المراتب. ومعلوم : أن النملة إذا تحركت ، فإنه لم يخطر ببالها امتياز تلك المرتبة من السرعة والبطء ، عن المرتبة التي تزداد عليها وتنتقص عنها ، فقدر تلك المرتبة من السرعة والبطء ، عن المرتبة التي تزداد عليها وتنتقص منها قدر قليل لا يحس الإنسان به. فإن الذي لا يقدر الإنسان على الإحساس به ، كيف تقدر النملة والدودة على الإحساس به؟.
وأيضا : فعلى هذا المذهب لا بد وأن يكون البطء عرضا قائما بتلك الحركة. ففاعل تلك الحركة البطيئة فاعل لنوعين من الفعل.
أحدهما : أصل الحركة. والثاني : البطء الذي هو يوجده في تلك الحركة. ومعلوم : أن هذا المعنى لا يخطر ببال أكثر العلماء ، فضلا عن العوام ، والصبيان ، والمجانين. فضلا عن البهائم والحشرات.
الرابع : إن مذهب مشايخ المعتزلة : أن قدرة العبد لا يكون لها تأثير في حصول الجسم في الحيز. وإنما تأثيرها في المعنى الذي يقتضي حصول الجسم في الحيز.
إذا ثبت هذا فنقول : إن البهائم والنائمين والغافلين حين ما يتحركون ويسكنون ، لا يخطر ببالهم إلا نفس حصول الجسم في الحيز. فأما إثبات معنى حصول الجسم في الحيز. فذلك مما لا يخطر ببال أفضل الفقهاء والنحاة ، فضلا عن العوام ، فضلا عن الصبيان والمجانين ، فضلا عن البهائم والحشرات. وعلى هذا فنقول : الذي تصوره العقلاء وعرفوه وهو حصول الجسم في الحيز قد أخرجوه عن كونه مقدورا للعبد. والذي جعلوه مقدورا للعبد ، فهو شيء لا يتصوره أحد ، ولا يدركه البتة ، لا بالقليل ولا بالكثير. ومتى كان الأمر كذلك ، فكيف يعقل أن يقال : إن الفاعل المختار أبدا ، يقصد إيجاده وتكوينه.
واعلم : أن هذا الإلزام إنما يتوجه على المشايخ. إما على «أبي الحسين» فلا. لأنه لا يثبت هذا المعنى.
الخامس : إن الصبي إذا تكلم. فلا شك أنه يعقل هذه الحروف المخصوصة. وذلك لأن الكلام عبارة عن الحروف المتوالية المتعاقبة. فلو لم يكن قادرا على الإتيان بالحروف ، لم يكن قادرا على الإتيان بالكلام. لكن الإتيان بكل واحد من هذه الحروف المخصوصة ، إنما يكون بآلة مخصوصة ، على كيفية مخصوصة ، ووضع تلك الآلات على وجه مخصوص ، وهي : الحلق واللسان والشفتان والأسنان وتركيب بعض هذه الأعضاء مع بعض. وجعل كل واحد منهما على شكل خاص ، وهيئة خاصة ، حتى يقدر الإنسان بواسطتها على الإتيان بهذه الحروف المخصوصة. لكنا نعلم أن جمهور الخلائق يتكلمون بهذه الحروف المخصوصة ، مع أنه لا يخطر ببالهم كيفية أحوال هذه الأعضاء ، اللواتي هي الآلات في إيجاد الحروف المخصوصة ، ولا يخطر ببالهم كيفية تلك الأوضاع التي باعتبارها يتمكنون من التلفظ بهذه الحروف فثبت بمجموع ما تقدم : أن العبد لو كان موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل تلك الأفعال ، وثبت أنه
Page 86