والثالث : إن الأقوال الثلاثة الأول مشتركة في القول بالجبر. لأن بتقدير صحة كل واحد من تلك الأقوال الثلاثة ، لا يكون العبد مستقلا بالإيجاد. فإن صدور الفعل عن العبد إذا كان موقوفا على إعانة الله ، أو كان موقوفا على حصول القدرة مع الداعي ، أو كان بحال متى حصلت القدرة مع الداعية وجب الفعل. ومتى لم يحصلا ، أو لم يحصل واحد منهما امتنع وقوع الفعل فكان الجبر لازما.
فهذا هو القول في تفصيل المذاهب الممكنة في هذه المسألة. واعلم : أن هاهنا أبحاثا غامضة في تعيين محل النزاع ، لا بد من التنبيه عليها. وهي من وجوه :
فالبحث الأول : إن المعتزلي إما أن يقول : إن حصول الفعل عقيب مجموع القدرة والداعي : واجب. أو يقول : إنه غير واجب. فإن قال : إنه واجب. فقد بطل الاعتزال بالكلية. لأن تلك الدواعي لا يمكن أن يستند كل واحد منها إلى داعية أخرى ، لامتناع التسلسل والدور. بل لا بد من انتهائها إلى داعية تحصل بفعل الله تعالى. وإذا كان كذلك ، فنقول : عند حصول القدرة والداعية ، لما كان الفعل واجبا ، وعند فقدانها أحدهما لما كان الفعل ممتنعا : فحينئذ يلزم الجبر ، ولم يحصل للعبد استقلال ، لا بالفعل ولا بالترك في شيء. وأما إن قال المعتزلي : إن حصول الفعل عند حصول القدرة مع الداعي : غير واجب. فنقول : فعلى هذا التقدير. عند حصول مجموع القدرة مع الداعي ، يمكن أن يحصل الفعل تارة ، وأن لا يحصل أخرى. لأن كل ما كان ممكنا ، لم يلزم من فرض وقوعه محال. فليفرض أن القدرة مع الداعي كان حاصلا ، واستمرا. ثم تارة حصل الفعل ، وأخرى لم يحصل. فهذا الحصول ما كان من العبد البتة ، بل كان لمحض الاتفاق من غير سبب. لأن مجموع القدرة والداعي لما حصل بتمامه ، عند عدم الفعل تارة ، وعند حصوله أخرى ، ولم يتجدد أمر من الأمور عند حدوث الفعل ، حتى يقال : الفعل إنما حدث في ذلك الوقت لأجله. فعلى هذا التقدير يكون حدوث الفعل في ذلك الوقت محض الاتفاق ، ولم يكن ذلك في وسعه ، ولا في اختياره. وهذا أيضا : محض الجبر. لأنه لا سبيل له البتة إلى إيقاع الفعل ، بل إن اتفق وقوعه مع ذلك القدر من القدرة والداعي ، فقد وقع. وإن لم يتفق وقوعه لم يقع. ولم يكن البتة رجحان أحد الطرفين على الآخر ، بأمر من جهة العبد البتة.
فثبت : أن المعتزلي. إن قال : إن وقوع الفعل عقيب القدرة والداعي : واجب البتة فقد قال بالجبر ، من حيث لا يشعر به. وإن قال : إنه غير واجب. فقد قال أيضا بالجبر ، من حيث لا يشعر به فيثبت : أنه لا يمكنه أن يعبر عن نفي الجبر بعبارة معلومة ، إلا وتلك العبارة مشتملة على الجبر. فإن قال قائل : إني أقول : إن عند حصول القدرة والداعي يقع الفعل ، ولا أقول : إن ذلك الوقوع واجب أو غير واجب. وهذا القدر يكفيني في التعبير عن مذهبي. فنقول : هب أنك لا تذكر إلا الوقوع. إلا أنا نقول : ذلك الوقوع إما أن يكون مع الوجوب ، أو لا مع
Page 35