41
ومضت أيام أربعة تمتع فيها بوظيفته الخطيرة متعة صافية، وقد شعر جميع الذين يتصلون به من الموظفين - صغارا وكبارا - بأنه موظف متعجرف ينبغي أن تؤدى إليه حقوقه كاملة، ولا يعفو عن زلل، ولا يتكلم إلا آمرا. وكان كلما لان الموظفون - ولا بد أن يلينوا - تمادى وطغى، واستلذ تماديه وطغيانه حتى ود في أحايين لو يمضي يومه كله في الوزارة آمرا زاجرا ...!
وجاء يوم الخميس، موعد النزهة، فغادر الزوجان بيتهما ومضيا في طريق قصر النيل، وقالت إحسان بتأفف وهما يقطعان طريقهما: لعلك الوحيد في الجماعة الذي لا يملك سيارة ...!
فضحك محجوب قائلا: في التأني السلامة ...!
ولكن ملاحظتها حملته على أن ينادي على تاكسي فيستقلاه على قرب المسافة، وذكر لهجتها المتأففة فقال لنفسه ساخرا: «عيب كبير ألا يكون لكريمة عم شحاتة تركي سيارة خاصة!» ثم ذكر الأعباء التي تواجهه بها الحياة الجديدة، كرغبته في اكتراء حجرة وتأثيثها، واقتطاع بضعة جنيهات من ماهيته لوالده، وغير هذه وتلك من وجوه الترف والإنفاق، فهاله الأمر، وحدث نفسه قائلا: «سأظل ما حييت فقيرا إلى المال!» وبلغا مرسى اليخت بعد قليل، فغادرا التاكسي وأقبلا نحو الأصدقاء المنتظرين وقد غشي الظلام الآفاق، واستقبلا استقبالا جميلا، وتقدم عفت بك من الزوجين وصافحهما، وأعطى ذراعه لإحسان؛ فتأبطته وسارا في الطليعة إلى اليخت. ولم يكن مججوب يحب صاحب اليخت، وقد بدأ يخامره النفور نحوه منذ لبى دعوته إلى الفانتزيو. قرأ في عينيه الجميلتين آي الإعجاب بزوجه، فامتعض وتميز من الغيظ، ورمق شعره الأحمر، وبشرته البيضاء، وجسمه الرياضي، بعين المقت والغضب ...
وكان اليخت صغيرا، ولكنه جميل أنيق. وكان مكونا من طابقين؛ بالأول المقصورات، والثاني سطح مسور اصطفت به المقاعد الوثيرة على هيئة دائرة، وفي المقدمة منه امتدت الموائد حافلة بما لذ وطاب. وقد أمر عفت بك بالإبحار فرفعت المرساة، وأبحر اليخت ميمما شطر الشمال. في هداية نور القمر البهيج وسط الأفق الشرقي صاعدا من وراء النخيل. هكذا بدأت الرحلة ...
وجلس الأصدقاء على المقاعد متقابلين، وراحوا يسمرون في جو لطيف رطيب. وجعل محجوب يردد ناظريه بين الوجوه المشرقة والقامات الهيف، فبهره الشباب والجمال، ورأى زوجه بعيدا عنه في هالة من الإعجاب والمعجبين، فذكر أيام كان يطالعها عن بعد من نافذة حجرته بدار الطلبة، بيد أنه رآها الآن أبهى ما تكون جمالا وسحرا، واستشعر الهوة العميقة التي تفصل بينهما! وجرت أمام مخيلته صور سريعة مضطربة، فرأى علي طه - في حالتي سروره وحزنه - وعم شحاتة تركي، والوزير، وسالم الإخشيدي، ومخدعه بعمارة شليخر! ووجد نفسه يتساءل: أيفضل لو كانت إحسان له قلبا وجسدا في بيت زوجية هادئ «شريف» ولو كان موظفا صغيرا بلا مجد؟! ولم يجد الجواب حاضرا. أجل، كان طموحه قويا كعاطفته، بل لعل طموحه أقوى، ولكن ما جدوى المفاضلة؟! وألقى بنظره إلى النيل يتسلى، ثم رفع بصره إلى البدر الآخذ في الصعود والصفاء، كلما امتدت ظلمة الليل أذكت نوره وبهاءه، ولكنه لم يكن من الذين تفتنهم الطبيعة بمحاسنها، وكان يلذ له أن يقول: إن الهيام بالطبيعة مفسدة للعقل، ومصدر منذ الأزل لجهالات لا نزال نرسف في أغلالها. وذكر صاحبه مأمون رضوان وكيف كان يستيقظ في الفجر للصلاة والعبادة، وكيف كان يقلب وجهه بين النجوم الساهرة ويتلو: «والليل إذا يغشى»، «والسماء والطارق»، بصوت حنان، وعيناه الصافيتان تلمعان لمعان النجوم الزاهرة، ولكن هل يوجد بين هؤلاء الشبان والشواب من يعشق الطبيعة؟ وألقى عليهم نظرة شاملة فوجدهم في شغل عن الدنيا بأنفسهم.
وسمع آنسة فيفي تتساءل في إغراء: لماذا لا نرقص ...!
فقال علي عفت من فوره: ارقصوا إذا شئتم، ولكن هل ترقصون بلا موسيقى؟
فقال أحمد عاصم: أبشروا، لقد أحضرت معي موسيقى اليد.
Page inconnue