وتفرس مأمون في وجهه بعينيه النجلاوين السوداوين، فهاله ما يرى من الهزال والقنوط، وسأله باهتمام وإشفاق: ما بك يا أستاذ محجوب؟!
فقال دون تردد: ظروف قاسية، فقدت آخر مليم من نقودي، لا أملك من ثمن كتاب اللاتيني مليما واحدا ...
ونهض مأمون قائما دون كلمة، واقترب من المشجب، ودس يده في جيب جاكتته، وأخرج ثلاث ورقات من ذات العشرة، وأتى بها إلى الشاب، فأخذها محجوب وهو لا يصدق، وفتح فمه ليشكر صاحبه، ولكن صاحبه سارع بوضع أصبعه على شفتيه متمتما: «هس.»
وغادر دار الطلبة لا يلوي على شيء، حتى دار إحسان لم يلق عليها نظرة عابرة، وكان راضيا وساخطا معا، راضيا لحصوله على النقود، ساخطا لأنه بات مدينا لمأمون رضوان.
17
وجاء يوم الجمعة الموعود، فذهب إلى محطة الأتوبيس قبيل الميعاد بزمن يسير، ومضى يسأل نفسه: ترى هل يفيان بوعدهما؟ ... وفي الموعد المضروب جاءت سيارة فخمة وقفت أمام المحطة، وأطل من نافذتها الوجه الجميل، فخفق فؤاده وهرع نحوها، وفتح له الباب واتخذ مكانه، ثم أدرك وقتئذ فقط أن تحية جاءت بمفردها. وعجب لذلك، ولكن لم يطل عجبه، وغمره سرور شامل، وإن سأل بإنكار متكلف: أين فاضل بك؟
فأمرت الفتاة السائق بالمسير، ثم التفتت إلى محجوب وقالت بلهجة انتقادية: ركبنا معا، ثم رأى في الطريق «بعض الناس» فتخلف عن الرحلة وحملني اعتذاره إليك.
فأطرق محجوب ليخفي سروره ، وسألها بأدب: وكيف الوالدان الكريمان؟ - الحمد لله، وهما يشكران لك هذه الرحلة الجميلة. - عفوا ... عفوا ...
فقالت بصوت ينم عن الرجاء: سنرى أشياء لذيذة ... أليس كذلك!
فقال بيقين وإن كان في الحقيقة يذهب إلى هناك أول مرة: بكل تأكيد ...
Page inconnue