والتقت عيناهما لحظة، فامتلأ حماسا وقال بحرارة: تآلفت حياتنا بمعجزة، وما كنت أحسب قبل اليوم أن المصادفة تلعب هذا الدور الخطير في حياة الإنسان، فما أحقها أن تسخر من منطقنا ومن سنن الوجود جميعا، ولعلك تجدين وحشة، ولكنك ستتغلبين بذكائك وثقافتك. وكما أن الحب يكون مقدمة للزواج، فالزواج يكون مقدمة للحب، والمعاشرة كفيلة بمزج النفوس وتوحيد الآمال ... أليس كذلك؟
فتحركت شفتاها كأنما لتتكلم، ثم جمدتا ارتباكا، وارتسمت عليهما شبه ابتسامة. وازداد حماسا فقال:
ستدركين معنى قولي هذا، وستعملين على تحقيقه، لنعملن معا على تحقيقه، وسنرى ...
وقال لنفسه: إن النساء لا يعشن بلا حب - حقيقة تعلمها من القراءة - فهي لا شك تحب، ولكن من المحبوب المجدود؟! ...
حسبه يوما علي طه، ثم ظنه قاسم بك فهمي، وقد يكون المال دون غيره؛ فعلى هذه الحقيقة تتوقف سعادته، وقد يكون صادقا في قوله لها: «ولعلك تجدين وحشة؟» فالحقيقة أنها كانت تجد هذه الوحشة. وقد أدرك ذلك من أول نظرة، بل أدرك أنه لو أعتقها هذه الليلة لكان ذلك أدنى إلى التهذيب والرقة، ولكنه نبذ هذا الخاطر، موقنا أن الحيوان الهائج في باطنه لا يعرف التسويف ولا التأجيل، ولا يقدر على انتظار مهما كان الثمن، ثم كف عن التفكير وقد عاودته جسارته الطبيعية: هلمي ندخل ...
وأمسك بمعصمها برفق ونهض، فنهضت طائعة، ثم أحاط خصرها بذراعه، ودخلا معا ...
31
وفتح عينيه في الصباح الباكر فوقعتا على مرآة الصوان الفاخر، فرأى صورته وإلى جانبه يرقد الكنز النفيس، وارتفق ساعديه، ثم ثبت عينيه وقد غمرته ذكريات الليل التي لم تمح آثارها من نفسه وجسده، وكانت لا تزال مستغرقة في النوم مبعثرة الخصلات على الوسادة الحريرية . ما أجمل صفاء هذه البشرة، ما أعمق سواد هذا الشعر! واهتز صدره طربا، فهوى بشفتيه الممتلئتين على خدها الأسيل ...
ومضى الأسبوع الأول من هذه الحياة الجديدة، وقد أقبل ينهل من الشراب العذب المبذول بشراهة جنونية، وسرعان ما أدرك منذ اللحظة الأولى أن لذته - لذتهما - لن تتم إلا بشيء جديد ضروري جدا كي ينسى هو ما ينبغي أن ينساه، وكي تنسى هي ما يحسن أن تنساه، فيصفو الجو، ويستمتعا بحياتهما أجمل استمتاع. وجرب بالفعل ذلك الشيء الضروري الذي سمع عنه كثيرا؛ الشراب! وقليل منه كفاهما، ولكنه نفعهما نفعا سحريا، بفضله وجدها تذوب رقة، وتنفث سحرا، وسكن بين ذراعيها يرشف من طيبات رزقه. كانت الحياة في ظاهرها ثملة باللذة، مخمورة بالشهوة. أما في الأعماق فاضطربت تيارات خفية، فلم يفتأ محجوب يتساءل عن علي طه وقاسم فهمي وقلب إحسان، وربما ثار شكه، وراح يؤنب نفسه ويعنفها، ويقول: إنه الحمق، ولا شيء غيره، الذي يوسوس له فيوقظه من لذته ليصلى نار الفكر. وحاول مرات أن يعوذ بسخريته، وجعل يوصي نفسه قائلا: «اقتل الشك، امح الكرامة من قاموسك، احذر الغيرة، أفرغ شهوتك، توثب للطموح، واذكر أن ما أنت فيه هو الامتحان الأول والأخير لفلسفتك، فقل الآن طظ، قلها بلسانك وبقلبك وبإرادتك ...»
ولم تخل إحسان كذلك من خواطر تضطرب في أعماقها. عرفت أخيرا المصير، واستقر بها المستقر. أسدل الستار على أحلام الحياة الأولى، وخاب الرجاء فيما طمعت فيه من أن تصير زوجا للبك العظيم، ووجدت نفسها ربة هذا البيت العجيب الذي يتنازعه صاحبان. لم تعد تقول لا، فما خوف الغريق من البلل؟ ورأت من الحكمة أن تنظر فيما بين يديها. إن القلب الذي أيقظه علي طه اندثر وذهب، والأمن الذي لوح لها به قاسم فهمي خاب وانطفأ، فلم يبق لها إلا تلك الغريزة الحيوانية التي أطلقها والدها من عقالها منذ البدء. ربما حنت إلى علي طه، أو حقدت على قاسم بك، أو عافت نفسها محجوب عبد الدائم، ولكنها لم تسمح لإحدى هذه المشاعر بالتمادي والتضخم، ومالت بمزاجها وبالدوافع التي تحيط بها إلى الاستسلام التام. ما من فائدة ترجى من التحسر على ماض لن يعود، وأولى بها أن تولي الحاضر والمستقبل عنايتها، فلتستمتع باللذة، ولتستأثر بالقوة، ولتنفق عن سعة، ولتغمر أسرتها بكل خير عميم؛ وبذلك وحده لا تذهب التضحية عبثا، وزوجها أولى الجميع بتفكيرها. لقد همت بأن تحتقره أكثر من مرة، ولكن لماذا؟ لأنه ...؟ ولكنها هي أيضا ...؟ فلا تعيره ولا يعيرها؟ بل هنالك وجه آخر يقرب بينهما، فهو فيما يبدو ضحية مثلها للعوز والطمع، وكلاهما ضحية لشر واحد، فما أجدرهما بالتصافي والتعاون. كان كلاهما يعالج همومه بالحكمة، ويحاول ما استطاع أن ينفي عن نفسه نوازع الشقاء، واطردت الحياة في لذة يهيئها الشراب والرغبة في السعادة. وكان محجوب أقدر منها على التغلب على أمثال هذه الهموم لاستهانته المعروفة، أما هي فكانت حديثة عهد بالشذوذ؛ فربما تولتها الكآبة إذا خلت إلى نفسها، وربما وجدت حنينا إلى الآمال المشرقة الأولى في الحب والحياة الشريفة، مثلها مثل النازح إلى بلد غريب إذا احتواه بيته الجديد في أول لياليه، ولكنها كانت تتغلب على مرضها - والحنين مرض - بتلك الواقعية التي اشتهرت بها النساء، وبتلك الرغبة الصادقة في طيب الحياة؛ ولهذا السبب سألها محجوب يوما - من أيام الأسبوع الأول - وهو يقرصها في خدها: أنت سعيدة؟
Page inconnue