على أجنحة الأثير لتحدث بأعجوبة هذا الزمان، وبأعاجيب أخرى في تاريخ العراق الحديث، فسمعها المؤمنون والمشككون، وثم يبسملون ويكبرون. سمعوها لأول مرة في حياتهم باللغة العربية، وسيذكرونها مدى الحياة.
سيذكرون - ولا ريب - الحدث العظيم. وسيذكرون - إن شاء الله - اسم صاحب الخطبة. وقد يذكرون بعض ما أشاد به من مظاهر النهضة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق، وبعض ما أشار إليه من أوليات هذه النهضة المباركة. ورأس الأوليات المعرض الزراعي الاقتصادي. فما رأت أرض الرافدين، منذ عهد السومريين إلى عهد الأتراك، معرضا مثله. ومن الأوليات في كل أزمنة التاريخ القديم والحديث حكومة العراق النيابية، وملك العراق الدستوري، ومدارس العراق العامة. وقد يذكر من سمع الخطيب أنه دعا العرب للاتحاد، ودعا زعماء الأقطار العربية للتفاهم والتعاون، وأنه أثنى على الملك فيصل الذي ساس العراق بالحزم والحكمة، فاجتاز بفضله المرحلة الأولى من مراحل الاستقلال الوطني والسيادة القومية. قد يذكرون كل ذلك أو بعضه. وقد لا يذكرون شيئا من الخطبة، غير أنها هبطت عليهم مثل الوحي من عالم الغيب، إنها إذن لوحي منزل. أستغفر الله. ليس فيها شيء عجيب غير أنها سمعت في وقت واحد في سائر المدن الكبرى في الشرق العربي.
على أن الخطبة ما نجت ولا نجا الخطيب، من صحافة بغداد، أو بالحري من صحافة المعارضة، فقد تناولت الخطبة، بل نتلتها بمخالب النقد، ومزقتها إربا إربا، ثم عرقت منها العظم، وتلمظت بالمرارة. قال أحد كتاب المعارضة: إن الخطيب من الثرثارين. وقال آخر: إنه يتزلف من الملك، وإنه من المستوزرين. وغمس آخر قلمه في دواة التهكم والظرف وخط الآية: إن الخطيب لمن ذوي الآذان الطويلة. وشخص آخر مرضه فقال إنه مصاب بداء التفاؤل.
فاستنتجت من كل ذلك أن المعارضة - أي الأحزاب المعارضة للحكومة - لا تزال حية ترزق، وأنها تعارض مبدئيا على طول الخط، ولا تبالي بما يقال في مواقفها. ولم المبالاة، ووظيفة المعارضة، كما يقول السياسيون، هي أن تعارض؟! إن في بغداد ثلاثة لا تتغير، هي: الغبار والوحل والسياسة.
وقد عجب أرباب السياسة لما في الخطبة من السطحيات. فكيف فات الجوهر الخطيب؟ ماذا دهاه فعمي أو تعامى؟ أما كان بإمكانه أن يرى، في نظرة سطحية، الحقائق البارزة؟ فالإنكليز لا يزالون في العراق، وما تحسنت اقتصاديات البلاد، وما تحررت الإدارات من المستشارين، وما، وما ...
هي المعارضة، ولا حرج، فقد نصبت مدافعها بين أدغال الصحافة، ووراء أكمات الأحزاب، وشرعت تطلقها في كل ناحية، من الطرف الأيمن في جبهة الحكومة إلى الطرف الأيسر، من القصر على شاطئ الكرخ إلى القصر على شاطئ الرصافة - على المندوب البريطاني، على الملك، على الوزارة، على البرلمان، وحتى على المعرض؛ لأنه من أعمال الحكومة! فلا عجب إذا أصابني رشاش من مدافعها، وأنا أتنقل مستكشفا - يا للحماقة! - من مكان إلى مكان في مرامي الجبهة.
ضعف المعارضة
ما أشرت في الفصل السابق إلى آفات بغداد الثلاث حبا بالإغراب والإبداع في الإنشاء. إنما هي الحقيقة تجمع في بعض الأحايين الشوارد والمتناقضات، فإذا هي شرع في كنهها أو في نتائجها. فإن الآفات البغدادية هي عاصفة التراب (أو ما يدعى «القاطرة» أو «الطوز») في الربيع، والوحل في الشتاء، السياسيون في كل فصول السنة.
أما الآفتان الأوليان فلا تنفرد بغداد بهما، وقد لا تكون فيهما كغيرها من المدن. فإن في أسواق باريس مثلا تتكون في الشتاء صفحة رقيقة من الوحل الرخو اللزج الذي يتحول تحت الأرجل إلى مزلقات، فهي إذا ذاك أكرب من بغداد، وإن ضباب لندن في الخريف، ذلك الضباب القاتم الكثيف المعمي، والمفعم بالروائح الكبريتية، هو أفظع من «قاطرة» بغداد التي لا رائحة لها ولا هي تسد عليك السبيل. أما سياسي بغداد فلا أظنك تجد له صنوا في الشرق أو في الغرب. فإنه في عقليته مزيج من الغبار والرماد. غير أن قلبه مضمخ بالطيب، ولسانه لسان خطيب.
أجل، إن إرث السياسي البغدادي لإرث مركب من شتى العناصر النفسية والعقلية والبيانية. فيستطيع لذلك أن يكون شفافا أو كثيفا، دقيقا أو غليظا، قويما أو مواربا، لطيفا أو خشنا، صريحا أو مجمجما. إن في عروقه العربية أثرا من الدم الفارسي والتركي والكردي والتتري.
فهو يصلي بالعربية، ويفكر بالتركية، ويستشعر بالفارسية، وقد بدأ يرى الأشياء بعين إنكليزية. هو ديمقراطي اللسان، أوتوقراطي العقل، ثيوقراطي القلب والمجموع ميل، بعد الاتكال على الله، إلى الاستبداد، «إنما العاجز من لا يستبد.»
لله من أولئك السياسيين، ومن فصاحتهم، ومن لطفهم، ومن حججهم وأحكامهم، ومن أساليبهم في الطعن والاغتياب! وما أكثرهم في بغداد! كم مرة وقفت في سراديب عقولهم السياسية! وكم مرة تغلغلت بعقلي وقلبي فيها لأفهم أقوالهم، وأدرك أفكارهم، ومقاصدهم، وأميز بين الأوهام والحقائق في مزاعمهم! وكم مرة أصغيت ساكتا صابرا للأحاديث الطويلة لأتحقق ما فيها من شكوى! وكم مرة أوقفني محدثي وأنا أتبعه مصغيا متنبها، كم مرة أوقفني بغتة في جادة ملتوية مظلمة؛ ليؤكد لي أنها ليست بجادته أو جادة حزبه، بل هي جادة الحكومة والإنكليز! - إني أطلعك، يا أستاذ، على حقائق هذه المسالك الملتوية المظلمة.
وهل يليق بي الشك وأنا في مجلس من أولاني صداقته، وأكد لي أنه يمشي ويتكلم أياما في خدمتي؛ لينير ذهني، ليطلعني على حقائق الدولة وأسرارها. ولولا وطنيتي وأدبي ورغبتي في التحقيق والتدقيق، لما كان يمشي خطوة، أو يفوه بكلمة. لا والله! فهل يليق بي الشك أو الاحتياط؟!
أما إنه كان في خدمته لي يخدم كذلك نفسه، من حيث لا يظن أني أدري، فذلك أمر لا ريب فيه. إلا أنه لا يمدح نفسه. كلا، ولكنه يرهفك بالحديث، ويعييك بالسير في سراديب السياسة؛ ليفهمك أنه أخلص سياسيي العراق وطنية، وأبعدهم نظرا، وأسدهم رأيا، وأصرحهم مقالا. هذا السياسي المدرب المجرب، اللطيف الشريف، سنيا كان أو شيعيا، كرديا أو مسيحيا، هو يوما للمعارضة ويوما عليها - مثل الزمان.
وسأعطيك الآن بعض الأمثلة من أعمال المعارضة، بادئا بالإضراب في صيف سنة 1931؛ لأنه من أهم حركات العراق الداخلية، وأقلها بركة. وها هي القصة في حقائقها العريضة.
كانت حكومة الاحتلال قد قررت وضع ضريبة على أصحاب المهن والحرف، ولكن قرارها لم ينفذ كل التنفيذ. وفي سنة 1929، تناولت حكومة العراق ذلك القرار فحولته إلى قانون يدعى قانون رسوم البلديات، وجعلته يشمل في ضرائبه الأهالي جميعا. إلا أن المادة الثالثة من هذا القانون تجيز لمجالس البلديات أن تخفض أو تلغي من جدول الضرائب ما لا يناسب أحوال الأهالي الاقتصادية.
ومع ذلك فقد تعددت أصوات الشكوى والاحتجاج، عندما شرعت الحكومة تنفذ القانون، فتمردت الحلة، وتبعتها بعقوبة في أوائل تموز، ثم أعلنت بغداد الإضراب وأمست مقفلة.
أما المادة الثالثة من القانون فقلما استرعت النظر. بيد أن بعض البلديات باشرت تحوير جدول الضرائب بموجب هذه المادة. ولكن الشعب لم يكترث، بل أصر على الإضراب الذي أضحى حركة وطنية.
وظل النظام سائدا والسكينة مستتبة في الأيام الخمسة الأول. وبعد ذلك فقد اصطدم الشعب بالشرطة وتضاربوا بضع مرات، واضطرب حبل الأمن في البصرة، وقتل في الناصرية اثنان. ما خلا هذا! فقد ظهرت الحكومة وظهر المضربون في مظهر من الثبات والسكينة يذكر فيشكر. ظلت بغداد مقفلة عشرة أيام، ثم بدت في بعض أمارات السأم والوهن. فأصدرت الحكومة بلاغا ثانيا افتتحته بهذه العبارة: «حيث إن الإلحاح المستمر على بعض الأشخاص، المعروفين بحسن النية والقصد، بلزوم الامتناع عن فتح حوانيتهم، أو مزاولة أشغالهم، قد سبب ضنكا للأهالي إلخ»، وأنذرت بعقوبة الحبس والغرامة كل من يردع أو يحاول أن يردع أحدا عن فتح حانوته أو استئناف عمله، «وكل من ينشر أخبارا كاذبة يقصد بها التدخل بالحرية العامة».
كان الملك فيصل يومئذ في أوروبا ومعه رئيس الوزراء السيد نوري السعيد. فعاد السعيد إلى بغداد في أواسط تموز، عند ما كان الإضراب آخذا بالتلاشي، وأول ما عمله أن استعان بالمادة الثالثة من قانون رسوم البلديات، فألغى بعض الضرائب، وأصدر بلاغا جامعا بين الشدة واللين، فتمكن في خلال ثلاثة أيام من إقناع الناس بلزوم العودة إلى أشغالهم. إنما بقيت البصرة متمردة، فلجأ إلى الحزم، فألقي القبض على بعض زعماء الإضراب، وأبعدوا، فعادت المياه إلى مجاريها.
إن الشعب لم يجن شيئا من الإضراب. فلماذا كان إذن؟ ولماذا لم يستفد المسئولون من المادة الثالثة فيخفضوا الضرائب قبل عودة رئيس الوزارة؟
كان وزير الداخلية يومئذ من زعماء المعارضة السابقين فتذبذب وفاز بأمنيته فصار وزيرا في الوزارة السعيدية. هو إذن خارج على حزبه، وحق للحزب أن يطلب رأسه - أن يذبحه سياسيا. وكان أمين العاصمة يومئذ من أعداء وزير الداخلية، فساعد المعارضين لينالوا مأربهم منه. فخلا لهم الجو، فتزعموا الإضراب، وكانوا في تنظيمه وتعميمه مفلحين. فطمعوا بغير رأس وزير من الوزراء - طمعوا برأس الحكومة نفسها.
قال الزعماء للمضربين ببغداد: «إن ثبتم أسبوعا تسقط البلدية. وإن ثبتم عشرة أيام تسقط الوزارة.»
نسي المضربون غرضهم الأول من الإضراب، نسوا مصالحهم التي كانت تتعلق بتخفيض الضرائب. نسوها وصاروا وطنيين ثائرين، يبتغون قلب الحكومة. وكانت المعارضة تغذيهم بالكلمات الحماسية والمناورات السياسية.
وقد أوعزت الحكومة إلى البلديات بذبح الأغنام وبيع لحمها. فرحبت بلدية بغداد بتجارة جديدة كاسبة. وما أدركت شيئا مما دبر لكسبها، ولا أحست به. ذبحت، وما باعت في اليوم الأول، ولا في اليوم الثاني. خفضت الأسعار وما رغب الناس باللحم. فعرضته بأسعار خاسرة، فظل الناس راغبين عنه.
وكان حر تموز يفعل فعله باللحم، فقدمته البلدية مجانا للناس، فما أقبلوا عليه. كأن أهل بغداد أضحوا جميعا من مذهب الهندوس - من المتنحسين. فأشفقت البلدية على الصحة العامة من فساد اللحم، فرمته في نهر دجلة!
إذا ذاك علت أصوات الوطنيين بالهتاف والتحبيذ: خذوا المثل الأعلى في الجهاد الوطني عن المضربين! تشبهوا بهؤلاء المتفانين في حب وطنهم. إنهم بوطنيتهم الصافية، وروحانيتهم العالية، ونزعتهم الشريفة التي حببت إليهم حرمان ما تعودوه، يفوقون حتى أهل الهند.
إن الله أعلم بما كان وراء ذلك الحرمان. وإن المؤلف - لحسن حظ القارئ الطالب الحقيقة - على شيء كذلك من العلم.
فالحقيقة العارية في لحم البلدية هي أن أهل بغداد رفضوا أن يشتروه، أو يقبلوه مجانا؛ لأن رجال المعارضة - وهم يرون حقا كل ما يساعد في مقاومة الحكومة والإنكليز - أشاعوا أنه من ذبح الأرمن!
هو إذن للمسلمين منجس، ولليهود «كاشر». وهل يجرؤ المسيحي - وخصوصا في أيام الإضراب - أن يدنو مما نبذه المسلمون واليهود؟
إذن، إلى دجلة باللحم! وعاش الوطنيون. وعاش المضربون! وليسقط جان بول الملعون!
وقد قررت الحكومة الكافرة، المذعنة لإرادة الكفار الإنكليز، أن تعفي من الضرائب كل مسلم يسمح لحرمه بالسفور. إلى دجلة بهذه الحكومة! الثبات، الثبات، أيها المضربون. بعد أسبوع تسقط الوزارة، وبعد أسبوعين الملك نفسه يشد للرحيل! ...
سمعت في بغداد هذه القصة: كان أحد القناصل يدعو صديقا له من الوزراء للعشاء ولعب ال «بريدج» في بيته، وكان الوزير يعتذر دائما. لا وقت لسوء الحظ، الأشغال كثيرة.
ثم سقطت الوزارة واجتمع القنصل بصديقه الوزير السابق فقال له : «إن وقتكم في هذه الأيام يسمح - ولا شك - بسهرة للعب ال «بريدج» في الأقل.» فرفع الوزير يديه مجيبا: «إن الأشغال في هذه الأيام أكثر والله وأهم، فقد دخلنا في حزب المعارضة.»
وهناك غيره ممن يعتقدون أن لذة السياسة بالتنقل. فكيف تستطيع المعارضة وهؤلاء هم رجالها أن تكتم أسرار حزبها، أو تموه حيلها فتخفى على الحكومة؟ ومع ذلك فقد كانت مفزعة للحكومة تروعها وتفسد ظنونها وتدابيرها، فصارت الحكومة تتخيل تلك المفزعة في كل مكان. بيد أن المعارضة كانت دائما متيقظة متأهبة «لتستغل» - كما تقول - المواقف كلها؛ لتشوه سمعة الحكومة، لتعرقل أعمالها، لتفسد خطتها، لتسقط وتسحق رجالها.
إن في موقف الطرفين شيئا من المبالغة والوهم. فالحكومة تبالغ بسوء الظن والخوف، والمعارضة تبالغ بتقدير قواها. لكن مما لا ريب فيه هو أنها تتخذ لأغراضها شتى المسالك والأساليب، القويمة وغير القويمة، الجائزة وغير الجائزة. ومن هذه ما يضحك، وقد أعطيتك مثالا ومنها ما يثير الأشجان، مثال ذلك ما حدث يوم كانت عصبة الأمم تبحث مؤهلات العراق لعضويتها.
كتب أحد الأدباء العراقيين السيد عبد الرزاق الحسني مقالا في مجلة مصرية عن الصابئة. وقد جاء في المقال أن المرأة الصابئية، إذا ما اعتدى رجل عليها، ترضخ له صامتة دون مقاومة أو احتجاج. وكل ما تفعله خلال الاعتداء هو أن تقبض على شيء قربها، حجرا كان أو خشبة أو غير ذلك، مستشهدة بها على ثلم عرضها. هي تهمة فظيعة تثير الحفائظ في أي بلد كان.
فلا عجب إذا ثار ثائر الصابئة في العراق. فقاموا ببغداد يطلبون رأس الحسني عبد الرزاق. فاعتذر عما كتب، ونشر اعتذاره في جريدة محلية. ولكن الأمر مع ذلك ما انتهى. فإن بعض الناس غاروا على شرف الصابئة أكثر من غيرة الصابئة على أنفسهم، فراحوا يحرضونهم على المطالبة بالعقوبة.
غضبت الصابئة غضبة مستجدة شديدة. فجاء ممثلو الطائفة، من العمارة حتى الموصل، إلى بغداد شاكين غاضبين. جاءوا يطلبون مقابلة الملك فقابلهم وطيب خاطرهم، ثم أحالهم إلى العدلية، وأمر بأن ينظر في قضيتهم سريعا. كان الملك فيصل - رحمه الله - يخترق الأسترة، وكانت الحكومة، كما أسلفت القول، تتخيل المعارضة في كل مكان. فأشير باسترضاء الصابئة.
وما استرضاء هذا الشعب الصغير الهادئ الوادع بالأمر الشاق. ولا استهواؤه واستفزازه، فقد كان بين عاملين، الصفح والشرف. ولعبت في العامل الثاني الأهواء والإغراء، فاعتزم الرؤساء إقامة الدعوى على الكاتب يطلبون الإثبات. فركت العدلية جبينها، وعادت إلى القانون تستشيره، فسرت بما قرأت، وهو أن لا يحق لشعب بأجمعه أن يقيم الدعوى على شخص ما، بل ينبغي على كل فرد من ذلك الشعب أن يقيم الدعوى باسمه منفردا. إذن تقدموا أيها المعمدانيون الأتقياء ... تقدموا جميعا!
إنه لموقف عظيم «للاستغلال»، فإن أربعة أو خمسة آلاف دعوى تقام على كاتب في دولة صغيرة كالعراق؛ ليملأ خبرها الأرض، فتخدم مصلحة الأحزاب المعارضة للحكومة. فهل يفادي الصابئة بوقتهم وبمالهم وبسعادتهم؟ كلا. إذن ليست العدلية مرجعهم. إذن لتنقل القضية إلى الوزارة الداخلية.
أقف بك هنا لأطلعك على كتاب متصرف بغداد إلى وزير الداخلية. وقد كتب في أعلى الكتاب: سري مستعجل. إنك لتدرك بعد اطلاعك عليه أن المتصرف كان يوما من حزب المعارضة، وأنه درس علم اللولبيات القانونية والإدارية على أستاذ ماهر:
إلى وزارة الداخلية
بالإشارة إلى حاشيتيكم ...
لقد أحضرنا رجال الصابئة إلى هذا المقام في يوم الأربعاء المصادف 23 / 3 / 1932 وكلمناهم في عدم وجود أي ممسك قانوني يستلزم مجازاة السيد عبد الرزاق الحسني لحسن نيته في ما كتبه عنهم واعتذاره عن ذلك في جريدة «العراق» ولصدور المجلة في القاهرة، ثم إننا أطلعناهم في يوم الخميس على الكتب التاريخية القديمة التي استند إليها الكاتب في بحثه عنهم، فأمنوا على عدم وجود سوء نية عند الكاتب، وأكدوا لنا أن ما كتبه الأقدمون عنهم لا يتفق والحقيقة.
وأخيرا، اتفقوا على أن يجلبوا كتابهم الخطي المقدس، وأن يترجمه بطارقة الملل الأخرى إلى اللغة العربية في ديوان هذه المتصرفية في يوم الاثنين 29 الجاري. فإذا ظهر أن ما ذكره الأقدمون صحيح ومطابق لما ورد في هذا الكتاب المقدس فهم يتنازلون عن شكواهم. وإذا ظهر تفاوت بين كتابة الأقدمين وكتابة الحسني، وبين ما جاء في كتابهم المقدس فإنهم يكتفون بتكذيب تصدره هذه المتصرفية وتنشره في مجلة «الهلال» المصرية التي نشر فيها مقال الكاتب. وسنخبركم بما سيتم في هذا الصدد.
هو ذا سياسي عراقي متخرج من المدرسة التركية المكيافيلية. وهل يستطيع أحد أرباب هذه المدرسة أن يخرج من هذا المأزق بأحسن من هذا الأسلوب؟ هاتوا كتابكم الخطي المقدس لتترجمه بطارقة الملل الأخرى إلى اللغة العربية! فإذا جاء رؤساء الصابئة بالكتاب فهل يجيء البطارقة؟ وإذا جاءوا فهل يترجمون؟ وإذا ترجموا فهل يحسنون؟ وإذا أحسنوا فهل يتفقون؟ وإذا اتفقوا فهل يصدق رؤساء الصابئة أنهم أحسنوا الترجمة وتحروا الأمانة فيها؟
فكر أولئك الرؤساء، ثم رضوا باعتذار الأستاذ الحسني. أما الذين كانوا يأملون أن «يستغلوا» الموقف، فيستخدمون القضية، قضية إحدى الأقليات؛ ليشوهوا سمعة العراق في جنيف، ويحولوا دون دخوله في عصبة الأمم، فقد أخفق مسعاهم.
قوة المعارضة
كانت الحكومة البريطانية تخبط خبط عشواء. في سياستها العراقية خلال السنوات العشر التي تقدمت المعاهدة الأخيرة. وكانت تزيد بموقفها غموضا وارتباكا، وهي تحاول أن تخفي حيرتها، في ما اتخذته من شتى الخطط والأساليب، حينا متعسفة وحينا متساهلة، لغرضها المنشود. فعقدت المعاهدات، الواحدة بعد الأخرى، وهي تظن أن في كل واحدة منها الحل النهائي للمشاكل البريطانية العراقية كلها.
أما الحكومة العراقية فقد كان موقفها، خلال هذه المدة، موقف المطالب المساوم، فكانت سياستها تارة حزبية وطورا وطنية، حينا سلبية وحينا إيجابية. بل يجوز أن نقول: إن موقفها في الغالب، على اختلاف وزاراتها العشر، كان ضمنا في الأقل موقف المعارضة. فما أذعنت مرة للحكومة البريطانية، في أمر من الأمور الجوهرية، قبل أن أعدت العدة لتجديد المقاومة، وهي تستكشف موقف المعارضة لتنتفع به. وبكلمة أخرى كانت تستعين بخصومها الوطنيين على خصومها الإنكليز. أما في المقاومات الشديدة فقد كان يضطر رئيس الوزارة أن يستعفي، كما فعل جعفر العسكري مثلا سنة 1927 وعبد المحسن السعدون في سنة 1929.
ولا بد من القول: إن المعارضة - الأصلية - غير الحكومية - كانت على الإجمال تعمل بمعنى اللفظة الحرفي؛ أي إنها كانت تعارض مبدئيا على طول الخط. ولا تزال كذلك في أكثر الأحيان هي إذن قوة سلبية تضعف في المناورات السياسية، والبهرجات الوطنية، وتترزن، فتصلب، فيخشى جانيها في المواقف الوطنية الخطيرة.
ومن ذلك مسلكها القويم الشريف في ثلاث مسائل جوهرية، فقد حاربت الانتداب، ورفضت كل معاهدة عقدت عهد الانتداب، وقاومت كل المحاولات لتأسيس حكومة من المستشارين والموظفين البريطانيين، بانتداب أو بغير انتداب، تنكسف إلى جانبها الحكومة العراقية. في هذه السياسة السلبية كانت المعارضة ذات فضل جم. وقد اشتركت والحكومة بعمل واحد إيجابي، هو السعي لدخول العراق في عصبة الأمم. فإذا حصرنا النظر في هذه الأمور توجب علينا أن نقول: إنها سديدة الخطة، شريفة النزعة، وإنها من هذا القبيل في مستوى واحد والمعارضة في بريطانيا وفي غيرها من الدول الراقية.
بيد أن المعارضة العراقية لا تنظر بالعين الواحدة إلى تطور العراق، ووضعيته الحاضرة. فهناك حزب يسقط من أهمية هذا التطور، وحزب لا يرى فيه شيئا مهما أو نافعا. وما أهمية العضوية في عصبة الأمم، وما الفائدة منها؟ إني أشارك المعارضة في هذا السؤال. ولكني أذكرها أن ما أحد من الحكوميين أو من المعارضين حسب دخول العراق في عصبة الأمم خطوة كبيرة مهمة. وإن كانت كذلك فلكونها خطوة لغرض أكبر وأهم، هو إلغاء الانتداب.
وقد ألغي الانتداب، وحلت محله معاهدة لخمس وعشرين سنة، والمعارضة لا تزال تحتج، ولا تزال تعارض. بل هي تحسب نفسها في بداءة الجهاد مرة ثانية؛ لأنها ترى في معاهدة سنة 1930 شبيها بالانتداب، بل شرا منه. فالذي يقرأ المعاهدة فقط يقول إن المعارضة متعنتة متعسفة. ولكنه بعد أن يقرأ الملحق يرى في موقفها ما يبرر الحذر والخوف.
وثمة ذيل للملحق هو من الأهمية بمكان. قرأت الوثائق الثلاث قراءة المتعلم علما جديدا، فذكرتني بقصة البدوي وجمله.
أضاع بدوي جملة فاستجار بالله ثم نذر قائلا: إن أرجعت لي جملي، ربي، بعته بدرهم. وبعد أيام وجد البدوي جمله، ففكر في ما قال؛ إذ كيف يبيع جمله، وهو زين الجمال، بدرهم واحد؟ راح إلى الإمام يعرض الأمر ويستشيره. فأطرق الإمام، ثم أزاح عمته ومسح جبينه، وقال: إن الله سبحانه وتعالى يريد خلاصك وخلاص جملك عن يدي، فاسمع، فسمع البدوي مستبشرا، وجاء بهر فربطه بذنب الجمل، ونزل به إلى السوق ينادي: الجمل بدرهم والهر بألف، وبيع الاثنين معا! كما علمه الإمام. فقال الناس مدهوشين معجبين: ما أحسن هذا الجمل، وما أرخصه، لولا ذاك المعلق بذنبه!
إن في ذنب المعاهدة هرين بدل الهر الواحد. وما هما - أي الملحق وذيل الملحق - من بنات فكر عابث ولا هما بدعة من بدع الخيال. إنما هما جزءان كريمان سويان مكملان للمعاهدة، ولا يستحيل تفسيرهما والدفاع عنهما. فالسر فرنسيس همفريس آخر مندوب سام، وأول سفير بريطاني في العراق، هو أحد أبوي المعاهدة، فخليق به الشرح والتفسير.
قال السر فرنسيس يحدث المؤلف: إننا نرحب بالانتقاد العادل وبالمؤازرة، ولا نريد أن نكون دائما مستشارين. بل نرغب بالمشورة والنصيحة لخير العراق وخيرنا، فنحسن السياسة في السنين التي يجب علينا نحن والعراقيين أن نجتازها معا. أما المعارضة فهي مفيدة متى كان رائدها العقل والنزاهة، وغرضها البناء لا التدمير. ولكنها في مقاومة المعاهدة بعيدة على ما يظهر عن الاثنين. خذ القوة الجوية. نحن نريدها في العراق لسببين، الأول هو مساعدة العراق داخلا، في قمع الفتن مثلا، والثاني هو مشاركة العراق في الدفاع عن حدوده. وسنساعده في إنشاء وتنظيم سلاح الطيران، فيصير لديه بعد خمس سنوات قوة جوية عراقية. الهنيدي هي اليوم لنا، وستصبح بعد خمس سنوات للعراق. سنعطيه إياها بخسارة ثلث قيمتها الأصلية. أما الدفاع عن حدود العراق، إذا اعتدي عليه من الجهة الشمالية مثلا، فهو أهم من مساعدتنا له في شئونه الداخلية. وإن وجود القوات البريطانية الجوية في العراق لازم لذلك. فمن أصعب الأمور أن ننقل جيشا بمعداته الكاملة من البصرة إلى داخل البلاد، ثم إلى الحدود الشمالية. هي طريقة قديمة وبطيئة وكثيرة النفقات. أما، ومركز الطيران موجود، فيمكننا أن نجلب القوات اللازمة للدفاع بوقت قصير - بالطائرات - من مصر أو من لندن .
قلت: وهل القوات الجوية البريطانية في العراق لخير العراق فقط؟
قال: كلا. الفائدة مشتركة متبادلة. وإلا فما معنى العقد، ما معنى المعاهدة؟ قلت: إن وجود قواتنا الجوية في العراق هو لسببين، فينبغي أن أصحح ذلك. إنما هو لثلاثة أسباب. وما السبب الثالث بأقل أهمية من السببين الآخرين. فالقوات الجوية البريطانية في العراق لازمة لتأمين خط المواصلات الإمبراطورية.
ثم تطرقنا في الحديث إلى ميناء البصرة وسكة الحديد وكان قد أنشأهما البريطانيون خلال الحرب العظمى ثم حولا إلى العراق فقال السر فرنسيس: هي مسألة تجارية، محض تجارية. وقد تساهلنا في التسوية الأخيرة تساهلا يذكر. قبلنا في الميناء ما طلبته المعارضة؛ أي أن يكون ملك الحكومة العراقية مباشرة، وأن يكون الثمن اثنين وسبعين لكل من الروبيات (480 ألف جنيه إنكليزي)، ثم جعلنا الفائدة 6 بالمائة غير مركبة لعشرين سنة. وبمثل هذا التساهل تسوت مسألة سكة الحديد التي أصبحت ملكا لحكومة العراق. أما مجلسا الإدارة لشركة الميناء وشركة السكة، فقد جعلنا كلا منهما مؤلفا من خمسة أعضاء: اثنين عراقيين، واثنين بريطانيين ورئيس تعينه الحكومتان بالاتفاق بينهما. إلا أننا طلبنا، لأسباب عملية تقنية، أن يكون مدير سكة الحديد الحالي - وهو إنكليزي - الرئيس الأول لمدة خمس سنوات. ولكان من العدل - ونحن الدائنون - لو طلبنا أن يكون مدير المجلسين من الإنكليز لمدة الدين كلها. ولكننا تساهلنا، حبا بالاتفاق والتعاون. فيليق بالمعارضة أن تقدر - ولو بعض التقدير - هذا التساهل منا. ولما كنا متساهلين لولا أملنا بمستقبل العراق، وثقتنا بحكومته وأهله.
أما الحكومة، مهما كان لونها الحزبي، فإن ثقة السفير بها مبررة، وأما أهل العراق فهم لا يبالون بما يقوله السفراء والوزراء. فإن أنصتوا فهم لا ينصتون لمن يضعون المعاهدات إنصاتهم لمن يصوغون القوافي. كلا، فإن قصيدة حماسية لتهزهم وتستفزهم أكثر من معاهدة سياسية، جلية في عدلها ومنافعها.
أما العراق فحاله
دون التقدم حائل
حق له استقلاله
فنريده ونحاول
الكلمات للزهاوي، والصوت صوته، تعالى في تلك الحفلة الافتتاحية في المعرض، فهدر وصلصل، فضج المكان بالهتاف والتصفيق. والشاعر الزهاوي المقعد المسن إنما هو روح متوهجة تستطيع أن تقذف بنارها في صدور الناس، فتهيج وتبهر وتعمي.
إني أذكره وهو جالس على كرسي على منصة الخطابة، أمام آلة الراديو، يتلو قصيدة موضوعها الربيع. ولكن الموضوع مهما كان لا بد أن يتفتح للوطنية العراقية. إن الزهاوي لسيد موضوعه. فعندما وصل في تمجيد ربيعه إلى العراق - ولا تسل كيف وصل - تأججت تلك النار في صدره، فهزته، فنهضت به، فاستوى على رجليه، ورفع إلى السماء رأسه ويديه، وهو يردد بصوته المجلجل:
حق له استقلاله
فنريده ونحاول
فاهتزت الآلة وكادت تقع إلى الأرض.
ثم عاد تدريجا إلى سكينة الربيع وجلاله، وحاول أثناء ذلك أن يجلس، دون أن يدرك أن الكرسي ساعة وقف انزاح من مكانه، فهوى إلى الأرض بضجة مؤلمة، فسارعنا إليه نعينه، فوقف هادئا كأن لم يكن شيء، ثم صاح بأعلى صوته مرددا بيتي القصيد:
أما العراق فحاله
دون التقدم حائل
حق له استقلاله
فنريده ونحاول
ومد «نحاول» فطاولت السماء، فأذكى بها حماسة الناس.
وقد كان لهذا الحادث معناه الرمزي، الذي تمثل بعثرة الشاعر ونهوضه فما خفي عليهم. فإن تعثر العراق وسقط مرارا، وهو «يحاول»، فهو يقف حالا ويمشي، مستمرا في المحاولة. أدرك الشعب ذلك فازدادت ناره تأججا. وقد كان بإمكان الشاعر في تلك الساعة أن يقوده إلى ساحة القتال. هو ذا الشعب هو ذا السواد، هو ذا الجماهير التي تعول عليها الأحزاب السياسية في المعارك الحزبية والوطنية. أفمن العجب أن تفوز المعارضة فوزا باهرا في كل مواقفها؟
أما موقفها تجاه المعاهدة الأخيرة - موضوعنا الآن - فهو وطيد منيع. وإن لها في الرد على السر فرنسيس همفريس حججا دامغة وآراء سديدة، يصرح بها من حين إلى حين، في المجلس النيابي وخارج المجلس، زعيم المعارضة ياسين الهاشمي. وإني ملخص للقارئ بعضها.
لو وقعت الحرب بين بريطانيا والهند مثلا، أو بينها وبين تركيا أو إيران، فالعراق ينقاد إليها؛ إذ عليه أن يساعد - عملا بالمادة الرابعة - حليفته بريطانيا، فيقدم لها «في الأراضي العراقية جميع ما في وسعه أن يقدمه من التسهيلات والمساعدات، ومن ذلك استخدام السكك الحديدية والأنهر والمواني والمطارات ووسائل المواصلات كلها»، فيمسي العراق - والحال هذه - ساحة من ساحات الحرب. إذن خير له، وهو بين شرين - أي تقييد وسائل المواصلات، والمشاركة في الحرب خارج البلاد - أن يختار الشر الأصغر، وهو أن يرسل جنوده إلى ساحة القتال وتظل أسباب المواصلات كلها حرة بيده.
أما القوة الجوية البريطانية في أرض العراق، والقوات العسكرية في المطارات الثلاثة «المادة الخامسة» التي يأذن بها - لا بأس بالمجاملة - جلالة ملك العراق «وفقا لأحكام ملحق هذه المعاهدة» لحماية هذه المطارات، فهي - حقيقة وفعلا - احتلال عسكري. كيف لا، والامتيازات التي تتمتع بها القوات البريطانية، في أرض عراقية، تخرجها من حكم العراق، فلا تجري فيها أحكامه المدنية، ويعفى المقيمون فيها من الرسوم الجمركية وغيرها، هذه الامتيازات لا تكاد تكون في غير البلاد المحتلة. فلا معنى إذن للاستدراك الذي تنتهي به هذه المادة؛ إذ تقول: «إن وجود هذه القوات لا يعد بوجه من الوجوه احتلالا، ولا يمس على الإطلاق حقوق سيادة العراق.»
أضف إلى ما تقدم أن الحكومة العراقية يتوجب عليها أن تقوم «بجميع التسهيلات الممكنة لنقل القوات المذكورة وتدريبها وإعانتها»، (البند الثالث من الملحق) فإذا اضطرت الحكومة البريطانية أن تنقل أحد المطارات مثلا من مكان إلى مكان، وما كان لسكة الحديد شعبة تصل المطار الجديد بالخط الأصلي، فعلى حكومة العراق أن تمد تلك الشعبة على نفقتها، وإن كانت غير لازمة لها وغير مفيدة.
وما مطار الهنيدي الذي أشاد بصفقته السر فرنسيس همفريس؟ أيستخدمون الأرض مجانا، وينتفعون بالمطار عشر سنوات، ثم يبيعونه بثلثي القيمة التي أنفقت في تأسيسه، بدل أن يقدموه مجانا للعراق؟ بل يجب أن يقدم بمقابل الأرض التي قدمها العراق لسلاح الجو البريطاني في الحبانية.
وثمة نير في المادة الأخيرة من المعاهدة، هو تجديدها. فلو فرضنا أن المعاهدة لازمة لمصالح الفريقين المشتركة، فقد لا يرى العراق، بعد خمس وعشرين سنة، لزوم تجديدها. فماذا يفعل إذ ذاك الفريق الثاني؟
هب أن خط المواصلات البريطانية قائم على الدوام، أو لخمسين سنة أخرى، فيجب أن تدوم أسباب الحماية له، فيكره العراق على تجديد المعاهدة. وبكلمة أخرى إذا بقيت الهند في حوزة الإنكليز بعد خمس وعشرين سنة من تاريخ المعاهدة فعلى «الفريقين الساميين المتعاقدين أن يقوما، بناء على طلب أحدهما، بعقد معاهدة جديدة ينص فيها على الاستمرار، على حفظ وحماية مصالح صاحب الجلالة البريطانية الأساسية في جميع الأحوال». وإذا رفض العراق ذلك، فالمسألة «تعرض على مجلس عصبة الأمم»، وهناك البلية. فماذا عسى أن يكون حظ العراق من أحكام العصبة - ومؤامراتها؟
أما ميناء البصرة وسكة الحديد فإنهما كابوس ياسين، فقد طالما روعاه وأرقاه منذ تولي وزارة الأشغال سنة 1922 إلى اليوم. إنه حقا بطل الميناء والسكة. فمن من الوزراء العراقيين سعى سعيه ليحرزهما للعراق هبة خالصة لوجه الله. أما وقد حالت الأقدار والسياسة دون الهبة، فإن الفضل الأكبر للهاشمي في تخفيض ثمنهما نحو نصف ما كان يطلبه الإنكليز.
وليس الاعتراض الآن على الثمن وقد تحدد باتفاق الفريقين، ولا على الفائدة غير المركبة لمدة عشرين سنة، والمركبة بعد ذلك، إنما الاعتراض هو على الأغلبية الإنكليزية في إدارة الشركتين.
وهناك شروط أخرى تتعلق بمجلسي إدارة شركة الميناء وشركة سكة الحديد. فللشركة وحدها الحق في استدانة المال للتمديد وللتحسين والترميم، وفي توظيفه في حال الفيض. وعلى الحكومة العراقية أن تعقد والموظفين البريطانيين في سكة الحديد عقودا لثلاث سنوات، ولا تنتهي هذه العقود بغير موافقة الحكومة البريطانية.
هذه هي خلاصة الاتفاق لحل المشكل المالي الذي كان عقدة العقد في جميع المفاوضات والمعاهدات التي جرت في السنوات العشر الأخيرة. ولا يزال هذا الاتفاق نفسه موضوع الخلاف بين الحكومة والمعارضة. بيد أنه يظن أن الحكومة، وهي ترى فيه بعض ما تراه المعارضة من الحيف، ستنتهز الفرصة في المستقبل لتطلب إعادة النظر فيه.
أما الآن فموقف المعارضة، وإن خفت صوت أحد حزبيها، هو الموقف الأمنع والأعز. وخصوصا في ما أسلفت من اعتراضها على المعاهدة ومما تثيره من الخوف والحذر.
خذ الدين مثلا. فهو في مجموعه مليونان وثلاثمائة وستة عشر ألف جنيه إنكليزي. فلو كان بإمكان العراق أن يدفع هذه القيمة مباشرة لفعل، ولتملك ملكا تاما ميناء البصرة وسكة الحديد. وبكلمة أخرى لأحرز استقلاله. لكن الإنكليز لا يريدون المال دفعة واحدة. فعلى العراق أن يدفع القيمة تباعا، وأن يقبل بأقلية الأصوات في مجلسي إدارة الشركتين، وإن استمر الحال خمسا وعشرين سنة. أولا يجوز أن يحدث في خلال هذه السنين، ما يوجب زيادة الدين وتمديد مدته؟ أولا يجوز أن يحدث ما يحمل الإنكليز على الاستئثار بإدارة المجلسين؟ أولا يجوز أن يحدث؟ ...
ليتك، يا إنكلترا، ما كنت ذات ماض مريب في فلسطين، وفي جنوبي البلاد العربية، وفي مصر! لكان الناس إذ ذاك يثقون بك، ويشكرون الله على بركات التعاون وإياك. ولكن الخوف الأكبر والأشد، الخوف الذي تزدريه اليوم الحكومة، وتستشعره المعارضة، هو أن المجلس الإداري، السائدة فيه كلمة الإنكليز، سيستمر في تحسين ميناء البصرة، وفي تمديد سكة الحديد؛ ليزيد بالدين على العراق، ويوجب عليه تجديد المعاهدة. وبعد ذلك؟ دين كدين مصر - ولا انتداب - ومعاهدة يأبى العراق أن يجددها. فهل يلزم أكثر من ذلك لتتذرع به الحكومة البريطانية في احتلال العراق احتلالا ثانيا - عسكريا - على غرار احتلالها لمصر!
قد يكون في هذا التخوف شيء من الوهم والمبالغة. وقد تزيلهما تدريجا حكومة العراق إذا أحسنت التعيين للأعضاء العراقيين في مجلسي إدارة السكة والميناء. فإذا كان التعيين، كما هو الغالب، سياسيا - أي لإرضاء الأحزاب والملل - فيكون صاحب المعالي صاحب وجاهة وبلاهة، فالأعضاء الإنكليز إذ ذاك يستقلون في العمل - ولا غرو - ويستأثرون.
أما إذا كانت الحكومة تتجرد من الحزبية، فتعين من هم أهل لهذه الوظائف من رجال الاختصاص المجربين المدربين، والمشهورين بنزاهتهم ووطنيتهم، فلا خوف إذ ذاك على العراق. فإن أولي الوطنية والعلم والخبرة ليستطيعون، في مثل هذه المراكز، أن يحفظوا مصالح بلادهم، وأن ينقذوها من الديون الأجنبية.
بيد أن هناك غير الديون الأجنبية - هناك أعباء غير بريطانية. فمنذ ألغي الانتداب ازدادت تبعات العراق. إن جنيف لجذابة، وإنها لمقيدة. أجل، إن عصبة الأمم تصنع قيودا جديدة، قبل أن تفك القيود القديمة.
لماذا رغبت الحكومة البريطانية مثلا بإلغاء الانتداب؟ الجواب وجيز بسيط. إن المعاملة والعراق مباشرة لخير من المعاملة عن طريق جنيف. وقد كان موقف العراق في هذا الأمر موقف الحكومة البريطانية عينه. إذن علينا أن نتخلص من جنيف. وذلك لا يتم إلا بدخول العراق في عصبة الأمم. لذلك كانت مساعي الحكومة البريطانية مستمرة في هذا السبيل. وهي تعود إلى سنة 1924 عندما وقف اللورد بارمور في مجلس العصبة وقال: قريبا يمسي الانتداب غير لازم في العراق وغير مفيد؛ نظرا لتقدم البلاد السريع في الشئون الاقتصادية والسياسية. وقد ردد هذا القول كبار رجال الانتداب أنفسهم، ولا سيما السر فرنسيس همفريس الذي نصر العراق في طلبه وقال إنه جدير أن يدخل العصبة، بعد أن يؤدي الضمانات اللازمة، التي ستجدد في معاهدة تحل محل صك الانتداب.
ولكن ذلك مقيد بحقوق وشروط عصبة الأمم نفسها. فبعد أن بحث مجلسها الأعلى المسألة، وحدد الضمانات والشروط، قدمها للعراق، فقبلها، هي ذي أعباء العراق الأخرى - غير البريطانية. أما أنها أعباء ثقيلة فذلك ظاهر من المذكرتين اللتين قدمهما العراق لعصبة الأمم، قبل دخوله بخمسة أشهر.
وقد ذكرت في الأولى مسألة الأقليات، صواحب العصبة المحبوبات، فأدى العراق من أجلهن ضمانات ثلاث، عامة وخاصة وإضافية: يضمن العراق لكل شعوبه على السواء حقوقهم المدنية والدينية والسياسية. فهم في نظر القانون متساوون، لهم جميعا الحقوق نفسها، وعليهم جميعا الواجبات نفسها. ويضمن للأقليات الدينية والقومية جميع الحقوق التي يتمتع بها الآخرون. ويحق لهذه الأقليات أن تؤسس على نفقتها معاهد خيرية ودينية تختص بها، ومدارس طائفية يتعلم أولادهم فيها بلغاتهم.
وقد زيد في الضمانات للأكراد. فإن لهم الحق أن يعلموا أولادهم في مدارسهم الخاصة بلغتهم الكردية، وأن تكون اللغة الكردية لغة رسمية مثل العربية في الألوية التي هم فيها الأكثرية.
أما المذكرة الثانية فهي تختص بالأجانب وببعض الامتيازات الدولية. فالعراق يضمن للأجانب حرية الضمير والعبادة، اللهم إلا إذا كانت تخالف الآداب العامة، وتخل بالنظام. ويرحب بالمرسلين من أي دين كانوا ومن أي طائفة . ويمهد سبيل العمل للإرساليات الثقافية والدينية والطبية. ويتعهد أن يعامل رعايا الحكومات التي هي من عصبة الأمم معاملة أكثر الأمم تفضيلا لديه - بشرط أن تعامله بالمثل - لمدة عشر سنوات من تاريخ دخوله العصبة.
إن بعض الامتيازات، كالمدارس الإرسالية والطائفية، قد لا تتفق ومساعي الدولة الفتية في توحيد وتوطيد قوميتها. وهي تعرقل في الأخص مسعاها في سبيل القضية العربية الكبرى.
إذن موقف الوطنيين في هذه المسألة هو موقف سديد وطيد. وهم فيه موفقون، في الحكومة كانوا أو في المعارضة، بزعامة نوري أو بزعامة ياسين. بل قد تكون الحكومة هي السابقة، فتسعى لإلغاء هذه الامتيازات أو بعضها، عاجلا أو آجلا، عملا بسنة التطور، ووفقا لاستقلال العراق ورقيه المستمر.
عثرات التعليم الوطني
كان للسر آرنلد ولسون، الحاكم المدني بالنيابة في بداءة الاحتلال، آراء سياسية أدى العمل بها إلى الثورة. وكان له في التعليم آراء أقل ما يقال فيها: إنها مثل آرائه السياسية، رجعية استعمارية. فقد جاء في كتابه «تنازع الولاء» أن العراق لا يصير أهلا للحرية «إلا إذا أشرب المبادئ المسيحية.» هي سياسة قديمة ذهبت مع من ذهبوا في الحرب العظمى. ولكن بعض السياسيين والمتدينين، مثل السر آرنلد، ظلوا متمسكين بأذيالها، فقد حاول الحاكم المدني في بداءة الاحتلال أن يحييها ويعززها بوساطة التعليم في مدارس الأقليات.
وما أعجب تلك الأقليات، القومية والدينية، المسيحية وغير المسيحية، التي كان رؤساؤها يحومون حوله، ويزيدون بكربته في ما يدعون ويطلبون. بيد أنه كان يمالئهم ويجاملهم جميعا، من بطارقة النصارى - الكلدان والسريان والآشوريين والأرمن - إلى رؤساء اليزيديين، ومن أغاوات الأكراد إلى المرسلين والمبشرين، المقيمين والزائرين.
لقد أفسحت حكومة الاحتلال المجال للمدارس الطائفية، وعززتها، وأغدقت عليها. بل قد أعطت هذه المدارس، من الامتيازات، فوق المساعدات المالية، ما لم تكن تحلم به عهد الأتراك. فقد كانت إدارتها بيد رؤساء الطوائف، وكان مديروها في الأغلب من رجال الدين، وكان برنامجها يقرر باتفاق رؤساء الطوائف ومديرية المعارف.
استمرت هذه الحال بضع سنوات، فازدادت المدارس الطائفية، وهي تدعى في العراق المدارس الأهلية، وأمسى عددها مقدار نصف عدد المدارس الرسمية؛ أي مدارس الحكومة. فاضطربت مديرية المعارف، وحارت في أمر تلك المدارس الشاذة في إدارتها، وما اهتدت في بادئ الأمر إلى الخطة اللازمة لإصلاحها.
فكرت مديرية المعارف، ثم تشجعت، فأقدمت على العمل الذي رأت فيه العدل والمساواة؛ وذلك أنها خيرت رؤساء تلك المدارس بين أن تكون مدارسهم إما كمدارس الأقليات، وإما كمدارس الحكومة. فتعامل في الحال الأولى معاملة مدارس الأقليات، وتمنح المنح المالية ذاتها، وتخضع، في الحال الثانية، للقوانين والنظم التي تختص بمدارس الحكومة، دون أن تفقد حق اختيار المعلمين لتعليم الطلبة دين أجدادهم.
قد اختار الرؤساء الحال الثانية، إلا القليل منهم، فاستمروا يطالبون بحقوق مدارسهم المستقلة، واستمروا يحتجون، فآنسوا في بعض المتدينين السياسيين، أمثال السر آرنلد ولسون، التشجيع والمؤازرة، فراحوا يبثون دعواهم في أوروبا، فتجاوبت مجسمة في بعض الصحف هناك. العراق يحرم المسيحيين حقوقهم - العراق يفرض على المدارس المسيحية التعليم الإسلامي! ولكن حكومة العراق قالت لأصدقاء أولئك الرؤساء وأنصارهم الأوروبيين والأميركيين، وأكدت لهم، أنها تمنح أبناء كل طائفة حق إنشاء مدارس طائفية، وتوليهم إدارتها، بشرط أن يقوموا هم بكل نفقاتها. فأبى الرؤساء مكابرين.
استمرت الشكاوى والاحتجاجات تنتشر في الدوائر الدينية والسياسية، فنمت إلى إذن تقية، في الوزارة البريطانية، هي إذن الرئيس نفسه المستر لويد جورج. فاهتم واغتم لمصير تلك الشعوب المسيحية القديمة، وقام يدعو لإنقاذها. أجل، قد دعا حتى أميركا للمؤازرة «في هذه المهمة العظمى التي تفرضها علينا المدنية.»
ولكنه في موقف آخر نسي أولئك المسيحيين ونسي تلك المدنية فعندما صرح المستر أسكويث، زعيم المعارضة يومئذ، برأيه في السياسة الإنكليزية العراقية، ودعا الحكومة للجلاء عن العراق والاحتفاظ بمنطقة البصرة، نهض لويد جورج للدفاع فقال - ماذا قال؟ إن في الموصل أقليات مسيحية يتوجب علينا حمايتها؟ كلا. بل قال في البرلمان: «إن بلاد الموصل غنية بثروتها الطبيعية - غنية بالنفط.»
أما كلمته المجنحة. الكلمة التي وصلت إلى العراق، فهي تلك التي نطق بها «دفاعا» عن المسيحيين، وعن مهمة التمدن المقدسة. فاعتز بعض المسيحيين، وتضاعفت الاحتجاجات والمكابرات. كيف لا؟ وقد روي عن رئيس إحدى المدارس الأجنبية أنه قال: «لم تعترف حكومتي بحكومة العراق، ولا أنا أعترف بمديرية المعارف العراقية.»
وما خلت مديرية المعارف في تلك الأيام من بعض الإنكليز الأحرار، الذين قاوموا تلك النزعات الطائفية والدينية، وسعوا سعيا مبرورا لتحقيق خطة عصرية وطنية. أما الذي جاهد من الوطنيين الجهاد الأكبر في هذا السبيل، فهو السيد ساطع الحصري، أحد أساطين التعليم في الشرق الأدنى. ولكنه لقي في جهاده من الصعوبات أشدها.
وكانت تظهر غالبا في النزعات السياسية الحزبية التي تحكمت بالمديرية وحتى بالوزارة نفسها.
لقد ولد ساطع في صنعاء اليمن من أبوين سوريين، وتلقى العلوم في الأستانة، وهو منذ ثلاثين سنة يمارس مهنة التعليم، تدريسا وكتابة وإدارة، في تركيا، وفي سوريا، وفي العراق. أما أن في لهجته العربية أثرا من التركية فذلك لا يضير. إن حبه للعرب في قلبه، لا في لسانه. ولا أحد ينكر على ساطع الأخصائي مقدرته، أو على ساطع الرجل فضله. بيد أنه، مثل أكثر الأخصائيين، فيه بعض تزمت، فله في مسلكه خط واحد لا يعدوه، ونظر فيه يبعد ولا يتسع. لذلك ترى سجيته الكبرى في صلابة عوده، وفي حبه للنظام وقيوده. وكفى بالشطر الثاني منها قيدا للرجل العامل، عالما كان أو سياسيا، في هذا الشرق العربي. إنه في الحالين ليلقى شتى الصعوبات والمقاومات.
وقد لقي ساطع منها، وهو مدير المعارف العام، الشيء الكثير، فكان في بعض الأحايين غالبا، وفي أكثرها مغلوبا. ولا عجب، وعوامل العداء لخطته ومبادئه أكثر وأشد من عوامل الولاء، فقد كانت الأولى تتجسم حتى في الوزراء أنفسهم المعينين غالبا لإرضاء فئة من الناس، سياسية أو طائفية، وهم، وإن كانوا من السادة العارفين، غير خبراء في فن التعليم. ومع ذلك قد سلك ساطع المسلك الخشن، بما هو مفطور عليه من شدة الشكيمة، وقوة الإرادة، فأفلحت - كما قلت - بعض مساعيه، وكثر أعداؤه، فغدا في حال لا تطاق. ألا فالوزير ناقم، والحكومة مغضبة، ورؤساء الأقليات والمدارس الأجنبية غير راضين. استعاذ ساطع منهم بالله، ولبس خوذته الشبيهة بمباديه - لا تتغير - وراح ينشد الحرية.
أما وقد وصلت إلى هذه المرحلة من حياته التعليمية. وفيها مما له أكثر مما عليه، فسأعطي القارئ مثلين من عمله وأسلوبه. ليست المدارس الأجنبية كلها أوروبية وأميركية. بل هناك مدارس إيرانية - وإن قلت - تولد للعراق المشاكل والصعوبات، مثل غيرها من مدارس الأجانب، فقد كان في بغداد مثلا مدرستان إيرانيتان، وكان الطلبة فيهما - وأكثرهم عراقيون - يكرهون على لبس القبعة السوداء الإيرانية. وما القبعة بذاتها شيئا مهما. أما إذا عدت عاملا من عوامل الدعاية الوطنية، فلا يجوز التغاضي عنها. فالمظاهر الوطنية في العراق ينبغي أن تكون عراقية، حتى في المدارس الإيرانية. هذا ما قاله ساطع لنفسه، ولأعوانه، ولرئيسه. على أن التدخل في مثل هذه المسائل يولد مشاكل سياسية، فضلا عن أن الإنكليز - وبينهم وبين الحكومة الإيرانية مجاملات - لا يوافقون. فماذا بعد هذا في استطاعة مدير المعارف العام؟ إن في استطاعته أن يستنجد عقله الخصب، فاستنجده، فجاءه بحيلة، بمباراة.
أنشأ ساطع مدارس عراقية رسمية إلى جانب المدارس الإيرانية، وجعلها أحب إلى التلاميذ بجهازها وبمعداتها. جهزها بلوازم التدريس كافة - بالخرائط الجغرافية، وألواح المحادثات، ومصورات الصحة والزراعة، والكرات الأرضية، وجعل أثاثها كله جديدا. هي ذي الحيلة، بل هو ذا السحر الحلال، فقد سحر ساطع الأولاد بكراته الأرضية، وصوره الزراعية، فصار يزداد عددهم في مدارسه، وينقص في مدارس إيران، ثم كرر العمل في غير بغداد، وأنشأ في البصرة مدرسة للبنات تباري المدرسة الإيرانية، فسحر البنات هناك بما سحر الصبيان في بغداد.
يذكرني الأستاذ ساطع بحيلته هذه بقصة تروى عن ذلك الأميركي المحبوب. والمربي الصالح، الدكتور كرنيليون فان ديك. ركب الدكتور حماره ذات يوم وصعد إلى الجبل، فحياه أحد الفلاحين في الطريق، وسأله: إلى أين؟ فقال الدكتور إنه قادم إلى القرية - قرية الفلاح - ليؤسس فيها مدرستين. فقال الفلاح مدهوشا: ولماذا مدرستان دفعة واحدة؟ فأجابه ذلك الأميركي الحكيم: «حيث يذهب الدكتور فان ديك يتبعه الجزويت.»
وقد مني ساطع بغير القبعة الإيرانية التي أوحت إليه بالمباراة. مني بأستاذ إيراني ينظم الشعر. كأن روح الأكاسرة جاءت تنتقم لإيران، جاءت تخلق لساطع قضية يقضى بها عليه، فقد سأله ذات يوم وزير المعارف أن يعين هذا الأستاذ الشاعر، معلما في إحدى المدارس. فرفض ساطع الطلب؛ لأن الشاب أجنبي، فقال الوزير: «سيتجنس بالجنسية العراقية.» ثم جاء الشاب يسأل ساطعا كم الراتب؟ ويقول: إن تغيير جنسيته هو أمر خطير. لقد كان التغيير موكولا بالراتب، حسب الظاهر، وكان الراتب محببا إليه التغيير. فصار عراقيا، ثم صار معلما في إحدى مدارس العراق.
ولكن حب بلاده، الرابض في فؤاده، استفاق بعد بضعة أشهر، فهيج فيه القريض، فنظم قصيدة باللغة العربية تبدأ بمديح إيران وتنتهي بهجو العراق وأهله وحكومته. فلا الجنسية، ولا العشرون دينارا، تفسد حب الأوطان. إلا أن قصيدة واحدة تكفي لتسلب الشاعر راحة باله - ووظيفته.
لقد عزل ساطع الشاب من وظيفته، فغضب الوزير وطلب أن يعاد إليها. فأبى ساطع، فأصر صاحب المعالي، ثم رفع القضية إلى جلالة الملك.
ولماذا يزعج الملك بمثل هذا الأمر، وهو من خصائص مدير المعارف؟ سأل ساطع نفسه هذا السؤال ثم، التمس إجازة بالسفر، وهو يقول: لهم أن يفعلوا ما يشاءون في غيابي. وكذلك كان، فقد أعيد الشاب إلى وظيفته لإرضاء صاحب المعالي، وأعفي منها بعد عشرة أيام.
وكان ساطع بعد عودته قد أدرك الحقيقة في حياته التعليمية، وهي أنه قرمية من السنديان، والحكومة تريد عيدانا من القصب أو من الخيزران. فاستعفى ساطع وتعين بعدئذ مديرا لكلية الحقوق.
مبارزة في علم التعليم
دعت الحكومة العراقية لجنة من الأساتذة الأميركيين المتخصصين بشئون التربية يرئسها الدكتور بول منرو، مدير المعهد الأممي وكلية التربية في جامعة كولمبيا بنيويورك، لدرس شئون المعارف في العراق واقتراح الإصلاحات اللازمة. فجاءت اللجنة، في آخر شباط سنة 1932، وعادت إلى بلادها في آخر نيسان، بعد أن قضت شهرين في ما تسميه «الكشف التعليمي» فزارت مدارس بغداد وغيرها من المدن، وبعض مدارس القرى والعشائر ، فوصلت جنوبا إلى البصرة، وشمالا إلى الموصل، ثم وضعت تقريرا قدمته لوزارة المعارف، بسطت فيه مشاهداتها وآراءها، ثم اقتراحاتها الإصلاحية.
وبما أن الأستاذ ساطع الحصري كان المدير العام في الدور السابق، ومن المسئولين - رسميا - عما آلت إليه أحوال المعارف، نهض للرد على التقرير، فجاء رده في 150 صفحة وقد ختم برسائل منه إلى الأستاذ منرو ومن الأستاذ منرو إليه، لا تخلو من الإشارات المزرية، والكلمات الوجيزة اللاذعة.
هذه هي المبارزة التي استوقفتني، فأغريت بها. قرأت الكتابين، لا كطالب علم من العلوم الاختصاصية، بل كمتفرج تروقه المبارزة بين عقليتين الواحدة غربية والأخرى شرقية، وهو يتمنى الفوز - لا أكتمك ذلك - للثانية. فهل كان ما تمنيت؟ لا، وا أسفاه! ولا كان ما خشيت، فقد نسي فارسي المغوار خصمه غير مرة، فوقف، ورمحه مخفوض؛ ليشرح حال رجل مغبون مجروح. وبكلمة أخرى قد حالت شخصية الفارس العربي دون هدفه، فما كان سيره إليه متصلا، ولا كان طعنه دراكا؛ ليوقع بالخصم ما كنت أتمناه.
أقف ها هنا في المجاز. إن بين العقليتين فرقا ظاهرا أصليا. فالواحدة تثق بمقدرتها، والثانية تتهمك في إثباتها. قد لا تكون العقلية الأميركية أقوى وأمتن، ولكنها أكثر تجربة وتمرنا. إن العقلية العربية في ترجيعها - اسمح بالاستعارة - وفي وقفاتها الشخصية، تفسح لمناظرها مجالا للتبريز. أو أنها تمضي طليقة فتجول جولاتها الواسعة، وهي تهتز وتعتز، فتبعد عن هدفها، أو تضيعه، أو تنسى الخط الأقصر إليه. أما العقلية الأميركية فهي تقف مكانها، ثابتة فيه، قانعة به، مسرورة حتى بحدوده، فتضرب وتناضل بقوة مذخورة، دون أن تجازف بشيء من تلك القوة في الجولات اللامعات. هي لا تعنى بروائع الوثبات ولا تقيم لها وزنا، أو أنها تخشى أن ينكشف ما قد يكون كامنا من سخف في درعها، فتكتفي في النهاية، وهي تبتسم ابتسامة الاطمئنان، بأن تعد طعناتها الصائبة، وأن يحسب فوزها فوزا نسبيا.
تقول اللجنة في مطلع تقريرها إن التعليم في العراق تقدم، في عشر سنوات، تقدما، يذكر ويدهش، على ما اكتنفه من الأحوال السياسية. وإن هذا التقدم يتجاوز النطاق الخارجي، الآخذ بالتوسع، الشامل في الوقت الحاضر المناطق الكردية واليزيدية، وغيرها من مناطق الأقليات في البلاد. فإن مخصصات المعارف في ميزانية الدولة - وإن كانت لا تزال صغيرة - قد تضاعفت في السنوات العشر الماضية. ولكن النقص في نظام التعليم، ومواطن الضعف فيه، لا تتعلق بالميزانية، في نظر اللجنة، بل هي تقنية وإدارية. وأولها هو «التمركز التام في الإدارة»، ذلك التمركز المقرون بنظام للتفتيش «شديد الصلابة» فيحول دون الخروج «عن الأشكال المقررة». وبكلمة أوضح، إن ما يصلح لمدرسة في بغداد مثلا لا يصلح لمدرسة قروية أو لمدرسة في سوق الشيوخ.
وما الذي دعا أولي الأمر لوضع هذا النظام؟ تقول اللجنة: هم «ادعاؤهم» أن وحدة البلاد القومية لا تتم وتتعزز إلا بتوحيد خطة التعليم. وهذا التوحيد يتوجب التمركز في الإدارة العامة.
أما اللجنة فهي «تناقض هذا الادعاء الرئيسي» وتتطلع إلى قلب الموضوع؛ أي إلى الغرض من التعليم. فإذا كان الغرض منه تحسين معيشة الناس في الأمة جمعاء - وهذا رأي اللجنة - فمن الضرورة أن تشرك السلطات المحلية في نشأة وإدارة المدارس «لتحمل الآهلين على الاهتمام بها، وعلى تقديم المساعدات المالية اللازمة لها.»
ومن الآفات الكبرى أن يعتقد الطلاب أن الغرض الأول من التعليم هو التوظف في الحكومة. فإن هذا الاعتقاد لا يربي في الناشئة وطنية صحيحة. تقول اللجنة: إنها ما رأت ما يستحق الذكر من الوطنية الحقة بين الطلبة والأساتذة. إنما هناك وطنية سلبية تقصر على العداء لكل نفوذ أجنبي في البلاد.
ثم تقول: إنها وجدت الحالة الخلقية في المدارس غير مرضية «الوزارة تعلم ذلك، وقد طردت 37 معلما لسلوكهم المريب»، وإن الحالة الصحية لفي حاجة شديدة إلى الإصلاح، وإن الرياضية البدنية تكاد تكون مفقودة. أضف إلى ذلك آفة في برنامج التعليم، هي تعدد مواضيعه، وأخرى هي الاتكال على الذاكرة، دون عناية تذكر بتدريب قوتي النظر والفهم.
إن في أوضاع سكان العراق حقيقة مخوفة، وهي أن الثلثين بالتقريب من العشائر والقبائل المقيمة والمنتقلة، والثلث الواحد من الحضر. لذلك يتعقد مشكل التعليم. فالخطة الرسمية القاسية التي لا تلين وتتنوع لتشمل مناطق الريف والعشائر، وتتناسب ومحيطها، هي خطة غير سديدة، هي خطة ناقصة، وقد تضر ضررا جسيما.
ذلك ما تراه اللجنة. وهي تسهب في بحث أحوال المدارس في القرى وفي العشائر، وتستعين بما كتبه في هذا الموضوع الأستاذ فاضل جمالي مرشد المعارف بالأمس، ومدير المعارف العام اليوم. والأستاذ الجمالي شيعي المذهب، عصري الفكر، نيويوركي الثقافة، عربي الروح، الذي عاد من أميركا غانما ظافرا - غانما زوجة فاضلة، وظافرا بالعلم النظري والعملي - قد جعل عشائر العراق موضوع أطروحته لإحراز شهادة الفلسفة من جامعة كولمبيا. هو إذن أخصائي في الموضوع، فلا عجب إذا استعانت اللجنة به.
والاثنان - أي اللجنة والجمالي - متفقان في أن منهج الدراسة الرسمي المتبع في المدن لا يصلح لمدارس القرى، والمتبع في القرى لا يصلح لمدارس العشائر. قالت اللجنة: «على المدرسة أن تتناسب وحاجات الأهالي التي تؤسس بينهم ومن أجلهم.» وعملا بهذا المبدأ اقترحت اقتراحات في الإصلاح سديدة قيمة.
ها هنا ينتهي كل ما هو واضح صحيح محقق في تقرير اللجنة، ويبدأ التذبذب والتعثر وجمجمة الكلام، فقد وصلنا إلى مدارس الأقليات، العنصرية منها والطائفية، وصلنا إلى العقبة الكئود، إلى المشكل المعقد تعقيدا شديدا، إلى المسألة الخطيرة بما يكتنفها من عوامل السياسة والثقافة. فاللجنة تخشى أن يكون حل هذا المشكل غير ممكن في الوقت القصير القريب، وأن يستغرق حله سنين عديدة.
ثم تجيء بتصريحين هما من الأهمية بمكان. أولهما: «أن في تقاليد العرب وتاريخهم ما يثبت تساهلهم وحسن معاملتهم للأقليات العنصرية الدينية.» والثاني: «أن الأقليات العنصرية والطائفية طالما ولدت المشاكل الخصبة بعوامل التفريق والعداء، فسببت التدخل الأجنبي في شئون البلاد؛ لتحقق أغراضها الخصوصية، الدينية، أو الاقتصادية، أو السياسية.»
إذن، العرب متساهلون والأقليات مشاغبون. ولكن اللجنة تكتفي بما تقدم منها، فهي لا تستنتج شيئا، ولا تحكم بشيء. إنما تقول: «لا علاج عند اللجنة تقترحه.»
بيد أنها تثني على الحكومة القائمة على مبدأ التساهل والمساواة في المساعدات المالية لمدارس الأقليات، وفي إرسال طلاب منها ليكملوا دروسهم في أوروبا وأميركا، ثم تقول بعد ذلك: «لو أذنت الحكومة لتلك المدارس بأن تغير بعض التغيير في برنامج التعليم الرسمي، أو تضيف إليه ما تراه لازما لحفظ تقاليدها، ومتناسبا ومحيطها، لأحسنت عملا، ولكان تساهلها كل ما هو منتظر أو مطلوب.»
هذا الاقتراح تبديه في شيء من التحفظ والحذر، ثم تستجمع شتات الحزم والجرأة لتقول إن برنامج الحكومة مثقل بالمواضيع، وإنه من الخطأ - نظرا وعملا - أن يزاد بثقله. إذن، لا يجوز لمدارس الأقليات أن تضيف شيئا إليه. هي ذي النتيجة المنطقية. ولكن اللجنة ترى أن تخفض الحكومة البرنامج الرسمي - تسقط من مواضيعه - لتمكن الأقليات من إضافة ما تريده إليه! وبعد أن تطلب هذه الامتيازات لمدارس الأقليات تحذر من المحاباة في امتحانات الحكومة، وتنصح بالمساواة في الامتحان والتعيين بين خريجي هذه المدارس والمدارس الرسمية.
بهذه الخطوات البطيئة الخفيفة الوقع تتقدم اللجنة إلى غرضها الأكبر، فتفلت الهر من الكيس، كما يقول الإنكليز. فاسمعي، يا حكومة العراق: «إذا كانت الأقليات أو الإرساليات الأجنبية الدينية - المسيحية طبعا - تريد أن تنشئ مدارس مستقلة، فلا تطلب الامتيازات لا لها ولا لخريجيها، فلسنا نرى ما يوجب رفض طلبها.»
هذه الكلمات تعود بنا إلى الفصل السابق، وفيه رأي السر آرنلد ولسون أن العراق يحتاج إلى خميرة مسيحية، وإلا فهو ليس آهلا للحرية والاستقلال. فاللجنة تتفق والسر آرنلد. إن لم يكن صراحة فضمنا. أجل، إن الأميركيين مثل الإنكليز من هذا القبيل. أو أنهم يجاملون الإنكليز، فقد يكون أعضاء «لجنة الكشف التعليمي» دروينيين أو لا أدريين في بلادهم، ولكنهم - في هذا الشرق - مسيحيون.
أول ما يراه الأستاذ ساطع الحصري في التقرير هو أن معلومات اللجنة ناقصة مشوهة، وأن كشفها سطحي، فجاءت بكثير من الاستنتاجات المخطئة، والأحكام الجائرة، والاقتراحات الفاسدة؛ ولذلك أسباب هي على الإجمال:
الوقت الذي قضته اللجنة في الكشف كان قصيرا.
الجو الرسمي الذي أحاط بها كان مفعما بالتحيز.
الزيارات السريعة، الشبيهة برحلات السياح، لبعض المناطق.
إغفال اللجنة التقارير التي أصدرتها مديرية المعارف، أو حبس المديرية هذه الوثائق الرسمية عن اللجنة.
فلو أنها اطلعت عليها لما كلفت نفسها النصيحة ولاستغنت عن كثير من الاقتراحات.
يرى ساطع أن في الجو المفعم بالتحيز والتحزب، وفي جهل اللجنة تقارير المعارف، برهانا ساطعا، على أن هناك حملة مدبرة عليه، فقد لفتت أنظار اللجنة إلى أشياء فيها نقص وعوج، وما أشير إشارة إلى النظم والتقارير المعدة لإصلاحها. هي تهمة يثبتها الأستاذ بالوثائق، ويؤيدها بالبراهين، فيضيع في ذلك أكثر ما تستحق من الوقت والاهتمام. إن هذه الناحية من رده تضعف موقفه في المبارزة. هي ناحية شخصية لا ينفع الاسترسال فيها، ولا يضير إهمالها.
لنعدها إذن إلى المسائل الجوهرية. يقول الدكتور منرو: «إن في التعليم طريقتين، الطريقة التي تصنع من الطلاب رجالا للدولة، والطريقة المعروفة بالتعليم الشعبي أو العام. وهذه لا تزال غير معروفة في الشرق.» هي كلمة حق. ولأمن الأستاذ ساطع عليها لو لم يفته - على ما أظن - معناها، فرأى الإسهاب لازما فجاءنا بعشر صفحات ليثبت بالبرهان أن التعليم الشعبي العام كان معروفا في الشرق - في البلاد الإسلامية - قبل أن وصل إلى الغرب بمئات السنين، ثم جاء بمثال مما تبقى من أثره وهو مدارس الملالي؛ أي مدارس المساجد. هذه المدارس الدينية التي يخصها الدكتور منرو ببضعة أسطر من تقريره، يشجبها الأستاذ ساطع بعد الإطناب، ولا يسأل الله لها غير - السلامة.
فهل تريد يا أستاذي العزيز، أن تبدل بخطتك الحديثة في التعليم تلك المدارس الشعبية المثلثة النعم - القرآن واللغة والحديث. لقد أسأت فهم الدكتور منرو، أو إنك بعدت في جولتك العلمية عن هدفه. إن معناه ليظهر لك واضحا جليا إذا ما قابلت بين المدارس الألمانية قبل الحرب مثلا والمدارس الشعبية الأميركية.
وثمة مثل آخر من الجدل غير المفيد. جاء عرضا في تقرير اللجنة ذكر خطة التعليم التركية «التي كانت تحتذي الخطة الفرنسية». فكتب الأستاذ ساطع عشر صفحات ليعلمنا بأن خطة الحكومة العراقية خالية من كل أثر تركي (ويعطينا اثني عشر برهانا على ذلك) وأن فيها شيئا من الأساليب والمناهج المصرية، وأنها «غير مصبوغة بصبغة لاتينية.» كأنما الصبغة اللاتينية نكبة من النكبات في التعليم.
وها قد وصلنا إلى الجوهري في الموضوع. إن جواب الأستاذ ساطع على ما قاله الدكتور منرو في التمركز الإداري لجواب سديد مفيد. إن التمركز الإداري على نوعين، الأول يتعلق بالمنهاج، والثاني بالأمور الإدارية والمالية. وقد اقتصرت مديرية المعارف على النوع الأول، وسعت لأن تشرك البلديات في الأمور الإدارية والمالية. بل اقترحت قانونا يجيز للبلديات فرض بعض الضرائب على الأهالي؛ لتصرف في تحسين أحوال المدارس. ولكن ذلك الاقتراح لم يعمل به لأسباب سياسية وغير سياسية.
وكذلك أدركت مديرية المعارف، قبل مجيء اللجنة، أن مدارس القرى تختلف عن مدارس العشائر، وأن المنهاج الرسمي بحذافيره لا يصلح لا لهذه ولا لتلك، وباشرت النظر في أمره. أما التمركز الإداري حتى في نظام المعارف ومنهاج التعليم، فما هو بتمركز صلب شديد. فالمهم المهم فيه أن بعض المواضيع الحيوية اللازمة لشعوب العراق كافة على السواء، ينبغي أن تعلم في كل مدارس العراق تعليما واحدا، وينبغي ألا يعلم ما يناقضها أو ما يولد روح التنابذ والتخاذل بين مختلف عناصر الأمة. هو ذا الأمر الذي تذبذبت اللجنة فيه، وجمجمت الكلام، ثم اقترحت الاقتراحات من أجل المدارس الأجنبية والطائفية. فكان موقفها مضطربا متزعزعا، وموقف الأستاذ ساطع وطيد الأركان.
أما مسألة التفتيش فبدل «الصلابة الشديدة» التي يذكرها الدكتور منرو متخوفا «نجد مئات من الوقائع التي تدل على الرخاوة الكثيرة» هذا ما يقوله مدير المعارف السابق. ومن أقام في البيت بضع سنوات هو أدرى بما فيه ممن جال فيه جولة قصيرة. هذه الحقيقة يعززها ساطع بالبرهان. فهو نفسه، لا أحد مفتشيه، رأى في مدرستين، في جوار بغداد - وكانت المسافة بينهما أقل من نصف كيلومتر - أن إحداهما كانت تعمل لأربع سنوات مضت بموجب تقارير وزارة المعارف، والثانية كانت تجهل بتلك التقارير. فأين «الصلابة الشديدة» في التفتيش؟
وها قد وصلنا في هذه المناظرة، إلى ما قد يكون مشكل التعليم الأكبر في العراق. فالغرض الأول من تأسيس المدارس في هذا الزمان هو إنشاء أمة عراقية عربية موحدة، وطيدة الأركان، ومشبعة بروح الوطنية التي تتجسد في الأعمال - في الخدمة والبذل - كما تقول اللجنة.
أما الأستاذ ساطع فهو يقول: إن اللجان والمعاهد الأجنبية لا تستطيع أن تساعد العراق في مثل هذه المهمة الوطنية. أما الأقليات فيمكنهم أن يساعدوا، ولا بد من أن يساعدوا، اللهم إذا تركوا وشأنهم، فلا يفسد عليهم الوطنية والحياة المرسل الأجنبي، والمهذب الأجنبي، والسياسي الأجنبي. وإن اقتراحات اللجنة في هذا الأمر تعرقل عوامل التضامن وتعوق التوحيد.
إننا نسلم بوجوب تناسب التعليم مع حاجات الناس، وبوجوب إنشاء المدارس وفق بيئتها، وبوجوب تكييف منهاج التدريس لتلتئم والأحوال المحلية الاجتماعية والاقتصادية. إننا نسلم بكل ذلك. وإننا لذلك نقول لحضرة الأساتذة الأفاضل المشتركين في وضع هذا التقرير: إن في بيئات البلاد سيطرة أجنبية، وإن أحوال البلاد توجب القضاء على هذه السيطرة، وإن أول حاجات الناس، في أي بلد كان، هي أن يكونوا أحرارا مستقلين، وإن هذا المثل الأعلى في الوطنية لا يدرك ما دام الأجانب مسيطرين سياسيا واقتصاديا في البلاد. ونقول كذلك إن مواهب أبناء البلاد وآدابهم - ما دام الوطن في هذه الحال - لا تبلغ الدرجة العليا المنشودة. تلك هي حال البلاد، وحاجات أهلها. وتلك هي طعنة ساطع الأخيرة في سبيل التعليم الوطني.
بعد ذلك يقف المتبارزان ويبتسمان ابتسامة الاعتذار والمجاملة. فإن الأستاذين الفاضلين - صديقي العربي والأميركي - في سوى ما تقدم، متفقان. ولكن الأستاذ ساطعا لا يستطيع، وهو يخاطب اللجنة ورئيسها، أن ينسى خصومه السياسيين ببغداد. وكيف ينساهم؟ وهم الذين أرادوا إذلاله في جلب هذه اللجنة الأجنبية، وهو الأخصائي الوطني في التعليم والتربية، وهو العالم العامل، المجرب المدرب، واسع الاطلاع والخبرة في موضوعه - بشهادة خصمه الأميركي - كيف ينساهم وهم يزدرونه ويحملون حتى الملك على إهماله وهجره؟ أفينتظرون منه بعد كل هذا، أن يقابل اللجنة المحترمة بوجه باسم، وقلب هادئ، وعقل مستكن؟! أبشر هو أم إله؟ لا ورب الكعبة، إنما هو عربي، يغضب ويصول، ويكتب الفصول، في الدفاع عن نفسه وعن علمه. ولا يلام إذا ما دقق في التشريح، ولا يؤاخذ بالشيء القليل أو الكثير من التعنت. فهو - دام فضلك - أستاذ، وهو أخصائي!
والغريب في هذه الكرامة المجروحة أنها تعدي، فقد سرت منها جرثومة إلى الخصم الكريم، الأستاذ الأميركي الأفضل، الناشئ بين ثلوج العقل، المشرب روح القطب الشمالي. نعم، سرت إليه، فتحللت عقدة النفس المربوطة المضبوطة. فأسمعنا في جوابه الوجيز، تحت صليل سلاحه العلمي والعقلي، همسات قارسة. بل جاءنا، في كلمتين، بقطرتين من حامض الكربونيك. «كنا نتوقع منكم هذا الموقف الانتقادي ... والكثيرون من رجال الحكومة ودوائر المعارف أنذرونا سلفا بمقاومتكم ... نعم لقد كان هذا الموقف معلوما قبل أن تطلعوا على التقرر. وذلك ما يخفف من حدة المقاومة، ويذهب بلذعة الانتقاد.»
ثم رد الأستاذ على الرد فكان شاكرا حامدا مبتهجا. وكيف لا يبتهج، ورئيس اللجنة نفسه يعترف بما فيه الدليل على تلك الحملة المدبرة! فإن أولئك الذين أنذروا اللجنة هم زملاء من سعوا لجلبها «للكشف التعليمي». فلا يلام أحد سواهم إذا ما انقلب الكشف عليهم وغدا تكشيفا! بيد أن الأستاذ ينكر أن في ما كتب شيئا من الحقد أو سوء القصد. وهو يؤكد للدكتور منرو أنه ما فكر في انتقاد اللجنة قبل أن قرأ تقريرها.
ثم عاد المتبارزان إلى الابتسام، فقد أحس الدكتور منرو ببعض التعزية في أن ساطع بك لم ينتقد ما وضعته اللجنة من الاقتراحات العامة الأصلية. «وفي ذلك ما يحملني على الأمل أن موقفكم العدائي لن يتصل بجهود الشبان الذين سيعهد إليهم بتنفيذ هذه الاقتراحات. إن هؤلاء الشبان يحملون مثلي في قلوبهم أكبر الاحترام لاختباركم الكثير، واطلاعكم الواسع ... ويعرفون أن ما بذلتموه من الجهد والمقدرة في وضع نظام المعارف الحالي هو أكثر من أية خدمة أقوم أنا بها بوساطة هذا التقرير.»
فأحنى الأستاذ ساطع رأسه دون أن يبتسم لابتسام الأستاذ منرو، ودون أن يقتدي به في المجاملة. فإنه يعرف أولئك الشبان - وهم عراقيون كملوا دروسهم في جامعات أميركية - هو يعرفهم كل المعرفة. «وقد عودتهم على سماع آرائي فيهم بكل صراحة ... غير أني أعتقد أن أكبر مساعدة معنوية أستطيع أن أسديها إليهم الآن هي السعي لتوسيع أفق ملاحظاتهم فتتعدى الدائرة الضيقة التي هم فيها، ولحملهم على تدقيق الأمور بنظرة محلية تستمد أنوارها مما يجري في جميع بلاد العالم، لا مما يجري في قطر من الأقطار على وجه الانحصار.»
أقف ها هنا والأستاذين الأخصائيين في التعليم وفي المبارزة، واستأذنهما بكلمة أنقلها من التقرير، لأختم بها هذا الفصل. وهي في نظري من أحسن ما جاء فيه، فتحدد التعليم تحديدا ملما مستوفيا، تحديدا شاملا يصح في روسيا أو في الصين، كما يصح في العراق. جاء في التقرير (صفحة 101):
إن مهمة التعليم هي بث العلم الصحيح بين عموم الناس بقدر ما تأذن الأحوال من الاطراد والتوسع؛ لينقذهم من الأمية والفقر والأمراض والخرافات، ويقوي ثقتهم بأنفسهم، وبمستقبل بلادهم، ويزيد في إنتاجهم الاقتصادي والزراعي. وبكلمة أخرى؛ ليضمن العيش الهنيء للشعب، والفلاح للأمة.
إن هذا التحديد لمهنة التعليم هو أحسن ما قرأت، وأحسن ما أختم به هذا الفصل. وإني أحب في آخر الختمة أن أعيد وأمكن هذه الكلمات: «لينقذهم من الأمية والفقر والأمراض والخرافات.»
في واحات الشعر
ليس في العالم العربي اليوم، لا في العراق ولا في سوريا ومصر، لغة للشعر جديدة بأجمعها - بمعانيها وبمبانيها، بأساليبها وفنونها، بأغراضها ومصادر وحيها. فإنك لا تجد بين الشعراء العراقيين أو السوريين أو المصريين شاعرا من طبقة الشعراء الأوروبيين الحديثين في نطاقهم الرحب، الاجتماعي والوجداني، الطبيعي والروحي - شاعرا مثل إميل فيرهارن البلجيكي، أو وليوم بايتس الأرلندي، أو جان ماسفيلد الإنكليزي، أو روبرت فراست الأميركي.
وكل واحد من هؤلاء الشعراء يختلف عن زميله بالأسلوب الشعري، والأغراض الشعرية، ويتفق وإياهم في الخروج من قديم الأوضاع والمواضيع. هم الأعلام لشعر جديد في أوروبا وأميركا، قد يستغرب عندنا وقد لا يرى فيه القارئ العربي المحب للشعر، المتذوق محاسنه، ما يستسيغه. فالصور فيه جديدة، قليلة الألوان الزاهية، والأوزان قائمة بالإيقاعات التي تقع في أنفسنا وقع الألحان البدوية في أنفس المتحضرين. بيد أن له هناك منزلة عالية، لما يحتويه من مشاهد الحياة الحديثة ومشاكلها، ولما فيه من الفن الفكري.
وقلما نجد شيئا من هذا في الشعر العربي. قلما نجد شيئا من منازع النفس التي تحررت من قيود التقاليد، ولا تزال مضطربة حائرة، أو من أغراض العقل المكتشف الفتاح، أو من الأهواء البشرية المقرونة بتصوف، أو من الأهداف المادية التي تلحفها سحب الخيال الورع الوديع.
ولكن في الشعر العربي آثارا للتطور ظاهرة، وإن كانت لا تزال مائعة، أو ضئيلة، أو متقلقلة. وما أمر تبلورها وثبات اتجاهها ببعيد. ومما لا ريب فيه أن هذا التطور سيشمل المعاني والمباني، وعندئذ يقرأ المتأدب العربي الشعر الأوروبي الحديث ويستسيغه. عندئذ يدرك الجمال في التصوف المستحدث الذي ينبو عن التقشف، ولا يتدرع بالأوهام، ذلك التصوف القومي مثلا الذي يربط الأمم بأرواح لها ماضية، ويشعل أنوار رموزه في هيكل البعث والتجدد. عندئذ نرحب بالشعراء الأوروبيين والأميركيين كإخوان لنا في غير الأوزان والقوافي.
لقد تقيد الشاعر العربي - وخصوصا في الماضي - بكل ما هو محسوس منظور، وما تقيد في صناعته بغير القواعد والاصطلاحات الشعرية. أما تقييد العقل والتصور بشيء من الاتساق المعنوي، والتجانس الروحي، والاقتصاد في التعبير، والارتداع في مواقف الإطناب، بشيء من الذوق الفني الذي يوجب الوحدة في القصيدة، وضبط القريحة في فيضها، بشيء من التحليل الفكري والنفسي الذي يقي الشاعر هون التعميم والغلو - فكل ذلك مجهول على الإجمال لدى شعرائنا، ونادر الوجود في شعرهم.
وما الشعر العربي الحديث في مجمله غير أصداء لأصوات الشعر الماضية، وأشباح لألوانه وأشكاله. فهاكم القصيدة بوجوهها القديمة كلها - بمحاسنها اللغوية والبيانية، وبمصادر وحيها، وبقوالبها القاسية، وبمواضيعها الأبدية - المديح والرثاء، والغزل والاستجداء. أما في الجيد من هذا الشعر فقد يغلب في هذا الزمان الحماسة الوطنية، والمنازع القومية، والاكتئاب والنحيب. ها هو ذا الشاعر واقفا على الأطلال الجديدة في الأمة، وفي نفسه فيرثيها دامع العين، دامي الفؤاد. وهو يمجد الماضي، ويعدد محاسن الأجداد، فيصوغ القوافي حينا من الماء المالح، وحينا من النار والحديد. هي ذي أمة عربية مصفدة، فلتنقذها. هي ذي أمة عربية مجزئة، فلنوحدها. هي ذي أمة عربية مستضعفة مستذلة، فلنجعلها قوية عزيزة مستنصرة.
هو الصوت الأعلى لشاعر اليوم، إن كان في القدس أو في بيروت، في بغداد أو في النجف في مكة أو في القاهرة. هو صوت تخنقه العبرات حينا، وحينا يضطرم بنيران الحماسة والفخر، وحينا تتطاير منه شرار النقمة والانتقام.
وإنه ليندر بين الشعراء المبرزين اليوم من يخلو شعره من القصائد الوطنية، ومن تخلو قصيدته الوطنية من قافية هي طعنة للأجنبي البغيض، الأجنبي المفسد للمنازع الوطنية كلها، الأجنبي المستعمر. إن لهذا الشاعر، إن كان من الطبقة الأولى أو العاشرة، صوتا مسموعا في كل مكان، فيهز من النفس أصولها وفروعها، بل يضرم فيها نار الغيرة على أمة مستضعفة، ووطن مستعبد، ويحبب إليها الجهاد في السبيل الأشرف، سبيل الاستقلال والحرية.
أجل، إن صوت الشاعر الوطني لمسموع، وإن قصائده لتستذرف الدموع؛ لأنه يصوغ قوافيه كما صاغها قبله شعراء الجاهلية، ويرسلها في أوزان لها جرسها وروعتها، وما فقدت شيئا من سحرها اللفظي، وجمالها البياني. هو ذا الشيء الذي ألفه البدوي في البادية، كما ألفه ربيب المدن. ولا يزال الاثنان واحدا في تقدير هذه المحاسن الطنانة البراقة، واحدا في الشغف والطرب لدى استماعها، واحدا عندما يكون الموضوع مجد العرب المفقود، ومجدهم المنتظر المنشود.
بيد أن هذه الوطنية الجديدة تضيق وتتسع، وتشع وتصطخب، بحسب محاسن الشاعر العقلية والفنية والذوقية. وهي تسمو في بعض الأحايين، فيصفو جمالها، وتتقد لهجتها، في قصائد شاعر يحفظ التوازن بينها وبين صناعته، أو بين حب الوطن وحب الفن، فلا يرفع الواحد على الآخر، ولا يقدم الزائل على الخالد في الحياة. إن مثل هذا الشاعر ليستطيع التوسع في الوطنية، فتشمل الإنسان في منازعه، والإنسانية في غمراتها. •••
سأتحدث هنا عن أربعة من شعراء العراق تتجاوز منازعهم الشعرية الوطن والإصلاح هم الزهاوي والرصافي والشبيبي والصافي. فالأولان جابت شهرتهما الآفاق، والأخيران لا يزالان ضيقي الشهرة. وأحد الأخيرين يؤثر الإقامة على التجوال، والعزلة على الاجتماع، وفقا لمزاجه، والآخر، وقد رفع الأوتاد، يشد للرحيل، وقد يسبق في جوب الآفاق زملاءه جميعا.
إن الأربعة لمتفقون في ما يتفكك في نظمهم وخيالهم من قيود التقليد، ومختلفون روحا ومنزعا. ومختلفون كذلك في ما وفقوا إليه من التجديد معنى ومبنى.
لا ريب في أن الزهاوي والرصافي هما اليوم كبيرا شعراء العراق. وقد يختلف الناس في من من الاثنين هو أخلق باسم التفضيل، ولا يخلو الاختيار من الذوق الشخصي والتحيز. إنما الاثنان واحد في الحرية الفكرية، سياسيا واجتماعيا ودينيا. والاثنان واحد في الروح الوطنية التي تتسع لكثير من المنازع الشعرية، التقليدية والعصرية. والاثنان واحد في التحليق وفي الإسفاف. إلا أن الزهاوي يفوق الرصافي على الإجمال في علمه وخياله، والرصافي يبز الزهاوي في الصناعة والديباجة، الزهاوي في حملاته الإصلاحية مدفع رشاش، والرصافي سيف بتار. الزهاوي فيلسوف ينظم الشعر، والرصافي شاعر يهوى الفلسفة. وكفي بهذا من المقارنة والتعميم. •••
جميل صدقي الزهاوي.
جميل صدقي الزهاوي هو في السبعين من سنه الزمنية. وفي العشرين من سنه الشعرية. وهو في المصائب أبوها وخالها. على أن السنين والعرج والدرد، وغيرها من نوائب الحياة، لا تفل من عزيمته، ولا تؤثر على نشاطه، ولا تجرؤ أن تدنو من قلبه وروحه وصوته. فإذا كان لا يستطيع أن يقف كالرمح فإن في نبراته رماحا، وفي نظراته شرارا وفي نبضات قلبه إيقاعا لا يهن ولا يخل. وهو يحسن المجون، فيضحك حتى الجائع في جنازة، ويسترسل في الشجون فيبكي حتى إبليس. له لهجة الأنبياء، وما يصحبها من آيات، ومن آفات. وله في التجديف، لفظ شريف، وفي التهكم، كلمات تبكم. فهو يفتل إلحاد الخيام بشكوك المعري؛ ليصنع منها سوطا لشيطانه، ومطية لبيانه.
إن للزهاوي آثارا شعرية نفيسة. وأنفسها في نظري، وأحقها بطول البقاء، قصيدته، أو ملحمته الصغيرة، «ثورة في الجحيم» فإنه، وإن اقتفى فيها أثر شاعرين، عربي وغربي؛ ليقف في التقليد عن الفكرة الأصلية الأولى في زيارة الجحيم والنعيم. فهو يختلف عن المعري في «رسالة الغفران» وعن دانته في «الكوميديا الإلهية» فيطرق الموضوع من باب جديد، وقد جاءه كمسلم مشكك في إيمانه، وجاء في باللطائف والطرائف الفكرية والخيالية.
تبدأ القصيدة بوصف الملكين المنكرين، منكر ونكير، وقد زاراه وهو في رقدة بقبره، زيارة استنطاقية. فسألاه عن أمور كثيرة تتعلق بحياته وبدينه يوم كان في الأرض حيا، فجاملهما مجيبا على أسئلتهما بما يجيب المسلم، المؤمن بكل شيء - بالله وبالآخرة، وبالحشر والميزان والحساب، وبالجنة و- الجحيم؟ - كلا. فعندما وصف منكر الجحيم توقف الغريم بالمجاملة، فجهر بما كان في شبابه من إيمان بالنار، ومن شكوك فيها.
ثم آمنت ثم ألحدت حتى
قيل هذا مذبذب ممرور •••
ثم إني في الوقت هذا لخوفي
لست أدري ماذا اعتقادي الأخير
ويشرع بعد ذلك يصف الصراط، ويعجب بدقة صنعه، وبكيفية العبور على شيء هو كغرار السيف، أو كالشعرة.
ثم يسألانه عن الجن، الصالح منهم والطالح، وعن الملائكة الأبرار، وعن الخناس والعفاريت والشياطين، فيجيب بجواب الخائف المذبذب. فهو يرتاب بكل ما لا يدركه العقل: ثم يعود إلى المجاملة فيقول:
لم يكن في الكتاب من خطأ كلا
ولكن قد أخطأ التفسير
فلا يقتنع الملكان. ولكنهما يتساهلان معه ليمعن في كفره. فيحاول أن يغير الموضوع، فيجيء في سلسلة القصة بحلقة ركيكة. وما دخل المرأة بمجلس التفتيش الديني؟ فالشاعر يطيح من الإلهيات إلى النسائيات طيحة واحدة. بل يهبط كالحجر في بئر، يهبط من سماء الملائكة إلى السفور والحجاب! وليس في القصيدة التي تعالج مواضيع الآخرة، الإلهية والشيطانية، مجال لأمور في الحياة زائلة كالحجاب والسفور. بيد أن الشاعر في هذا الموضوع صريح فصيح، لا تذبذب في رأيه ولا مواربة.
ومن قعر بئر الحياة الدنيا يعود فيثب، وثبة واحدة، إلى السماء؛ ليجيب على السؤال عن الله، فيصفه بالمعلوم المألوف من صفاته، وهو من شكه فيه يكاد يخور، ثم يلقي بحجته، وهي أن الإنسان ولد مسيرا لا مخيرا، فإذا كان كذلك في كفره وإيمانه «فإن الجزاء شيء نكير.»
بعد ذلك يفك قيود الخوف والتذبذب، وينطق بما يظنه الحق اليقين، وهو أن الله هو الأثير.
منه هذا الوجود فاض عميما
وإليه بعد البوار يصير
كأني بالزهاوي قد استعار من الهندوس «نرفانتهم» وأسماها الأثير، ثم يتلو هذا التصريح الجمجمة إذا يرى فوق رأسه الملكين الفظيعين .
ولكل أنف غليظ طويل
هو كالقرن بالنطاح جدير
وفم مهروت يضاهي فم الليث
يريني نابا هي العنقفير
وبأيديهما أفاع غلاظ
تتلوى مخوفة وتدور
فلا عجب إذا جبن الشاعر وارتاع، وفقد حتى لغة الشعر، فنطق بالنثر المنظوم، وراح يستعطف الملكين ويرجوهما أن يتركاه، ولا يزعجاه في قبره. ولكن الاستعطاف لم يجده نفعا، فنفخ وهاج، ووقف أمام الملكين وقف السائل الحانق، لا المسئول المرتعب.
ولماذا لم تسألا عن جهادي
في سبيل الحقوق وهو شهير
ولماذا لم تسألا عن ذيادي
عن بلادي أيام عز النصير
ولماذا لم تسألا عن مساعي
لأبطال الشر وهو خطير
ولماذا لم يسألاه عن وفائه وصدقه، وعن دفاعه عن المرأة؟ ولماذا لم يسألاه عما نظم من الشعر وهو سلم المعالي كلها؟
أسكوت عن كل ما هو حق
وسؤال عن كل ما هو زور؟
ولكن المنكرين لا يهمها من ذلك شيء، فقد جاءا يستنطقان الميت في دينه وما إليه من عقائد وفرائض. وهذه هي وظيفتهما. فاستأنفا الاستنطاق، وقد وصلا فيه، إلى جبل القاف. وماذا تقول يا كافر، في يأجوج ومأجوج؟ - أقول: العقل خير مشير. العقل - فيصيح به المنكران، إنك لرجس كافر، فيلين مستعطفا، فيزدادان غلاظة، فيحاول أن يئول ما جهر به ويلطف من لهجته. بل هو يعترف أنه مؤمن. ولكن الإيمان بعد الكفر لا يفيد. قضي الأمر. حمت ساعة العذاب. فهوت المقامع على ظهره وبطنه، فأجرت من جسمه الدم، ومن عينه الدموع.
ثم صبا بقسوة فوق رأسي
قطرانا لسوء حظي يفور
فشوي رأسي ثم وجهي حتى
بان مثل المجدور فيه بثور
في هذين البيتين من ركاكة النظم مثلان، الأول «لسوء حظي» فهي من مألوف النثر والثاني «فيه بثور» فالبثور في الوجه المجدور لا تحتاج إلى إفصاح، لست أشك في أن الشاعر نفسه يدرك ذلك؛ ولكن خياله يسبق فكره وصناعته في بعض الأحايين، فيكتدهما مبتذلا ليلحقا به.
هذه ملاحظة عابرة، فما أشرت إليه هو غير قليل في القصيدة. لنواصل الآن القصة. فبعد أن يصب المنكران، فوق رأس الشاعر القطران، يوثقانه بحبل ، ويطيران به إلى الجنة؛ ليشفعا عذاب الجسد بعذاب الروح. فيرى الجنان بعينه، ويشتهي جرعة من ماء الكوثر، ويتألم في حرمانه.
أما وصفه للجنة فلا يختلف عما جاء في القرآن، وهو على إطنابه لا يتوفق إلى غير المضحك من الخيال. إن جنة الزهاوي لكمصيف من المصايف، فيها، مع الحور والولدان، كل لذيذ من مأكول ومشروب ومشموم.
فإذا اشتهيت طيرا هوى من
غصنه مشويا، وجاء يزور
وإذا رمت أن يحول لك التين
دجاجا أتى إليك يطير
أما هو فمحروم. هو زائر للعذاب لا للذة.
ولقد رمت شربة من نمير
فتيممته ففر النمير
فود لو عاد الملكان به إلى القبر، وأنزلاه إلى الجحيم. وما كان غير ذلك، فقد شدا وثاقه، وأخرجاه من الجنة، وهبطا به إلى أودية النار وأغوارها.
ووصفه للجحيم، ليس فيه شيء جديد، اللهم إذا استثنينا من يشاهد في النار، وأولهم ليلى معشوقة سمير وعروس شعره. ليلى، وما ذنبها وذنب حبيبها إلا أنهما جهلا الجحيم، فعملا عملا أوجب عليهما هذه الزيارة. ولكنهما مفترقان، كل منهما في هوة. وهذا هو العذاب الأكبر، فقد رأى الشاعر الفتاة المسكينة.
فوق جمر يشوي ونار تلظى
وأفاع في نابهن شرور
وهي تبكي، لا من اللظى والسعير، بل من فراق الحبيب.
ولو أنا كنا جميعا لخف
الخطب في قربه وهان السعير
وقد أبصر الزهاوي بين الشعراء الفرزدق والأخطل وجريرا، فسألهم عن حالهم، فقالوا: إن الهجاء سبب بلائهم، ثم بان له بشار وأبو النواس، ثم المعري الذي حياه، ثم امرؤ القيس وهو لا يزال يتصدر المجلس و«للملوك الصدور».
وقد سمع الخيام ينشد من شعره في مديح بنت الكرمة فيقول:
واصليني بالله أيتها الخمرة
إني امروء إليك فقير
أنت لو كنت في الجحيم بجنبي
لم ترعني نار ولا زمهرير
وبعد الشعراء يشاهد العلماء والفلاسفة، وفي مقدمتهم سقراط وهو يلقي خطبة:
وإلى جنبه على النار أفلاطون
يصغي كأنه مسرور
فيشرح سقراط منشأ النار، وهو أثبت القوم جأشا، ثم يقول:
سوف يقضي فينا التطور أن
نقوى عليها وأن تهون الأمور
ويرى كذلك منصور الحلاج، ويسمعه يخاطب الله ويعاتبه:
إنك الواحد الذي أنا منه
في حياتي شرارة تستطير
وبه لي بعد الظهور خفاء
وله بي بعد الخفاء ظهور
لم شئت العذاب لي ولماذا
لم تجرني منه وأنت المجير؟
فلا يستغرب بعد هذا أن يقوم من بين هؤلاء العلماء والفلاسفة من يخترع آلة تطفئ السعير، وأن تستخدم هذه الآلة في الثورة على أولياء الأمر في الجحيم. وكان الشباب أول النافخين في أبواق الثورة، المحرضين عليها، الرافعين أعلامها، فقد قام فيهم الخطباء يحملون على الظلم والظالمين ويدعون للجهاد:
قاوموا القوة التي غشمت
بالمثل والدهر للقوي ظهير
أنتم اليوم الأكثرون وأما
عدد الحارسين فهو صغير
هاج الناس في الجحيم وماجوا، فراحوا ينشدون الأناشيد، ويعدون العدة للقتال. وكان أن استوقفهم أبو العلاء المعري، فخطب فيهم، فزادهم هياجا واستبسالا.
المعري :
غصبوا حقكم فيا قوم ثوروا
إن غصب الحقوق ظلم كبير
الجمهور :
غصبوا حقنا ولم ينصفونا
إنما نحن للحقوق نثور
المعري :
لكم الأكواخ المشيدة بالنا
ر وللبله في الجنان القصور
الجمهور :
غصبوا حقنا ولم ينصفونا
إنما نحن للحقوق نثور
قامت الحرب. والتحم الفريقان زبانية النار وأهلها في القتال، وجاءت الشياطين تنجد أهل الجحيم، فاستنجد الزبانية بالعرش الإلهي، فأنجدهم بجيش من الملائكة يقوده عزرائيل. وتلاقي الجيشان، في ضواحي الجحيم البركانية، وترامى المتقاتلون بالصواعق والبروق، وتحاربوا برماح تذوب في نارها الصخور، وببحار ماؤها مسعور، وبالجبال والبراكين، فانهزم الملائكة والزبانية، وتم النصر لأهل الجحيم وحلفائهم الشياطين.
هذه هي خلاصة القصيدة، وفيها الجيد والوسط والرديء من الشعر، وفيها من الحسنات الشعرية، الخيالية والبيانية، ومن الإبداع الفكري، الفلسفي والاجتماعي، ما يشفع بسيئاتها الفنية.
وإنه ليتبين لك أن جحيم الشاعر العربي يختلف عن جحيم الشاعر الإيطالي في سكانه، فقد شاهد دانته في النار أعداءه السياسيين، وفيهم القتلة والزناة واللصوص، وما شاهد الزهاوي غير الذين أنكروا الجحيم، ولم يؤمنوا بالآخرة، وأكثرهم من العلماء والشعراء والفلاسفة - أي من أصحاب النبوغ، ومحبي الحقيقة والجمال.
هذه هي الفكرة المبتذلة التي أوحت إلى الزهاوي فكرة غير مبتذلة. ولكنه في تبيانها ما نجا من الإسفاف. فجاء وصفه للنعيم وللجحيم وصفا تقليديا، صورة دكناء، واستعاراته بائخة. وجاء التكرار في قوافيه، والنثر في كثير من صيغه. فلو أنه في تقسيمه القصيدة جعل كل قسم منها قصيدة قائمة بذاتها، يصلها حبل القصة بأخواتها، دون أن يتقيد الشاعر بالبحر الواحد، والقافية الواحدة، في أبياتها الأربعمائة والثلاثين؛ لأنقذها على ما أظن من آفات التكرار، ومن التبذل والإسفاف.
وهناك حلقة ظهرت في سلسلة الرواية كوميض البرق واختفت. وهي في نظري من أهم حلقاتها؛ لأنها جديدة فذة. أعني بها اختراع الآلة لإطفاء نار الجحيم. فإنك لتقف عندها معجبا بابتكار الشاعر، ومتوقعا أن يكون لاختراعه الأثر الأكبر في انتصار الثورة.
ولكن الشاعر نسي اختراعه على ما يظهر، فجاءت حربه في الجحيم كسائر الحروب، إلا أن السلاح فيها جبال من نار وبحور وبراكين.
عندما قرأت هذه القصيدة للمرة الأولى علقت في ذهني فكرة لست أدري كيف نشأت؟ إلا أن تكون النتيجة لإحساس طبيعي معقول، فختمت بالكلمات التالية ما كتبته عنها (باللغة الإنكليزية).
قلت في آلة الإطفاء: «إنه لاختراع عجيب، تسلح به أهل الجحيم على نيرانه، فاستحالت رمادا، الجبال منها والبراكين، والأودية والأنهار. وكان المدافعون عن الجحيم، وهم محرومون هذا السلاح، يقعون بالمئات، لا بل بالألوف، كعمد من الرمال تذريها ريح السموم. وكان رب السماوات يراقب من علياه تلك المعركة، فأشفق على جحيمه، وهو جزء مكمل لكونه، من الزوال، وعلى زبانيته من الاضمحلال. وكأنه سمع رئيس الزبانية يصيح: النجدة، النجدة! فأنجده، سبحانه وتعالى، بجيش من الملائكة الصناديد. «ولكن أهل النار الثائرين كانوا يحملون الآلات الإطفائية، فيقتحمون بها النيران، فتنطفئ في الحال، فيغيرون على العدو من خلال دخانها، وفوق رمادها، ويقتلونهم بالمئات والألوف. حتى إنهم كادوا يأسرون أمير الظلمات نفسه، فلاذ إلى العلم الأبيض، ولوح به يطلب السلم، ثم أمر جيش الملائكة المهزوم بأن يقف في تقهقره، ودارت المفاوضات بينه وبين الثوار، فقبل بشروطهم. بيد أنهم كملوا إطفاء نيران الجحيم فأمست قفرا يبابا. وركب كل واحد منهم بين جناحي أحد الملائكة، وصعدوا جميعا طائرين إلى الجنة؛ كذلك يقول الشاعر. فلا جحيم بعد هذه الثورة في الجحيم!»
فهل أنا مخطئ في هذا التحوير للقسم الأخير من القصيدة، أو فما كان ينبغي للشاعر أن يختمها؛ كذلك؟ وإلا فما معنى الاختراع إذا كان لا ينتفع به؟
أما روح الشاعر، تلك الروح التي تتجلى في القصيدة، فهي تشعل على شواطئ الشك والتهكم أنوار العقل والعدل والحب الإنساني. وهي في ما لا يدركه العقل، ولا يستقيم عنده ميزان العدل، تعتصم بالحب الذي يجعل كل ما يلمس عدلا وجمالا، إن كان في حياتنا الدنيا أو في الآخرة.
معروف الرصافي.
أحب صراحتي قولا وفعلا
وأكره أن أميل إلى الرياء
فما خادعت من أحد بأمر
ولا أضمرت حسوا في ارتواء
ولست من الذين يرون خيرا
بإبقاء الحقيقة في الخفاء
هو ذا معروف الرصافي في شعره، وفي نثره، وفي مجلسه. فالحقيقة، كيفما تراءت له، أحسناء فتانة كانت أم عجوزا درداء، هي هي محبوبته المعشوقة على الدوام. ولكن للمعشوقات ألوانا وأشكالا، وللرصافي في حبهن جميعا جميل الأقوال والأفعال. أما تذبذبه في بعض الأحايين بين حقيقة وأخرى؛ فذلك لأن للفضيلة أخوات يسكن في شارع التهتك، ولحب الوطن إخوان يكرهون الإقامة في شوارع الكلام، فقد نظم في قديم الزمان قصيدة في الأخلاق لا يزال مطلعها يرن في الآذان، ويروى في كل مكان.
هي الأخلاق تنبت كالنبات
إذا سقيت بماء المكرمات
ما عرفت أمة تحسن رواية الأشعار ولا تكترث مثل الأمة العربية. فهي تروي الحكم نثرا ونظما وتمضي في سبيلها.
أعود إلى الرصافي فأقول إن شهرته لا تقوم بحب الفضيلة، وليس حب الوطن من أساطين بيتها. إنما الاثنان من الحجارة والتراب في أساس البيت، وللأساس قيمته في البناء.
إذا لم يكن معروف بدوي المولد فهو بدوي الإرث. إني أذكر اجتماعنا الأول سنة 1910، يوم كان يلبس العباءة والعقال، ويلقي الشعر بلهجة بدوية ساحرة.
ثم سافر إلى الأستانة، ولبس هناك الجبة والعمامة، وانضم إلى الأتراك في نهضتهم المدمرة، فحمل اللواء والمصحف ليلة ونهارا ثم وثب وثبة واحدة من المسجد إلى الحانة. خلع معروف العمامة والجبة، وكل ما ترمزان إليه، وجعل المقاهي محط رحاله، فنظم من الشعر ما يفصح عن الحقيقة الجديدة في حياته. هي حقيقة التحضر وظلالها.
وبعد ذلك يمم فلسطين، وفقد في بيت المقدس ما بقي في صدره من إيمان، ثم ولى وجهه شطر سوريا، وهو المفلس في عقائده الاجتماعية والسياسية والدينية، فوجد في البلاد من التهذيب والخنوع ما لم يرقه كثيرا، فعاد إلى العراق.
وإني لأذكر اجتماعنا الثاني سنة 1922، يوم كان في العراق حاملا لواء الوطنية وسيفها، فيخرج من «خانه» غائرا على رجال الانتداب ونسوته، ويعود موفقا إلا بالغنائم. وما الفائدة من مثل هذه الغزوات؟ وكيف، وهو البدوي المجرب، لا يحسن الانتفاع بسيفه وبندقيته؟ إنه لفاعل، وإنه لصائر من السياسيين، وإنه لصاعد في سلم السياسة إلى أعلاه.
أجل، لقد كان معروف، يوم اجتماعنا الثالث في سنة 1932 - هنيئا لمن يتاح له الاجتماع بصديقه الشاعر ولو مرة واحدة في كل عشر سنوات! - قد كان معروف عضوا في مجلس النواب ببغداد وعاد في قيافته إلى العباءة والعقال!
معروف الرصافي الأعرابي في مجلس النواب! لا يزال هذا الشرق مهد الأعاجيب. وقد سمعت صديقي معروفا يدافع عن الحكومة في قضية تتعلق بإبعاد بعض الصحافيين المتطرفين في صدقهم، فيذكر النسبية كمبدأ عام في الحياة، ويحاول أن يبين ما له من صلة بحرية الصحافة. ما أظن أن أحدا من النواب أدرك معناه، أو فهم شيئا مما قال. ولكن صوته العريض الأجش فعل فيهم فعل البيان، وما أراد منه، وهو أن المبعدين استحقوا الإبعاد جزاء ما فعلت أقلامهم ...
ولكن السياسة لا تغير ما بنفسه وبأدبه من الإرث البدوي، وأظهر ما فيه السذاجة، والصراحة، والجرأة، وعدم المبالاة. فهو يعيش ليومه مستسلما مستهترا، وقلما يكترث لما تبدو وتجن له الأيام. ولا غيرت الأيام والتجارب شيئا من طبعه هذا، فهو اليوم في ما ذكرت من سجاياه، كما كان منذ خمس وعشرين سنة.
وهو الشاعر الرقيق الشعور، على بداوة طبعه، واسع الخيال سهل الأسلوب والعبارة ، لا تعمل في بيانه، ولا اجتهاد في صناعته. وإنه في إدراكه المحاسن الشعرية، شديد الحس لما يتراجع ويتشبح من ألفاظها وأشكالها . ولكنه في الغالب يؤثر الظاهر على الخفي من الجمال البشري الطبيعي.
وهو في الوصف لما يراه، إذا ما صفا الذهن منه، وطربت النفس، بليغ العبارة، واضح البيان. أعطيك مثلين من قصيدتين له «جسر مود» و«على البسفور» قال في محاسن دجلة:
ولقد وقفت بجسر مود عشية
والبدر في أفق العلى يتلألأ
وجبين دجلة قد صفا متألقا
فحكى السماء محاسنا وجمالا
فحسبت نفسي في السماء مشاهدا
تحتي بدجلة للسماء مثالا
وقال في وصف الأمواج، وقد عصفت الريح فوق البوسفور:
وفي البحر تجري موجة إثر موجة
كجري طموح الخيل إذ يتوقص
ويزيد أعلى الموج حتى كأنه
هضاب إلى أطرافها الثلج يخلص
كأن رياح الجو عند هبوبها
تغني وهذا الموج في البحر يرقص
وإن لشاعرية الرصافي نواحي متعددة، منها الناحية الفلسفية التي لا تقل في المحاسن عن سواها. وله نثر هو كشعره في السلاسة والصفاوة والذوق السليم، فقد كتب كتابا فريدا في بابه باللغة العربية هو سيرة النبي، أطلعني عليه مخطوطا بيده، في سبعة دفاتر مدرسية. ما أدهشني ما في هذا الكتاب من العلم والتحقيق؛ لأن مصادر الموضوع متوافرة لمن يشاء معالجته، ويحسن البحث والموازنة، إنما أدهشتني القوة النافذة، والمقدرة على التحليل والاستخراج، والتفلسف في عقائد لا تستقيم بغير الإيمان والجرأة والصراحة.
وإنه في بابين من ديوانه؛ أي في «الكونيات» و«الفلسفيات» ليثبت ما هو ظاهر وكامن من محاسن أدبه في الكتاب المذكور، الذي ينتظر النشور. فالرصافي في شعره الفلسفي هو كالزهاوي، والاثنان يستمدان من ينبوع واحد، ينبوع المعري. إلا أن زمانهما غير زمان أبي العلاء. فلا عجب إذا فاقاه أحيانا في التصور والتفكير. وإن الرصافي، وإن هزهزه الشك واستحوذ عليه التشاؤم في بعض الأحايين؛ ليرفع دائما أعلام الحرية والعقل والإخاء الإنساني فوق رواسي المذاهب البشرية كلها. فهو في دينه الفيلسوف العلي الإنساني.
أما في حبه فهو الشاعر العاطفي المشغوف بالجمال على أنواعه - الجمال الطبيعي، والجمال الفني، وجمال المرأة الفائق كل جمال. إنه ليشاهد التجسد الإلهي في المرأة، وفي الطبيعة. وإنه ليقف أمام هذا التجسد متورعا متضعا متعبدا.
حدثني ذات ليلة قال: «المرأة بهجة الوجود، وريحانة الحياة، وما الحجاب وما السفور ساعة تدنو منك؟ فإن جسمها لينطق حبا، ويشع حبا، ويتضوع حبا، سافرة كانت أو محجبة. نسمع الكتاب في هذا الزمان ينادون بالسفور. وهل يسفر الرجل، يا أمين؟ أليس كل منا محجبا - لابسا القناع؟ كل واحد من الناس هو سر من الأسرار للناس. لينزع الرجل القناع، وليطالب بعد ذلك بسفور المرأة ...»
وما قصر الرصافي بالمطالبة. ولا قصر في ميدان الدفاع عن حقوق المرأة. يكفيه من ذلك قصيدته المشهورة «التربية والأمهات» التي أسلفت الإشارة إليها. وإنك لتجد في باب «النسائيات» من ديوانه القوافي الرائعة في مناصرة المرأة وتحريرها، والهجوم المروع على أولئك الذين يرومون إبقائها في قيود الجهل وفي ظلمات الحجاب والعبودية ...
وقالوا الجاهلات أعف نفسا
عن الفحشا من المتعلمات
لقد كذبوا على الإسلام كذبا
تزول الشم منه مزلزلات
قلت إن المرأة كما يراها الشاعر، هي المثل الأعلى في الجمال البشري والطبيعي. وإن للرصافي قصائد عدة في وصف محاسنها. ولكني ما قرأت في شعره أجمل من قصة يقصها، فقد روى لي تلك الليلة خبر حظوته للمرة الأولى بمشاهدة سيدة أوروبية. فقال: كنت لا أزال بدويا ما شاهد من النساء غير العجائز وبائعات اللبن، والبائسات والشاحبات والمشوهات، وقد ثقب الجدري، أو عصفر المرض، وجوههن. وفي ذات يوم رحت وصديقا لي إلى المقهى، إلى كهف قاتم يليق بأمثالنا وقبل أن انتحينا مكانا هناك وقفت في الباب سيدة إنكليزية. سيدة جميلة بيضاء هيفاء، تلبس قبعة زانها الريش، وتحمل مظلة. دخلت هذه السيدة المقهى، ومشت الهوينا بين الدواوين الخشبية المكسرة، تجيل نظرها بالمكان ومرتاديه. كنت واقفا إلى جانب الطاولة التي جلس إليها رفيقي، فأحسست ببهجة تجلببني وتملأ قلبي. وأحسست كأني سمرت في مكاني.
ما كان في حياتي من نعمة ربي، يا أمين، مثل هذه النعمة. للمرة الأولى في حياتي أشاهد امرأة حسناء بيضاء هيفاء، فقد عقل الابتهاج لساني والله! فأصبحت كالطفل ينظر إلى دمية تمشي. وعندما دنت هذه الدمية من مكاننا، زررت جبتي، ورفعت يدي إلى صدري، وطأطأت الرأس مبتسما. فابتسمت هي كذلك يا أمين. فانحنيت مرة ثانية، فأحنت هي رأسها وكانت في تحيتها الصامتة مثال اللطف والكرم.
ما توقعت ذلك منها، لا والله! بل كنت أظن أنها ستوبخني؛ لتعرضي لها بنظرة وابتسامة، ولكن الشاعر الأكبر يا أمين، ينظم قصائده، لا كما ننظم نحن الشعراء الصغار، بل كما ينظم من له مائة عين نقادة، فتجيء القصيدة كاملة في كل محاسنها. وتلك الحسناء البيضاء من غرر قصائده، وكأنه، سبحانه وتعالى، كان يتلوها علي للمرة الأولى في ذاك اليوم، فقد سمعت والله جمالها يغني، ورأيت والله جمالها يزهو ويرقص أمامي. ولكني سألت نفسي عندما خرجت من المقهى، هل اليد التي صنعتها صنعتني أنا كذلك؟ هو أمر يحيرني. وساعة أكون في حال اليقين منه - أو في الحال كما يقول المتصوفون - أشعر بالنسب الإلهي، وأحاول أن أقلد الشاعر الأعظم. وما الشعر، يا أمين؟ أنا نفسي آية شعرية، وقل آية إلهية، ساعة أنظم الشعر وأجيد.
وما الشعر الأكل ما رنح الفتى
كما رنحت أعطاف شاربها الخمر
وإن ابتسام الغيد عن كل أشنب
ليطرب نفسي فوق ما أطرب الشعر •••
إن للأدباء والشعراء في أوروبا وأمريكا عادة في الإكرام مرعية مستحبة. فإذا كنت معجبا بشاعر من شعرائهم، وجئته للمرة الأولى زائرا، بعلم منه، فهو يهديك رسمه أو نسخة من ديوانه. ولا يخفى ما في ذلك من الأنانية - ها أنا ذا في رسمي وفي عبقريتي - التي تكاد تكون مجهولة في الشرق. فعندما زرت الشيخ رضا الشبيبي في بيته بالنجف، في فصل الخريف من عام 1922، وما أهداني رسمه، ولا شيئا من شعره. بل قدم لي ما يصرف النظر عن نفسه، وما هو في نظره أثمن وأعز. قدم لي مخطوطة قديمة من كتاب عربي قديم.
محمد رضا الشبيبي.
وما كان أشبه الشاعر صباح ذاك اليوم، وهو متربع على فراش فوق حصير على الأرض، في وسط قاعة فرشها عادي قليل، وأمامه طاولة صغيرة عليها أوراقه، وحولها كتبه، وما كان أشبهه بصورة من الصور التي تزدان بها المخطوطات الفارسية. إلا أنها قاتمة ساكنة، لا تذهيب فيها، ولا وهج لألوانها، وما إطار هذه الصورة الحية غير جدران الغرفة الدكناء العارية، وفيها نافذتان تشرفان على جدران البيوت الملاصقة لبيت الشاعر، كأن الصورة وإطارها صنع فنان يحسن التجانس في فنه، فيلتئم الوجه الهادئ والبيئة الدكناء التئامهما والتقاليد الشيعية القاسية التي أحيا الشاعر فيها أيامه ولياليه.
أقول أحياها؟ ما أظن أن طيرا في قفصه كان يغبط الشبيبي! أو يود أن يكون على شيء من حاله في تلك الأيام. وهل يغبط السجين أخاه في سجنه؟ ولكن الشبيبي فر من نقصه في السنة التالية هاربا إلى بغداد؛ حيث علق جناحه في دبق السياسة، فغدا عضوا في المجلس التأسيسي. من قفص عتيق إلى قفص جديد مطلي بالذهب! فلا عجب إذا لم يطقه سوى سنة أو سنتين، ولا عجب إذا فر بعد ذلك منه، كما فر من قفص النجف، متبرما من الشرائع ومن المجتمع. طار الشبيبي إلى الكرادة، فبنى له عشا هناك، وطفق يغرد على أغصان الحرية والحب والزهادة. هناك على شاطئ دجلة، في ظلال النخيل، ولا قفص ولا رقابة، ولا من يقطع عليه نعمة العزلة. هناك ظفر الشاعر بأمنيته الكبرى.
ومع ذلك فهو لا يزال في قيود اختارها لنفسه، هي قيود التقاليد أو بعضها في الشعر وفي الدين. فإن كان قد نفض غبار النجف عن جبته، وعنكبوت النجف عن عمته، فهو لا ينبذ، ولا أظنه يستطيع أن ينبذ من عقله ومن قلبه الإرث الشعري والديني. وهذا ما يميزه عن الشعراء الآخرين، فقد يكون أفق شعره دون آفاقهم اتساعا، وقد يكون خياله مثل صناعته الشعرية من المقلد المألوف، ولكنه شديد الحس، صادق اللهجة، نقي الفكر، نقي العبارة، مع شيء فيهما من التجهم والقساوة.
رضا الشبيبي شاعر روحي لا يغره العلم، ولا يطوح به الجهل. وهو شاعر تقليدي ، يحترم الماضي، ويتورع للحاضر، وينظر إلى المستقبل بعين الرضى والاطمئنان. إن سبيله الروحي لا يخلو من الوعور والعقبات. بيد أنه مؤمن على الدوام حتى في حيرته، ومطمئن حتى في اضطرابه. وقد يعد، وهو ضمن دائرة محدودة وإن اتسعت، من المتمردين. وقد تعترضه إذا ما حاول اجتياز الحدود، عناية إلهية أو شبه إلهية، فيعود إلى ربوع الأمان، وفي قلبه خشوع، وعلى لسانه كلمات الحمد والرضى. وقد يدنو الشبيبي في غضبة طاهرة من ظل العرش الأعلى، قد يدنو حتى من العرش، والشعلة لا تزال في قلبه، والشرر في ناظريه، فيزر بعد ذلك جبته، ويتضمخ بالطيب، ويجلس على فراش الحب والوداعة، وقد صفا نوره، وسكن شعوره، مثل سلفه الشريف الرضي.
في مجموعة متسلسلة من الشعر، شبيهة بملحمة وجدانية، تتجلى روح الشبيبي في متانتها ونضارتها، وفي يقينها وحيرتها، وفي اطمئنانها واضطرابها. فهي تحلق في سماء الخيال والحقيقة حول رواسيهما العالية، وفوق الوهاد السحيقة بين تلك الرواسي، فتثب من قنة إلى قنة، ثم تعود سليمة آمنة إلى بستانها في الكرادة. أو أنها تجري في «سكرة النفس» في بحر زاخر من الهول «وما شطأت حينا ولا قاربت مرسى.»
تجللها ليل طويل وما رأت
على طوله بدرا ولا طالعت شمسا
سفينة نفس غامرت وتعرضت
لها الهوج ولا يبقين من أحد نفسا
ولكنها نجت من تلك الأهوال وما نجت من توبيخه لها.
فيا لك عقلا ما أند عن الهوى
ويا لك قلبا ما أشد وما أقسى
قد يكون الشبيبي ربانا لسفينته ماهرا، ولكنه لا يستطيع أن يقول ما قاله الشاعر الإنكليزي إرنست هنلي:
إني لنفسي الربان، وإني على أمري المهيمن
بل هو يتقلب ويتردد في إقدامه وتطوحه، فيصعد ثم يهبط في سلم الفكر والإحساس.
أنجدت من بعد أغوار زللت بها
فانجاب عن ثقتي بالله إنجادي
وقد حدتني أهواء مضللة
عدلت عنها وضل الركب والحادي
وهو يدرك في ساعة الندم أن الله لا يزال على عرشه، مشرفا على الكون. بيد أن حياة الإنسان شقاء وبلاء لما فيها «من ضلال ، ومن كفر وإلحاد»، فيشكو الشاعر - ولا غرو - حتى صحبه وخلانه، وينشد التعزية والسلوان في الوحدة والزهادة.
غريب بهذي الدار طال اغترابه
فلا يزدهيه أهله وصحابه
وأسعد خلق الله من جاء في غد
قليلا تقصيه يسيرا حسابه
وقد سدد خطواته في السبيل الذي يصدق فيه العمل القول، والخبر الخبر، فقال:
وإني لميال إلى محو ما جرى
به قلمي أو ما تضمنه طرسي
كتبت وقد جاريت، فيما ظننته
علاجا لأهواء النفوس، هوى نفسي
إنه لشاعر متقد الوجدان، صادق اللهجة، وهو إلى ذلك حلو الشمائل لطيف المزاج. فيحاسب نفسه ويؤنبها، ويسير في سبيله متمهلا متورعا، حينا على طرب وحينا على كرب. وها هو يشجيك، وقد وقف بين قلبه وعقله وقفة الحائر المكتئب. فهناك الحبيب، وهناك الرغبة في الزيارة والرغبة عنها تتنازعان فؤاده. وقد جاء في هذه القصيدة ببيت فريد في معناه، ما قرأت مثله في التردد لا في الشعر العربي ولا الإنكليزي. فعندما يتغلب الشاعر على التردد في نفسه، ويعتزم الزيارة، يردعه في الباب رادع فيرتدع.
وطالما سرت في وجه فلم أرني
إلا وقد علقت يمناي بالباب
وإن من يزوره من الأصحاب ليزور الجسم منه. أما الأحباء فهو يتمنى أن يزورهم، وهم مع ذلك مقيمون في نفسه على الدوام.
شغل السمير جوارحي وشغلتم
روحي فكنتم دونه سمارها
نلتم حقيقتها التي خلصت لكم
طوعا ونال سواكم آثارها
وهذه الحقيقة الروحية تبرز في بيت عن عمره أجاد في معناه.
طل ما تشاء زماني لست لي عمرا
إدراك ما أتمناه هو العمر
قلت إن رضا الشبيبي حريص على التقاليد الشعرية قلبا وقالبا. ولكنه في صعوده ونزوله في سلم الفكر والحقيقة يستحب الوقوف عند بعض المبادئ العلمية الحديثة، كمبدأ إبقاء الأنسب مثلا فيقول:
أطبقت أسفاري وقلت لها اغربي
سفر العوالم بعض ما أتصفح •••
وإذا تنازعت البقاء عوالم
صح الأصح بقاؤه والأصلح
وهو يحمل على أهل الضلال والخرافات في قوله:
عهدت أهلك لم يبطل نكيرهم
على الطغاة فلم صاروا طواغيتا
ملفق من مخاريق كلامهم
ومن محال وإن أسموه لاهوتا
ثم يعود إلى حصنه الشرقي الحصين - إلى إيمانه بالقضاء والقدر.
من الجهل لا من صحة العقل أننا
نحكم في الأقدار أوهام عاقل
أمور بإسعاف المقادير نلتها
على حين أعيا نيلها بالوسائل
هو لا يرى أن في هذه العقيدة عقالا لشبان الشرق، وهم في معترك هذه الحياة الحديثة، غريبة الألوان والأشكال. بل يرى عكس ذلك. إني أنقل من نثره السلس المتين كلمة كتبها في «التفوق الغربي الموهوم» قال:
نحن الآن في عصر الشك، كما يقول فريق من أهل الغرب. ومن ذلك أن شكنا الآن يتناول حتى أسس الثقافة التي يريدها معظم الغربيين للشرقيين. ومن بين هذه الأسس غمز الشرق والشرقيين، والتنديد تصريحا أو تلويحا بقيمة أثرهم في الحياة. حتى ضعفت ثقة شباب الشرق بأنفسهم، وببطولة أسلافهم، وتلاشت في بعض الجهات، وحل محلها الثقة المطلقة بتفوق الغربيين.
هذا إلى أن نشبت الحرب العامة الأخيرة، وأسفرت بعد أن ظهرت أسبابها ونتائجها للعيان، عن حركة فكرية عامة تجتاح الآن أذهان البشر بدون تمييز. ويتوقع أن يكون من نتائج هذه الحركة الفكرية، رجوع القوم عن الشطط في أحكامهم على الشرق والشرقيين، ونبذ دعوى التفوق الغربي الموهوم، والتسليم بتكافؤ المواهب والكفايات في أصل فطرة الجنس البشري. فليس في الدنيا من هذه الناحية شرق ولا غرب، بل بشر يتداولون التفوق والغلبة، وفق أحكام سنن الكائنات العامة «نواميس الاجتماع والعمران» ولا شيء أفعل في تجديد شباب الرق، واستئناف قواه للعمل في سبيل حضارته وعمرانه، من رسوخ هذه العقيدة القويمة فيه.
أحمد الصافي النجفي.
ومن قفص النجف فر طير آخر هاربا، فر يطلب قسمته من الإرث السماوي. هو طير ولا كالأطيار، له منقاد البومة، وصدر الورقاء، وجناح الهدهد، وذنب الطاووس. وله في الشدو هديل الحمام، وصفير البلبل، وعندلة العندليب. هو طير غريب فريد، يدعى بين الناس بأحمد الصافي، ويعرف بالشاعر المجدد، والشاعر البائس، فقد ولد في النجف، يوم كان الحسن الخلقي والصحة والنعمة تتنزه كلها في الكون الأعلى، فما رمقته بنظرة ساعة الولادة، ولا دنت بعد ذلك من ملعبه، أو من رحله، أو من كوخه.
ما عوض عليه النجف بشيء مما حرم، ولا أحسن الترحال، ما لزمه من سوء الحال، فقد تنقل من كوخ إلى كوخ، ومن بلد إلى بلد، ومن مضرب في البادية إلى آخر، ومن مضارب البدو إلى مرابع الحضر، ومن مستشفى لا يشفي إلى مستشفى لا يرحم، وهو في كل أحواله مجهول غريب، فقد كان يدعى عجميا في النجف، وعربيا في بلاد العجم، ثم راح يقيم بين البدو فظنوه من الحضر، وجاء سوريا فظنه أهلها من البدو.
إنه لطير عجيب غريب، يحسن الطيران والغناء، ولا يحسن سواهما. وهو كما ألمحت وليد برج النحوس. فالدمامة أمه، والسقم أبوه، والبؤس أخوه. بل إن له من الأسقام إخوانا يقيمون في أعضائه وفي أعصابه. أما الروح منه فهي سليمة قوية، بل هي روح جبارة في هيكل سقيم.
أسير بجسم مشبه جسم ميت
كأني إذ أمشي به حامل نعشي
ولكنه ثأر لنفسه من أسرة الأسقام والآلام أسرته، فصب عليها من قوافيه جام السخرية والغضب. ومن ذا الذي يلومه، إذا انهمرت دموعه، بعد رعود الغضب، وبروق السخرية؟ هي الطبيعة، هي سنة السماوات. وهذا الشاعر هو كالطبيعة في صدقه، وكسنة السماوات في صفوه وغيومه، وفي بروقه، ورعوده، وتهطاله.
فإذا نحن حملنا على الشعر الباكي، الذي ألفه شبان هذا الزمان، وقل فيهم من كان محروما نعم الحياة، فإننا نحمل على عادة أمست مراسا اجتماعيا، مهلكا للنفوس وللأخلاق. أجل، إننا نحمل على التخنث والتصنع في الشعر الباكي، نحمل على دموع الزور، وعلى دموع الخوف والجبانة، وعلى الدموع السوداء، المكونة من الحبر الممزوج بماء العواطف الآسن.
أما دموع هذا الشاعر فهي مثل اسمه صافية، ومثل نفسه صادقة. وهي من نفسه ومن قلبه، لا من حبر شعره وتبره. وإنها إلى ذلك لتتلألأ بالابتسام المتعالي، والقهقهة الساخرة.
أجل، إن الصافي، على بؤسه وسقمه؛ ليحسن الضحك والتهكم. فهو يوالي القط والفأرة ليشفي نفسه من ولاء الناس. وهو يعجب من الأطباء الذين يحاولون أن يحرموه داءه، ذلك الإرث الوحيد من أبويه. وهو يكفر ويتوب، ويبرأ إلى الله من شيطان شعره فيؤده في النار. وهو يبني قصورا في الجنان، «فيهدمها دروين لعنه الله». وإن له نظرات في النفس نافذة ذابحة، فيريد مثلا أن ينزع عنه كل أثواب العقائد، ولكنه يخشى، وهو ينزع الثوب تلو الثوب، أن يكون قد كون من الأثواب، وألا يصادف روحا وراءها، وله قصيدة عنوانها العدالة، لا دمعة فيها، ولكنها تستذرف الدموع، مطلعها:
وجهي دميم وقلبي
عدو كل دميم
لذاك تبدو لعيني
المرآة مثل الخصوم
إني لأرثي لعين
ترنو لوجهي الذميم •••
لو كان وجهي بكفي
ألقيته في الجحيم
قد يكون في الكلمة المأثورة «ذكاء المرء محسوب عليه»، شيء من العدل الأعلى. وقد يبالغ رب ذلك العدل في المحاسبة، فيحرم صاحب الذكاء كل نعم الحياة، إلا هذه التي توحي إليه الشعر. ولكن الشاعر يشدو غالبا للبادية والليل - وللكوخ والسراج، مثل هذا الشاعر النجفي، وللقطط والفيران.
ذكاء المرء محسوب عليه؟ وهل هو يجد في ذلك شيئا من التعزية، غير تلك التي يجيء بها النظم والإبداع؟ فما أضألها من تعزية!
لا وربة الوحي. لا نظن أن القدر كان عادلا في محاسبة أحمد الصافي. بل نظن، بحسب مقاييسنا للعدل - وليس لدينا سواها - أن الحساب مغلوط فيه، ونأمل أن يصحح في حياة أخرى للصافي، أو بالحري في دورة ثالثة من حياته الأرضية.
أما في هذه الدورة فالخيال وحده يخفف من نتائج ذلك الخطأ في الحساب. فإذا كان، في ما هو قوت القلوب، يعيش في الخيال، فما ذلك اختيارا منه. فهو كما يقول لا يرضي الجنس الخشن، فمن أين له إذن أن يرضي الجنس اللطيف؟ حتى الوجوه غير اللطيفة في الجنس اللطيف، لا يستطيع أن يستميلها إليه.
تنأى الذميمة مني
فكيف بالحسناء؟!
إن ذلك ليشجي ويغيظ، وإنه ليبعث في النفس قنوطا ليس وراءه رجاء. فلولا ربة الشعر لهتف الشاعر: على الدنيا السلام، واستحب الحمام. ولكنها تعزية بوحيها، فتستوقفه في الباب متفلسفا ومجاملا. إلا أنه ما جامل في شعره، على ما أظن، غير الموت :
أنا أهواك غير أني لا أرضاك
تأتي بالكره والإجبار
ولكم رمت أن أزورك لكن
خفت أن تشتكي الأذى من مزاري
إن ربة الشعر لتعزيه بالحياة فتفتح له أبوابا جديدة، فيلجها مبتهجا، وقد نسي كل ما به، فينظم القصائد وليس فيها غير مرهم لجروحه، كقصيدته «فتنة الجمال»، وينظم غيرها، وفيها الجديد المبتكر، مثل تلك القصيدة الشعشاعة التي تمثله برغوثا في ثوب إحدى النساء.
أنال منها بغيتي
بالرغم من حجابها
ألثمها من فرعها
لمنتهى كعابها
ويسكر في ثيابها، وهو ينزلق فوق جسمها، سكرة غرامية عمياء.
من دمها سكري كما
تسكر من شرابها
ثم يصحو فيختم القصيدة متفاديا:
وإن تصدني كفها
أمت فدا شبابها
ومن أرق ما أوحى إليه الحرمان، وصوره الخيال، أبيات نظمها إذ رأى رسمه في إحدى الصحف ينطبق على رسم آنسة في الصفحة المقابلة فقال:
ما نلت من فيك رشفا
أو من قوامك ضما
لكنما نال رسمي
من رسم خدك لثما
فأعجب لحب غريب
رسم يغازل رسما
لا نكران أن شعر الصافي مرآة روحة، وهي بعكس وجهه على شيء كثير من الحسن، ومن النبل والحنان. وهي كذلك روح ساذجة، غبار البادية لا يزال عليها. فهو بدوي في صراحته المشجية، وفي نبراته التي تتخللها العبرات والقهقهات، وفي شدوه المشبح بأنين الربابة، وحنين الساقية.
لهذا الشاعر في وصف حاله وأشجانه مزية شريفة عالية، هي الصدق والصراحة. فهو لا يتستر بشيء، ولا يأنف أن يربك كوخه وسراجه، وحتى فراشه وغطاه. ولا يهمه أن ترى - اللهم بعين الرضى والاحترام - خرقا في ردائه، أو فتقا في عبائه. أحمد الصافي يتغنى بكل ما هو أحمد الصافي، ومما اختاره هو لنفسه، ومما فرضته عليه الأقدار، فيطربك ويشجيك. وإن أسلوبه في الوصف سهل قويم بليغ، يلزم الحقيقة فيه، ويزينها بالمعاني الجديدة، مثال ذلك قصيدته «الوحدة» التي تبدأ بقوله:
إن رمت تاريخ حزني
سل مفرشي وغطائي
أو الأبيات الأخيرة من القصيدة التي يصف فيها غرفته:
أغرفة للمنام هذي
أم هي منفى له نفيت
على أن البداوة تبدو بأصدق مظاهرها في ما يصح أن نسميه «العقليات» من شعره. وهو فيها الحائر المضطرب، الذي لا يزال متقيدا ببعض النزعات القديمة، المترجح بسببها بين الشك واليقين. فهو حينا يتغنى بالزهد، وحينا يحن إلى طيبات الأرض، وتارة يحمل على الجهل، وطورا على العلم. إن في مقاطيعه «أنغام مشوشة» كثيرا من التناقض، والبرهان على صدق الشاعر وإخلاصه.
قد شاب في الحب رأسي
والقلب ما زال طفلا
يا رب أرجع شبابي
أو هب فؤادي عقلا
ثم يقول في الصفحة المقابلة، وهو صادق في الحالين:
كلما يبنيه قلبي
يهدم العقل بناءه
ومن هذا الباب قوله في المعاني والألفاظ.
أرى الشعر في الأرواح لا السجع كامنا
ولا في بحور خاليات من الدر
فكم شاعر ما فاه بالنظم مرة
وكم ناظم ما قال بيتا من الشعر
ثم يقول:
اللفظ قشر وفيه
لب المعاني يقر
فاللب يفنى سريعا
إن لم يحط فيه قشر
أفلا ترى الحقيقة في وجهي المسألة؟ كأن الشاعر والفيلسوف يتناقشان فيفحم الواحد الآخر. لست أدري إذا كان الصافي نظر إلى هذه المتناقضات نظرة سقراطية أفلاطونية! وقد لا يكون مدينا لغير الحيرة التي تلزم الشاعر في مواقف لا يتناسب فيها المعقول والمحسوس ولا يتوازنان. بيد أن الاثنين من واحة واحدة، فالفطرة تبني لهما البيوت، والصراحة تصوغ لهما القوافي.
ومع ذلك فإنا نرى الصافي غير صاف في عقلياته. وما هو فيها بالمبتكر المجدد. وكذلك قل في قصائده الوطنية التي قلما تمتاز عن شعر من سواه.
بقي أن أقول كلمة في آفة له شعرية، تكاد تكون آفة الشعر العربي، وخصوصا في هذا الزمان. أريد بها الإسراف في الألفاظ، وفي الخيال، وفي المعاني، وقل كذلك في الرضى عن صور لامعة منفردة، أجاءت في محلها أم لم تجئ. فهي تزج في القصيدة، فتبدو فيها نافرة، أو صاخبة، أو متقلقلة.
وبكلمة أخرى إن الشعر العربي الحديث تكثر فيه الصناعة اللفظية، على الإجمال، وتقل الصناعة المعنوية. كما أنه عامر بالخيال، ومفتقر إلى الفن في التكوين؛ أي إلى الاتساق والتجانس في الصور والاستعارات، وإلى الوحدة المعنوية في القصيدة.
مثال ذلك: من شعر الصافي قصيدته «نجمة الصبح». فإن فيها صورا شتى، تتزاحم في ذهن القارئ، ولا تترك فيه أثرا بارزا، أو شكلا واحدا جذابا، كامل التكوين. فالشاعر في مطلع القصيدة يمثل كوكب الصباح رفيق سفر سبقه الرفاق، فيبكيهم تارة، وطورا يشتعل كمدا، وحينا يرف بجناحيه ليطير فيدركهم، وحينا يتخبط حائرا قلقا، ثم يتصور رفاقه وقد غرقوا في بحر من النور، وهو الذي نجا من الغرق يسبح لينجيهم.
أما النور فهو في كل حال من أحواله يتغير صفة وشكلا. فهو الدموع، وهو النار، وهو الجناح، وهو العرق، وهو الأكف التي يبحث بها عن رفاقه لينتشلهم من اليم. فيهتاج البحر لذلك، ثم تجيء الشمس هائجة لتغرقه هو كذلك. فالصورة هذه، لو وقف عندها، هي صورة كاملة موحدة، على ما فيها من اضطراب. ولكن الشاعر استسلم لخياله الخصب فراح يصور كوكب الصباح - ذلك البطل الذي انبرى لإنقاذ رفاقه من الغرق - راح يصوره كطائر أصبح في قفص، أوكسجين في السماء، وقد استحال نوره سلسلة على عنقه ورجليه!
فلو اقتصر الشاعر على صورة واحدة من هذه الصور، ومثل كوكب الصباح ينازل الشمس مثلا، فيتنازعان الوجود، أو مثله رفيق سفر يجد ليلحق برفاقه أو ينقذهم، وشذب الصورة من كل ما يصرف الذهن عنها في الزيادات، لبرزت القصيدة في صورتها الواحدة الكاملة أبلغ وأجمل مما هي في صورها المتعددة، ولكان لها وقع شديد في نفس القارئ، وأثر لا يمحى.
لا أظن الصافي يجهل هذه الحقيقة. فإنها لتبدو جلية في قصيدته «ليلة ماطرة» ذات الصورة الواحدة المتسقة، المجردة من فضول القريحة؛ وكذلك قصيدته «الشاي» الفريدة في بابها، الحافلة بالمعاني الجليلة التي لم يسبق على ما أظن إليها. وهي كاملة متجانسة في الوحدة الشعرية. فعسى أن يتوفق الشاعر دائما إلى هذا الفن المشذب العالي، الذي تصفو وتستقيم فيه الصيغة والفكر والخيال.
الصولجان والرمح والعصا
مهما كان من ارتقاء الأمة، وطنيا واجتماعيا وثقافيا، فهي تظل في حاجة إلى ما يضمن كيانها العالي، في حاجة إلى القوة المعنوية المخزونة، التي تبعث في أبنائها النشاط والعزم والإقدام. هي القوة التي تنشأ عن الصحة والمرونة في الأجساد وفي الأخلاق ، وفي الأرواح والعقول. تلكم هي القوة الكامنة في الألعاب الرياضية. فالأمة التي لا تحسن اللعب - اللعب في الفلاة لا في المقاهي المخبلة - لا تحسن العمل، ولا تأمن، في رقيها وعمرانها، غوائل الزمان.
عندما زار بغداد في سنة 1922، اللورد إبسلي، مدير جريدة المورننغ بوست في لندن، قابل الملك فيصلا بشأن المعاهد الإنكليزية العراقية في تلك الأيام. وبعد المحادثة السياسية قال: «وهناك مسألة هي أهم من المعاهدات أحب أن أعرضها على جلالتكم.» فاشرأب الملك فيصل إليه، وأرهف من كان حاضرا أذنه، فقال اللورد: «نعم، هي مسألة مهمة جدا. متى يصير عندكم بالعراق فرقة للعب البولو؟» فضحك الملك، وما ظن أن سيكون لهذه المسألة شأن في المستقبل القريب. •••
إن لعبة البولو فارسية الأصل. وقد ساحت شرقا من فارس إلى الهند والصين، ثم غربا بطريق الأستانة إلى أوروبا، ثم رأسا من الهند إلى إنكلترا، في سنة 1869، على يد ضباط إنكليز. وهي الآن، والحمد لله ولصاحب جريدة المورننغ بوست الشريف الظريف اللورد إبسلي، تعود بعد نصف قرن من لندن إلى الشرق. فما أعجب سياحات الألعاب!
لو كان العرب، بل لو كان الشرقيون يعنون بتواريخ ألعابهم عنيهم بتواريخ الملوك والحروب، أو عنيهم بالشعر والأساطير، لجاء في كتبهم عن هذه اللعبة الشيء الكثير من الطرف والأخبار، ولعلمنا ما كان من شأنها ببغداد. بيد أن العرب يزدرون - على ما يظهر - الكرة كيفما لعب بها، على الأرض أو من صهوة الخيل، بالرجل أو باليد أو المحجن، ولا يحسبونها تليق بغير الأولاد. وما جاء ذكر البولو؛ أي لعب الكرة بالمحجن من على صهوة الخيل، غير مرة، على ما نعلم، وذلك في بيت من الشعر لبشار بن برد.
على أن اللعبة هذه كانت معروفة عندهم، وإن لم تكن مألوفة، وقد أسموها بالصولجان؛ أي باسم العصا التي تطارد بها الكرة، فقد نظم بشار في هجاء الخليفة المهدي بيتين من الشعر البذيء ، ورد في أولهما الشاهد على ما أقول:
خليفة ... ... عماته
ويلعب الدبوق والصولجان
وقيل إن هذين البيتين كانا السبب في غضب المهدي فأمر بضرب ذلك الشاعر المقذع بالسياط، فضرب حتى زهقت نفسه. إذا صحت هذه الرواية كان للصولجان ببغداد ذكر مفجع.
وهناك شاهد آخر على أن لعبة البولو كانت معروفة عند العرب، وأنها أسميت بالصولجان. ذلك أن الصولجان وهو المحجن؛ أي العصا المنعطفة الرأس، شبيه بالعصا التي تلعب بها هذه اللعبة الشرقية القديمة.
إنما العرب اتخذوا اسمها من الصولجان؛ أي المحجن، لا من الكرة.
أما أنهم فضلوا غيرها عليها من الألعاب فذلك معقول، ولا سيما وهم ينشدون الفائدة حتى في ألعابهم. إن لعب الجريد مثلا يعلمهم الفروسية، والفروسية لازمة في الغزو؛ كذلك الرماية، وهم ولعون بالصيد. بهاتين اللعبتين إذن - الفروسية والرماية - يتعلم العرب الإصابة، والمطاردة، والإغارة، وهي من الصفات اللازمة في لعبة الصولجان، وقد أضحت من تراث العرب مثل الكرم والشجاعة. فعندما بدأ الضباط الإنكليز يعلمون العراقيين الصولجان ما خطر في بالهم ما تكمن لهم الفروسية العربية. ولا خطر في بال اللورد إبسلي عندما عرض على الملك فيصل «مسألة هي أهم من المعاهدات» أن سيضطر في المستقبل القريب أن ينشر في جريدته أخبار فوز الفرق العراقية على الفرق الإنكليزية في مباريات الصولجان. على أن إقبال العراقيين هذه الأيام على سباق الخيل وكرة القدم يكاد يفوق إقبالهم على لعبة الصولجان.
ويعتز جميل الراوي، وهو من غواة لعبة الصولجان، بابن عمه الملازم الأول إبراهيم الراوي، بطل الميدان في الفوز على الإنكليز. دعانا جميل ذات يوم لمشاهدة فرقتين من الجيش العراقي تتباريان في الصولجان، فيممنا الميدان خارج السور الشمالي، وقد كانت أرض الميدان من التراب الناعم، فتثيره حوافر الخيل، وكثيرا ما يخفي الكرة عن أنظار اللاعبين، فيخطئونها، ولا حرج.
ومع ذلك فقد امتاز لعبهم بالخفة والنشاط، وكانوا في الفروسية على الأقل مبدعين، يقصرون في جولاتهم ويفرسخون، يجرون ويغيرون، وهم يتجاحفون الكرة بصواليجهم. قال جاري الإنكليزي - وهو من غواة هذه اللعبة - إن في جولاتهم خفة ومرونة، وإن ضرباتهم بقفا الصولجان لضربات محكمة، هي ضربات الحذقين اللبقين. على أني كنت معجبا بفروسيتهم أكثر مني بمهارتهم الصولجانية. فما كبا في ذلك الميدان جواد، ولا كان الفرسان أولو الصولجان أقل براعة ولمعانا من جيادهم العربية. أما ما كان من ضربات صاردة فهم كما قلت لا يلامون عليها، فقد طالما غلف الغبار الكرة، فأخفاها عن الأبصار.
إن الصولجانيين ليستحقون ميدانا ببغداد أرضه لينة متماسكة تحت فراش من العشب المجزوز. وإن حكومة العراق لتحسن صنعا، إذا ما عنيت بتربية الخيول العربية خصوصا للعبة الصولجان، فالحصان العربي لا يبز في المرونة والقيادة. إنه في الجولات وفي الدورات السريع المطواع، وفي الكر والفر اللامع المجيد. فإذا ما عنيت الحكومة بهذا الأمر تمكنت من تصدير الخيل إلى أوروبا للعبة الصولجان، فتجاري في هذا بل تسبق أوستراليا والأرجنتين. عندئذ نقول مفاخرين: دونكم والصولجان وخيوله العربية! فاللعبة التي عادت من الغرب إلى الشرق، بعد ألف سنة، تعود بخيلها هذه المرة من الشرق إلى الغرب. •••
ولا نهاية لسياحة الألعاب، ولا مشاحة أن أكثرها، مثل الأديان، من الشرق. فالنرد والشطرنج من بلد الصولجان. والفروسية عربية الأصل. وهناك لعبة كان لها ازدهار في الغرب منذ ثلاث سنوات، وهي اليويو، وقد عادت منتصرة إلى مسقط رأسها، إلى هذه البلاد.
أجل، إن اليويو لعبة عربية المولد، وهل تعرف كيف ولدت وتطورت؟ لقد ولدت في منتجع الإبل. فالعرب، عندما يسوقون الإبل إلى الماء، يصيحون بها: جو، جو! وبعض العرب في نجد وفي البصرة مثلا يقلبون الجيم ياء فيقولون: يو، يو، ثم استخدموها في صيدهم بالصقور والبزاة.
يو، يو! طار الصقر لينقض على فريسته. يو يو! عاد الصقر إلى صاحبه. هل بان لك وجه الشبه بينه وبين اللعبة؟ يويو! أفلت الدولاب المربوط بالخيط. يو يو! عاد على خيطه إلى يدك. •••
وفي نادي الضباط لفرقة الهاشمي دار الحديث ذات ليلة على الألعاب وعلى الصيد. كان جميل الراوي مضيفنا للعشاء، فعرفنا إلى عشرين ونيف من الضباط العراقيين، وكل واحد منهم، في بزته ورونقه وحديثه مثال الأناقة والتهذيب. هي التربية الإنكليزية، وما أحسنها إذا ما نزهت عن السياسة.
وما الضباط العراقيون ممن يغمضون فضل معلميهم، فقد قال الملازم الأول صبحي العمري: «ما رأيت في الناس ألطف من بعض أولئك الضباط أساتذتنا، ولا من هم أرحب منهم صدرا، وأجمل صبرا. كنا نأتمر بأوامرهم في ساعات التعليم والعمل، وكنا نلعب وإياهم بعد ذلك كالإخوان الأكفاء، فنغلبهم في البولو، وفي الصيد. وما من مرة، في الصيد أو في اللعب، جعلونا نشعر بأنهم أرفع منا شأنا ومقاما، ثم إنهم يستقبلون الغلبة بصدر رحب، وصبر جميل، شأن من تعودوا الألعاب الرياضية، وعززوا آدابها القائمة على النبل والإنصاف والصبر.»
ولكن للقاعدة شواذها، فقد عرفوا كذلك الإنكليزي المتكبر المتحذلق الشرس الأخلاق. وعندما يكون مثل هذا الرجل ضابطا في الجيش، وأستاذا لضباط أجانب، فالعياذ بالله. ذكر أحد الضباط عسكريا من أساتذتهم تعددت صفاته المنكرة، فقال الملازم الراوي: هي الشخصية في كل حال، وعليها المعول حتى في صيد الخنازير.
ثم دار الحديث على الخنزير البري، الذي لا يزال يصطاد في العراق على الطريقة القديمة بالرماح والنبال، فروى أحدهم قصة مطاردة كان ذلك الضابط الإنكليزي بطلها قال: خرجنا وإياه ذات يوم للصيد، فضل الطريق وهو يطارد خنزيرا حول هور من الأهوار، فغرق حصانه في الوحل، وعلق به. وكان الخنزير قد فر هاربا، شكرنا عندما أنقذناه وحصانه من الوحل، ثم طاردنا ذلك الخنزير، وأدركناه، ورميناه فقتلناه، وعدنا به وسهم الأستاذ لا يزال غارزا في فخذه، أو تعرف كيف نظر إلينا؟ شكرنا، نعم. ولكني قرأت في عينه أن يود لو كان ذلك السهم في قلب واحد منا.
لا ريب في أن العراقي أمهر من الإنكليزي في مطاردة الخنازير البرية وصيدها، ولا سيما وهو أعلم منه بأرض العراق. فالخنزير يكثر في الأهوار والمستنقعات، والصياد الذي لا يعرف مداخلها ومخارجها، وموحلاتها ومزالقها، يخفق في صيده، وقد يقع هو وفرسه في نهر تخفيه الأعشاب، أو في موحلة بين القصب. أما العالم بتلك الأماكن، فهو يعرف متى ينبغي أن يثبت، ومتى ينبغي أن يدور أو يتقهقر؟ وهو يدرك، حتى من وقع حوافر فرسه، إذا كان على حاشية بركة من الوحل والماء، أو في أرض تدنو من الهور. بيد أن الإنكليزي هو الرابح في كل حال، إن كان هو صاحب الصيد أو العراقي؛ ذلك لأن العراقي المسلم يكتفي بلذة صيد الخنازير البرية، والإنكليزي يأكل تلك الخنازير. •••
لقد حدثتك عن لعبة لصولجان، وعن صيد الخنازير البرية بالرماح والنبال، وسأحدثك الآن عما ترمز إليه العصا؛ أي الكشافة، وهي ركن وطيد من أركان النهضة الوطنية.
لقد تشكلت الفرقة الكشفية الأولى في بغداد، سنة 1915، في عهد الأتراك، لأغراض عسكرية، اقتداء بالألمان، وكان منوطا أمرها بضابط تركي، بمشارفة الكولونيل الألماني فون هوف. ولكنها أهملت خلال الحرب الكبرى وما أثمرت.
ثم احتل الإنكليز العراق، وفي سنة 1918 عني المستر كاربت ناظر المالية يومئذ بأمر الكشافة، فاستدعى إلى بغداد بعض أفرادها من الجنود البريطانيين، فشكلوا بمساعدة بعض المعلمين الوطنيين سبع فرق في العاصمة، وربطوا كشافة العراق بمقر الكشاف البريطاني.
هذه هي بداية تلك الحركة المباركة. وقد نمت نموا سريعا، وكان احتفالها الأول، الذي أقيم في السنة التالية، بمساعدة ناظر المعارف، باهرا، أدهش الناس، وعندما تأسست الحكومة الوطنية في سنة 1920 كانت الفرق السبع، قد أصبحت سبع عشرة، وأكثر الوظائف فيها بيد الوطنيين، فاستغني عن المعلمين الإنكليز.
وبعد ذلك بدأت الكشافة تنتشر خارج العاصمة، فقد انتدبت وزارة المعارف جميل الراوي ليبث الدعوة في الأولوية، فأسس ست فرق في الموصل، ثم أقيم الاحتفال الثالث، في سنة 1921، بإدارة المعلمين الوطنيين تحت رعاية الملك فيصل الأول، الذي كان من أكبر المشجعين للكشافة، وصار بعدئذ حاميها الأعظم، فتجلت في ذلك الاحتفال مقدرة أبناء العراق ومهارتهم في إتقان الأصول الكشافية.
عندما انتقلت الإدارة إلى الوطنيين، وخصوصا بعد الاحتفال الثالث، تأسست الفرق في أكثر الألوية، واستمرت في ازدياد، فتجاوز عددها في بضع سنوات الستين فرقة، وهي تضم اليوم في مجموعها أكثر من اثني عشر ألف كشاف من مختلف الأصناف. إن الفضل في نجاح النهضة، وانتشار أعلامها هذا الانتشار ، هو لفريق من العراقيين الغيورين، وفي مقدمتهم جميل الراوي وساطع الحصري وطه الهاشمي ورشيد الخوجة وسامي شوكت.
المنظر الداخلي للمنزل الأثري لآل السيد عيسى عندما زاره المؤلف. وقد أزيل المنزل نهائيا ولم يبق له أثر.
المنظر الخارجي للمنزل. وفي أول الكتاب وصف المؤلف زيارته له وكيف وجد النساء على بابه يعالجن عفص المدخل.
أما اليوم فإن القائم بأعمال الكشافة، العامل بنشاط وعلم وإخلاص في ارتقائها الدائم، إنما هو شاب سوري شيعي، درس وزوجته المسيحية المهذبة في أوروبا، وعاد وإياها ليخدما وطنهما، فكان ذلك الوطن العراق. وما العراق؟ وما سوريا وفلسطين؟ إن كل قطر من الأقطار العربية وطن للعربي الصادق، المخلص في حبه لأبناء قومه، وإن كانوا في صيدا أو في بغداد، في القدس أو في الرياض.
ساعد بأرض تكون فيها
ولا تقل إنني غريب
ذكرت في فصل سابق أن الدكتور شريف عسيران هو رائد الصحة الأكبر في الكاظمية. وها أخوه وزوجة أخيه البيروتية - بركات الله عليهما - من مصابيح الرياضة والتهذيب في النشء العراقي الجديد.
أجل، إن الفضل الأكبر في المهرجان الكشفي، الذي أقيم في بغداد في 21 آذار سنة 1934 واستمر أسبوعا، للاحتفال بذكرى مولد جلالة الملك غازي، والمناداة به كشافا أعظم، إن الفضل الأكبر في تنظيم ذلك المهرجان يعود إلى قائد الكشافة ومدير التربية البدنية عبد الكريم عسيران.
وما كان أجمله من مهرجان، وما كان أمجده! لا أظن أن أحدا من الألوف الذين حضروا العرض في اليوم الأول ينسى روعة ذلك المشهد الوطني الذي تمجدت فيه عصا الكشافة، وتجلت في الخمسة الآلاف كشافا من سائر الألوية روح النهضة العراقية.
ومما أثار إعجاب الناس في ذلك اليوم المشهود تلك الألعاب التي قامت بها، على الألحان الموسيقية، بنات المدارس، ترئسهن معلمة لبنانية. هي ذي طلائع الوطن الجديد، وقد تجلت روحه في الجنسين من النشء العراقي. هي ذي البوتقة التي ستصهر فيها كل الفوارق العنصرية والدينية؛ لتتكون منها القومية العراقية الواحدة. هي ذي الكشافة التي يحق للعراق أن يفاخر بها جميع الأقطار العربية.
وخير ما أختم به هذا الفصل، وهذا الكتاب، كلمة في المثل الوطني الإنساني الأعلى أوصي الكشاف بها.
الكشاف هو من رعى نفسه ليحسن رعاية غيره، وقيدها بنظام ليدرك قيمة النظام، وعودها عمل الخير دون ذكره، وحرية الفكر والقلب مع الشجاعة والصدق فيهما، وكان إلى ذلك ممن يعملون لإقامة العدل في الحكومات، ولتعزيز الحق الإنساني في القوميات، فيرى في وطنه صورة محبوبة لجميع الأوطان، ويرى في قوميته ما يربط الإنسان بالإنسان، فهو الطليعة في نظري، بل هو ركن من أركان الحياة الجديدة المنشودة التي ستشع خيرا وجمالا، وحبا وسلاما في كل مكان.
Page inconnue