لا جرم أن الأدب الغربي قد اتسع أمامه مجال التجدد الآن، وما حدث فيه من التطور منذ نحو مائة سنة، فكاد يلحقه بآداب الغربيين إلا قليلا، دليل على قابلية هذه اللغة - بما فيها من الفصيح والمترادف، والقلب والإبدال، وما لا تأباه من التصريف والاشتقاق، والوضع والدلالة، والمجاز والكناية - للتجدد في كل عصر، وبرهان على مرونتها؛ للأخذ بالأصلح على قاعدة الانتخاب الطبعي، مع مراعاة قواعدها وروابطها التي استقرت باستقرار القرآن الكريم.
ولذلك ساغ لنا أن نقول: إن لغة القرآن صالحة للمدنية في كل زمان ومكان، وإن أدبا عرف تاريخه منذ خمسة عشر قرنا هو من السعة بحيث لا يتسع مبحث صغير كهذا لاستيعاب جرمه الكبير.
الخطابة عند العرب
توطئة
دلتنا الحرب الحاضرة على كثير مما ينقصنا من العلوم والصناعات الشائعة عند الأمم الغربية، وكانت فاشية في القديم عند أجدادنا، ومن ذلك صناعة الخطابة، وهي من أجل العوامل في تربية النفوس أيام الحرب والسلم، أو في بث دعوة، أو سفارة بين متخاصمين أو متحابين، وإقناع يوم الحفل، واستمالة الأفكار إلى رأي أو حزب في المجالس والمؤتمرات والمجامع والجوامع، لا تستغني عنها أمة دستورية يحكمها مجلس نوابها، إذ إن التنفير من مسألة والتذكير بأخرى لا يتم إلا بقوة البيان، وسلاطة اللسان، وفصاحة الحجة، وظهور المحجة.
والسبب في قصورنا عن هذه الغاية طول عهدنا بالحكومة الاستبدادية المطلقة حتى إذا انقلبت إلى حكومة شورية، أحسسنا بنقص في عامة مكونات الأمم، وكان خطباؤنا المصاقع يعدون على الأصابع في جميع أدوار مجلسنا النيابي، والمبرز منهم من كتب له أن كان أستاذا في مدرسة أو مدرسا في جامع، ففتقت ألسن أهل هذه الطبقة، وقليل ما هي على أيسر وجه؛ لأنها كانت على جانب من الفضل، ومعرفة بأصول المجالس، أما أكثر النواب فكانوا بمعزل عما ينبغي لهم من أدوات الفهم والكلام، والحرية فضاحة فضحتنا بقلة المتكلمين والمفكرين منا، مع أن الخطابة مما أوجبته علينا الشريعة الإسلامية، كما ظهر أمرنا، وتبين عجزنا، واستبان إفلاسنا في مسائل العلم والتأليف.
فقد كان بعضهم يوهمون أن طبائع الحكومة المطلقة وهي قائمة بكم الألسن وحجز الأقلام، هي التي تحول دونهم وما يشتهون من انبعاث علمهم، ونشر أبحاثهم ودروسهم، وظهور أثر فضلهم وأدبهم وتحقيقهم، وربما غالى بعضهم فقال: اختراعهم واكتشافهم، وأنهم لا يتوقعون إلا دور انطلاق، حتى يظهروا ما أكنته صدورهم من العلوم والفنون، وها نحن نعيش في ظل الحكومة الدستورية، ولم نشهد أثرا لغير من عرفوا من قبل بالفهم والعلم، وجل ما اتصل بنا أنه نشرت مباحث ومناقشات قلما تفيد أمة تريد النهوض من طريق العلم والعمل.
نحن موقنون أن التبريز في الخطابة صعب، ولكن بالتعلم والمعاناة يصل المرء إلى درجة حسنة في الجملة، وفي العادة أن يكون النوابغ قلائل في كل فن، فإذا عد في الأمة عشرة منهم في كل شأن ومطلب، تعد غنية بعلمها وعقلها، ولانحطاط الخطابة الدينية في هذا العهد تأفف كثير من حضور الجمع، حتى لا يسمعوا خطبا لاكتها الألسن منذ قرون، وليس فيها شيء من النفع، ولقلة المجيدين بل المتوسطين في هذه الصناعة غدا الناس يسمون خطيبا كل من يرفع عقيرته، ولو كان جاهلا عاميا، بل أميا غبيا، وعلى العكس رأينا في بعض البلاد خطباء بعض المساجد مجودين في الجملة، يقولون ما له معنى في الوعظ والإرشاد، قد حببوا غشيان المساجد لمن كانوا لا يعرفونها، وبتأثير الإخلاص والإجادة والكلام بحسب طبائع القوم وحاضر العصر، كثر العاملون بأحكام الدين القائمون بتكاليفه.
وبلغت حال الانحطاط في ضعف البيان، وفسولة الرأي والحجة بأكثر خطباء الجوامع، ومنهم الأميون الذين لا يكادون يقرءون الكتاب أن أصبحت نصف خطبهم زهدا في الدنيا على غير طريقة السلف المشروعة، والنصف الآخر دعاء يحفظونه لا يخرمون منه كلمة، ثم هم يدعون بأدعية مردودة في الشرع شأنهم في بيان فضائل الشهور والأيام والبلدان والجوامع، حتى خطب بعضهم، وكان حشويا جلجلوتيا في أعظم جامع في هذه البلاد، عند إرادة الحث على تجديد بنائه فقال: إن الصلاة فيه تعادل ثلاثين ألف صلاة، وأورد لذلك أحاديث لا تعرفها إلا عقول الوضاعين والقصاصين، ولطالما خطبوا أن من صام يوم كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، إلى غير ذلك من البدع والفضول التي لم تأت بها شريعة الرسول، وقد أنكرها أئمة الفقه والعلم من المتقدمين والمتأخرين، ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية (المتوفى سنة 728)، وابن قيم الجوزية (المتوفى سنة 751)، وابن الحاج المتوفى سنة 737.
ولو كان الخطباء على جانب من فهم أسرار الشريعة ومعرفة طرق البلاغة، وما يصلح الناس ما عالجوا من الموضوعات ما يرجع بالناس القهقرى، هذا في الخطب الدينية، أما الخطب المدنية فهي أيضا تتصرف على ذاك النحو نصفها تحميدات ومقدمات، واعتذارات وسخافات، واستطرادات منوعات، ولو محصت لما بقي منها إلا التافه اليسير من المعاني، أما تأثيراتها في الأفكار فضعيفة جدا، ولعل هذا النقص البين يتلافاه أساتذة المدارس الابتدائية والوسطى والعليا، بتمرين طلبتهم أبدا على الإلقاء، وممارسة الكلم الفحل يوم الحفل، وفي النوازل والأمور العامة، فينشأ من هذا الجيل فئات تسد هذا النقص المحسوس المشاهد في طبقة رؤساء الدين ورؤساء الدنيا، ويمرن الجميع على كتابة ما يريدون الخوض فيه، وعلى استظهاره أو إلقائه على نحو ما سارت الأمم الحديثة والأمم القديمة الراقية، فينبغ فيها خطباء ووعاظ، ومرشدون داووا جهالة شعوبهم بأساليب القول الجزل، والمنطق الخلاب والبرهان الساطع.
Page inconnue