فبينا نرى أمم الغرب تشتد كل يوم في نزع مؤثرات الأجداد نجد الشرق يعيش بماضيه إلا قليلا، فالمجتمعات الشرقية ثابتة في عاداتها، وهي في الشرقيين خالدة على صورة ليست لها في أوروبا اليوم، فإن المعتقدات التي أضعناها يعنون هم بالاحتفاظ بها جد الاحتفاظ، والعائلة التي تقوضت من أساسها في الغرب لم تبرح متينة الدعائم في الشرق على نحو ما كانت منذ أبعد عصور التاريخ، والمبادئ التي فقدت من تأثيرها فينا أصبحت محافظة على تأثيرها فيهم. غاية الشرقيين قوية جدا، وحاجاتهم ضعيفة كل الضعف ، وغاية الغربيين غير أكيدة، وحاجاتهم عظيمة جدا، فإن الدين والأسرة والسلطة العالية والعادات، وجميع هذه الأسس القويمة في المجتمعات القديمة التي نزعها الغرب من أصولها، قد احتفظت بنفوذها في الشرق، ولا من منازع لها؛ وذلك لأن الاهتمام بالاستعاضة عنها لم ينفذ بعد إلى عقول الشرقيين. ويتجلى الفرق الفاحش بين الشرق والغرب من أوضاعهما، فإن جميع الأوضاع السياسية والاجتماعية في الشرقيين، عربا كانوا أو هنودا، تنبعث خاصة من معتقداتهم الدينية، على حين نرى أكثر الشعوب الأوروبية تدينا قد فصل منذ زمن طويل بين الأوضاع السياسية والمعتقدات.
ليس في الشرق قانون مدني، بل هناك قانون ديني فقط. وكل جديد مهما كان نوعه لا يقبل إلا على شرط أن يكون نتيجة قواعد لاهوتية. وليس الاختلاف بين الغربيين والشرقيين في تركيب العقول والأوضاع والمعتقدات فقط، بل في أدنى أسباب الحياة، ولا سيما في بساطة الحاجات بالنسبة إلى تشعب حاجاتنا، فإن مطالب الحياة عندهم قليلة جدا إذا قيست بمطالبنا وتشعباتها؛ ولذلك يلقى الشرقي إذا قبل المدنية الأوروبية؛ لأنها تلزمه بأمور لا يستطيع تطبيقها، ولا تستلزمها حالته وبيئته، فتقضي فيه على ما وردته من ماضيه وتتركه لا يعرف كيف يستقر أمام الحاضر.
والنتيجة القطعية الوحيدة من التعليم الأوروبي سواء كان في الزنجي أو الهندي، هو أن تتبدل الصفات الإرثية فيه دون أن تتمكن من إبلاغ التربية الأوروبية إليه، وقد يحصل الشرقي على قطع من الأفكار الأوروبية، ولكن انتفاعه بها يكون بعواطف وأفكار وحشية أو نصف متحضرة، وتتقاذف عقول الشرقيين آراء متضاربة ومبادئ في الأخلاق متعارضة، ولا يخدعنا هذا الطلاء الضعيف الذي يظهر فيه الشرقي إذا لقف شيئا من التربية الأوروبية، فإن ذلك أشبه بالألبسة الموقتة في دور التمثيل لا يجب أن ينظر إليها عن أمم.
قال: ولقد حدثت مئات من المرات أناسا من أدباء الهنود تخرجوا في جامعات إنكلترا أو الغرب، فثبت عندي أن بين أفكارهم وأفكارنا، ومنطقهم ومنطقنا، وعواطفهم وعواطفنا، فروقا واسعة المدى وهوى سحيقة بعيدة. وليس معنى هذا أنه يستحيل على الشرقي أن يكون كالأوروبي حذو القذة بالقذة، كلا، فإن الشرقي يكون كالغربي، ولكن بعد تعاقب الدهور والأعصار؛ كما وقع لأجدادنا، فإنهم ظلوا نحو ألف سنة يتخبطون في حالة التذبذب والتوحش، حتى تأصل فيهم حب المدنية القديمة والأخذ منها. وقانون النشوء الاجتماعي كالنشوء الطبيعي لا بد من أن يستوفي حظه.
والسبب المهم في أن مدنيتنا عاجزة عن الوصول إلى الشعوب المنحطة، هو أنها متشعبة مركبة، والشرقيون أمم من السذاجة أقرب، فاقتضت لهم البسائط، فإنا نرى المدنية الإسلامية وما أثره المسلمون في الشرق، ولا يزالون يؤثرونه قد نجحت في هذا المعنى؛ ذلك لأن الأمم التي دانت للإسلام كانت أو هي في الغالب شرقية لها من العواطف والحاجات والعادات في الحياة، ما يماثل عواطف الفاتحين وحاجاتهم وعاداتهم. وليس في قبولهم أصول المدنية الإسلامية ما يتنافر مع حاجتهم. وعلى العكس، إذا صحت عزيمتهم على الأخذ بالمدنية الغربية فإنها تدك بنيان ما تعودوه بما فيها من الاختلاط والارتباك. •••
قال: وقد زعم المؤرخون أن التأثيرات العلمية والأخلاقية العجيبة التي أثرها المسلمون في الأرض كانت بفضل مادياتهم، ولكن لا يصح اليوم أن نجهل بأن هذه المؤثرات قد دامت في مجراها، حتى بعد أن أضاع المسلمون نفوذهم السياسي، فإن المسلمين في الصين يزيدون اليوم على 20 مليونا، وفي الهند على خمسين؛ أي إن سوادهم أوفر من العهد الذي بلغت فيه دولة المغول أرقى درجات عزتها ومنعتها، ولا يزال هذا العدد في نمو. إن المسلمين بعد الرومان هم الأمة الممدنة الوحيدة التي نجحت في نقل تهذيبها الاجتماعي ودينها وأوضاعها وعلومها إلى العناصر المختلفة التي افتتحتها وتسربت بينها. هذه التأثيرات لا تضمحل، بل نراها على العكس آخذة بالنمو، تتعدى الحدود التي بلغتها في أيام القوة المادية. إن القرآن وما اشتق منه هو إلى الفطرة بحيث يلتئم مع حاجات الشعوب الأولية، حتى إن قبوله آخذ حكمه على مر الدهور لا يعوقه عائق. وحيث ينزل المسلمون ولو كانوا تجارا سذجا تدخل أوضاعهم ومعتقداتهم، وكلما توغل الرواد من أهل المدنية الحديثة في صميم أفريقيا شاهدوا قبائل تنتحل الإسلام. والمسلمون الآن يمدنون قبائل أفريقيا على نحو ما يستطيعون، ويجاهدون في تلك القارة الغريبة، على حين يطوف الأوروبيون في الشرق فاتحين كانوا أو متجرين ولا يتركون وراءهم أثرا لنفوذ أدبي.
فلا التربية ولا الأوضاع ولا المعتقدات ولا غير ذلك من الأسباب التي يتذرع بها الأوروبيون للتأثير في الشرق تفيد في تمدينه؛ ولا سيما في الشعوب المنحطة منه. وحالة اليابان لا تقوم دليلا على نقض هذه القضية؛ لأن اليابان وقد بلغت درجة راقية في المدنية، كان السبب في تمدنها أنها قبلت نتائج المدنية الغربية بجملتها دفعة واحدة، فلم تغير في الحقيقة قوانينها الأساسية ولا معتقداتها ولا أخلاقها، فهي تشبه شريفا من أرباب الإقطاعات عاد إلى الحياة بعد موته، فتعلم استعمال القاطرات وإطلاق المدافع.»
هذا رأي الفيلسوف غستاف لوبون في مدنيتنا وحالتنا الاجتماعية، وتأثرنا بالمدنية الغربية وصلاتنا مع أهلها وصلاتهم معنا. وهو - كما ترون - صحيح من أكثر وجوهه، لا شائبة للتعصب والتقاليد فيه. وقد حمد حالتنا من حيث تكوين الأسرة والبيوت والسذاجة، وعسانا اليوم وقد زاد اختلاطنا بالغرب لا نأخذ منه إلا ما تمس حاجتنا إليه، ونبقي على القديم النافع، فقد قيل: إن القوة الحقيقية في كل مملكة ما عرفت به من الأخلاق الطبيعية. وتقليد الأجانب على أي صورة كانت عار على الوطنية.
لم يخل عصر من العصور من اختلاط العرب بالغرب، سواء كان بطرق الفتح أو التجارة، أو طلب العلم، أو للجوار، وقد قصد أوروبا كثير من رجالنا منذ زهاء عشرة قرون، وكذلك الأوروبيون وصلوا إلى بلادنا منذ القديم. وكان الطليان أسبق الأمم إلى هذا الاختلاط - كما رأيتم - ومع أنه على أتمه ولا سيما منذ استولى نابليون على مصر وجانب من الشام، لم يبرح الشرق شرقا والغرب غربا؛ أخذوا منا وأخذنا منهم، ولكن ما أخذوه عنا مزجوه في حضارتهم، وكذلك كانت حالنا معهم، وما اقتبسناه من نور علومهم وأساليب تربيتهم في القرن الماضي وهذا القرن.
ولا غضاضة علينا إذا وقفنا معاشر العرب مع الغرب عند حد الأخذ من حضارته وعاداته ؛ فإن التخوم إذا تناءت تختلف أهويتها وطباع أهلها، فما يفيد من القوانين هنا لا يطبق على سكان ما وراء النهر مثلا، وما ينفع سكان الأرجنتين لا يتأتى تطبيقه على أهل الصين.
Page inconnue