وبينما كانت هذه الدول اليونانية الشرقية تؤدي في الشرق هذه الخدمة الإنسانية القيمة، كان الغرب الأوربي الذي لم يستطع الإسكندر أن يصل إليه، خاضعا لمؤثرين مختلفين، هزاه هزا عنيفا. وأحدثا فيه نفس الظاهرة التي أحدثتها حركة الإسكندر في الشرق: أول هذين المؤثرين، ظهور الجمهورية الرومانية في إيطاليا، وانبساط سلطانها قليلا قليلا على شبه الجزيرة الإيطالي؛ فقد كانت هذه الجمهورية قوة سياسية وعسكرية لم يعهد الغرب الأوربي مثلها، وكانت نهضتها في الغرب كنهضة مقدونيا في الشرق، تمهيدا لحركة عامة. غايتها القضاء على الفوضى والوصول إلى جمع أمور الشعوب الغربية في يد قوية حازمة تضبط الأمور: والثاني الجهاد بين الحضارة اليونانية التي كانت تمثلها المستعمرات اليونانية في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وصقلية، والحضارة السامية التي كانت تمثلها هذه الجمهورية الفينيقية الضخمة في إفريقية الشمالية، وهي جمهورية قرطاجنة. كان اليونان قد انبثوا على الساحل الإيطالي والفرنسي والإسباني وفي جزيرة صقلية، ونشروا حضارتهم وسياستهم وآدابهم وفلسفتهم في جميع البلاد التي استقروا فيها. وكان الفينيقيون قد انبثوا في ساحل إفريقية الشمالية وفي إسبانيا وفي جزيرة صقلية. وكان الجهاد عنيفا بين الجنسين، كلاهما يريد أن يظفر بسيادة البحر ليحتكر التجارة احتكارا، ولكن الطبع اليوناني الذي كان يستتبع الخصومة الحزبية داخل المدى والحروب السياسية بين المدن، أنتج في هذا القسم من الغرب نفس الذي أنتجه في الشرق، فضعف أمر اليونان، وتفرقت جهودهم، واستفاد الفينيقيون من هذا في الغرب، كما استفاد الفرس منه في الشرق.
ونهضت الأمة الرومانية في إيطاليا لتحقق نفس الغاية التي حققتها النهضة اليونانية في البلقان؛ فأخضعت المدن الإيطالية المستقلة، وقضت على سكان المستعمرات اليونانية في إيطاليا وصقلية، وكونت وحدة غربية قوية جاهدت الفينيقيين كما جاهد الإسكندر دولة الفرس؛ وقضت على الفينيقيين كما قضى الإسكندر على الفرس؛ وخضع الغرب كله للرومان، كما خضع الشرق كله لليونان. ثم لم يبق بد بعد أن تم هذا كله من أن تصطدم القوتان الشرقية والغربية، وتفوز بالسلطان أقدرهما على الحياة وأصلحهما للبقاء.
ولست في حاجة إلى أن أبين لك فساد الأمر في الدولة اليونانية الشرقية وصلاحه في الدول الرومانية الغربية؛ فأنت تستطيع أن تجد هذا مفصلا في كتب التاريخ، وإنما الذي يعنينا في هذا الفصل، هو أن نقول: إن القرن الثاني قبل المسيح لم يكد ينقضي حتى كان السلطان الروماني منبسطا بدرجات تختلف قوة وضعفا على البلاد اليونانية في أوربا، وعلى الدول اليونانية في الشرق؛ وحتى كانت فكرة الإسكندر - وهي تحقيق الوحدة السياسية للعالم القديم - قد أخذت تسرع إلى التحقيق وتظفر بالوجود الفعلي.
ولكن شيئا واحدا كان يحول دون تحقيق هذه الفكرة بالفعل، وهو أن العالم القديم، على ما أصابه من التطور العقلي والسياسي، لم يستطع أن ينسى نظمه القديمة ويضع لنفسه نظما ملائمة لحياته الجديدة؛ فكانت بلاد اليونان محتفظة بحياة المدن على النحو القديم، وكانت دول الشرق قائمة على نظم الدول الشرقية القديمة؛ بل كانت مدينة روما نفسها تعيش على نظامها الجمهوري القديم، وكان العالم حينئذ مظهرا لطائفة من المتناقضات الغريبة، لا تكاد تحصى دوله ومدنه المستقلة. ولكن هذا الاستقلال الذي كانت تستمتع به إنما كان استقلالا لفظيا لا حقيقيا؛ لأن السلطة الفعلية كانت لمدينة روما. على أن مدينة روما نفسها لم تكن تستمتع باستقلالها وحريتها إلا استمتاعا لفظيا فقد كانت النظم الجمهورية قائمة؛ ولكن السلطة الفعلية كانت قد انحصرت في أيدي الأغنياء يديرونها كما يشتهون، ويصرفونها كما تريد أطماعهم وأهواؤهم، وكان السخط عاما على هذه الحال المنكرة التي تعلن أنواعا من الاستقلال لا قيمة لها، وتجعل حياة الشعوب المختلفة إلى أفراد من الناس لا يكادون يبلغون الألف عدا؛ فكان الاضطراب متصلا في الشرق، وكان الجهاد بين الطبقات عنيفا في الغرب، وكان كل شيء يدل على أن صلاح الأمر واستقراره في هذا العالم القديم لن يتم إلا إذا تحققت بالفعل فكرة الإسكندر، وأشرف على هذه الدول والمدن المستقلة سلطان قوي قاهر حازم يضبط الأمور فيها. وأنت تستطيع أن تجد في تاريخ الرومان تفصيل هذه الاضطرابات وهذه الألوان من الجهاد الذي ختم حياة الجمهورية الرومانية، وكان في مقدمة لتكوين الإمبراطورية الرومانية.
في هذا الوقت ظهر شاب روماني من طبقة الأشراف هو يوليوس قيصر. ليس في حياته الأولى ما يميزه من غيره إلا أنه كان مسرفا فاسد الأخلاق، دنس السيرة مبغضا إلى الذين كانوا يحرصون على الآداب الرومانية القديمة؛ ومع ذلك فقد كان داهية ماكرا لا حد لأطماعه، وكان مع هذا كله لا يعرف حدا خلقيا يحول بينه وبين المنكر في سبيل تحقيق هذه الأطماع. كان من الأشراف، وكان يزعم أن نسبه يتصل بالإله «فينوس»، ولكنه كان ذكيا، فما أسرع ما فهم العصر الذي كان يعيش فيه! وما أسرع ما قدر ظروف الحياة من حوله! وما أسرع ما عرف أن الفوز السياسي إنما ينال بالتملق إلى طبقات الشعب والمبالغة في إرضاء هذه الطبقات! وما هي إلا أن أخذ يترضى هذه الطبقات، فإذا هو كريم مسرف ينفق بغير حساب، يستدين حتى يثقله الدين، ولا يدع شيئا يتوهم أن فيه رضا لطبقات الشعب إلا أقدم عليه وأسرف فيه، وإذا هو زعيم يلجأ إليه الفقراء والبائسون ويلتف حوله أصحاب الأطماع على اختلافهم، وإذا هو قوة يجب أن تحسب لها الدولة حسابا، وإذا هو يتقدم إلى مناصب الدولة فيظفر في الانتخاب، وإذا هو خصم لمجلس الشيوخ الروماني يدافعه ويجاهده، يظهر نفسه مظهر الصديق للديمقراطية. وانظر إليه قد فاز في جهاده فتولى حكم إقليم من الأقاليم الرومانية، ولم يكد يصل إلى هذا الإقليم في فرنسا حتى ظهرت مقدرته السياسية والعسكرية، ففتح فرنسا كلها وتعمق في ألمانيا، وعبر البحر إلى بريطانيا العظمى؛ واستفاد لنفسه من هذه الفتوح ثروة ضخمة استعان بها على كسب الفقراء والمتصوتين في روما وإيطاليا، كما أنه ضم إلى روما جزءا من الأرض واسعا خصبا، وأتاح للحضارة اليونانية الرومانية أن تثبت في أقطار الغرب كما ثبتت في أقطار الشرق، فلما أتريح له كل هذا الفوز، كثر خصومه ومنافسوه، وعظمت أطماعه؛ وإذا مجلس الشيوخ الروماني يريد أن يعزله من منصبه، وإذا هو يمانع هذا العزل، وإذا الحرب قد شبت بينه وبين الجمهورية، وإذا هو يقتحم إيطاليا فيظفر بروما، وقد فر خصومه ينصبون له الحرب في الشرق. وهنا ظهر أن قيصر خليفة الإسكندر حقا. انظر إليه قد أخضع إيطاليا، ثم طار إلى إسبانيا فقضى فيها على الحزب المناصر لخصومه، وأخضع في طريقه مدينة مرسيليا التي كانت مستعمرة يونانية مستقلة، ثم انظر إليه قد طار إلى الشرق، فقضى على خصومه في موقعة فرسال، ثم هو في مصر يقضي على المناصرين لخصومه، ويجد من الوقت ما يمكنه من التدخل في أمور مصر ومن السعادة بالحياة مع ملكتها «كليوبطرة»، وهو الآن في آسيا يصلح من أمرها ويقضي على الاضطراب فيها. ثم هو في إفريقية الشمالية يبطش بخصومه بطشا أخيرا، ثم هو في إسبانيا يقضي على آخر مقاومة لخصومه، ثم هو في مدينة روما يعلن ظفره وفوزه ويستمتع بنتائجهما، وقد تم له ما لم يتم للإسكندر من ملك العالم القديم المتحضر كله.
وكان حظه خيرا من حظ الإسكندر؛ فقد استطاع أن ينظم هذه الوحدة السياسية التي أخفق الإسكندر في تنظيمها أو أن يضع الأساس لهذا التنظيم. ولم يكد يستقر في روما حتى محا السيادة الفعلية للنظام الجمهوري واستأثر بالسلطة كلها، فجعل نفسه دكتاتورا طول حياته، وجعل نفسه مقدسا، وجعل لنفسه السلطة الدينية العليا ، ونصب نفسه زعيما للضعفاء يحميهم ويحوطهم، ولم يبق إلا أن يتخذ لقب الملك؛ وكأنه كان يريد أن يتخذه لولا أن تعجله المؤتمرون فقتلوه في مجلس الشيوخ (مارس سنة 44 قبل المسيح).
قتلوه وقد خيل إليهم أنهم سيقضون على الطغيان، ويردون إلى الشعب الروماني حريته ونظمه الجمهورية؛ ولكن الحوادث دلت على أنهم كانوا مخطئين، وعلى أن الشعب الروماني قد زهد في هذه الحرية، وسئم النظم الجمهورية، وعلى أن العالم القديم كله كان قد نضج لتحقيق فكرة الإسكندر، وإيجاد هذه الوحدة السياسية العامة التي يشرف عليها سلطان قوي متين. كان الإسكندر إذا صاحب الفكرة، وكان قيصر منفذها، ومهما يقل الفلاسفة وأنصار الحرية، ومهما يكن حكم التاريخ على قيصر أو له فلسي من شك في أنه - بعد الإسكندر - أكبر قائد للفكر السياسي في العصر القديم: هو الذي أسس الإمبراطورية الرومانية، ورسم نظامها، وجمع العالم القديم كله تحت لواء واحد، وأخضعه لنظام سياسي واحد، ولنظام قضائي واحد، وأعده ليخضع لنظام ديني واحد أيضا. والعالم القديم مدين لقيصر بهذا كله، وأوربا في القرون الوسطى مدينة لقيصر بحياتها السياسية. وحسبك أن الإمبراطورية الألمانية كانت ترى نفسها وارثة للإمبراطورية الرومانية التي أسسها قيصر، وكان رؤساؤها يسمون أنفسهم قياصرة؛ بل إن أوربا مدينة بنظامها السياسي في العصر الحديث لقيصر. فما كان لويس الرابع عشر في فرنسا، ولا قياصرة الألمان الذين كانوا يخاصمونه، إلا متأثرين بالنظام القيصري؛ بل لقد عصفت بأوربا وبالعالم الحديث عاصفة الثورة الفرنسية؛ فما هي إلا أعوام حتى أنتج النظام الجمهوري الفرنسي نفس ما أنتجه النظام الجمهوري الروماني، وقام نابليون بونابرت في باريس مقام يوليوس قيصر في روما.
بين عصرين
ظن الذين ائتمروا بقيصر وقتلوه أنهم ائتمروا بما كان يمثله قيصر وقضوا عليه، وظنوا أنهم قد وفقوا لما كانوا يطمعون فيه من رد أمور الحكم إلى الشعب، ومحو السلطان الذي كان يحاول القضاء على الروح الديمقراطي، وما الذي يمنعهم أن يظنوا ذلك أو يؤمنوا به وقد ائتمر المؤتمرون من قبلهم بالطغيان فأزالوه، وانتدبوا لنصر الديمقراطية وحرية الشعوب فوفقوا له! ولكن كل شيء وقع بعد قيصر دل على أن هؤلاء المؤتمرين كانوا أصحاب خيال لا أصحاب تحقيق، وعلى أنهم لم يأتمروا بالطغيان، وإنما ائتمروا بما كان باقيا من الديمقراطية، ولم يقضوا على الجديد وإنما قضوا على القديم، نعم! ودل كل شيء بعد قيصر على أن الذين كانوا قد ائتمروا من قبل بالطغاة والطغيان إنما وفقوا للفوز، لأن نظام الطغيان كان قد أضعف نفسه وانتهى إلى غايته، ولأن النظام الديمقراطي كان حديث العهد يكاد الناس يجهلونه، ولكنهم مع ذلك يحبونه؛ بل قل: إنهم كانوا يحبونه لأنهم يجهلونه.
وكان هذا النظام الديمقراطي يريد أن يعم ويسود، فلا يحاول بينه وبين ما يريد إلا هذا النظام العتيق: نظام الطغيان، واستئثار الأفراد والأقليات بالأمر، فلما أزيل هذا النظام العتيق خلت الطريق للجديد، فظهر وانتصر وسيطر على العقول والعواطف وفروع الحياة العملية.
Page inconnue