حتى يراق على جوانبه الدم»
ثم التفت إلى العبد وقال له: «إن السلطان يقول إنك خبير بكشف الغوامض والأسرار، فإن كنت تكشف السارق أعطيك ثقلك ذهبا، فما قولك؟»
فحاول العبد النطق وكأنه عجز عنه، فأحنى رأسه كمن يقول: «نعم، أقدر أن أكشفه.» فتهلل وجه الملك وقال: «أتقدر أن تكشف السارق؟» فأشار العبد بالإيجاب. فقال الملك: «ولكن كيف نفهم مرادك؟ أتقدر على الكتابة؟» فأشار العبد بالإيجاب أيضا، فقال الملك: «أعطوه دواة وقرطاسا.» فقال نفيل: «إن هذا الرجل ساحر، والسحرة يستخدمهم الشيطان لزرع الزوان بين الحنطة.» فانتهره الملك وقال له: «قد عثرت على واسطة أزيل بها العار عن إنكلترا، فهل تمنعني من استخدامها؟!» وكان العبد قد أخذ القرطاس وكتب عليه باللغة الإفرنسية لا باللغة العامة الكلام الآتي:
إلى ريكارد ملك إنكلترا الذي لا يقهر
الخفايا ضمن صناديق مقفلة، ولكن الحكمة تجد مفاتيحها، فلو وقف هذا العبد ومر أمامه جميع جنود الصليبيين بالترتيب وكان السارق معهم لعرفه ولو كان متبرقعا بسبعة براقع!
فلما قرأ الملك الكتابة قال لنفيل: «قد أسأت الظن في هذا الرجل، والآن أنت تعلم أن جميع الصليبيين سيمرون غدا ويحيون العلم الجديد، ولا بد من أن يكون السارق معهم، وإلا فغيابه عنهم كاف لإشهاره، فإذا عرفه هذا العبد من بينهم فالله ينصف بيني وبينه.»
فقال نفيل: «انتبه يا مولاي إلى ما تفعل، فقد اجتمعت كلمتنا مرة أخرى على غير انتظارنا، فهل تفتح بإشارة من هذا العبد الأسود جراحا لم تندمل حتى الآن؟ أوتستخدم اجتماع أحلافنا ومرورهم أمام علمنا لكي يعوضوا عما لحق بنا من الإهانة واسطة لتفريق كلمتنا وإحياء أسباب الخلاف القديمة؟ وأنا لم أجسر على هذا القول إلا لأن محاولة إيجاد السارق تخالف العهد الذي تعهدت به أمام مجمع الأمراء.» فاعترضه الملك وقال له: «أخطأت يا نفيل، فإنني لم أعد أحدا بالكف عن السعي في إيجاد من أهان شرفي. والأولى بي أن أتخلى عن مملكتي، بل عن حياتي، من أن أعد هذا الوعد، وكل ما قلته يعود إلى هذا القول، وهو إذا كان دوق النمسا يقوم ويعترف بأنه سرق العلم أو له دخل في سرقته، فأنا أسامحه من أجل هذا الجهاد.» فقال نفيل: «وما أدرانا أن هذا العبد لا يخدعنا؟» فقال الملك: «أنت تظن نفسك أحكم الحكماء، والحال أنك من أجهل الجهال! خذ هذا العبد كما قلت لك واحترس عليه فإنه فوق ما تظن.» ثم التفت إلى العبد وقال له: «كن مستعدا لتتميم ما وعدت به وتمن علينا بعد ذلك ما شئت.» فأخذ العبد ورقة وكتب فيها: «ليس للعبد أن يتمنى إذا فعل ما أمره به مولاه؛ إذ لا ثواب على الواجب.» فأخذ الملك الورقة وقرأها ووقف على قوله: «لا ثواب.» وقال: «هذا من اصطلاحات الفرسان الخصوصية، فحقا إن هؤلاء المشارقة أمهر الناس في تعلم اللغات!»
الفصل الثاني والعشرون
نعود الآن إلى ما كان من أمر الحكيم والسر وليم الذي وهب له عبدا فنقول: تبع العبد مولاه الحكيم إلى خيامه كمن وقع عن شاهق فتحطم وبقي فيه من الحياة رمق يزحف به إلى بيته. فلم يلبث أن وصل إلى خيام مولاه الجديد حتى طرح نفسه على الأرض وجعل يبكي ويتأوه. وكان الحكيم قد أمر رجاله أن يتأهبوا للرحيل قبل الفجر، فلما سمعه يبكي جلس إليه وأخذ يعزيه ويطيب قلبه، وقال له: «اسمع ما قال الشاعر:
وما في سطوة الأرباب عيب
Page inconnue