45
وخفق قلبه بعنف، وسرت في جوارحه رعدة خوف لم يجد عليها من سلطان، وتخايلت لعينيه مرة أخرى صورة الإخشيدي البغيضة. ترى كيف تنتهي هذه الليلة؟ أيذكرها في المستقبل وهو يضحك أم وهو يبكي؟ وسمع أبوه وقع أقدام القادم فسأله: هل كنت تنتظر ضيفا؟
فقال بلا تردد وهو يتظاهر بالهدوء: نعم ... هذا حماي جاء لزيارة كريمته ... - ألا تذهب للقائه؟
فتلجلج لحظات ثم قال بحزم: كلا، ستجد زوجي عذرا تنتحله لغيابي، وسأقدمك إليه في وقت آخر ...!
وساد الصمت، وقد شعر الشيخ بأن ابنه يتأفف من تقديمه إلى حميه، فنكس ذقنه في سكون وحزن. وجلس محجوب قريبا من الباب يحاول جهده أن يضبط عواطفه، واختلس من والده نظرات غاضبة تنم عن حنقه وحقده، ينبغي أن تنتهي الليلة بسلام. أحس في باطنه بأنه إذا انتهت الليلة بسلام فقد نجا بحياته وآماله إلى الأبد، ولكن ما الذي يدعوه إلى الخوف؟! قد بلغ الوزير المكان الذي يريده بسلام، ونمت حالة والده على أنه يجهل سره الخطير، فما عليه إلا أن يأخذ نفسه بالصبر والانتظار حتى يذهب البك - كما جاء - بسلام. بيد أنه لبث - على رغم ما تبشر به الحوادث - قلقا مغتما، وزاد من توتر أعصابه أن والده عاد يقول بنبراته الدالة على الإنكار والمرارة: لو كان قلبك حنونا يا بني لاستهان بضرورات الوظيفة التي تعتذر بها، ولشق عليك أن تترك والديك يتضوران جوعا. وأعجب لوالدتك ما برحت تدفع عنك جاهدة الظنون، ونبذت ما نقل إلينا عنك، وقالت لي: «ستبدي لك الأيام أني أعرف بابننا منك.» فليتها جاءت معي لترى بعينيها ...!
وشعر محجوب بضجر، وضاق بالرجل الذي لولا وجوده لم يكن في المأزق الذي هو فيه، وتوثب للرد عليه، ولكن الجرس دق مؤذنا بقادم جديد، فوجب قلب محجوب وجيبا مؤلما. من يكون الطارق؟ هل من جديد؟! وفتحت الطاهية ثم سمع صوتا يتكلم بحدة، فتميز الشاب غيظا، ومضى إلى باب الحجرة وفتحه، فرأى سيدة تزيح الطاهية من طريقها وتدخل في حالة هياج عصبي شديد. كانت السيدة أرستقراطية المظهر، أنيقة الزي، فتولته الدهشة والانزعاج، ثم ارتاع وذعر وأعيا عليه القول، ورأته المرأة فأقبلت نحوه بهيئة متعجرفة، تقدح عيناها شررا، حتى وقفت أمامه وسألته بازدراء: أأنت المدعو محجوب عبد الدائم؟
وكان محجوب في حالة جعلته مهيأ للذعر والتشاؤم، وحدثته نفسه المضطربة بأنه ضحية مؤامرة غادرة، أبوه أداة من أدواتها القتالة، وغلبه القنوط، وأيقن أن مجده بات معلقا بخيط وشيك الانقصاف. نظر إلى المرأة بإنكار، وقال بصوت منخفض مشفقا من صوتها المرتفع الذي يصك أذني أبيه: نعم يا سيدتي، أنا هو ...
فعبست حانقة ولوت شفتيها اشمئزازا، وقالت بلهجة قاسية: هلا دللتني على الحجرة التي ينفرد فيها زوجي بالسيدة المصون زوجك؟
فنفذ الكلام إلى قلبه فشقه شطرين، وخارت قواه، وأوشك أن يذهل عما حوله، وتحولت المرأة عنه كالمجنونة إلى باب المخدع، وأدارت الأكرة، ولكنها وجدت الباب مغلقا، فدقته براحة يدها بشدة صائحة بغضب جنوني: افتحا الباب، افتح أيها الرجل والوزير الخطير. لقد برح الخفاء، ورأيتك بعيني داخلا هذا الماخور ... افتح وإلا حطمت الباب.
وبلغ اليأس بالشاب نهايته، فوقف مكانه لا يبدي حراكا، وكأنه يرى فاجعة خطيرة لا تعنيه ولا يناط بها مصيره، وكأنه كبر عليه أن يصدق أن مجده الذي حشد له ما حشد من قوة وفكر، وبنى عليه ما بنى من آمال، يمكن أن يصير في بعض الدقيقة أثرا بعد عين. وشعر بوالده يقترب منه ويسأله بصوته الذي بات يمقته مقتا: ماذا هنالك؟ ... ماذا تقول هذه السيدة؟
Page inconnue