صلى الله عليه وسلم : «مولى القوم منهم»، ولقوله: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب»؛ فقد علمنا أن العجم حين كان فيهم الملك والنبوة كانوا أشرف من العرب، وأن الله لما حول ذلك إلى العرب صارت العرب أشرف منهم، قالوا: فنحن معاشر الموالي بتقديمنا في العجم أشرف من العرب، وبالحديث الذي صار لنا في العرب أشرف من العجم، وللعرب القديم دون الحديث، ولنا خصلتان جميعا وافرتان فينا، وصاحب الخصلتين أفضل من صاحب الخصلة، وقد جعل الله المولى، بعد أن كان أعجميا، عربيا بولائه، كما جعل حليف قريش من العرب قرشيا بحلفه، وبعد أن جعل إسماعيل أعجميا عربيا، ولولا قول النبي
صلى الله عليه وسلم
إن إسماعيل كان عربيا ما كان عندنا إلا أعجميا؛ لأن الأعجم لا يصير عربيا، كما أن العربي لا يصير أعجميا، فإنه علمنا أن إسماعيل صيره الله عربيا بعد أن كان أعجميا بقول النبي
صلى الله عليه وسلم
فكذلك حكم قوله: «مولى القوم منهم»، وقوله: «الولاء لحمة»، إلى أن قال: وليس أدعى إلى الفساد ولا أجلب للشر من المفاخرة، وليس على ظهرها إلا فخور إلا قليل، وأي شيء أغيظ من أن يكون عبدك يزعم أنه أشرف منك، وهو مقر أنه صار شريفا بعتقك إياه.
العلم الصحيح1
قالوا: العلم علمان؛ علم الأبدان وعلم الأديان، أو دنيوي وديني، فالدنيوي علم ما فيه صلاح المعاش، وحفظ النظام في عالم الكون والفساد، والديني كل ما له مساس بالمعاد، وتهذيب النفس، والابتعاد عن المنكرات في هذه الفانية؛ للظفر بالباقيات الصالحات في تلك الدار الباقية.
كان العلم الديني لأول أمره، موجزا مندمجا، لم ينقد، قواعد مقررة، وأصولا نافعة، فكان العربي يقصد الرسول - عليه السلام - يعلمه الدين في ساعة، ثم يحيله على القرآن، ويقول له اذهب راشدا وبشر عشيرتك وأهلك، فقد عرفت من الدين جوهره وسره، وما ينبغي له؛ فمن ثم دام الإسلام إلى السذاجة حتى قامت قائمة العصبيات من أجل التنازع على الملك، وتجاذب حبل السلطة، فمزج الدين بالسياسة، ودخل في الإسلام من لا يهمه منه غير المغانم، وراح بعضهم يدسون ما لم يقل فيما قيل، وكثر المنافقون ممن سعوا بالدين في سرهم، وهم من أتباعه في جهرهم، وأنشئوا يلبسون ثياب الأصدقاء وهم له أعداء ماكرون.
دسوا عوامل إفسادهم، وفي القوم يومئذ صفوة من الأخيار، توفروا على محاربة البدع والموضوعات بكل لسان وبنان، بكل سيف وسنان، وكانوا على إخلاصهم وتأثيرهم كلما استأصلوا شأفة فاسد نبض من الأفسد نابض، ورجال السياسة وأكثرهم لا يرجع في الغالب إلى رأي ومذهب، يدهنون من وراء ذلك لحملة الدين، ويبذلون لهم ما يستغوونهم به؛ لينطقوا بألسنتهم، ولا يفسدوا عليهم أمرهم، إذا رفعوا أصواتهم ونعوا عليهم تبديلهم لما أنزل، وإلصاقهم به ما ليس منه، ولما رأى العقلاء عائث الفساد يدب دبيبه في علوم المعاد، خافوا أن يتدرج من العبث بالأعراض إلى العبث بالجواهر، فلم يروا بدا من التدوين والتقييد، والدلالة على مواضع الضعف والسخف ليبدو السليم لا شائبة فيه، وأنت خبير بما يقتضي ذلك من التطويل، دع ما يتخلله بالطبع؛ لأن في القائمين به العالم العامل، وفيهم صاحب البدعة والمقالة.
مضى على هذه الحال ردح من الزمن، وعلوم الدين لم تمتزج بشيء من علوم الدنيا، إلى أن دخلت علوم الحضارة في الملة وسموها علوم الأوائل، ورأت من بعض خلفائنا من أخذ بيدها وهيأ لها أسباب انتشارها، فعندها كثرت المذاهب والآراء، ونشأ العراك الأول بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية؛ أي بين الدين القائم بالتسليم، وبين الفلسفة المبنية على البرهان.
Page inconnue